تمهيد
1 - الطبقات الاجتماعية
2 - الأرستقراطية
3 - العبودية والرق
4 - الديمقراطية
5 - الاشتراكية السلمية
6 - الاشتراكية الثوروية
7 - الفوضوية
8 - العدمية
9 - يتناقشون
Shafi da ba'a sani ba
10 - رسالة عارف
تمهيد
1 - الطبقات الاجتماعية
2 - الأرستقراطية
3 - العبودية والرق
4 - الديمقراطية
5 - الاشتراكية السلمية
6 - الاشتراكية الثوروية
7 - الفوضوية
8 - العدمية
Shafi da ba'a sani ba
9 - يتناقشون
10 - رسالة عارف
المساواة
المساواة
تأليف
مي زيادة
من ذا يخلصني من قسوة التمايز!
ميشليه
تمهيد
أما رأيت الثري؛ تنهب الأرض سيارته، كأن السعد أقام من الأبهة والرواء هالة بينه وبين سواه، وهناك في الزاوية يدب المعدم ويعتفي متأوها كأنه في تمرغه حشرة خبيثة تأنف الأرض مسها وتمقت انعكاس ظلها؟
Shafi da ba'a sani ba
أوما رأيت الحسناء ترتدي الثياب الفاخرة على أحدث هندام، وفي عنقها ومعصميها جواهر توازي ثروة وتصور نعيما؛ أما رأيتها تمر رشيقة معطرة أمام امرأة رثة الثوب تحمل طفلا هو آية ذلها في الغد كما هي علة ذله اليوم، والذباب يأكل من مآقيها ووجنتيها ما لا تستطيع إزالته لأنها فقيرة حتى من الماء الطهور؟
قد تخفي مظاهر البؤس مالا وعقارا، وقد لا تكون دلائل العز سوى فخفخة واستهتار غرور. على أن المشهدين يمثلان من سلم الكفاف أعلى الدرجات وأدنى الدركات، وبينهما تتحاذى الرتب على اختلافها بما يلازم ذويها من عوز منوع واحتياج لجوج.
إزاء هذين النقيضين حن الشعوريون إلى أخوة الروح تبدو بين طبقات المجتمع، وعمد المفكرون إلى المقابلة والاستنتاج، وقام المحرومون يصرون صريرا، وانبرى النظريون يعينون حقوق الناس على الناس، ومثل الشاعر الحماسي دوره فأرسل «هايني» زفرات كأنها المتفجرات هولا وتحريضا؛ حيث هتف: «ملعون هو الإله، إله السعداء ... ملعون هو الملك، ملك الأغنياء ... وملعون هو الوطن المجازف ببنيه!»
وليس جميع هؤلاء ليسلمون بأن شكايتهم تعارض نظم الطبيعة، بل هم يتسلحون بالحجة والبرهان مشيرين إلى الشمس تسكب النور والحرارة على الأشرار والصالحين، ويستشهدون بالهواء يسدي الحياة إلى الحيوان والإنسان ولا يكون على الجماد ضنينا، ويدلون إلى الأرض تعتش في حضنها المعادن وتكلأ المرعى لكل ذي نسمة يرتعي، ويومئون إلى منبسطات البحار تضم مختلف السمك والوحش المائي من كل فصيلة وحجم ولون، ويذكرون اللحد يحوي الموتى قاطبة على نمط واحد ليدفع بهم إلى الانحلال فريسة وإلى التحول مادة. فإذا أجزلت الطبيعة الهبات ودعت جميع بنيها إلى امتصاص ثديها المدرار، فأنى للكبرياء أن تخلق التمايز والتفاضل، وتجعل بين البشر فروقا وسدودا، فتشل عضوا لتقوي عضوا، وتحرم قوما لتمتع قوما؟
هم يتساءلون عما حلل هذا الجور المرهق، ويصيحون بقوة انفعالاتهم واحتياجاتهم: المساواة! إنما نطلب المساواة!
إن لم يتمرد العبيد بهذه الكلمة وبمعناها العصري، فإنما التوق المبهم إليها هو الذي اضطرهم إلى تكسير القيود، والخروج على سادتهم مرة بعد أخرى في تعاقب العصور القديمة، حتى باتت أثينا وروما من أولئك الثورات في خطر عظيم.
هي التي دمدمت في نفوس عشرين ألفا من العبيد أن يفزعوا إلى الإسبارطيين يوم احتلوا جانبا من بلاد الإغريق في الحرب البيلوبونزية؛ طمعا في الحصول، إن لم يكن على تحرير تام فعلى تحسين مبين.
هي التي نفثت العصيان في قلوب عبيد مناجم اللوريوم وقوت سواعدهم للفتك بحراسهم والمسيطرين عليهم، فاستولوا على حصن سونيوم وأنزلوا في أتيكا الجميلة خرابا ودمارا.
بإلهامها انقلب إسبارطقس التراقي زعيما لإخوانه العبيد في روما، فحارب على رأسهم جيوش الدولة النظامية يقودها الكبراء والنبلاء، ولم يكف عن النضال إلا بسقوطه صريعا بطعنة أرسلتها يد كراسس، أحد أعضاء الحكومة الثلاثية العليا. ثم أي قوة أقامت دولة المماليك في مصر إن لم يكن التطلع إلى المساواة؟!
لأجلها شبت الثورة الفرنساوية، وانبرت تعلن للإنسان حقوقه المدنية المرتكزة على الحقوق الطبيعية، فأثبتت في مطلع بيانها بندا أول يشاركها اليوم فيه العالم المتمدن، وهو أن «الناس يولدون ويظلون متساوين أحرارا إزاء القانون». فحذفت بهذا البند نظام الإقطاع القائم على تفاوت الحقوق والواجبات.
Shafi da ba'a sani ba
وباسمها اعتصمت المرأة فنهضت من تحت قدم السيد الساحقة ووقفت عالية الجبين إزاء مسالك الحياة وأعمالها. وفي سبيلها وضع ماركس كتابه الشهير صارخا «اتحدوا يا عمال العالم!» فتبارى الزعماء في تكوين الأحزاب، وسن القوانين، ونشر اللوائح، وإقامة المؤتمرات الثلاثة لاتحاد العمال الدولي. وهي هي التي هزت الروسيا من أقصاها إلى أقصاها، وأضرمت تحت سمائها شعلة الثورة المدلهمة.
اذكرها يتزاحم حولك جمهور دعاتها وكهنتها: ماركس، ولاسال، وإنجلس، وبرودن، وباكونين، وكروبتكن، وعشرات غيرهم يدحضون مذهب دارون وهوبس القائل بتنازع البقاء بمذهب التضامن والتعاون البادي بين جميع الموجودات.
بل اذكرها يضج حولك هتاف الشعوب، وصراخ المراتب الاجتماعية، وأنين المحتاجين والمتوجعين. هؤلاء لا يفقهون معناها تماما ويزعمون أنها مشاركة الغني بغناه، والوجيه بوجاهته، والمنعم بنعمته. وحسبهم أنها تخفي عنهم شبح غد غدار لا يضمن لهم ولذويهم الغذاء. أو يرون فيها انفراجا معتدلا لضيقهم، كذلك العامل الإنجليزي القائل: «أتريد أن تعرف ما هي المساواة؟ عشر شلنات في النهار يا سيدي.»
تكاد تكون المشاكل الدولية ألاعيب إذا ما قوبلت بالمشاكل الاقتصادية التي يسمونها اجتماعية. ومشكلة «المساواة» هي الآن أم المشاكل، واسمها يطن من كل صوب.
وإنها مع الحرية والإخاء لتهز نفسي، وقد لمستها منذ أن كان لي نفس تتحرك. غير أني وصلت إلى نقطة أود عندها تحليل كل شعور وكل تأثير.
ما هي المساواة، وأين هي، وهل هي ممكنة؟ هذا ما أرغب في استجلائه في الفصول الآتية دون اندفاع ولا تحيز، بل بإخلاص من شكلت من جميع قواها النفسية والإدراكية محكمة «محلفين» يستعرضون خلاصة ما تقوله الطبيعة والعلم والتاريخ، ليثبتوا حكما يرونه صادقا عادلا.
الفصل الأول
الطبقات الاجتماعية
أصل الخليقة في المثيولوجية الهندية أن بيضة الذهب الحاملة برهما كانت تطوف على وجه الغمر عندما انطلق منها الإله، فانفلقت قشرتها فلقتين كونت إحداهما السماء وكانت الأرض من الأخرى. ونشر برهما الأثير بين الأرض والسماء، ثم خلق الكواكب والنبات والأشجار والحيوان فتهيأت الأرض لسكنى النوع البشري. إذ ذاك سحب من رأسه رجلا يدعى برهمانا، وسلمه «الفيدا» أو كتب الهند المقدسة مستودع الحقيقة الخالدة. ومن برهمانا هذا ولد البراهمة الذين عهد إليهم في نشر الديانة وتعزيز أصولها. ثم أخرج برهما من ذراعه اليمنى محاربا يدافع عن الكاهن ويبقيه منيع الحوزة محمي الذمار، واستل من فخذه رجلا ثالثا هو الفلاح الذي يهيئ للجندي وللكاهن الغذاء، والتاجر الذي يمهد أمامهما وسائل الحياة ويضمن لهما موارد الرزق والثروة، وأخيرا انتزع من قدمه المقدسة رجلا رابعا هو أبو الصنائع وزعيم طبقة العاملين للآخرين؛ ومن هذه المخلوقات الأربعة المخترجة من جسم برهما تسلسلت شعوب الهند بمراتبها الاجتماعية، تضاف إليها طبقة الأسافل المتشردين (وما هي إلا حثالة الطبقات الأخرى) المختلفة عن أبناء برهما بما توعزه من رعب واحتقار؛ لأنها خلاصة القبح والتعاسة.
لقد ارتفعت قيمة الفكر الهندي في هذا العصر ارتفاعا كبيرا بما يرمي إليه من حقيقة علمية فلسفية وراء أسلوبه الشعري ومظاهره الخيالية؛ ومغزى هذا الرمز إلى الخليقة أن البشر - وإن كانوا أبناء إله واحد، مخلوقين على صورة واحدة - يستمدون الحياة من أصل واحد، ويعجن جسمهم من طينة واحدة تتماثل بها احتياجاتهم ورغباتهم، إلا أنهم في الوقت نفسه أسرى التنوع تكييفا، أسرى التنوع قهرا؛ يقيدهم هذا التنوع الأولي فيحبو كل فرد وكل طائفة منهم كفاءة تختلف عن كفاءة الآخرين، ويودعهم براعة وحذقا يتساويان قوة عند الجميع وإن تميزا مظهرا طبق العمل المطلوب.
Shafi da ba'a sani ba
وهل للاجتماع من انتظام لولا تنوع الطبقات وتنوع الكفاءات؟ وهل تبدو طلائع المدنية بلا تقسيم العمل طبقا لقابلية أفراد وجماعات ينجحون في فن ويرسبون في فن آخر؟ وأنى لنا العلماء والفلاسفة والفنانون والأبطال والاختصاصيون في كل صنعة لولا التميز والاختلاف؟ فلو أبدنا التنوع في أصوات الخليقة بحذف درجات السلم الموسيقي السبع أبدنا فن الموسيقى بحذافيره، وما بقي لحاسة سمعنا سوى نغمة تطرد الاستمرار على وتيرة فردة. ولو لاشينا الألوان السبعة من التحليل الطيفي فقد الشعاع خواصه وانتهت بنا واحدية اللون إلى الظلام. ولكن في الظلام نفسه درجات لأنه محبوك الطرفين بالشروق والغروب. أليس أن الشفق غير الغلس، وأن هذا وذاك غير انتصاف الليل الأدهم؟
ليس أمامنا سوى الكثرة والتعدد عندما نفتح أنظارنا على الكون فنرى الكواكب متألقة في فضاء يحتويها، ونرى الماء واليابسة، والجبال والوهاد، والأشجار والصخور، والمروج المخصبات والصحاري القاحلات، فضلا عن صنوف الحيوان، ثم لا نلبث أن نرد جميع هذه المظاهر إلى أصول أو أنواع كبرى ثلاثة، هي: النوع الجمادي، والنوع النباتي، والنوع الحيواني الذي يتناهى ارتقاء ودقة في الإنسان المدرك المرغم على تمثيل دوره في مأساة الوجود؛ لأنه جزء من هذا الوجود، وتسري عليه جميع نواميسه إن راضيا وإن كارها.
وكما أن الحياة الجمادية في دورها الهيولي كتلة عظمى لم ينمقها التكييف صورا وأشكالا، كذلك البشر في همجيتهم كل متماثل لا تنظمهم المراتب ولا كبير منهم ولا صغير؛ وهذا شأن بعض القبائل المتوحشة في أفريقيا وبين هنود أمريكا إلى أيامنا؛ هم يعيشون جماعات صغيرة ولا شاغل لهم غير ما يشغل الحيوان الأعجم. إلا أن لكثير من فصائل الحيوان فروقا اجتماعية؛ فعندها الملكية المطلقة، والأرستقراطية، وثوروية تتطلع إلى الهدم، وغيرها يطلب المساواة، وبالجملة فإن قضيتها الاجتماعية تكاد تشبه مثيلتها عند النوع البشري. وقد تسهل مراقبة هذه الفروق بين حيوان المنازل، كالنمل - مثلا - الذي يظهر عنده تقسيم العمل ظهورا تاما؛ فمن أعضائه العامل المنتج، ومنها المحارب المدافع، ومنها العبد الرقيق، وبعض العشائر تغزو بعضها فتقهرها وتستعبدها، إنما تعاملها برفق ولين. •••
ابتدأ دور تكوين الشعوب بانتشارها قبائل يتقارب منها الجوار بتقارب الأصل، ولكل قبيلة وسائلها الحيوية في موارد موطنها الطبيعية، التي هي بدورها ربت في أعضاء القبيلة ذكاء ومهارة موافقين لاستخدامها؛ فاصطنعوا لأنفسهم تلك الأدوات الحجرية والفخارية، واخترعوا القوس والنشاب، وآلات حرث الأرض وطريقة فلاحتها، واكتشفوا النار ووسيلة إضرامها، وكانوا يشتركون في استعمال هذه الأدوات والآلات عند الحاجة لأنها ملك الجميع الذي كان يعمل له كل فرد تحت مراقبة زعماء أكفاء، ويضمن له مقابل تعبه السكن والقوت والكساء في حالتها الأولى؛ فينجلي من هذا أن الاشتراكية سبقت كل نظام آخر في حياة البشر. ومع أن هذه الاشتراكية مشوبة بخلل كثير إلا أنها حسنة بالنظر إلى زمنها، ولأنها أول خطوة في عالم النظام والتدريب. وقد لاحت فيها أول بارقة من بوارق النبوغ الذي سيكشف أسرار الطبيعة ويتغلب على عناصرها في العصور التاليات.
