حتى اليوم وقد استوضح التمحيص من خفايا الترهات والتقاليد الذميمة شيئا كثيرا، واتبع فن النقد الدماء الملكية في رحلاتها المتعرجة خلال الأنساب الجمة لتنتهي حتما إلى المصب المقصود؛ كأنها الرجل المستقيم لا يمنعه اعوجاج المحيط عن الاهتداء إلى الصراط السوي. اليوم وقد ناوش استقلال الشعب أثرة الفرد وتغلب عليها بالنظم الدستورية، فأبقى للفرد السلطة النظرية واجهة تزويق لبنيان فيه تتصرف الأمة بشئونها الإدارية والقضائية والسياسية. اليوم وقد قضت الحرب على البقية المتمهلة من الحكم المطلق بقضائها على قيصرية ألمانيا والنمسا والروسيا، بعد أن قضت الثورة العثمانية على الاستئثار الحميدي. اليوم ما زالت الجماعات تتهيب مظاهر الأبهة الملوكية؛ لأن الاستهواء الحسي الوقتي يضاف إلى الاستهواء الوراثي المتراكم الذي يتناول المرء كائنة حريته الشخصية ما كانت، ويعده للتأثر والاستسلام كما تتأثر القنبرة بضياء المرآة الساطعة فتجمد أو تستسلم.
أقول الجماعات وأعني الأفراد كذلك؛ أعني أقوى الأفراد شوكة وأبقاهم أثرا، تنكسر شوكة الملوك ويظل صوتهم مسموعا ويعفي أثر القياصرة وهم أبدا خالدون، فڤولتر - أحد مهيئي الثورة الفرنساوية والهاتف باحترام الفكر وتقديس الحرية الفردية - يراسل رهطا من ملوك أوروبا ويقبل صداقتهم. ولا بأس بهذا، إنما الشيء الفري أنه يختم رسائله بوضع احترامه وتعلقه وولائه «تحت أقدامهم». وقاسم أمين المصلح الجريء يطمع في تقديم كتابه «تحرير المرأة» إلى سمو عباس الثاني. ورابندرناث تاغور الهندي نبي وحدة الوجود المثبت في قصائده أنشودة الحياة مترددة من كوكب إلى كوكب، ومن ذرة إلى ذرة، يحمل لقب «سير» أنعم به عليه جلالة ملك إنجلترا. وما هم جميعا في ذلك إلا من بني الإنسان! •••
ولو كان هذا البحث تاريخيا لدرست أحوال بلاد لا أرستقراطية فيها، كاليونان الحديثة ورومانيا وصربيا، وأحوال بلاد أخرى كانت فيها فألغتها مثل نروج والبرازيل، ولألمعت إلى السلطنة العثمانية والسلطنة المصرية حيث - عدا العائلة المالكة - لا أرستقراطية سوى أرستقراطية اللقب العرضي المنوط بالفرد دون ذريته. نعم، إن رشاش الباشوية يصل إلى الأنجال فينقلب بيكوية، ولكنه ينتهي عندهم ويفنى فيهم ولا ينتقل منه إلى أبنائهم شيء؛ فحفيد الباشا أفندي مجرد، إلا أن الأفندي الذي لا تحصي شجرة عائلته بيكا واحدا يستطيع هو - ومن دونه - أن يصير باشا إذا رمقته الأحوال بنظرة الرضى.
