بعد هزيمة أصفهان التي اجتاحت كتبه على باب المدينة المذكورة.
ويعد كتاب المباحثات على إيجازه المخل أحيانا وعلى ما فيه من تعقيد بمثابة سجل لهذه الأحداث والأبحاث. ونحن ننقل بعض ما جاء في هذا الباب منه بشئ من التصرف وحذف ما لا حاجة به من العبارات قال بهمنيار " كان قد اتفق من الدواعي عام طروق ركاب السلطان الماضي رحمة الله عليه هذه البلاد ما بعثه على الاشتغال بكتاب سماه " الإنصاف اشتمل على جميع كتب أرسطاطاليس إنما خفف على نفسه ما يحتاج أن ينقل فترك له فرجا وعلامات وكان عدد ما تكلم فيه وجعله موضع نظر ونسب الكلام المقدم فيه إلى ظلم أو تقصير أو تحريف فوق سبعة وعشرين ألف موضع وقبل أن ينقل ذلك إلى المبيضة وقع عليه قطع في هزيمة ألمت بأسبابه وكتبه كلها على باب أصفهان فلما عاد إلى الري بهر لمعاودة ذلك التصنيف ففر فان معاودة المفروع منه متثقلة فلم يترك يحرض ويبعث وقيل له لعلك إن استدعيت ما أحدثه المحدثون بمدينة السلام كانت الخواطر الجديدة تحرك منك نشاطا للحكم عليها بالتصويب أو بالتخطئة وانبرى بعض أولاد الأمراء من أهل الفضل قائلا أنه يستقبح من ماله إلى مدينة السلام لاستدعاء ما وجد للشيخين بها فامتعض وكره أن يقف موقف البخلاء ورسم لبعض أصدقائه أن يبتاع ما تجدد من كتب الشيخين فلم يظفر إلا بكتب الشيخ الباقي منها فلما تأملناها رأينا شيئا لا عهد لأهل التحصيل به تشويشا واختلاطا فطال لسانه على ممرضيه وقال ألم أقل لكم أن الطبقة هذه الطبقة وأن التصرف هذا التصرف وأن أبا الخير ابن الخمار وابن السمح على ضيق مجالسهما برواية بعض الكتب كانا أحسن حالا من غيرهما والشأن في إعظام القوم للطلبة ومقالاتهم في العين كأنهم يهذون ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وقد كان بلغني أن ذلك الشيخ يعني " أبا الفرج ابن الطيب " قد خولط وقتا ما في عقله للأمراض التي تصيب أهل الفكر ولعل هذا من تصنيفه ذلك الوقت وبقينا نعجب ممن يقنع بهذا القدر اليسير ثم لهذا النمط المختل من البيان. ولعمري لقد أراح هؤلاء أنفسهم. ورفضوا المنطق مطلقا. وليس هو هذا اليوم بل منذ زمان وأما من جهة صورتها فهؤلاء خاصة أغفلوها وكلما عالجوها حادوا عن الجادة لأنهم لم يحصلوا ملكة التصرف ولم يقاسوا فمن الجزئيات عناء التحليل وأنا أسال الشيخ أن يعرض هذه الصورة على أهل التحصيل ليعلموا أنه لم يكن في أول الأمر إلى ثلب الكتب فاقه تحمل ذلك الاشتطاط ولا في الأمر لها بعد ذلك اقترار عين ثم قال: وسبيل هذه الكتب أن ترد على بائعها ويترك عليه أثمانها ".
وبعد أن أشار بهمنيار إلى موضوعات هذه الكتب من منطقية وفلسفية عاد إلى نقدها والتنديد بها قائلا " فمن عرض عليه من أهل العراق هذه الأحرف واشتبه عليه الحال في صدق جماعتنا فليعين على أي موضع يشاء من المعاني التي تشتمل عليه هذه الكتب لا سيما الطبيعية والإلهية حتى يكتب بعض ما فيه من الفساد والخروج عن النظام والهذيان.