تطورت حياة القبائل قليلا ونمت مدارك الأفراد فيها؛ فاتجهت تدريجيا نحو غاية واحدة وهم لا يعلمون. فتلك التي قطنت المروج اقتنت الغنم والخيل بعد تأنيسها، ونظمت القطعان للانتفاع بخيراتها من حليب وما يتأتى منه في حياتها، ومن جلد وصوف بعد أن تنفق، فتوفر لديها من ذلك ثروة طائلة. فطمعت في توسيع فلاحتها طلبا لثروة أعظم، وكان ذلك سببا لاختلاف القبائل فيما بينها على مسألة الحدود؛ فقامت المناوشات والمعارك، وانتصر هذا واندحر ذاك، فشعر الغالب لأول مرة بنشوة «السيادة»، ونهبت القبيلة المغلوبة وضم أعضاؤها إلى القبيلة الغالبة. إلا أنهم كانوا يحسون بفرق بين الجماعتين، وبكآبة مقابلة لنشوة «السائد»، ولم تكن تلك سوى كآبة «المسود»؛ وهذا منشأ الأوتوقراطية والرق.
وجرى مثل ذلك تقريبا في الأودية المخصبة؛ حيث عنيت القبائل بزراعة صنوف النبات والأشجار. والخوف من غارات القبائل المجاورة دفعهم إلى انتخاب زعماء حربيين يهيئون خطوط الدفاع إزاء هجمات العدو، فارتفع هؤلاء الزعماء - مع الوقت - إلى درجة سادة يسيرون الفلاحين ويتقاضونهم بدل الأرض التي يستغلونها، ويفرضون عليهم الضرائب، إلى أن أنشئوا الرق في أملاكهم من سلائب العدو وغنائم الحروب.
كذلك عند مصب الأنهار؛ فإن القرصان استوطنوا الشواطئ ليسهلوا العلاقات بين الفلاحين وقبائل الجبال، ولما تبينوا رعب الفلاحين ورغبتهم في صد الغارات عن حياتهم الهادئة نظموا قوة حربية، وانقضوا كالصاعقة على الضعفاء فسادوهم، وانقلب الأحرار عبيدا.
تم ما يشبه هذا بين القبائل القديمة يقودها جماعات وأفرادا ذلك الشعور العريق في قلب الإنسان، وهو الطمع في السيادة والسعي إلى التفوق. وسرعان ما عثروا على عماد السيادة وهو الملك، أو رأس المال كما يسمونه بلغة هذا العصر. وهذا الملك لم يكن ليتأتى إلا من الذكاء والمهارة، أو الامتياز بصفة أو كفاءة خاصة؛ فأخذوا يمتلكون الأراضي ويحشدون الثروة من المواد المنظور إليها كثروة في ذلك الحين. وكان ذلك الفصل الأول من تاريخ الاقتصاد البشري الدائر كله حول ذلك المحور الرهيب الذي يدعى الملك. فالحصول على الملك والاحتفاظ به من جهة، والرغبة في نزعه من جهة أخرى سببت هذا العراك المالي والاجتماعي الذي لا ينتهي؛ فكون الأرستقراطية والعبودية، وسبب المجازر والفظائع، ولأجله شبت الحروب، ونشبت الثورات، ودكت الحصون ودمرت أجمل آثار العمران، وتشكلت الأحزاب العديدة؛ فهذه ديمقراطية، وهذه جمهورية، وتلك اشتراكية ، وغيرها فوضوية. ومنها القائل بتمتع الفرد بأملاكه، ومنها المرتئي جعل الملك مشاعا للجميع، ومنها الضاحك من كل حزب بتفجر القنابل وهدم الصروح وإزهاق الأرواح. وقد أدى التزاحم والتقاتل إلى انتشار الأقوام، فسعوا في الأرض يروجون تجارتهم ويكثرون أرباحهم ليحفظوا لهم المكانة والوجاهة في جماعتهم. وتوطد نظام الوراثة لأن السيد العظيم كان يشرك أولاده في إدارة الأملاك؛ فيتمرن عادة الولد البكر على فن الإدارة والحكم، وينتهي إليه حق الإرث الأكبر. •••
وبدهي أن الأب كان يعامل أفراد عيلته كمعاملة زعيمه له، فإن ظلمه ظلمهم، وإن أنصفه كان لهم منصفا. وكذا تكونت الأرستقراطية في داخل الأسرة في حين كانت تتكون في الجماعة أو في الدولة؛ فكانت الأرستقراطية أو الأشراف يشمل عميد الأسرة ووالديه، ويليهم أعضاء الأسرة الآخرون، وتلي هذه درجة الخدم أحرارا وعبيدا. فهاك بلاد اليونان مثلا في زمنها الأقدم، أي العهد الملكي المطلق؛ حيث تجد طبقة مؤلفة من جميع رؤساء الأسر، وهم في الغالب نبلاء كالملك نفسه، وينتسبون للآلهة مثله، ويحملون لقب «ملك»؛ لذلك يذكر هوميرس ملوكا كثيرين في مدينة واحدة، يجتمعون لدى الملك ليسدوا إليه النصح في شئون الدولة أو ليسنوا له إرادتهم. وكانت الطبقة الثانية من ذوي القربى لأولئك الزعماء، وهم أرستقراطيون ولادة وحقوقا، يملكون الأراضي أحرارا أو يتمتعون بنتاج أراضي الأسرة المشتركة. وإن لم يكونوا يحضرون اجتماع الملوك فإنهم كانوا أعضاء جمعية أبناء الوطن العمومية. وخضوعهم الوحيد في امتثالهم لكبير الأسرة بينا هذا لم يكن ليمتثل لغير الملك. وتؤلف الطبقة الثالثة من خدم البيت المنقسمين إلى عبيد وإلى معتوقين، وعدد هذه الطبقة قليل لأن العمل اليدوي لم يكن محتقرا، ولم يكن أبناء «الملوك» ليترفعوا عن فلاحة الأرض ورعي المواشي. وكان هناك طبقة أخرى تحوي من لم يكن يخص أسرة كبرى من أهل الصنائع الدنيا والعمال والشحاذين وقطاع الطرق وأمثالهم.
وتعينت مع الزمن الفروق الاجتماعية واكتسبت كل من الطبقات صفات تنسب إليها وعيوبا خاصة بها. وتجبرت الطبقات العليا في سماواتها الوهمية وحسبت نفسها من طينة مختلفة عن طينة الآخرين، لها من ألقابها وثروتها وامتيازاتها ما يفتح لها أبواب الألوهية على مصراعيها. ونما الإدراك ونور الشخصية في الطبقات الأخرى شيئا فشيئا حتى وصلنا إلى حيث نحن اليوم؛ إذ لا بد بين البشر من تبادل المنفعة والتضحية، فإذا انتفع قوم دون أن يضحوا شيئا كانوا مغتصبين ظالمين، وإذا كانوا كثيري التفادي قليلي الانتفاع كانوا مظلومين مهضومي الحقوق. ولئن كمنت المصلحة الذاتية وراء جميع الأعمال فهذه المصلحة - أو الأنانية - موجودة في جميع أجزاء الكون كأنها عنصر جوهري لحفظ الوجود.
Shafi da ba'a sani ba
إن النوع البشري وإن امتاز عن الطبيعة المحسوسة بطبيعته الإدراكية والأخلاقية والروحية، فهو يظل مربوطا بها بجسمه واحتياجاته المادية، خاضعا لجميع نظمها، وفي ميوله ميول وحشها؛ فهذا قرد، وذاك ثعلب، وذلك عقرب، والآخر ثعبان، وأما التنوع بين الطبقات، وبين الأفراد، وبين مظاهر الطبيعة فأصلي، ولولاه لما كانت الخليقة. وأرجح أن أفلاطون يوم كتب «جمهوريته» ضرب صفحا عن هذه الحقيقة التي لا أدري كيف استطاع إغفالها.
لقد طال تأمل روسو في حالة البداوة الأولى، وقام هو وأتباعه ينادون بالعودة إليها لتحصل الإنسانية على الهناء المفقود، وترتع في بحبوحة السلام والحرية. وقد نسوا أن الهمجي مستعبد بجهله الفادح وأن له من الخرافات سجنا لعقله، ومن الأوهام حجابا لروحه؛ فهو وإن كان حرا حرية نسبية من حيث علاقته بأمثاله وبقناعته - التي لا يمكن أن تدوم أكثر من زمن ما - فهو أسير أحط أنواع العبودية وأخطرها. وهيهات الرجوع إلى الماضي! إذ إن عودة النظام الشمسي المندفع بسياراته وأقماره نحو النجمة الكبرى من كوكبة الشلياق؛ قلت إن عودته إلى حيث كان منذ مائة ألف سنة توازي في نظام الكون تجريد النوع البشري مما اكتسبه بالألم والخبرة والبطش خلال تحدر الدهور.
خلفنا قوة نجهلها وتتجاهلنا، هي قوة الحركة الدائمة في جميع مناطق الحياة، تدفع بنا أبدا إلى الأمام فنسمي سيرنا ارتقاء. وقد يكون الارتقاء المزعوم تقهقرا في نقط شتى على أن ما لا مهرب منه هو السير المرغم، هو التحرك المتواصل، هو الاستطراد الذي لا راحة منه أمام القبر ولا وراءه.
يتعذر علينا فهم ما هو «الوراء» وما هو «الأمام» في معاني المكان والزمان والذهن، ورغم ذلك يمكن القول إن اتجاه التاريخ البشري بمعنى التقدم والتحسن وإن كثرت حركاته الرجعية واللولبية. «إلى الأمام ولو على الجثث!» ليست كلمة حماسة شعرية قالها غوتي الألماني فحسب، وإنما هي صوت الخليقة القاهر، هي صوت توالي الأشياء وتناسخ الموجودات، هي انبثاق الحركات من الحركات، والذراري من الذراري، والأنظمة من الأنظمة.
لا بد من تنوع الصور وتعدد الطبقات. فلولا التنوع والتعدد ما كانت المدنية ولا كان الوجود الحسي، ولو لم يكن للفروق من فضل سوى شحذ العزائم وإرهاف القوى والتسابق إلى الأولوية، لكفى لنقبلها محاولين عبورها بما أوتينا من عزم وكفاءة. والفوز للأصلح دواما.
الفصل الثاني
الأرستقراطية
لو كان هذا البحث تاريخيا لكنت بدأته بالكلام على الملكية أرستقراطية الأرستقراطية على نوع ما، أو أفضلية الأفضلية، لا سيما الملكية التيوقراطية أي المستمدة سلطتها من الله؛ فاستنجدت بالأساطير التي هي سجل الانتقال من واقع مجهول مأثور إلى واقع مزعوم منشور يقبله من أهل السذاجة من قبل واقتنع، ويكتفي الآخرون بالتمويه والمحاباة. استنجدت بها لطلب جرثومة تلك الأسر الشاهانية الجلى، فماشيتها في نشأتها التدريجية سائدة على العائلة، فالقبيلة، فالمجتمع، فالأمة بالقوة البدنية أو الفكرية، أو التدبيرية، حتى يمدها متلاحق الظفر بمطامع تتعدى أفرادها العصاميين إلى سلالة المستقبل.
أما والناموس الكوني ناموس بقاء الأفضل، يستخدم ولا يستخدم في ضمانة الأفضلية لتلك السلالة، فلا بد من صيانتها دون منافسة المزاحمين، ولا بد أن تملأ قبل الرماء الكنائن، ومن ثم التذرع بأقوى البواعث النفسية من عاطفة دينية وخشية ما وراء المنظور؛ من ثم استجارة الملك بالدين والدين بالملك لتبادل المنفعة، فيصبح الحاكم حامي حمى العقائد ورافع منار الفضائل، ويصبح الكاهن حامل لواء السلطة الفردية وأول شاهد بأنها آتية من الله. ولا يطول حتى تستهوي البدعة ملفقيها. وهل من عجب ما دام الاستهواء الذاتي شرطا أساسيا للاستهواء الغيري؟ فلا يستفز الخطيب حماسة إلا عند تحمسه، ولا يحدث الكاتب تأثيرا إلا بعامل تأثره . ومن ذا ينفي أن انجذاب الشهداء واستهواءهم الذاتي في مصرع العذاب بين الضواري الممزقة لحمانهم، واقتحامهم الموت بصبر الأمل وثقة الشجاعة؛ إنما كان أعظم نصير للمسيحية على الوثنية وأسمع داع إلى الانسلاك فيها؟
هكذا صار الفراعنة مع الزمن - على نحو ما وجد الفتح الإسباني بعدئذ زعماء القبائل في أمريكا الجنوبية - أبناء الشمس المنيرة. وهكذا صار زعماء الجرمان صنيعة فخذ «تهور» إله الحرب، فغدوا أحفاد «أودين» الإله الإسكندنافي الميثولوجي واهب البسالة وعلة المعلولات. وهكذا صار المهرجاه ثمرة تقمص من تقمصات ڤيشنو الأقنوم الثاني من الثالوث الهندي، فضلا عن أن جماعة من ملوك اليونان واللاتين وأبطالهم جاءوا من تزاوج البشر والآلهة عند مرور هؤلاء على الأرض. وصار من الملوك من إذا رؤي صعق رائيه كأن جلاله جلال المولى في عليقة موسى. وأوتي آخرون علما وحكمة خارقين كملوك فرنسا وإنجلترا يشفون الصرع والشلل وداء الخنازير وغيرها بمجرد اللمس الكريم. وظلت القرون الوسطى - بعد الأولى - ترى هالة الألوهية حول الملكية، وتحسب حبل سلطانها مشدودا بمتكأ العرش الصمداني.
