Mutalacat Fi Harshe Da Adabi
مطالعات في اللغة والأدب
Nau'ikan
إذا صح ذلك فما له يكثر من المترادفات في كل ما يكتب؛ سواء كان منشورا إلى العامة أم رسالة في الأدب.
قال إن الإكثار من المترادفات يقتضيه بعض الأحوال لتقوية المعنى، ولكن ما له يكثر من هذه المترادفات في كل حال. فلما رأى ورأى العارفون أن أسلوبه لا ينطبق على الأصول التي نص عليها البيانيون، ترك الأصول ولجأ إلى النقل، فهو يقول في رده الأخير: إذا جاز للإمام الحجة القدوة الزمخشري أن يقول: «وما هي إلا صفات مبتدئ مبتدع وسمات منشئ مخترع»، وأن يقول: «قطع الفيافي وطي المهامه» إلى آخر ما أورد من أقواله. وإذا جاز لابن الأثير وقد قال عنه «إنه ليس ممن يعد في طبقة الزمخشري ولكنه من علماء العربية، وبكل الأحوال أعلى طبقة من السكاكيني ولو رأى نفسه - أي السكاكيني - غير ما يراه غيره» مما ترى منه أنه لا يزال متألما غاضبا. يقول: إذا جاز لابن الأثير هذا أن يقول: «طاعته فرض واجب واتباع أمره حكم لازب»، وأن يقول: «من أحيا المكارم وكانت أمواتا، وأعادها خلقا جديدا بعد أن كانت رفاتا، من عم رعيته عدله ونواله، وشملهم إحسانه وأفضاله» إلى آخر ما أورد من أقواله؛ بل قال: إذا جاز للأستاذ طه حسين وللعلامة الأستاذ أحمد زكي باشا وللأديب العصري صدقي وللمعترض نفسه أن يقولوا كذا وكذا، فلماذا لا يجوز لي أن أقول: «إن الصارخة القومية والنعرة الجنسية نشأت مع الأقوام وبدأت مع الأمم مذ الكيان ومنذ الاجتماع البشري، وتساكن الإنسان مع الإنسان؟» إلى غير ذلك مما جاء في منشوره وفي وروده.
من العجب أن تقول للمريض: أنت مريض، فيقول لك: وأنت مريض وكل الناس مرضى، كأن مرض غيره يعزيه أو ينفي المرض عنه!
لا يا سيدي ، لا يجوز لك ولا للزمخشري ولا لابن الأثير ولا للجاحظ ولا لابن المقفع ولا للحريري ولا لأحد أن يكثر من المترادفات في غير مواطن تكرار الكلام بلفظه أو بمرادفه، وغلطي وغلط غيري لا يشفع في غلطك، ولا يفيد العربية أن تحزن على من مات على مذهبك في الكتابة من العلماء الأعلام، وإنما يفيدها أن تراعي أصولها وأنت سيد العارفين.
والآن اسمح لي أن أنتقل إلى الكلام عن بقية الفروق بين المذهبين القديم والجديد، ويا حبذا لو تتفضل علي بإعلان رأيك فيها فأكون لك من الشاكرين.
قلت في إحدى رسائلي السابقة التي كانت منشأ هذا الخلاف بيني وبين الأمير، إن أصحاب المذهب القديم يكثرون من المترادفات في غير مواطن تكرار الكلام بلفظه أو بمرادفه، وإن أصحاب المذهب الجديد لا يكررون الكلام بلفظه أو بمرادفه إلا في المواطن التي نص عليها البيانيون تفاديا من الحشو وذهابا إلى الإيجاز، ولكن لا بد لي قبل أن أتكلم عن بقية الفروق أن أشير هنا إلى موضع آخر للإيجاز تتمة للحديث هناك.