فلذا حمي وطيس المعركة في عصر ابن سينا وبعد ذلك العصر بين أنصاره و خصومه فكلما تصدى للرد على الشيخ أو التشنيع عليه أحد الخصوم نهض أنصاره للدفاع عنه فهذا ابن رشد صنف في الرد على أبي حامد الغزالي لرده على ابن سينا وغيره من الفلاسفة وإن لم يتفق ابن رشد مع الشيخ كل الاتفاق في تحرير الفلسفة القديمة وهذا نصير الدين الطوسي أشرع قلمه للذب عن ابن سينا رادا على الشهرستاني في كتابه " مصارعة الفلاسفة " وعلى فخر الدين الرازي في " المحصل " و " شرح الإشارات " وانبرى للذب عنه من الفلاسفة المتأخرين " ابن كمونة " فإنه لخص كتابا في نقض الإشارات لنجم الدين النخشواني فقال إن أكثر هذه الاعتراضات غير واردة. هذا ولصدر الدين الشيرازي مواقفه في الرد على الرازي فخر الدين. وإياه أراد الشيرازي بقوله في تعليقاته على إلهيات الشفاء: " كان هذا المرء المعروف بالذكاء سريع المبادرة في الاعتراض على الشيخ قبل الإمعان والتفتيش لعجلة طبعه وطيشه ".
خصوم الشيخ:
هناك ثلاث طبقات ناهضت فلاسفة الاسلام وشددت النكير عليهم منذ عصر ابن سينا حتى اليوم.
1 - قوم خرجوا عن حدود الاعتدال في المناقشة إلى المهاترة والإسفاف شعارهم الغيرة على الفضيلة ولا شان لنا بهؤلاء إذ كفانا أبو حامد الغزالي مؤونة الدخول في المناقشة معهم فقال " إنهم لمكان جمودهم وعجزهم أشد نكاية بالإسلام من الفلاسفة والغزالي - كما لا يخفى أغزر المعنيين بالرد على الفلاسفة مادة أبعدهم أثرا في هذه الناحية.
من هذا القبيل ما جاء في المختصر المسمى: " إخبار العلماء بأخبار الحكماء " للقفطي، في هذا المختصر من إسفاف وبذاءة في التحامل على الفارابي وابن سينا لا يصدق وروده في كتاب يعنى مؤلفه بتاريخ الحكماء، ومن المفيد أن نقول في هذا الصدد: إن هذا المختصر كتاب ملفق مبتور وأن جامعه جانب الأمانة في النقل فهو يسطو على الكتب وعلى أقوال المؤلفين ويوردها في كتابه بدون أن يشير إلى ذلك كما فعل بكتاب " طبقات الأمم " لصاعد الأندلسي وغيره أيضا، والخلاصة: إذا محصنا هذا المختصر بمنظار النقد العلمي لم نجده في الكتب الجديرة بالثقة بل نجد جامعه مجردا من مميزات العلماء.
2 - ومن المنحرفين عن ابن سينا طبقة من أرباب القلوب والأمزجة الصوفية والشعرية الذين أضناهم السير في طلب الحقيقة ولم يزدهم النظر في تصانيف الفلاسفة إلا بعدا عنها ومن ثم وبعد محن وتجارب صوفية قاسية أوسعوا الكتب الفلسفية ذما فيما لهم من منظوم ومنثور نظير ما قاله علاء الدين علي بن الحسن بن الحسن الجوادي الكاتب حسبما رواه ابن الفوطي في تاريخه المسمى " تلخيص مجمع الآداب ":
تصفحت " الشفاء " على كمال وطالعت " النجاة " على تمام فلم أر في " النجاة سوى هلاك * ولم أر في " الشفاء " سوى سقام وهذا أبو سعيد ابن أبي الخير من الشيوخ العارفين يقول بعد انقطاع الصحبة بينه وبين الشيخ الرئيس وما انقطعت تلك الصحبة إلا بعد محنة صوفية وأزمة نفسية عنيفة:
قطعنا المودة عن معشر * بهم مرض من كتاب " الشفا " فماتوا على ما يرى رسطليس * وعشنا على ملة المصطفى يعد ابن أبي الخير هذا من ألصق أصحاب ابن سينا به وأكثرهم أخذا عنه ورسائل الشيخ إليه تدل على إكبار بالغ وهو يلقبه " سلطان العارفين وخاتمة المشايخ " ويلقبونه أيضا " قطب الأولياء " على أن أبا الخير نفسه كما يبدو من بعض رسائله كان يرى في الشيخ مرشدا أو مرجعا في حل المشكلات إلى أن شجر بينهما نوع من الخلاف في المنحى والطريقة فابن سينا يستوحي عقله في البحث عن
Shafi 33