Shafi da ba'a sani ba
حتى اليوم وقد استوضح التمحيص من خفايا الترهات والتقاليد الذميمة شيئا كثيرا، واتبع فن النقد الدماء الملكية في رحلاتها المتعرجة خلال الأنساب الجمة لتنتهي حتما إلى المصب المقصود؛ كأنها الرجل المستقيم لا يمنعه اعوجاج المحيط عن الاهتداء إلى الصراط السوي. اليوم وقد ناوش استقلال الشعب أثرة الفرد وتغلب عليها بالنظم الدستورية، فأبقى للفرد السلطة النظرية واجهة تزويق لبنيان فيه تتصرف الأمة بشئونها الإدارية والقضائية والسياسية. اليوم وقد قضت الحرب على البقية المتمهلة من الحكم المطلق بقضائها على قيصرية ألمانيا والنمسا والروسيا، بعد أن قضت الثورة العثمانية على الاستئثار الحميدي. اليوم ما زالت الجماعات تتهيب مظاهر الأبهة الملوكية؛ لأن الاستهواء الحسي الوقتي يضاف إلى الاستهواء الوراثي المتراكم الذي يتناول المرء كائنة حريته الشخصية ما كانت، ويعده للتأثر والاستسلام كما تتأثر القنبرة بضياء المرآة الساطعة فتجمد أو تستسلم.
أقول الجماعات وأعني الأفراد كذلك؛ أعني أقوى الأفراد شوكة وأبقاهم أثرا، تنكسر شوكة الملوك ويظل صوتهم مسموعا ويعفي أثر القياصرة وهم أبدا خالدون، فڤولتر - أحد مهيئي الثورة الفرنساوية والهاتف باحترام الفكر وتقديس الحرية الفردية - يراسل رهطا من ملوك أوروبا ويقبل صداقتهم. ولا بأس بهذا، إنما الشيء الفري أنه يختم رسائله بوضع احترامه وتعلقه وولائه «تحت أقدامهم». وقاسم أمين المصلح الجريء يطمع في تقديم كتابه «تحرير المرأة» إلى سمو عباس الثاني. ورابندرناث تاغور الهندي نبي وحدة الوجود المثبت في قصائده أنشودة الحياة مترددة من كوكب إلى كوكب، ومن ذرة إلى ذرة، يحمل لقب «سير» أنعم به عليه جلالة ملك إنجلترا. وما هم جميعا في ذلك إلا من بني الإنسان! •••
ولو كان هذا البحث تاريخيا لدرست أحوال بلاد لا أرستقراطية فيها، كاليونان الحديثة ورومانيا وصربيا، وأحوال بلاد أخرى كانت فيها فألغتها مثل نروج والبرازيل، ولألمعت إلى السلطنة العثمانية والسلطنة المصرية حيث - عدا العائلة المالكة - لا أرستقراطية سوى أرستقراطية اللقب العرضي المنوط بالفرد دون ذريته. نعم، إن رشاش الباشوية يصل إلى الأنجال فينقلب بيكوية، ولكنه ينتهي عندهم ويفنى فيهم ولا ينتقل منه إلى أبنائهم شيء؛ فحفيد الباشا أفندي مجرد، إلا أن الأفندي الذي لا تحصي شجرة عائلته بيكا واحدا يستطيع هو - ومن دونه - أن يصير باشا إذا رمقته الأحوال بنظرة الرضى.
وإذن لكنت أقابل بين الألقاب الوراثية في الشرق والغرب وأستفهم عن اصطلاحات أحار في تفسيرها. منها أن البرنسس بتريسيا أوف كونوت ابنة عم جورج الخامس، وابنة أخ إدورد السابع، وحفيدة فكتوريا الملكة والإمبراطورة - تزوجت في العام الماضي بسماح الملك، ابن لورد بسيط أهلته لها شجاعة أبداها خلال الحرب، وتبادل عاطفة الحب التي تسوي بين الدرجات وتمحو فروقها فتشرف كل ما لمسته بأناملها الخفية. فتنازلت البرنسس عن لقبها ومرتبتها، وأصبحت بكل بساطة «لايدي رامساي» تدخل في الاحتفالات الرسمية وراء جميع البرنسسات والدوقات والمركيزات والكونتسات، إلى آخر ما هنالك من طغمات الألقاب، في دور لقب «اللادي» الضئيل الذي تحمله، بعد أن كان لها في هذه المواقف أقرب مكان في جوار الملكة. يخيل إلي أن هذا ينافي المعقول في أمة يجوز أن تحكمها النساء، وقد فعلن ؛ إذ كان المنتظر أن امرأة كالبرنسس باتريسيا إن لم تعط زوجها لقبا كلقبها، فهي تحفظ اللقب لنفسها - على الأقل - كما بقيت جدتها ملكة إنجلترا في حين أن قرينها لم يكن إلا برنسا ألمانيا فقط.
وبخلاف ذلك هنا في مصر؛ حيث لا تكون ولاية العهد والحكم إلا للذكور، فإن البنات الحاملات لقب برنسسات إذا هن تزوجن برجل ليس بذي لقب لا يفقدن لقبهن العائلي، ولا يفتأن يحملنه وينادين به. ينادين به ليس تزلفا أو مجاملة، بل هو حق لهن مدون في كتاب الألقاب الرسمية، معترف بإمارتهن من البلاط السلطاني.
ولربما هبطت دركة أخرى لأرسل نظرة في الألقاب اللبنانية المدهشة بإباحيتها؛ ففي جميع البلدان الكبيرة والصغيرة يرث لقب الشرف الابن البكر، ولأعضاء العائلة المالكة لقب برنس وبرنسس على شريطة أن يكونوا أبناء ملك أو أحفاده مباشرة من جهة الذكور. أما في لبنان حيث انقرض الحكم الوراثي منذ عشرات الأعوام، فأبناء المير أو الأمير يولدون أمراء، وأبناء الشيخ مشايخ كلهم، لا يتملص من هذا المقدور فرد أحد. فلو نفذنا هنا القانون الساري في جميع البلدان وأجرينا التصفية اللازمة لهذه الشيوعية المطلقة، فأي رياضي ينبئنا كم شيخ وكم مير يبقى من عملية الطرح الباهظة؟ لو اقتصر اللقب على ابن الحاكم الأصلي وحفيده، وظل فيما بعد متتابعا بالوراثة إلى البكر من الذكور، فكم ملقب يا ترى يفلت من عجاجة المعمعة اللقبية؟ ومما يلفت أن زوجة المير اللبناني كانت تعرف أيام حكمه ب «الست»، وما زالت بطاقة الزيارة لها على هذا النص بالعربية والفرنجية «مدام الأمير كذا كذا». ولكن يظهر أن «ارتقاء» بعض الأهالي في بيروت ولبنان وفي المهجر آل إلى كرم حاتمي بالألقاب، فصارت كل سيدة «أميرة» قبل زواجها وبعده! وفي هذه الحال الأخيرة يضاف اسم عائلة زوجها إلى اسم عائلتها! كل هذا والبرنسس باتريسيا حفيدة أعظم إمبراطورية وأعظم دولة عرفها التاريخ إلى الآن، تحمل لقب لايدي رامساي. •••
يرى بعضهم الملكية وأرستقراطية الحسب متلازمتين؛ إذا وجدت الواحدة قامت إلى جانبها الأخرى. وفي هذا القول صواب وخطأ؛ أما الصواب ففي احتياج الملكية إلى أرستقراطية تتكل عليها، وأما الخطأ فلأن الأرستقراطية في غنى عن الملكية تستطيع أن توجد وتنمو بدونها؛ لذلك نرى الأرستقراطية في تعريف أرسطو أقلية من ذوي الأهلية والفضل يسودون في جمهورية فيديرون منها الشئون، وينفذون القوانين الموضوعة بأمانة ودقة. ويقومون بعبء الحكم حبا بالمصلحة العامة والخير العام. ويضارعه تعريف شيشيرون في كتابه عن الجمهورية حيث يسمي الأرستقراطيين
optimates
وهي الترجمة اللاتينية الحرفية لكلمة
Aristoi
Shafi da ba'a sani ba
اليونانية، أي الأفضلين أو الأماثل. فمعنى الأرستقراطية الأصلي إذن هو حكم الأفضلين، أو حكم الأفضل.
طبعي أن يؤلف المرء لنفسه جماعة تتفق مصالحها مع مصالحه بقدر الإمكان، ويثق من مساعدتها عند الخطر المداهم. والملكية تتبع هذا النظام الطبيعي؛ إذ لا شيء ألزم للسلطة الوراثية من الارتباط بذوي الشرف الوراثي، وتتوقع أن تبقى لها عواطف الشكر والولاء في أسرة أغدقت عليها هي وأسلافها الألقاب والخيرات، ولكن طالما ضل هذا الأمل، ولئن وجد يوما من يدعى هندنبورج وغيره من كبار الضباط والقواد الذين ظلوا يسمون غليوم الثاني «ملكي وإمبراطوري» بعد محنته، وتطوعوا في تقديم نفوسهم عنه للمحاكمة الدولية؛ ففي التاريخ شواهد أخرى هي عبرة للمعتبر، كمعاملة أشراف إنجلترا للملك غليوم أوف أورنج وجورج الأول، ومثلها معاملة أشراف الملكية الفرنساوية لنابليون الأول، ونابليون الثالث، ولويس فيليب، وما كان بعد ذلك من سعي أشراف الإمبراطورية النابليونية (أي الأرستقراطية التي خلقها نابليون) لإرجاع البوربون وإجلاسهم على عرش فرنسا!
في البشر استعداد كبير لنكران الجميل والتملص من قيوده، والإيقاع بصاحب الفضل عليهم عند قضاء المصلحة. ورغم ذلك ما فتئ الملوك يوجدون الأرستقراطية اللقبية جزاء خدمة جليلة وأملا في ولاء مقيم. وإن لم يسلم ملوك الفكر من التقرب فليس من يتقن فنون التزلف ويبرع فيها كأولي العز التالد. فهذا الشريف الذي يزن نبرات صوته، ويعد خطواته، ويقيس إشاراته مع الخلق ومع نفسه تراه يتوق إلى خدمة الملك سرا وعلانية. وإذا أسعده الحظ بمحاذاة سيده في احتفال رسمي هرع يغسل يديه، ويقبل أنامله إن لم يمرغ جبهته عند موطئ قدميه ، وقدم له أطباق الطعام، وملأ كأسه خمرا أو ماء، وحمل أوامره إلى الآخرين؛ فهو بالاختصار يمثل دور «جرسون» قهوة أو مطعم، وهو بذلك فخور.
الأرستقراطية ضرورية لمنفعة الأمة. آه! إني أسمع زئيركم يا دعاة المساواة، وأرى ازوراركم أيها الأساتذة الديمقراطيون. إنها ضرورية للاحتفاظ بصفات هي جزء من ثروة الأمة، لأن لكل طبقة قوة حيوية اؤتمنت عليها. لست قائلة باحتكار القوى والكفاءات في بيئة دون بيئة، ولا أنا قائلة بذكاء ابن الذكي، وبفضل ابن الفاضل، وبأن ابن النصاب لا بد أن يعدم شنقا. ربما كان سر الوراثة أكثر الأسرار الطبيعية تنبيها لحب البحث في. ما أضمن تأثير الوراثة المباشرة من جهة، وما ألغاه من جهة أخرى! تقولون إنه لغو بتغلب الوراثة المتقطعة، أو الرجعى، أو الوراثة البعيدة على الوراثة القريبة! قولوا ما شئتم وأنا أبقي على اعتقادي حتى يتغلب عليه اعتقاد خير منه؛ وهو أن المواهب تظل متدفقة في ذلك التيار الرائع تيار الحياة الذي يخترق الأكوان، ويلقي نثرات منه أتم بهاء وسناء في أفراد دون أفراد بصرف النظر عن صيغة نعتهم الاجتماعي. غير أني أقول كذلك إنه إذا كان للتربية الشخصية والبيتية تأثير - ويتعذر نفي هذا؛ إذ نسد بنفيه باب التقدم والتحسن - فكيف بالتربية الوراثية الطويلة؟! لهذه القاعدة شواذها أيضا، ومن الأرستقراطيين من هم دون الخاملين ذلا ومهانة. ولكن هذا الشذوذ يثبت القاعدة التي هي أن رفيع الحسب يكون عادة مباهيا باسمه يطمع في صونه ناصعا ألمعيا، ويرغب في عظائم الأمور لأنه مسوق أبدا بكبرياء المولد. زد على ذلك أنه يشب على تربية حسنة، وذوق مصفى، ومعاملة جميلة، وتدبير مرضي، وعلم كثير، وعادات نبيلة، وميول سامية؛ جميع هذه الصفات يقتبسها عن محيطه الممتاز بعد أن تكون الوراثة المباشرة وغير المباشرة أثرت فيه تأثيرها؛ فيبتدئ حياته على استعداد تام. أكاد أقول إنه يبتدئها حيث ينهيها من لا اسم له، وتمهد له الحياة سبلا لا تفتح للوضيع، فكأن خدمة المصلحة العامة وخدمة الإنسانية أيسر له منها لغيره. له أولوية الشهرة وشهادة المجد يظل بها مكرما معززا أينما ذهب، بينما الآخر يضحى غالبا لأنه مجهول لا يعرفه أحد؛ فيصرف قواه ونشاطه في إقناع الناس بوجودهما عنده، وتتابع الخيبة والفشل قد يملأ قلبه مرارة ويفسد خلقه فيتحدر من يأس إلى يأس، ومن انكسار إلى انكسار حتى يهوي في لجة الارتياب من مقدرته وكفاءته؛ فيلقي السلاح، ويطوي اللواء، ويسلم تسليم المغلوب عندما ينطلق الأرستقراطي في سبيل السعي والمجد. وادخار هذه الشخصيات الموهوبة بحكم الوراثة إنما هو في مصلحة الشعب والإنسانية بلا جدال.