في الاستعارة قد يكنى عن المستعار إما بجزء منه كقولهم: فلان على جناح السفر، إذا كان متأهبا له تشبيها للسفر بالطائر في سرعة المزايلة، فإنهم لم يذكروا الطائر ولكنهم كنوا عنه بجزء منه وهو الجناح. وأما بلازم معنوي نحو: نطقت الحال بكذا، أي دلت عليه تشبيها للحال بالخطيب وللدلالة بالنطق في الإبانة، فإنهم لم يذكروا الخطيب ولكنهم كنوا عنه بالنطق وهو من لوازمه، وقد يصرح بذكر الجزء مع ذكر اللازم المعنوي، فيقال: نطق لسان الحال بكذا، وقد يصرح بالذات رأسا، فيقال: نطق خطيب الحال.
ومع أن استعارة الجزء أو التصريح بالذات رأسا أبلغ من استعارة اللازم المعنوي كما يستفاد من أقوال البيانيين، يتراءى لي أن أصحاب المذهب الجديد يميلون إلى استعارة اللازم المعنوي دون استعارة الجزء أو التصريح بالذات، فيقولون: نطقت الحال بكذا مثلا، لا نطق لسان الحال أو خطيب الحال، أي إذا كانت الجملة الواحدة بليغة ولكنها موجزة والثانية أبلغ ولكنها أطول، آثروا الأولى على الثانية، وعلى ذلك فإنهم يقولون: «شحذ فلان رأيه وأرهف ذهنه» بدلا من: «شحذ غرار رأيه وغرار ذهنه أو سيفيهما»، و«ركب الباطل» بدلا من «ركب متنه أو مطيته »، و«طوى الحديث» بدلا من «طوى بساطه»، و«أضرم الشر أو أطفأه» بدلا من «أضرم ناره أو أطفأها»، و«زرع الأحقاد أو فثأها» بدلا من «زرع بذورها وفثأ قدورها»، و«استصبح بعلم فلان» بدلا من «استصبح بنبراس علمه»، و«انبت الشمل» بدلا من «انبت حبله» إلى غير ذلك وهو كثير؛ بل هم يستعملون هذه الألفاظ في مثل هذه التراكيب لا على سبيل الاستعارة ولكن على سبيل الترادف، فركب الباطل عندهم مرادفة لقولهم أصر عليه، وطوى الحديث مرادفة لقولهم تركه أو أجله وإلا فإنهم لو قصدوا الاستعارة لاستعاروا ما يناسب الحال ويلائم الحياة؛ لأن قولهم طوى فلان بساط الحديث كان يوم كان المتحادثون يجلسون على البساط، وأما اليوم فإن المتحادثين يجلسون حول موائد حمراء أو خضراء مستديرة أو مستطيلة، فإذا أردنا الاستعارة فالأولى أن نقول: رفعت مائدة الحديث لا طوي بساطه ... وإن قولهم «ركب فلان متن الباطن أو مطيته» كان يوم كان ركوب المطايا مألوفا، وأما اليوم فإن وسائط النقل كثيرة، وأقلها استعمالا المطايا، فإذا أردنا الاستعارة فالأولى أن نقول: تسلق فلان سيارة باطله أو دراجته لا ركب متنه أو مطيته ... بل يخيل إلي أن أصحاب المذهب الجديد يميلون إلى الإقلال من الاستعارات وقد يفضي بهم الأمر إما إلى العدول عنها بتاتا وإما إلى استعمالها في الشعر دون غيره، فيكون للشعر لغة ولغيره لغة أخرى.
أكثر العرب من الاستعارات يوم كانوا أهل خيال وأحلام، فكانت لغتهم شعرية لا يستعملونها إلا في بيان تأثراتهم فكانوا يتلاعبون بالألفاظ للمبالغة في بيان تلك التأثرات، وأما اليوم وهم يحاولون أن يجعلوها لغة العلم والفلسفة والسياسة والاجتماع، فلا بد أن تتطور فتراعى النسبة بين اللفظ والمعنى، وبعبارة أخرى؛ لا بد أن يقصد بها تقرير حقائق بألفاظ محدودة موضوعة لا تقبل الزيادة أو النقصان، ولا بد أن تتغلب هذه اللغة على لغة الشعر؛ لأنها أعم ولغة الشعر أخص، هذا إذا لم تتغير حدود الشعر.
القديم والجديد1
Shafi da ba'a sani ba