ودليلهم في هذا مستمد من علم النفس؛ حيث يتهم رجاله حواس الإنسان، وأحكامه العقلية، وذاكرته، ويذهبون إلى أنه كثيرا ما يخدع فيخدع، ونظرة إلى ما يقوم به المشعوذون على المسارح لتضليل الجماهير تكفي لإقناع القارئ بما أقول، وخذ إذا شئت حصاة صغيرة وضعها في كفك، ثم ضع وسطى أصابع يدك الأخرى فوق السبابة وتناولها بها تشعر بأنها اثنتان، وما يصدق على اللمس يصح على الحواس الأخرى أحيانا.
وقد تنقل الحواس الخبر اليقين إلى الدماغ، ولكن العقل يسيء التفسير فيخطئ فهمها وتعليلها، ويضل في وهمه، ومما نذكر من هذا القبيل، أننا في أثناء التلمذة، جلسنا مرة نصغي إلى أستاذنا يلقي محاضرة علينا في هذه الناحية من علم النفس، وفي أثناء الكلام سمعنا ضجة قوية خارج الغرفة. ثم دخل فجأة علينا رجل مذعور ووراءه اثنان يلحقان به، وأحدهما يقول له: قف قف، وإلا قتلتك. وبيده مسدس صوبه إليه. فهرب الرجل الأول من باب آخر، وتبعه الرجلان الآخران. فقال لنا أستاذنا اكتبوا ما شاهدتهم من هذه الواقعة. فكتبنا ما ورد في أعلاه، وبعد أن اطلع على شهادتنا في الأمر ضحك، ثم استدعى صاحب المسدس وسأله أن يرينا مسدسه، ولشد ما كانت دهشتنا حين علمنا أن مسدسه لم يكن سوى ثمرة جافة من أثمار الموز. أرأيتم إلى أي حد يخدع العقل أحيانا في استناده إلى حواس؟!
هذا واذكروا أن الإنسان عرضة للنسيان. فقد تخونه الذاكرة أو يخلط بين حادثين. فيضيف وقائع حدثت أو وقعت في الواحد وينسبها إلى الآخر، وإذن فعلم النفس، في هذا الباب، يفرض أن نحتاط فلا نخدع، وإذا ما ذكرنا في الوقت نفسه أن الراوي يقول أحيانا فيما لا يفهم، وأنه قد يقصد التحريض وإيقاد نار الفتنة، وقد يتعمد الكذب لغاية في النفس، إذا ما ذكرنا جميع هذه الأمور، قلنا مع علماء التاريخ، شك المؤرخ رائد حكمته.
وينحصر شك المؤرخ في سلسلتين أساسيتين من الأسئلة التي لا بد من الإجابة عنها لإخراج الحقائق التاريخية من سترة الريب إلى صحن اليقين، والسلسلة الأولى تتعلق برأي الراوي في حقيقة ما يروي؛ لأنه قد يموه الباطل ويزين الخطأ. فيترتب على المؤرخ، والحالة هذه، أن يتساءل عن أمور عدة منها ما يأتي: (1)
هل لراوي الرواية مصلحة فيما يروي؟ وهل هو يزين لنا الأمر ويحسنه، فيتعمد الكذب ليسوقنا إلى استنتاج معين؟ فإذا ما خامرنا في كلامه شك، وخالجنا فيه ظن، تحرينا غرضه فيما يكتب، ومثل هذا يكثر في المخابرات السياسية الرسمية، ولا سيما فيما تنشره الحكومات عن بعض المشاكل فور ظهورها. فقد تصدق الوزارات فيما تنشر ولكنها لا تنشر كل الحقيقة، وليس على المؤرخ المستجد إلا أن يطلع على بعض ما نشره الأستاذ هارولد تمبرلي، من أبحاثه في تاريخ أوروبة المعاصر، ليتأكد من صحة ما نقول، وعليه أيضا أن يتعهد بنظره الرواة الذين ينتمون إلى فئة معينة من الناس، أو يدينون بمذهب من المذاهب، أو يقولون قول حزب من الأحزاب، لعلهم يموهون أو ينمقون أو يكذبون. (2)
هل خضع الراوي لظروف قاهرة أكرهته على التلفيق والنطق بالبطل؟ ومثل هذا يقع أحيانا في بعض المعاملات الرسمية، كأن تتطلب بعض الظروف الحكومية القانونية شروطا لا تتوفر أحيانا بتمام دقائقها وحذافيرها. فيضطر منظم الضبط أن يقول باكتمالها في حين أنها لم تكتمل. فمن خطأ في تاريخ الاجتماع إلى تأخير في الساعة المعينة للجلسة إلى نقص في عدد الحاضرين وهلم جرا، وعلى الرغم من هذا ترى العامة والخاصة أحيانا تعزو الصدق إلى وثيقة من الوثائق الحكومية الرسمية لمجرد كونها رسمية، وإذن فيجدر بالمؤرخ المدقق أن يتردد في صحة هذا النوع من الوثائق الرسمية أن ينجلي الشك ويشرق نور اليقين. (3)
هل شايع الراوي، أو قاوم، فئة معينة من الناس حتى اضطر، عن قصد أو غير قصد، أن ينظر بعين الرضى إلى الفئة التي انتمى إليها فيناصرها على الأخرى؟ وهو أمر قديم العهد في مهنة التاريخ أشار إليه المؤرخون القدماء وعبروا عنه بالعبارتين اللاتينيتين:
Stodium in longum jacens, studium immane loquendi .
ومعنى الأولى «رغبة في الكلام لا تعرف الشبع» والثانية «بغض مزمن » نقول: عبر المؤرخون القدماء عن هذا الأمر بهاتين العبارتين، وتبرءوا من الأخذ بهما منذ مئات السنين، فيجدر بالمؤرخ المدقق أن يتبصر في الأمر من هذه الناحية، ويدرس الراوي من حيث علاقاته القومية والحزبية والمذهبية والفلسفية وما شاكل ذلك. (4)
وهل اندفع الراوي بشيء من الغرور والكبرياء لينطق بالباطل ويحيد عن الحق؟ وهل أقدم على ما يروي بداعي المفاخرة، أو المنافسة، أو ما شابه ذلك؟ لا بد من تفحص أخبار الراوي من هذه الناحية أيضا قبل الاعتماد على روايته، وليذكر المؤرخ المستجد أن دوافع الغرور والكبرياء تختلف باختلاف الزمان والمكان، وأن بعض الناس قد يفاخر بما لا يفاخر به البعض الآخر. فالإفرنسيون اليوم ينكرون على أسلافهم قيامهم بمجزرة برثولوميو، والملك الإفرنسي شارل التاسع زمنئذ كان يتبجح ويتباهى بأنه هو الذي نظم هذه المذابح. بيد أنه لا بد من الاعتراف أيضا بنوع من التشرف والتبذخ والاعتزاز، لم يختلف على مدى العصور والأدهار، هو حب الجاه والظهور بمظهر المقدرة والنفوذ والعظمة. فيجدر بنا، والحالة هذه، أن نصر على اتهام الراوي بمثل ما تقدم إلى أن نتيقن من براءة ذمته. (5)
Shafi da ba'a sani ba