هو في مصلحة العموم لا سيما إذا كانت المرتبة شبيهة بالأرستقراطية الإنجليزية التي لها بين أرستقراطيات أوروبا مكانة فريدة. هذه بيئة تكونت ببطء متناه لتعادل السائد والمسود حضارة في تاريخ هاتيك البلاد. فاندغم النورمانديون بالسكسون على ممر الدهور فتألفت أفضلية ما زالت بتساهلها ورشدها تحفظ امتيازاتها في هذا الجيل العصيب؛ لأنها وهي من أكثر الأرستقراطيات محافظة على تقاليدها التي منها تفرد الابن البكر بحقوق الوراثة، فهي في الوقت نفسه حكيمة تعيش في أراضيها على مقربة من الفلاحين بعيدة عن التبذير والاستهتار، تتعاطى الصناعة والتجارة وغير ذلك من الأعمال، وتفتح بابها لكل ذي أهلية ومعرفة وثروة أو خدمة جليلة. وهي ذات أثر في معظم شئون الدولة تقبل الإصلاح، وتنبه إلى التعديل الضروري. وقد جاهدت مع الشعب لحمل الملكية على احترام القانون، وتحرير الكاثوليك، ومنح أيرلندا المساواة السياسية، وإعطاء اليهود حقوقهم المدنية والسياسية، وإنشاء النظام النيابي وما نحوها؛ فهي قليلة الأذى، قليلة الظلم، وهي مستودع صفات وعادات مستحسنة؛ لذلك ستبقى زمنا آخر لأنها قريبة إلى نظام الطبيعة. •••
أظن أن ذكر نظام الطبيعة - بعد هذه المرافعة الطويلة في تأييد الأرستقراطية - يشفع بي لدى السادة الديمقراطيين ويفرج من عبوسهم في النظر إلي. لا أقول إن الإشراف أو التفاضل ضروري في الطبيعة فحسب، بل أقول إنه من الطبيعة ولا يمكن حذفه؛ لأنه - كالانخفاض - جزء من أجزاء الوجود. لاشه تلاش ضده، وبملاشاة الضدين يمحي كل شيء. الإشراف والانخفاض من الوجود نفسه؛ إذ ليس سطح الأرض كله بالمنبسط، ولا النجوم كلها من قدر واحد. والذين يطلبون المساواة مسستشهدين بالشمس تسكب نورها على الصالحين والطالحين، وبالماء تسبح فيه جميع الأسماك على الإطلاق، ينسون أن الأسماك من طبيعتها التنوع حجما وصفة؛ فمنها المصفر ومنها القاتم، ومنها السردين ومنها الحيتان. وينسون أن العبرة ليست بالنور الذي ترسله الشمس، بل بالغاية المتنافرة التي يرمي إليها هذا وذاك، وبكيفية الاستفادة من النور والظلام لبلوغها. فكما أن سطح الأرض ينبسط هنا مروجا وسهولا، ويهبط هناك منحدرات وأودية، ويتشامخ هنالك جبالا وقمما، كذلك للطبيعة البشرية سهول وأودية وقمم.
وهاك استدراكا ينيلني حظوة في عيون جهابذة الديمقراطية، ويصح أن يكون متنا لكل بحث في تاريخ الاجتماع؛ وهو أن الأرستقراطية التي احتكرها ذوو الألقاب لبيئتهم ليست إلا جزءا من الأرستقراطية التامة المتشكلة من أرستقراطية الفضل (وهي التي يعنيها أرسطو وشيشرون) وأرستقراطية الحسب، وأرستقراطية العقار، وأرستقراطية المال، وأرستقراطية النبوغ. ومن المفكرين - مثل شوبنهور الفيلسوف الألماني - من لا يعترف بغير الأرستقراطية الأخيرة؛ إذ يرى الناس اثنين: عبقريا وخاملا، وبينهما هوة يستحيل عبورها؛ لأن الطبيعة الخاملة لا تتحول طبيعة عبقرية. وللعبقري كل الفضل في نظره لأنه هو مبدع كل جميل وعظيم. ولكن إذا صحت نظرية شوبنهور من حيث إرجاع الإبداع إلى العبقرية، فهذا لا ينفي أن للدرجات الأخرى فضلا متساويا مع استعدادها في تطور العمران. البذرة تلقى وهي أصل الشجرة، ولكن النمو يتطلب عناصر أخرى. الشرارة أصل النار، ولكن لا بد من مواد يتسع بها اللهيب وينتشر. والغريب هو شعور أهل الألقاب والجاه بضئولة ما لديهم فيسعون للحصول على الأرستقراطيات الأخرى، وإن لم ينالوها تظاهروا بحيازها. مثال ذلك رغبة الملوك والعظماء في الاشتهار بالعلوم والفنون وضروب الإنشاء. ومن لا يذكر ما جرى للويس الرابع عشر مع بوالو النقاد الفرنسوي الذي عرض عليه الملك يوما قصيدة من نظمه كأنه يلتمس مصادقته واستحسانه ليفاخر بهما أمام الأعوان، فكان جواب بوالو: «مولاي قادر على كل شيء؛ أراد نظم أبيات سقيمة فنجح كل النجاح.» وقد يخلط الناس فيحسبون أن من توفرت له أرستقراطية توفر له غيرها . كقول الشاعر عن أرستقراطية المال:
فهي الكلام لمن أراد فصاحة
وهي السلاح لمن أراد قتالا
نقبل هذه النظرية من شاعر فقير بلا ريب؛ لأن الواقع أن المال يبالغ في إظهار العي، ويزيد الجبان خوفا وجبنا. ولا يكون «الكلام» إلا لمن فطر على الفصاحة، ولا «السلاح» إلا في يد الفارس المقدام. ولا هو الارتقاء إلا لمن خلق ليرتقي متسلقا جبال الصعوبة فيصل إلى ذروة التفوق. أما القول بالحظ والنصيب فصائب إلى حد ما. بيد أنه من دلائل العجز أن يظل المرء مكتوف اليدين في انتظار «الظروف» ليتحرك. «الظروف» تخلق الشخصيات الضرورية لها، وتكون الأرستقراطيات الفردية والقومية المطلوبة، وتنبه النبوغ وتعززه. ولكنها في الغالب تختار ممثليها وأبطالها بين العاملين المتحفزين لا بين الكسالى الخاملين. وإن اختارت خاملا سهوا بدد عطاياها هباء، وظل الحظ فيه على نحو قول العامة «رمح يغرز في النخالة.»
Shafi da ba'a sani ba
قال شاعر عربي آخر:
كل من سار على الدرب وصل
وهذا الآخر يشفع في نظريته أنها منظومة. كلا، لا يصل كل من سار على الدرب؛ لأن المدعوين كثير، أما المختارون فقليل. ويقال إن فضل المجاهدين في انخذالهم أعظم، ولا بأس بنشر هذه الكلمة للتشجيع لا سيما وأن نتيجة الجهاد لا تعرف قبل البلوغ إليها. ولكننا نعلم أن الحياة لا تكرم وتكبر إلا من كافح فغلب. أما الآخرون الذين ينهكهم الجهاد فيقعون صرعى في طول السبل وعرضها، فتلقي عليهم نظرة الإشفاق ثم تنساهم؛ لأن وقت البطولة ضيق لا يسع التحسر على الفريسة والضحية. وستظل الأرستقراطية - أرستقراطية الجماعة وأرستقراطية الفرد - ما دامت الطبيعة، ولو تحولت منها الأنواع وتغيرت المظاهر وتعددت الأسماء. سيظل التفوق موجودا ما بقي بين البشر جماعات وأفراد يسيرون بخطوات الجبابرة نحو قمم الوجود فيتجلون على طور القدرة والمجد فوق صياح الصائحين وتجديف المجدفين. سيوجد أبدا هؤلاء، ومنهم من ينعكس خيال أرستقراطيتهم في الأجيال الآتية ويمتد حتى أطراف الدهور القصية، مهما تقلبت الثورات والنظم والعمرانات. هذا إذا كانت الأرستقراطية من الطراز «الأصلح» وهو الطراز الذي قررت له الطبيعة الفوز أولا وآخرا.
الفصل الثالث
العبودية والرق
من عجائب الطبيعة وضعها النقيض بجوار النقيض: تجعل الأكمة الجرداء قرب البحر الزاخر، وخضرة الخمائل وخصب الواحات وراء رمال الصحاري وقحط القفار. حيال الذروة الأرستقراطية يزينها تاج الملكية تحفر البطاح لسيل العبودية الجراف؛ حيث تتزيف السجايا وتتلاشى المكرمات. ما أقامت ارتفاعا إلا أوسعت تخومه تجويفا، وما جادت بنابه إلا بلت بمعتوه، ولا سلمت بوليد إلا ودعت بصريع.
ألا إنما الحياة غنية بالمال والذكاء والكرم والصلاح والحب والجمال والفخار. على أن في كفتها الأخرى ما يعادل الأولى من شقاء وفقر وخمول وقبح وكره وانحطاط. كأنها مرغمة على حفظ النظام في توازنها؛ إذا هي أسرفت في نقطة، تعقبت الإسراف بالاقتصاد فيما يحاذيها؛ فحيث يمتد الرخاء تنتشر التعاسة، وحيث يكثر الخير يقل، وحيث يتغلب قوم يندحر قوم. هنا القصور والصروح والأواوين، وهناك الأكواخ والخصاص والزرائب. حتى الصحة ذاتها قتل متتابع، وكأن نفس الطفل البريء معمل هلاك يفتك بمكروبات لو انتشرت في جماعة لأودت بهم.
ترى هل امتداد الكون المهيع مسافة محدودة إن نحن رأيناها لا تحد فلقصر النظر، وقواه كمية معدودة إن نحن زعمناها لا تعد فلضيق الإدراك؟ هذا سؤال يخرجنا من الاجتماع والتاريخ لتدخلنا محاولة الجواب عنه في الفلسفة واللاهوت، وما نحن منه إلا في دائرة تبتدئ عندها الأبحاث حيث تنتهي. •••
كتاب «مانو» هو أحد كتب الهند المقدسة وقد حوى شرح مذهب البراهمة وتاريخ مدنية الآريين منذ نشأتها، فجاء فيه أن أصل العبيد سبعة: أسير الحرب، ومعدم رضخ لمن يكفل معاشه، وابن العبدة المولود في بيت المولى، والفرد مهدى هدية أو مبيعا بيعا، والمنتقل بالإرث من الوالد إلى الولد، والمستعبد عقوبة على جناية ارتكبها، والمستعبد لعجزه عن تأدية دين أو ضريبة أو غرامة. وسواء ألم هذا الإحصاء بكل الأصول أو أغفل بعضها، فالعبودية قديمة كالحرب، والحرب من خواص الخليقة. لقد حاذت طبقة العبيد طبقة الأحرار منذ فجر العمران، وكأنها في تلك المحاذاة تقول:
هم جيرة الأحياء أما جوارهم
Shafi da ba'a sani ba
فدان، وأما الملتقى فبعيد
وكيف «يلتقي» اثنان يمتلك أحدهما الآخر امتلاكا لا يقصر على تضييق الحرية الشخصية شأن الرجل مع المرأة والمؤدب مع التلميذ، وإنما هو حذفها ليصير العبد آلة خضوع وعمل، تحصى من متاع المالك مع المواشي وما شاكلها.
مأساة دهرية يتألم لذكرها القلب الشفيق، بيد أن المؤرخ المفكر يراها فجرا محصحصا في ليل الهمجية، وأول بادرة من بوادر الرفق من حيث إدراك وجوب الاحتفاظ بحياة المغلوب والحرص عليها. هي دليل التقدم وإن نسبها هربرت سبنسر إلى الشبع بتقريره أن أول العبيد هم أسرى الحرب، وقد جرت العادة بأن يأكلهم الغالب في ولائم النصر. وأنه عندما كثر عددهم أجل قتل بعضهم للتلذذ بلحمانهم المشوية في وليمة آتية ليصير النصر الواحد نصرين؛ فاستخدموهم خلال هذه الفترة فانتبهوا للحال إلى أن حياة الأسير أنفع للغالب من موته.
