حقائق الأشياء وابن أبي الخير يستوحي قلبه وشعوره الفياض وهو خلاف معروف بين أصحاب الحكمتين البحثية والذوقية.
تحفل خزائن الكتب برسائل نادرة متبادلة بين الشيخ أبي سعيد ابن أبي الخير وابن سينا في أحوال النفس والزهد والعزلة إلى أسئلة أخرى لا تخلو من شطحات المتصوفة وقد اشتهرت وصية أوصى بها الشيخ صاحبه المذكور وهي التي يقول في آخرها " خير العمل ما صدر عن حسن نية وخير النيات ما ينفرج عن جناب علم والحكمة أم الفضائل بمعرفة الله أول الأوائل إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ".
من هذه الوصية نسخ عدة مخطوطة ولكنها كثيرة التفاوت والاختلاف وفي الجزء الثاني من أجزاء رسائل ابن سينا التي نشرت أخيرا في السنة الماضية في الآستانة نص كامل من هذه الوصية وقد أورد ابن أبي أصيبعة جزا منها في عيون الأنباء ونشرت رسالة ابن أبي الخير وقسم من الوصية في أول الطبعة المصرية من كتاب " النجاة " هذا إلى أصول أخرى تختلف كل الاختلاف فهي لذلك جديرة بالمقارنة والتحقيق ويحسن أن يتناول تحقيق هذه الوصية تنافر الأساليب في بعض فقراتها فان بعضها بأساليب المتصوفة المتأخرين أشبه من أساليب الشيخ الرئيس فليلاحظ ذلك.
هؤلاء وأمثالهم نفر من الصوفية والشعراء زجت بهم الأقدار في خضم الحياة فهم يتطلعون إلى ساحل الأمان من خلال كتب الفلسفة فلما خابت أمانيهم ولما طال عليهم التسكع في مجاهل القلق والحيرة هجروا الفلسفة وكتبها وأنحو باللائمة عليها وليس الذنب ذنب تلك الكتب في الحقيقة.
هذا ويلاحظ أن بين أرباب القلوب والأحوال من المتصوفة والشعراء طبقة أخرى نظرت نظرة الرضا إلى أسلوب ابن سينا في قصصه الرمزية الفلسفية مثل قصة " حي بن يقظان " و " رسالة الطير " و " سلامان وآبسال " وفي " حي بن يقظان " يقول ابن الهبارية الشاعر العباسي المشهور المتوفى سنة 504 بكرمان:
حي بن يقظان ما حي بن يقظانا سبحان موجد ذاك الشيخ سبحانا شيخ من الولد القدسي منشؤ سرى إلينا وحيانا فأحيانا عني فريق من المتصوفة والأدباء بشرح قصة حي بن يقظان كما عني بنظمها شعراء آخرون ومنهم ابن الهبارية على ما تشير إليه فهارس بعض المكتبات ولا شك أن ابن الهبارية جود نظمه لحي بن يقظان كما فعل في نظم كليلة ودمنة في ديوان سماه نتائج الفطنة وكما فعل في الصادح والباغم الذي نظمه على هذا الأسلوب هذا مع العلم بأن منظومته المذكورة لم تصل إلى أيدي الباحثين ولا يخفى أن ابن الهبارية نشا في العصر الثاني لعصر ابن سينا متأثرا بارائه معنيا بنظم كتب الحكم والأمثال وصلت إلينا قصة حي بن يقظان منظومة نظما شائقا في أكثر من أربعمائة بيت من إنشاء هبة الله بن عبد الواحد أحد شعراء القرن السادس والنسخة التي وصلت إلينا من هذه المنظومة منقولة عن خط الشيخ عبد الرحمن العتائقي من أعلام العراق في منتصف القرن الثامن وله عليها تعليقات لطيفة وفي أولها يقول الناظم المذكور:
تيسرت لي من بلادي برزه * صحبت فيها سادة أعزه فسرت يومين عن المدينة * في رفقة رفيقة أمينه فانست عيناي في البيداء * شيخا بهي العقل و الرواء قد مرت السنون والأعوام * عليه وهو حدث غلام 3 - الطبقة الثالثة معاصرو الشيخ المعنيون بالفلسفة القديمة ووضع الكتب فيها وجلهم من أهل بغداد وبعضهم من المسيحيين السريان وهو يسميهم في بعض رسائله " نصارى مدينة السلام " ولم تظهر من الشيخ عناية بما يكتبه هؤلاء البغداديون إلا بعد محنته على باب أصفهان حيث أراد أصحابه التسرية عنه واستئناف نشاطه في البحث فجلبوا له مؤلفات البغداديين لدرسها والنظر في وجوه الخلاف بينهم وبينه في تحرير الفلسفة كما أشرنا إلى ذلك قريبا ومن مشايخ هؤلاء الفلاسفة البغداديين الذين ورد ذكرهم في المراسلات الدائرة بين الشيخ وأصحابه أبو الخير الحسن ابن سوار المعروف بابن الخمار شيخ من شيوخ هؤلاء البغداديين في الطب والفلسفة أقام مدة في مملكة بني سامان روى عنه ابن النديم في فهرسته فهو معاصر له ولابن الخمار على ما جاء في الفهرست وغيره كتب في الرد على أرسطو فهو من طبقة مشايخ ابن سينا بيد أن تلامذته من المعاصرين للشيخ عنوا بالرد على ابن سينا ودخلوا في النقاش معه ونقدوا آراءه في الطب وفي الفلسفتين الطبيعية والإلهية إذ أن لابن الخمار تلامذة نجباء في الفلسفة ذاع ذكرهم واشتهرت مؤلفاتهم منهم أبو الفرج ابن هندو وأبو الفرج عبد الله ابن الطيب والأخير من المعروفين بمناقشته لابن سينا ومنافسة ابن سينا له في الطب والمنطق ومن فلاسفة بغداد في هذه الفترة مسكويه صاحب " تهذيب الأخلاق " وابن السمح البغدادي له تصانيف مشهورة وغيرهم ممن اشتهروا بالانحراف عن طريقة المشائين.
غمز ابن سينا في المراسلات التي دارت بينه وبين أصحابه وفي الأقوال المروية عنه في كتاب المباحثات أكثر هؤلاء الخصوم البغداديين المعاصرين له وطعن في مآخذهم للفلسفة وسوء فهمهم للعلم الإلهي خاصة - على ما يقول - بل تهكم عليهم وسخر منهم سخرية لاذعة أحيانا بيد أنه كان متحفظا في الكلام عن ابن الخمار وابن السمح وفي ذلك ما فيه من الدلالة على منزلتهما العلمية والمرجح أن ابن سينا لم يبدأهم بهذا الضرب من الطعن والغمز وإنما كان يدافع عن نفسه وعن طريقته وعن مذهبه وآرائه التي نوقشت مناقشة شديدة لا تخلو من التشنيع والتشهير في كثير من الأحيان فكلما ظهر له كتاب ظهرت على أثره كتب تعارضه وتتحداه.
ولا تخلو كتب ابن سينا من التشهير بهذا النمط من الفلاسفة المعاصرين له وتنقصهم والتشنيع عليهم ونسبتهم إلى التمويه والمغالطة ولنعتبر قوله في آخر منطق الشفاء وهذا نصه: ولقد رأينا وشاهدنا في زماننا قوما كانوا يتظاهرون بالحكمة ويقولون بها ويدعون الناس إليها ودرجتهم فيها سافلة فلما ظهر للناس أنهم مقصرون أنكروا أن يكون للحكمة حقيقة وللفلسفة فائدة. وكثير منهم لما لم يمكنه أن يدعي بطلان الفلسفة من الأصل قصد المشائين بالثلب. وصناعة المنطق والبانين عليها بالعيب فأوهم أن الفلسفة أفلاطونية وأن الحكمة سقراطية وأن الدراية ليست إلا عند القدماء من الأوائل. والفيثاغوريين من الفلاسفة، وكثير منهم قال إن الفلسفة وإن كانت حقيقية فلا جدوى في تعلمها. وأن النفس الإنسانية كالبهيمة باطلة ولا جدوى للحكمة في العاجلة. وأما الآجلة فلا أجلة ومن أحب أن يعتقد أنه حكيم وسقطت قوته عن إدراك الحكمة أو
Shafi 34