وإذن لكنت أقابل بين الألقاب الوراثية في الشرق والغرب وأستفهم عن اصطلاحات أحار في تفسيرها. منها أن البرنسس بتريسيا أوف كونوت ابنة عم جورج الخامس، وابنة أخ إدورد السابع، وحفيدة فكتوريا الملكة والإمبراطورة - تزوجت في العام الماضي بسماح الملك، ابن لورد بسيط أهلته لها شجاعة أبداها خلال الحرب، وتبادل عاطفة الحب التي تسوي بين الدرجات وتمحو فروقها فتشرف كل ما لمسته بأناملها الخفية. فتنازلت البرنسس عن لقبها ومرتبتها، وأصبحت بكل بساطة «لايدي رامساي» تدخل في الاحتفالات الرسمية وراء جميع البرنسسات والدوقات والمركيزات والكونتسات، إلى آخر ما هنالك من طغمات الألقاب، في دور لقب «اللادي» الضئيل الذي تحمله، بعد أن كان لها في هذه المواقف أقرب مكان في جوار الملكة. يخيل إلي أن هذا ينافي المعقول في أمة يجوز أن تحكمها النساء، وقد فعلن ؛ إذ كان المنتظر أن امرأة كالبرنسس باتريسيا إن لم تعط زوجها لقبا كلقبها، فهي تحفظ اللقب لنفسها - على الأقل - كما بقيت جدتها ملكة إنجلترا في حين أن قرينها لم يكن إلا برنسا ألمانيا فقط.
وبخلاف ذلك هنا في مصر؛ حيث لا تكون ولاية العهد والحكم إلا للذكور، فإن البنات الحاملات لقب برنسسات إذا هن تزوجن برجل ليس بذي لقب لا يفقدن لقبهن العائلي، ولا يفتأن يحملنه وينادين به. ينادين به ليس تزلفا أو مجاملة، بل هو حق لهن مدون في كتاب الألقاب الرسمية، معترف بإمارتهن من البلاط السلطاني.
ولربما هبطت دركة أخرى لأرسل نظرة في الألقاب اللبنانية المدهشة بإباحيتها؛ ففي جميع البلدان الكبيرة والصغيرة يرث لقب الشرف الابن البكر، ولأعضاء العائلة المالكة لقب برنس وبرنسس على شريطة أن يكونوا أبناء ملك أو أحفاده مباشرة من جهة الذكور. أما في لبنان حيث انقرض الحكم الوراثي منذ عشرات الأعوام، فأبناء المير أو الأمير يولدون أمراء، وأبناء الشيخ مشايخ كلهم، لا يتملص من هذا المقدور فرد أحد. فلو نفذنا هنا القانون الساري في جميع البلدان وأجرينا التصفية اللازمة لهذه الشيوعية المطلقة، فأي رياضي ينبئنا كم شيخ وكم مير يبقى من عملية الطرح الباهظة؟ لو اقتصر اللقب على ابن الحاكم الأصلي وحفيده، وظل فيما بعد متتابعا بالوراثة إلى البكر من الذكور، فكم ملقب يا ترى يفلت من عجاجة المعمعة اللقبية؟ ومما يلفت أن زوجة المير اللبناني كانت تعرف أيام حكمه ب «الست»، وما زالت بطاقة الزيارة لها على هذا النص بالعربية والفرنجية «مدام الأمير كذا كذا». ولكن يظهر أن «ارتقاء» بعض الأهالي في بيروت ولبنان وفي المهجر آل إلى كرم حاتمي بالألقاب، فصارت كل سيدة «أميرة» قبل زواجها وبعده! وفي هذه الحال الأخيرة يضاف اسم عائلة زوجها إلى اسم عائلتها! كل هذا والبرنسس باتريسيا حفيدة أعظم إمبراطورية وأعظم دولة عرفها التاريخ إلى الآن، تحمل لقب لايدي رامساي. •••
يرى بعضهم الملكية وأرستقراطية الحسب متلازمتين؛ إذا وجدت الواحدة قامت إلى جانبها الأخرى. وفي هذا القول صواب وخطأ؛ أما الصواب ففي احتياج الملكية إلى أرستقراطية تتكل عليها، وأما الخطأ فلأن الأرستقراطية في غنى عن الملكية تستطيع أن توجد وتنمو بدونها؛ لذلك نرى الأرستقراطية في تعريف أرسطو أقلية من ذوي الأهلية والفضل يسودون في جمهورية فيديرون منها الشئون، وينفذون القوانين الموضوعة بأمانة ودقة. ويقومون بعبء الحكم حبا بالمصلحة العامة والخير العام. ويضارعه تعريف شيشيرون في كتابه عن الجمهورية حيث يسمي الأرستقراطيين
optimates
وهي الترجمة اللاتينية الحرفية لكلمة
Aristoi
Shafi da ba'a sani ba