وعلى كل، فإن الإبقاء على الأسرى يظل كبير الأهمية لإثباته أن النوع - حتى في تلك الهمجية القصوى - ذو نظرة صائبة وإرادة قوية تمكنه من ممارسة الإپيقورية قبل ولادة أسلاف إپيقورس، فيضحي اللذة الصغيرة للحصول على لذة أعظم ... وأهميته الكبرى في إيجاد العبودية وهي الفارق الأول للدرجات الاجتماعية، والمرتبة الأولى لتقسيم العمل الذي قامت عليه دعائم الحضارة. فلولا إناطة الأعمال الدنيا بأولئك القوم ما تفرغ المحارب لبسط سلطانه، ولا أبدع أعوانه ما تستلزمه فنون الحرب وتؤدي إليه من عمل زراعي وصناعي واقتصادي وسياسي. ولولا ذلك التقسيم وهذا الإبداع ما ظهرت الحقوق والواجبات، ولا كانت النظم، ولا توصل البشر إلى تخزين قوة وحذق يستحيل وجود مثلهما عند العشائر الأولى.
لقد عرفت العبودية شعوب الشرق قاطبة من الهند والصين إلى مصر ففينيقية فآشور، فالفرس الذين ضموا تحت لوائهم أمم آسيا الغربية؛ فاختبروا جميع صنوف العبودية في الحقول والمنازل والإيوانات، منذ أيام بابل إلى عهد اليونان. وحالة العبيد متماثلة في كل مكان يتصرف السيد بهم بيعا وحياة وتعذيبا وموتا، إنما يختلف هذا التصرف باختلاف فطرة الشعوب واستعدادها؛ فبينا حالتهم في الهند على أسوأ ما يكون، إذا بهم في الصين على هناء نسبي لا ينظر إليهم كأشياء أو آلات، بل كأناس يحميهم القانون جاعلا حياتهم في مأمن من الخطر وأعضاءهم سالمة من التشويه. وليس في تاريخهم ثورة واحدة على تجمع مئات الألوف منهم حتى اضطرت الحكومة غير مرة إلى إعتاقهم بالجملة، طغمة بعد طغمة، لتفسح مكانا للمستجدين من أسرى الحروب والجناة، والعصاة الثائرين على الحكم الأعلى. ومع أنهم ملك الأمة المشاع فهم يعيشون في العائلة كوضيع أفرادها، ولكل عبد أن يعتق بعد سن السبعين، ولكن كثيرين كانوا يأبون الحرية لتعلقهم بمواليهم. أما في منشوريا فلم يستعملوا إلا للزينة والأبهة في الأعياد القومية والاحتفالات الرسمية. ثم تدرجت العبودية إلى الرق بالعمل الحر؛ فكان التطور الاجتماعي في الصين غير متخلف عنه في الغرب.
أتصدق أن اليهود «شعب الله الخاص» كانوا يمتلكون بعضهم بعضا؟ إن الشريعة تبيح لهم استعباد أخيهم اليهودي ستة أعوام، أما غير اليهودي فعبد حتى الموت. ولا يفهم ما ورد في إنجيل يوحنا قولهم للمسيح «نحن لم نستعبد لأحد قط.» وهم خاضعون يومذاك للاحتلال الروماني، وقد بيعوا في أسواق أورشليم، واستبعد سلمنصر عشرة أسباط منهم، وظل سبطان آخران في قيود أهل بابل سبعين عاما. وقد جاهروا في كتاباتهم بأنهم استعبدوا سبع مرات في أرض الميعاد. ومن يجهل بيع عيسو بكوريته ليعقوب بأكلة عدس، أي بيع كل حقوقه وقبول العبودية لذراريه؟ ولكن العرب الذين ينتسبون إلى عيسو كادوا يمحون بسيادتهم وعظمتهم هفوة السلف الجائع. وقد باع بنو يعقوب أخاهم يوسف للتجار وباعه هؤلاء في مصر فخدمها في السنين الجوائح، وجر إليها ذووه فانتهى بهم الأمر إلى الرق. ولم يكن ليطلق سراحهم لولا الضربات العشر الذائعة الصيت. على أن العبودية عندهم أخف منها عند غيرهم. ترى بين العبد والمولى تبادل الأمانة والرعاية فيحفظان السبت سويا، وللعبد أن يتزوج وينشئ عائلته وحريته ميسورة بالمال. إن قتله مولاه يقتل، وإن جرحه أعتقه، فإذا انقضت السنة السادسة ورفض أن يتحرر قدم إلى قضاة الشعب فثقبوا أذنه عند باب سيده. ولقد كان ثقب الآذان رمزا للعبودية عند شعوب كثيرة. أفتعجبن بعد هذا يا سيداتي ، إذا أنا أذريت ما يشع في آذانكن من فرائد الدر والجوهر وما تهدل منها من الحجار الكريمة وغير الكريمة، لأحدق في ذلك الثقب الذي يشوه أذني أنا الأخرى، وإن كفيته عار الأقراط؟ إني لأتأمله عندكن وألمسه في مبتسمة خجلي. •••
حمل الفينيقيون نظام العبودية مع ما حملوه من الأنظمة والعادات إلى اليونان فجرى هؤلاء عليه، وكان العبيد عندهم أنواعا: نساء لخدمة البيت، ورجالا للفلاحة والزراعة وخدمة الجيش وسائر الأعمال الخشنة، وصبية متأنقين يكرمون الضيوف ويعدون المركبات ويرافقون ابن مولاهم في تنزهه وجولانه، ويشاطرونه دروسه وألعابه، كأنهم المماليك الصغار في بعض البيوت الشرقية. عوملوا برفق فأحبوا مواليهم، إن غاب أحدهم يوما تألموا لفراقه وانتظروه باكين، وإن عاد أقبلوا يلثمون يديه ووجهه فرحين، وإذا اكتسبوا ثقته بحسن سلوكهم ورجاحة عقلهم أطلق يدهم في ماله وشئونه وأنالهم عنده مكانة. قد يكون سبب ذلك أن اليونان كانوا يقدرون الأعمال اليدوية، حتى إن هوميرس ذكر العمال على مقربة من الأبطال، وقال إن الحدادين والمهندسين والنجارين كانوا يدعون مع الأطباء والعرافين والشعراء إلى ضيافة الملوك. وكان أبناء الأسيرات أحرارا، مثل تويسر المولودة من أسيرة؛ لم يكن من فرق بينه وبين أخيه أجاكس (المولود من حرة) ابن تلامون ملك أجين. ولا عجب والملوك والملكات كل يوم عرضة للأسر والاستعباد. مقدور لم ينج منه ولا الآلهة؛ إذ إن البشر أسروا أبولون ونبطون وڤولكان ومارس، فامتثل هؤلاء الآلهة وخدموا صامتين حتى رفقت بهم يد القدر.
أما الإسبارطيون فطبعوا العبودية بطابع شدتهم. العبيد هنا ملك الجمهور يلبسون جلود الحيوانات، ويسخرون لباهظ الأعمال بصرامة عسكرية، ويسكرون إلى درجة العربدة وفقد الشعور ليرى الأحرار كم يحط الشراب من قدر الشارب فيعرضون عن الخمر ويأنفونها. نحن تضحكنا حكاية جحا الذي أرسل ابنه يستقي ماء فأوصاه أن لا يكسر الجرة في الطريق وضربه ضربا مبرحا، فاعترض الجار لأن الولد عوقب قبل أن يغادر البيت وقبل أن يرتكب الذنب، فأجاب جحا: «وما نفع الضرب بعد كسر الجرة؟» كذلك اعتاد أهل إسبارطة ضرب العبيد ضربا عاما لا لإثم جنوا، وإنما ليذكروا دواما أنهم عبيد أقل ما يتهددهم السياط. ويحظر عليهم حتى القوة البدنية فيقتلون القوي منهم، أو يؤدي مولاه ضريبة لأنه لم يوقف نموه. وكثرة الانتصارات والفتوحات مورد عبودية متدفق كان يضاعف عددهم على عدد الموالي سبعا أحيانا؛ فيفتك بهم بأساليب مختلفة تخلصا من شرهم. وروى ثوسديدس - أعظم مؤرخي اليونان - أن الموالي سألوا عبيدهم مرة عن الألفين الأشد بينهم بأسا والأقوى شكيمة ليعتقوهم، فقام العبيد بانتخاب ذينك الألفين، وتناولهم السادة فزاروا بهم الهياكل ثم اختفوا ولم يعد يظهر لهم من أثر.
وكم من تحالف للعبيد مع أعداء إسبارطة! وكم من ثورة جعلت السادة في خطر مقيم! وقد تلظلظوا مرة وكان تهديدهم مخيفا فاضطر الأحرار إلى طلب الهدنة والمساومة مع الزعيم دريماكس، ثم عادوا فاغتالوه بعد عقد الاتفاق؛ فاستأنف الثوار هياجهم وأقاموا له مذبحا جعلوا عليه هذه الكلمات «إلى البطل المحسن». ويقال إن هيكل أفسس يعود تشييده إلى اتفاق - عقب ثورة - بين الموالي والعبيد. بيد أن تلك القلاقل والاضطرابات وتدخل العبيد في جميع الأعمال بالتدريج قضت على الجمهوريات اليونانية وهيأت البلاد للفتح الروماني.
وما كان أشبه حالتهم عند الرومان بها عند الإسبارطيين فعمدوا إلى العصيان والحروب، وكادت حرب إسبارطقس تؤدي إلى خراب روما لولا قتل العبد الزعيم الذي قضى مجدفا على اسم روما الممقوتة.
Shafi da ba'a sani ba
جاء دور التحرير تحت تأثير الفلاسفة، فأخذ العبيد يتعاطون جميع أعمال التجارة وتيسرت لهم المناصب السياسية؛ فارتفع بعضهم ارتفاعا عظيما مثل نارشيسس مستشار الإمبراطور كلوديس الذي حرض على قتل الإمبراطورة مسالينا. واشتهر آخرون بالشعر والفلسفة مثل ترانتسيوس الشاعر الهزلي، والشاعر هوراتسيو، وإبكتتس الفيلسوف الرواقي وغيرهم. وكانت كلما علت مكانة العبيد هبطت الدرجات العليا؛ إذ إن أولئك لم يكونوا يطلبون المساواة للمساواة وإنما يرمون إليها ليصيروا هم سادة ويمسي الموالي لهم عبيدا.
والمدهش في كل هذا أن الفلاسفة لم يقبحوا العبودية ولم ينكروها، بل أقروها مع أن منهم من ذاق مرارتها كديوجنس الكلبي، وإبكتتس السابق ذكره، وأفلاطون الذي ظل أسيرا في مصر وصقلية حتى فداه أحد أصدقائه. وكل ما امتاز به أفلاطون هذا أنه لم يضرب عبده بيده؛ لأن الفلسفة والشعر رققا منه النفس ولطفا الشعور فحملاه على أن يوكل إلى سواه تنفيذ العقوبة في مملوكه! •••
يوصلنا هبوط روما إلى مطلع القرون الوسطى التي تكيفت خلالها الطبقة السفلى تكيفا خاصا. لم تلغ العبودية، بل بالعكس بقيت منتشرة في البلدان المختلفة ولها في ليون بفرنسا، وفي روما بإيطاليا، أسواق عامرة بالتجارة الآدمية من السود والبيض. ومرت العصور، فاكتشف كولمبس القارة الأمريكية في أواخر القرن الخامس عشر، ولم يهمل هذا المرفق التجاري بل كانت له أهميته، ونظم بعدئذ الإسبان والبرتغاليون المتاجرة ببني الإنسان تنظيما دقيقا بين العالمين.
لم تلغ العبودية إنما امتازت القرون الوسطى بشيوع الرق الملازم لنظام الإقطاع في أنحاء أوروبا. لقد تسايرت العبودية
Slavery, esclavage
والرق
1
Serfdom, servage
في جميع فصول التاريخ، فاختلط معناهما والتبسا في اللغات المختلفة وحسبهما الناس مترادفين لمعنى واحد. أما الفرق بينهما فهو أن العبد يملكه سيد وهو لا يملك شيئا. وأما الرقيق فملك سيد يملكه أرضا مقابل ما يفرضه عليه من ضريبة وخدمة وطاعة قصوى. العبد ينزغ من بلده وأهله ويتبع سيده المطلق. أما الرقيق فيظل في ديار جدوده وسيادة المولى تحددها العادة والمصلحة؛ إذ ما نفع أرض لا يد تعمل فيها؟! فمن مصلحة الشريف أن تعمر الأرض وتنتج له الخيرات، ومن مصلحة الرقيق أن يشتغل في أرض يحبها وله من نتاجها ما يكفي - ولو بالإجهاد - لإعالة بيته وأولاده. فضلا عن أن الإغارات الخارجية وقلة الأمن في تلك الأيام كانت تقضي بالانتماء إلى سيد عظيم والاحتماء بحماه. والرق في ذاته أنواع، وظل يخف بالتدريج خلال الزمن حتى فقد في فرنسا صفته السياسية وصار مرجع الأمر إلى الملك، ولم يبق منه للأشراف غير الميزة الاجتماعية، ولكنهم ظلوا منطلقين في الظلم والإجحاف؛ فاهتاج الشعب غير مرة وهم يقمعون الهياج بقسوة متناهية، ثم زاد واتسع في المرة الأخيرة، ورأى العالم الطبقات الاجتماعية تمتزج وتتساوى على دوي سقوط العروش، وانهيار جدران البستيل، وفصل أعناق الملوك في ذلك الزلزال الهائل المدعو بالثورة الفرنساوية.
قضت الثورة على الاسترقاق الذي كان ألغي قبلئذ في إنجلترا، وظل يحذف في دولة بعد دولة، وفي مستعمرة تلو مستعمرة إبان القرن المنصرم. واستفادت أمريكا بدروس العالم القديم واختبارها الشخصي، فألغته الولايات المتحدة سنة 1865 والبرازيل سنة 1888. وهتف الكتاب والخطباء أن لطخة العار غسلت عن جبهة الإنسانية بفضل الثورة الفرنساوية وهمة مفكري إنجلترا.
Shafi da ba'a sani ba
يخيل إلينا - نحن أبناء اليوم - أن امتلاك الإنسان للإنسان من خصائص الزمن الخرافي، مع أننا نعلم أن النفوس كانت تحصى في عقود البيع بلبنان مع الغنم والخيل وآلات الفلاحة منذ عهد قريب، وأن دولة المماليك المؤلفة من عبيد الأمس ارتفعت إلى أوج الحكم فكان لها جيش من العبيد الغرباء، ثم جاء نابليون الشرق محمد علي باشا فغلبها على أمرها، ونظم جيشا كبيرا منه فرقة أو فرق بأكملها من السود النوبيين، وكادت المتاجرة بزنوج أفريقيا تشوه جيلنا، وهي من أفظع أنواع الاستعباد؛ إذ لا أسر، ولا دين، ولا جريمة تبررها، وما هي غير اقتناص البشر للبشر طمعا بالمال، لولا أن مطاردتها واكتساحها من أشرف ما تفاخر به بريطانيا العظمى.
ترى، ألم يكن للنصرانية والإسلام من أثر في القلوب لتحملها على الرحمة والعطف؟ لا شك في تأثير الدين أيا كان، وإذا أحصيت العوامل الكبرى كان الدين في مقدمتها لتكييف النفوس. وقد انتقى السيد المسيح تلاميذه من الخاملين ومضى ينادي بالمساواة والغفران وحب الأعداء؛ لأن الجميع أبناء الله يدعون. وعزز مذهبه العظيم بمثله في حياته الطاهرة، وصار النصارى يرددون هذا النداء الجميل في الصلوات والاحتفالات؛ ففعل فعله وملأ القلوب أملا وتعزية. على أن الدين المسيحي أقرب إلى النظريات، وعلى نقيضه الإسلام؛ فإنه نظري وعملي معا؛ وجد العبودية عند شعوب سبقته فاقتبلها ولكنه لطفها أيما تلطيف، وعلى مقربة من تعاليمه العالية ونصائحه الحكيمة أوصى باليتيم والضعيف والرقيق، وكان الطائع الأول النبي العربي ذاته الذي بكى عبده الميت كما يبكي الكريم صديقا عزيزا؛ فكانت حالة العبد في دين محمد من أحسن حالات أمثاله. أما الإعتاق والدعوة إليه فمن أمجد صفحات تاريخ الإسلام .
يرمز المصورون إلى العبودية برسم رجل بائس رسف في قيوده، ولو أنصفوا ما كان غير المرأة رمزا. الرجل عبد مرة وهي عبدة مرات. قيمة الرجل في استقلاله النفسي وطموحه إلى بعيد الغايات. والمرأة إن هي أبدت ميلا إلى الانعتاق من الأوهام القديمة والتحرير من العادات المتحجرة نظر إليها كفرد شاذ أو كخيال في دوائر الرؤيا؛ ذلك لأنهم اعتادوا استبعادها ليس بالجور والضغط والتعذيب فقط، بل باللطف والتدليل والتحبب. وإلا فماذا تعني هذه الحلي وهذه الجواهر؟ بل ماذا يعني تغني الشعراء بجمال الوجه وملاحة القوام؟ النساء المسكينات يتهن دلالا أن يكن محبوبات لجمالهن، ولو تفكرن قليلا لأدركن ما في ذلك من معنى التحقير لجميع قواهن، حتى الأنثوية نفسها، ولكفى أن يتقدم إليهن رجل بامتداح حسنهن وحده ليرفضنه زوجا. وهؤلاء هن اللائي بعد أن يشترين بالمال والحلي والتملق - وقد عنى سكوتهن قبول نير العبودية والرضى عنه - ينبرين فجأة مطالبات بحقوقهن مناديات بالاستقلال والتحرير. وأنا التي أكتب هذا يشوك الآن ساعدي سوار دار حوله، فأنظر إليه وأضحك ولا أزيحه عني. لقد توارثت النساء حمل القيود في صورة الحلي حتى عشقتها، إن هي لم تثقل حركتهن لغرض ما وضعن مكانها ما يشير إليها لغير سبب.
تشكون من زواج هذا العصر وتستصغرون الذي يتزوج البائنة ويقبل صاحبتها معها، بدلا من أن يتزوج المرأة ويقبل معها بائنتها. ولكن أتظنونه أفظع من زواج يؤدي فيه الرجل مهرا؟ إذا شاء شراء المرأة زوجها فكيف يحسن ابتياع الرجل زوجته؟ الزواج عقد اجتماعي يأتي فيه الشريكان برأس مال حسي ومعنوي: المال والكفاءة الشخصية؛ فالمال يجعل المرأة مثيلة الرجل، والكفاءة الشخصية تؤهلها لأن تكون زوجة معتبرة وإما محبوبة. تزعمون - أنتم النظريين المتطرفين - أن صفاتها تكفي لإسعاد رجل نشيط يتكل على جده واجتهاده! ألا فادخلوا هيكل أسرار العائلة وقفوا على ما هناك من نكد وويلات أصلها فقر عائلة المرأة! لا أنكر أن الكفاءة الشخصية تفوق المال أهمية، وأن المال لا يدوم إلا حيث تكون الكفاءة، ولكن أواثقون أنتم من أن كل امرأة تنصف زوجها ولا تختلس نتاج جهوده أو بعضه؟ أبي النفس يخاف أن تستعبده المرأة الغنية، فهل هو للفقيرة أقل استعبادا؟ وعلى كل، فعبيد اليوم كعبيد الأمس ليس أمامهم للتحرير من سبيل غير ذينك السبيلين القديمين: المال والكفاءة الشخصية. •••
هذه هي الخطوط الكبرى في خريطة العبودية التاريخية، فرغت من تعدادها بانشراح من نفذ من تحت جبل ووقف يتمتع بمحاسن الرياض.
لقد اتفقوا على أن العبودية كانت وانقضت، وأظنني كتبت منذ هنيهة أن عصرنا يفخر بإلغاء متاجرة الإنسان بالإنسان، وقد استجمعت فكري للمرة الأخيرة قبل أن ألقي بالقلم جانبا فتململت في حافظتي جميع معاني الأسى، ورأيت أشباح الذل متجمهرة في رحاب خيالي، كشرت عن أنيابها تهددني، ومدت بمخالبها نحوي لتفترسني، جيش عرمرم من أرواح العبودية والرق أخذ يصفق بأجنحته السوداء صارخا: «نحن أحياء نتألم فكيف تذكرين الموتى وتنسيننا؟» فدنوت من جماعة وقلت: «من أنتم؟» فصاحوا: «نحن نزلاء الليمانات وضحايا الأشغال الشاقة، أحجار الصوان تحني ظهورنا، وأزيز السياط يمزق أجسامنا، ما نحن إلا عبيد إسبارطة.» قلت: «وكيف يكفي الاجتماع أبناءه شركم؟ لقد سرتم في وسطه فكانت الجرائم منكم بعداد الخطوات.» فتنهدوا وقالوا - وتنهدهم وكلامهم مقذوفات براكين: «ما نحن إلا عبيد إسبارطة.»
وسرت نحو جمع آخر انحنى يشتغل والعرق يقطر من ذرات وجهه فصرخ: «نحن الشعوب المغلوبة، وما غرامة الحرب إلا رق القرون الوسطى.» فقلت: «وهل من وسيلة أخرى ليستعيض الظافرون عما خسروه من مال ورجال؟» فهزوا أكتافهم وانحنوا على الأرض متظلمين: «ما هذا إلا رق القرون الوسطى.»
وتحولت إلى جهة أخرى، وإلى أخرى وإلى أخرى، وأنى توجهت لاقيت أقواما ينبعث من صدورها التظلم والعويل، وتخيم فوقها الأجنحة السوداء. رجال ونساء، شيوخ وأطفال، مثرون ومعدومون، عبيد الوراثة، وعبيد العاهات، وعبيد الأمراض، وعبيد الجهل، وعبيد الأوهام، وعبيد الطمع، وعبيد الحاجة، وعبيد الحياء الإنساني، وعبيد الغرور، وعبيد الكذب، وعبيد الحسد، وعبيد الأهل، وعبيد الأبناء، وعبيد الغرباء؛ يزحفون جميعا من كل ناحية كالجحافل الجرارة، وهدير شكواهم كهدير العباب المتلاطم؛ فصرخت جزعا: «من أنتم، من أنتم؟» والعبيد - جميع العبيد، عبيد الماضي والحاضر والمستقبل - أجابوا كجوق رهيب: «نحن العبودية الدائمة!» قلت: «كلا، كلا! لقد ألغيت العبودية وأنتم أحرار، ارفعوا أيديكم لا سلاسل فيها! حركوا أقدامكم لا قيود تثقلها!» فقالوا: «السلاسل والقيود أقل رموز العبودية هولا، القيود في دمائنا وأهلنا وأوطاننا، القيود في رغباتنا وحاجاتنا، القيود في بشريتنا.» فصرخت بملء صوتي: «أقول لكم أنتم أحرار ولا عبودية في القرن العشرين!» فقالوا: «إذا محيت من العبودية صورة رسمت أخرى؛ لأن أصل العبودية باق على كر الدهور، نحن العبودية الدائمة، نحن أودية الحياة المجوفة عند أقدام الرواسي.»
واختفت الجماهير في لحظة فوجدتني مقلبة صحائف هذا الفصل، وقد وقفت أقرأ كلمات الاستهلال «من عجائب الطبيعة وضعها النقيض بجوار النقيض ... ما أقامت ارتفاعا إلا أوسعت تخومه تجويفا ...»
الفصل الرابع
Shafi da ba'a sani ba
الديمقراطية
استعرض ما شئت من فصول التاريخ الطبيعي تجد بين الحيوان والحيوان مصارعة مطردة، وبين النبات والنبات مقاتلة سرية أو علنية بلا تباطؤ ولا مهادنة. ومثلها في تاريخ علم طبقات الأرض؛ فهنا الصخور والمعادن تتزايد وتتناقص، وهناك تراجعت الأمواج في محيطها فاستحالت أرض غارت تحت تقلب الأواذي مدينة آهلة. ومثلها في تاريخ الفلك حيث تتكون عوالم وتزول عوالم. وليس التاريخ البشري ليختلف عن تلك التواريخ. غير أن الإنسان يمتاز على سائر الكائنات بالعقل والغريزة الاجتماعية؛ فهو يطبع كل ما يقتحم من خطر، ويشهر من حرب، ويركب من هول بطابع هاتين الميزتين. ولما كان تنازع القوى الطبيعية ينتهي دواما بصعود الغالب وهبوط المغلوب كانت نظم الإنسان ومبادئه وأحزابه أبدا في ارتفاع وانخفاض.
لم يهتد زعماء الإصلاح إلى أنظمة سياسية غير الثلاثة التي ذكرها أرسطو، وهي: الملكية أو حكومة الفرد، والأرستقراطية أو حكومة الأماثل، والديمقراطية أو حكومة الشعب. ولئن دانت المدنية المتأخرة بالديمقراطية فإن جل المدنيات المتقدمة - إن لم يكن كلها - نما وترعرع ثم توارى في حضن الملكية. ألأن الشعب الرازح تحت أثقال العبودية كان في غيابات جهله مدفونا؟ ألأن تلك المدنيات شرقية، وشعوب المنطقة الحارة أقرب إلى الملكية لميلهم إلى عدم التفكر وتثاقلهم عن حمل المسئولية - كما يزعم المؤرخون؟ ألأن الأمة في دورها الابتدائي تحتاج إلى سيد احتياج الطفل والقاصر إلى معلم ومرشد؟ ليس البت بالأمر الميسور، وإنما ما يتحتم البت فيه - بعد نظرة سريعة في المدنيات البعيدة - هو أن الشعوب لم تكن عقيمة في ظل الملكية بل أنتجت ما لا نزال نستفيد منه حتى في هذه العصور - عصور الإبداع المتواصل.
فمدنية مصر العظيمة تكونت في عهد ست وعشرين أسرة مالكة يوم كان فرعون سيدا مطلقا يسن القوانين وينفذها، ويسهر على الراحة والأمن، ويسعى في تنظيم البلاد وتجميلها، وإليه مرجع الأمور الدينية والمدنية جميعا؛ فأسفرت تلك الحضارة السحيقة عما ما زلنا نعجب به ونستوحيه من بدائع هندسية، وفنون إدارية، وفلسفة روحانية.
أما الحضارة الكلدانية الآشورية، فكانت عظيمة في هندستها عظمتها في علمها؛ لأنها - مع تلك الأسوار الضخمة، والأبنية الفخمة، والحدائق المعلقة المحسوبة من العجائب السبع في القدم - جاءت بفنون الحرب وما يتبعها من تدريب الجيوش، وحفر الخنادق، وخد الأراضي، واختراع مركبات الهجوم والدفاع، وأساليب التدمير النظامي، وإعدام الأسرى، ونقل المعدات والأسلحة؛ هذا من جهة، وكانت عاكفة من جهة أخرى على التمرين العقلي، والبحث الفكري، فوضعت القواعد لعلوم الحساب والفلك، وأوجدت المكاييل والمقاييس والموازين الأولى، وميزت بين السيارات والثوابت، وأحصت كسوفات الشمس وخسوفات القمر، وعينت دائرة البروج مسمية كلا من علاماتها باسمها، ووقتت أجزاء السنة، واخترعت الساعة الشمسية، وهي التي وضعت أصول التنجيم، وكشف طوالع السعد والنحس، وتركيب التعازيم والتعاويذ والطلاسم والتمائم والحمائل وعقاقير الغرام.
أما اليهود فمعروف مجدهم الحربي في عهد داود ومجدهم التجاري في عهد سليمان، فضلا عن أنهم حبوا العالم بكتاب التوراة الجليل.
وأحدث الفينيقيون فن سلك الأبحر وما يجر إليه من استعمار، وتجارة دولية، وصناعة تمد تلك التجارة؛ فأنشئوا المصارف في الأنحاء المختلفة، وأذاعوا مع مدنيتهم مدنية كل بلاد يرودونها، ونشروا مع مصنوعاتهم الأبجدية التي اختزلوها من الهيروغليفية، وأساليب المعاملة المالية والاقتصادية، وعلم مسك الدفاتر.
ولما قام الفرس يبسطون شوكتهم على العالم الشرقي ويخضعون الشعوب المغلوبة لصولجان ملكهم، اقتبسوا عن الأقوام زبدة حضاراتهم فجمعوا بين الإدارة المصرية، والهندسية الآشورية، والعلوم الكلدانية، والبحرية الفينيقية متوسعين في التصرف والتكييف ليطبعوا تلك المدنية المختلطة بطابع فارسي. وقد بدأ بهم تأثير الآريين - وهم من أصل آري - في التاريخ المعروف، وأخص ما جاءوا به حكمة زرادشت القائلة بحرب بين عنصر الخير أرمزد، وعنصر الشر أريهمان؛ حرب تبقى إلى منتهى الزمن حيث يتغلب عنصر الخير فيعم النور والحقيقة.
كذلك في الشرق الأقصى كالصين مثلا حيث شيد السور الأكبر قبل المسيح بأربعة قرون، وحفرت الترعة الكبرى في القرن التالي مما يدل على تقدم الهندسة. وقد عرف أبناء مملكة «ابن السماء» علوما وفنونا جمة كالكتابة ومبادئ علم الهيئة، واخترعوا الحك (البوصلة) والمطبعة والبارود، وتعالت جدران معابدهم في الفضاء، وكست الحرائر النفيسة الرجال منهم والنساء، وشربوا الشاي في فناجين الصيني الثمين أيام كان الغرب في همجية قصوى. وإذا أخذنا ببعض ما وصل إلينا من كتاب كنفوشيوس المدعو «تشو-كنج» علمنا أن مبادئهم الأخلاقية من عبادة الآلهة وحب العائلة واحترام الموتى ... إلخ، لا تقل جمالا عن أسمى المبادئ المعروفة لدينا.
وقد تأثرت اليابان في القرن الرابع ق.م بمدنيتي الصين والهند، كما تأثرت أوروبا فيما بعد بمدنية اليونان واللاتين. وبعد كفاح عنيف بين المولى والأشراف، يشبه كفاح الأرستقراطية والملكية في القرون الوسطى، اعتنق ذلك الشعب الشرقي المتوقد مدنية الغرب الحديثة بأكملها، وصار - وهو القزم في عالم القياس - يخطو خطوات جبار في عالم التقدم والرقي.
Shafi da ba'a sani ba
كذلك كانت الملكية حسنة العائدة في القرون الوسطى مع شارلمان. وإذا ماشيناها إلى أيامنا مع بسمارك - وهو أكثر ملكية من الملك، كما يقولون - ومع الإمبراطور غليوم الثاني، وجدنا أن ألمانيا في عهد هذه القيصرية الحربية المطلقة جرت خلال نصف قرن شوطا أجفلت له الدول قاطبة.
على أن بقع الظلام الواسعة تحاذي خيوط النور في تاريخ هاتيك المدنيات التي لم تكن تحسب لحياة الفرد حسابا، وإنما خلدت بعدها أسماء أشخاص اشتروا عظمتهم بدماء الجماعات وجثث العبيد. •••
ثم حصحص بصيص الكرامة الإنسانية في بلاد اليونان التي تناولت قبس الحضارة من يد الفرس بعد أن تغلب ملتيادس على داريوس في مرج ماراثون، وأغرق ثمستوكليس أسطول العجم في خليج سلامين؛ فأنشأ اليونان يكررون أصول تلك الحضارة وينقونها ويرتبونها ليجعلوها ترضي الذوق منهم والعقل، وهم الفنانون والفلاسفة قبل كل شيء؛ فحبوا وطنهم في قرنين اثنين بصيغ جديدة في القانون والعلم والفن والفلسفة. وهناك أخذ الفرد يعرف حقوقه وواجباته، هناك أشرق فجر الديمقراطية ولم تكن الحروب المتتابعة لتظلمه، ولا زحف الرومان وظفرهم ليلاشيه، بل ظلت أثينا المغلوبة مهذبة العالم.
لم تقم في روما حكومة ديمقراطية محضة، ويرى بوليبيس المؤرخ اليوناني أن النظام الروماني كان مزيجا بديعا من الملكية والأرستقراطية والديمقراطية. غير أن العنصر الديمقراطي كان كبير النفوذ راجح الشوكة بعد أن صارع الطبقات العليا فتساوت جميع المراتب في الخضوع لسيد واحد هو قيصر. وكما كان العالم القديم شديد الإعجاب ببسالة الجيوش الرومانية، كذلك كان الإعجاب بالوحدة الإمبراطورية من الشدة بحيث بقيت تلك الوحدة مثلا أعلى تنشده الملوك في العصور التالية؛ فأقام شارلمان دولته على منوالها، وطمع نابليون في إعادتها إلى الوجود بعد كر العصور.
شطرت دولة الرومان في آخر القرن الرابع للمسيح شطرين: إمبراطورية الغرب وعاصمتها روما، وإمبراطورية الشرق وعاصمتها بيزنطة (الآستانة اليوم). ولم يطل حتى تدفقت الشعوب الآسيوية واشتركت مع شعوب زحفت من أوروبا الشرقية والمتوسطة، فتبارى المغول والسلاف والجرمان في الإغارة على روما واكتساحها وإيساعها تخريبا وتدميرا زمنا يناهز قرنا، وطفقوا بعدئذ يقتبسون عادات الأمم المغلوبة وقوانينها، فألفوا منها نظاما قام عليه فيما بعد التشريع الإقطاعي.
وتجاذبت السياسة في القرون الوسطى نزعتان: الوحدة الدولية أو المركزية، والتخصيص القومي أو اللامركزية. فمن قائل بإخضاع الشعوب وتوحيد قيادتها كالإمبراطورية الرومانية، ومن قائل بتوزيع القيادة وإطلاق كل أمة تنظر في أمورها وتنمي مدنيتها وفقا لمطالبها القومية وممكناتها الطبعية. فتغلبت النزعة الأولى بصيرورة شارلمان إمبراطورا على الغرب، وهو الذي عهد إلى الأشراف بإدارة المقاطعات تحت مراقبة مفتشين اختصاصيين، على أن يكون إليه مرجع الأحكام جميعا حتى في الأمور الدينية. وسادت بعد ذاك النزعة الأخرى يوم تقاسم الدولة أحفاده الثلاثة في معاهدة فردون (في منتصف القرن التاسع)، التي أوجدت كلا من ممالك فرنسا وألمانيا وإيطاليا ذات كيان سياسي مستقل. ثم تناولها النظام الإقطاعي في القرن العاشر فظلت إلى القرن الثاني عشر عجاجة دويلات وإمارات ودوقيات وكونتيات لا عداد لها، وبين صاحب الأرض والرقيق تبادل حقوق وواجبات تتنوع بتنوع الأمزجة الشخصية والعادات المحلية. والمرجع النهائي إلى الملك الذي لم تقم فوق إرادته غير إرادة الله.
وكان حجر الزاوية في صرح تحرير الأمم الحديثة تلك البراءة الملكية التي نالها الإنجليز من ملكهم في مطلع القرن الثالث عشر، وقد منحتهم مبادئ الحرية الدستورية التي ستتكيف الأحوال منذ الآن فصاعدا لتنشرها في جميع أقطار الغرب. من تلك الأحوال أن البرابرة عادوا إلى التفجر من مجاهلهم كما فعلوا منذ عشرة قرون فتدفقت سيولهم على الشرق والغرب، واكتسح التتر فيما اكتسحوه الدولة البيزنطية - تلك الدولة التي كان لجأ إليها أسمى عناصر الدولة الرومانية المقهورة وأجملها. ومن هذه الكارثة العالمية الكبرى، ومن اختلاط الشعوب وامتزاج المدنيات تكونت حضارة جديدة ازدهرت على الأطلال والأنقاض كما تنبت الأزهار في ميادين القتال وعند زوايا القبور؛ ذاك أن البيزنطيين عادوا بكنوزهم الفكرية والفنية إلى إيطاليا فألقوا فيها شرارة ما لبثت أن شبت نارا امتد منها اللهب في أنحاء الغرب؛ فخلقت فيه حياة جديدة وروحا جديدا - وذلك هو عهد الانبعاث أو النهضة.
انتعشت الفنون والآداب، واستنارت الأفكار، وتقدمت العلوم، واكتشف كولمبس القارة الأمريكية؛ فأدركت العقول من العالم صورة غير التي رسخت فيها، والتفت الناس إلى كرامة الفرد وأهليته وأخذ الاجتماع الحديث يتمخض بمبادئ تنافي مبادئ الاجتماع القديم. وشفعت هذه وغيرها من عناصر «النهضة» بثورة دينية بدأت في ألمانيا بزعامة لوثر. وكانت تلك الثورة ابنة النهضة الفكرية وحليفتها إلا أنهما افترقا بعد حين، وتسرب الإصلاح الديني إلى حيث لم تصل النهضة الفكرية؛ فكثر أتباعه في ألمانيا وسويسرا وفرنسا واسكتلندا وإنجلترا. ولئن أنتج معارك دموية فظيعة، فقد ساعد في تحرير الفكر لأنه أطلقه من القيود الدهرية، وأظهر إمكان النقد للفلسفة الدينية؛ فسمت بذلك قيمة الإيمان نفسه؛ لأن إيمانا يمتن ويرسخ بعد الامتحان بمحك النقد العلمي خير من إيمان يقوم على الجهل والوهم والتسليم. واختراع المطبعة وسهولة الطباعة يسرا إذاعة الآراء بين أهل البلد الواحد وشعوب البلاد الأخرى.
وبينا نظام الإقطاع يسود في ألمانيا وغيرها من بلاد الغرب، وبطرس الأكبر وخليفته كاترينا العظيمة يحولان الروسيا من مملكة شرقية إلى إمبراطورية ذات صبغة غربية؛ إذا بسويسرا عاكفة على تحسين نظامها الجمهوري الذي ساعدها بعدئذ نابليون على التمتع به في أكمل حالاته. وإذا بإنجلترا تعدل دستورها وتخطو به خطوة جديدة في ربوع الحرية فلم تنجح في ثورة 1648، ولكنها نجحت سنة 1688 دون هدر قطرة دم واحدة. وانتهت المناقشات السياسية مع زعم الملكية بتناول حقوقها من الألوهية، وتفرغت الحكومة للشئون الخارجية فأقامت هذه الإمبراطورية التي لا مثيل لها في التاريخ المثبوت. وسارت في طليعة دول تنيرها بقبس دستورها، ومضى الفلاسفة والمصلحون يستقون من منهل حريتها. وإذا بفرنسا تفوز بالوحدة الوطنية في عهد لويس الرابع عشر، إلا أن الأهالي كانوا في استياء من انقسام الأمة إلى ثلاثة أقسام: قسم الإكليروس، وقسم الأشراف، وقسم غير الأشراف. في استياء لأن هناك جماعة تتمتع بجميع الامتيازات ولا تحمل مسئولية، بينما جماعة أخرى ترهقها المسئولية، ويضعفها الكدح المتتابع، وتثقل كاهلها الضرائب. وليس يتساوى الجماعتان في غير الرضوخ لإرادة الملك.
لم تطل الحال، بل انبثق فجر آراء جديدة في التساهل والمساواة بفضل الفلاسفة والاقتصاديين والإنسكلوبيذيين، وظلت هذه الآراء كالشرارة تدنو من بارود السخط العام الذي دوى قاصفا في الثورة الفرنسية فأعلنت «حقوق الإنسان» لإزالة ما بين البشر من حدود وفروق. أو تقررت سراية القانون عليهم جميعا من غير ما جور أو تحيز، ولهم أن يقلدوا وظائف الحكم والتشريع والقضاء وفقا للكفاءة منهم والمقدرة. فإذا صح أن فرنسا درست الحرية على إنجلترا، فإنها مع أمريكا أشبعت العالم بفكرة الحرية فتبعت الدول آثارها تدريجا؛ لأن الديمقراطية، وكل نظام آخر يتغير بتغير طبيعة بلاد ينفذ فيها. ولقد جاهد الغرب حتى إنه بعد إعدام قيصر روسيا وانهيار عرش ألمانيا والنمسا، لم يبق في أنحائه ملكية مطلقة واحدة، وأن الديمقراطية عمت العالم المتمدن. وإن لم تكن البلاد جمهورية كأمريكا، فهي ممالك دستورية كإيطاليا وإسبانيا ... إلخ. ولا يعلم إلا الله ما يختفي وراء تلك العروش المترنحة من دسائس البلشفية، وقنابل الفوضوية، ومدمرات الشيوعية. •••
Shafi da ba'a sani ba
فإذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب، وتسوية الحقوق والواجبات بين أفراده، فلا مناص مما يحمل الجماعة على المطالبة بهذه التسوية وذاك الحكم. فأي محرك يا ترى بعث على إلغاء الملكية والأرستقراطية وإحلال الدساتير الديمقراطية محلها؟ نعم، إن بين القوى الإنسانية ترابطا متينا، وائتلافا تاما؛ بحيث إن التيقظ إذا بدا في قوة لا يلبث أن يمتد فيتناول القوى جميعا. على أن هذا لا ينفي أن لكل حركة باعثا رئيسيا تتفرع منه بواعث جمة؛ ففي الماضي كان الجيش اليوناني يتألف من الأشراف الذين لم يكونوا ينازلون العدو إلا على الخيل أو في المركبات، وقد لاحظ أرسطو أن جيشا يرجح فيه الفرسان لجيش حكومة أرستقراطية. ولكن الحروب المتزايدة في الداخل والخارج ثلمت صفوف الفرسان إزاء مهاجم عتي؛ فأرغم الأشراف على تعزيز الجيش بفيالق المشاة من الشعب، وإمدادها بالسلاح والمعدات، وتدريبها على القتال والدفاع؛ فشعر هؤلاء بضرورتهم لحفظ كيان الوطن، وانبروا يبثون في البلاد الثورة والشقاق حتى ظفروا بالمساواة المدنية والسياسية. كذلك في روما التي لم يكن لها من شاغل سوى الفتح والاستعمار، وأشرافها يربئون بأنفسهم عن التجارة والصناعة والفلاحة وغيرها مما أقبل عليه الشعب فأصبح صاحب الثروة. وترامي أطراف الإمبراطورية، واحتياجها الشديد إلى زيادة جيوشها البرية والبحرية أوجب ضم الشعب إلى صفوف الفاتحين والمحاربين، ومنحه من الامتيازات ما لم يطل أن تمتعت به الأمة جميعا؛ فصار لها مجلس نيابي يتكلم بصوتها، وانقسمت الإمبراطورية إلى حزبين: حزب الأشراف وحزب الشعب كما يوجد في عصرنا الرأسماليون والعمال. فكان إن استأثر مجلس الأشراف برأي امتنع مجلس الشعب عن التصويت ورفض مساعدته لتتميم الأعمال - وفي ذلك صورة للإضراب في هذا العصر. ولم يوفق بين الحزبين إلا بعد قرن ونصف قرن ؛ إذ تنازل الأشراف عن الامتيازات السياسية أولا والدينية بالتالي؛ لأن الوظائف الدينية كانت سياسية أيضا.
اشتراك الشعب في الحرب هو إذن مصدر الديمقراطية القديمة. وأما الحديثة فمصدرها اثنان متلازمان هما؛ أولا: الاختراعات الآلية والاكتشافات العلمية، وثانيا: تعميم المعرفة وسهولة التعليم. ففطن الذين كانوا بالأمس يذعنون غير متذمرين - وربما مسرورين شاكرين - فطنوا إلى أهمية عملهم في هذه الأساطيل التي تمخر البحار وتدني ما شسع من الأمصار، وتلك السكك الحديدية التي تشق الأطواد وتطوي القفار وتطوق الكرة بنطاق مكين، وهاتيك الآلات البخارية والكهربائية والهوائية التي تفيض على العالم النضار وما يمثله من ثروة، وتحبو الناس بأسباب الرغد والهناء. وبينا الثروات الباهضة تقيم السدود بينها وبين الفقر المدقع إذا بالمعرفة تزيل الفروق وتقرب بين الطبقات؛ فتنبهت الأطماع العامة وأحدثت في النفوس غليانا أثارها على التقاليد الموروثة، فنادى الجمهور بالديمقراطية ملخصا مطالبه في بندين جوهريين، أحدهما سياسي والآخر اجتماعي، وهما: أن الديمقراطية قائمة على أكثرية العدد التي يستمد منها القانون قوته، وأنها تقضي بحذف الفروق الاجتماعية، أو على الأقل بتحويلها إلى أقلها ليتمكن جميع الأفراد من إنماء مواهبهم وإظهارها بلا ضغط أو مقاومة.
ولقد لمست موجة الديمقراطية شواطئ الشرق الأدنى، وأول من هتف بها في مصر لطفي بك السيد، يوم كان بعضهم يطلقون عليه مزاحا لقب «الفيلسوف الديمقراطي». ولم تقف المسألة عند حد المزاح، بل هو لاقى من اعتناق الأفكار الحديثة مصائب واحتمل سخافات؛ منها أنه يوم كان مرشحا لعضوية الجمعية التشريعية سنة 1914 حاربه أحد مزاحميه بما لو فهمه القوم لكان للطفي بك لا لخصمه حجة. قال الخصم: «يبقى نائب عنا ازاي؟ دا راجل ديمقراطي!» فأرعبت الناخبين هذه الكلمة الأعجمية وأولوا معناها بأسوأ ما يتموهمون. بيد أن التغير ناموس الكون، ولم تمض خمسة أعوام حتى صار لمصر الفتاة حزب يدعى «الحزب الديمقراطي المصري» تنتسب إليه فئة من أرقى الشبان المتعلمين في أوروبا، العائدين من مدارسها العالية بمعتبر الشهادات ومحترم الألقاب. وهنا الوقائع التاريخية تقضي بالاعتراف أن اسم الديمقراطية جديد في هذه البلاد ولكن معناها غير جديد؛ لأن الإسلام كان أبدا ديمقراطي المبادئ ديمقراطي الأساليب. وهل من ديمقراطية أتم من أن نرى الملوك يتخذون لهم من الجواري زوجات شرعيات ويرفعونهن إلى مراتب الملكات؟ أوهل من ديمقراطية أوفى من أن يخرج من الطبقة الدنيا قوم يرتفعون بكفاءتهم الشخصية ورجاحة عقولهم فيحملون أعظم الألقاب ويقلدون أجل المناصب؟ ولكن على مقربة من هذا التساهل والإنصاف تقوم أرستقراطية مزدوجة؛ لأن موقف الأجير المصري إزاء صاحب الأرض يكاد يكون - فضلا عن موقف العامل المصري إزاء الممول - موقف الرقيق إزاء الشريف في نظام الإقطاع. وكانت الحال على ذلك في سوريا وفلسطين حتى الحرب العظمى. أما في لبنان فالديمقراطية نافذة منذ أن حور النظام الأساسي في سنة الستين.
وليس هو الإسلام وحده، وإنما قالت بالمساواة قبله البوذية والنصرانية. على أن مؤسسي هذه الأديان جاءوا باستثناء واستدراك؛ إذ ذكر بوذا التناسخ، وأن من البشر من هم (بذلك التناسخ) أكبر سنا، وأعظم فضلا، وأوفر طهرا. وقال السيد المسيح: «المدعوون كثيرون والمختارون قليلون.» وجاهر النبي العربي بأن الله يهدي من يشاء. وكيف لا يرى هؤلاء المشرفون على أسرار النفوس فروق البشرية تفصل بين هؤلاء الذين تجمعهم جامعة الروح العليا؟! فجاءت السياسة تؤيد ما لم تفلح في توطيده الأديان ولا فازت بتثبيته حضارة اليونان والرومان.
وأما الفرق بين الماضي والحاضر فهو أن الديمقراطية القديمة قامت على العبودية فظلت الطبقة السفلى مسخرة للأعمال الدنيا والخدمة، لتتفرغ الطبقات العليا للحكم والقضاء. كان الفرد ينتمي أبدا إلى سيد أو قبيلة أو عشيرة (على ما نرى اليوم بين الأعراب أهل البادية وسكان الريف)، فيفاخر بقوله «نحن» كأن لا رأي له ولا قيمة في ذاته منفصلا عن جماعته. على نقيض هذا العصر وفخر الفرد فيه أن يقول «أنا» وأن يكون قيما في نفسه، مجردا عن أي أحد، وأيا كان حسبه ونسبه. الفرد اليوم يقوم مقام المجموع، وليست نقابات العمال وشركات التعاون لتثبت غير ذلك. الواحد للكل، نعم، ولكن على شريطة أن يكون الكل للواحد. وهي ميزة تفرد بها هذا العصر ولم تعهد من قبل ، ولئن قبلناها من غير دهشة فلأننا نحياها. أما مؤرخو المستقبل فسيتخذونها محور أبحاثهم، ويرون فيها ما لا بد أن تكونه: فاتحة عهد جديد. •••
وبعد كل هذه الحرية وكل هذا التقدم، ترى هل حصل الفرد على السعادة المنشودة؟ وهل تم للمجموع السلام والهناء؟ هل جاءت الديمقراطية بكل ما ينتظر منها؟
هناك ميزة تلازم ميزة «الفردية» العصرية، وهي طلب التوسع والاستعباد على الطرز الحديث. مفهوم أن الأمم الكبيرة تقول برغبتها في إنهاض الأمم الصغيرة من جهلها وخمولها، وتسييرها وإياها جنبا إلى جنب في موكب الحضارة العظيم. ولكنه مفهوم أيضا أن هذا القول أسلوب من أساليب البيان السياسي، وأن تلك الأمم لا خلاص لها مع هذا التزاحم الدولي والأزمات الاقتصادية في غير استغلال المستعمرات وتصريف تجارتها فيها. وما استعدت ألمانيا نصف قرن وفاجأت - أو زعموا أنها فاجأت - أوروبا بالحرب الضروس إلا توصلا إلى انتزاع ما يمكن انتزاعه من عدو حسبت اندحاره أمرا واقعا. ولكن ألمانيا هي التي اندحرت ولو إلى حين، والشعوب المرجو استغلالها واستنتاج أراضيها بدأت تتحرك وتأبى أن تستعمر وتستغل. دع عنك الخطر الأصفر الذي اكتسح الغرب مرتين في مطلع القرون الوسطى وفي آخرها، وطالما تخوفته أوروبا قبل الحرب الكبرى، وما زالت تخشى منه إغارة جديدة تجيء أشد هولا وأفتك بطشا.
هذه مظاهر الديمقراطية في الخارج، وما حال تلك الحكومات في داخلها؟ أي صنوف المساواة يسري بين مراتبها الاجتماعية وبين أفرادها؟ أزالت الفروق من بينها ولم يعد فيها صغير أو حقير؟ يخيل إلينا أن أقرب الأمم إلى الديمقراطية هي الأمة الأمريكية لقلة ما وراءها من التقاليد؛ فهل حالت المساواة دون ما يقابل به البيض السود من ازورار واحتقار؟ هل حالت الحرية والمساواة دون هدر الدماء والتشنيع والتفاضل؟ إن تلك القدرة الهائلة التي تغلي فيها جميع عناصر الدنيا ما زال يؤبه فيها لفروق الجنسية والثروة والذكاء والعلم والتربية، ما زال يؤبه لتلك الفروق بالفعل وإن نفيت بالقول، بل ما زالت الانتقادات تملأ صحفهم، وتعدد الأحزاب يقسم مجالسهم، وقرب ثروتهم القارونية نرى العوز الأقصى والحرمان الوجيع. فإذا كانت الديمقراطية الدواء الناجع، فما هذا الذي نسمعه من صخب الشكاية والتهديد؟ ما هذه البراكين الفائرة ضمن أنظمة المساواة التي سنت بدماء الأنام؟ وما بال موقف العمال إزاء أصحاب الأموال يشبه موقف الشعب إزاء الأرستقراطية في القرن الماضي؟
سئل صولون الشارع اليوناني يوم وضع أسس الديمقراطية: «أتظن أنك أعطيت أهل أثينا أحسن نظام ممكن؟» فأجاب: «بل أعطيتهم أحسن نظام يوافقهم.» وقيل إنه لم يكن يطمع في نفوذ نظامه أكثر من مائة عام. وقال آخرون بل كان يتوقع تغييره بعد عشرة أعوام. ويحسب صولون من حكماء اليونان السبعة، فلا عجب إذا هو لم يثق من دوام القانون لأنه يعلم - وهو الحكيم - أن طيبة الإنسان فردا كان أو جماعة، متبدلة متحولة متكيفة مع الأحوال، وأن القوانين توضع للأفراد وليس الأفراد بموضوعة للقوانين.
وإزاء حركات الدول في داخلها وفي خارجها، إزاء حرب الأحزاب وسخط المراتب وتربص الطبقات، إزاء حاجة المدنية وإنتاجها وما تفنيه من جديد وتحييه من قديم، إزاء الفروق الجوهرية والكره الطبعي وضرورة الحرب والمناضلة، يقف المفكر متأملا، وإذ تتعالى إليه أصوات الهاتفين وضجيج الغاضبين، ترتسم في الفضاء أمامه صور الشارعين يكتبون الأنظمة، ويسنون القوانين متفائلين مستبشرين. فينظر إليهم صامتا وفي نظره هذا السؤال الذي لا جواب عليه: «أين المساواة التي تدعون؟»
Shafi da ba'a sani ba
الفصل الخامس
الاشتراكية السلمية
طالما كانت النظريات المجردة والمذاهب الفلسفية مستودعا لمختلف الآراء يستخرج منها ما لا يتفق مع مرماها الأساسي أو ما يناقضه. ومن الأدلة على ذلك أن الاشتراكية مقتبسة من مذهب «هجل» الفيلسوف الألماني. وما الفلسفة الاشتراكية أو المادية الماركسية - كما يسمونها أحيانا - إلا تحريف الفلسفة الهجلية تحريفا قد يكون مقصودا ليتلاءم وحجة ماركس الكبرى في ثقته بفوز الاشتراكية التي أقامها على ما دعاه المادية التاريخية أو الأساس المادي التاريخي
matérialisme Historique
وهاك شرح هذه المادية التاريخية التي شاد عليها ماركس عقيدته:
سبقه المصلحون فقالوا بتدرج العالم ورقيه بالعوامل الفكرية والأدبية والأخلاقية، فنفى ماركس ذلك ليثبت أن كل تطور في السياسة والتشريع والأخلاق والفكر ناتج عن التكيف الآلي والتحول الاقتصادي. أي إنهم أرجعوا الرقي المادي إلى أصل معنوي، فقال هو بالعكس وجعل التغير الداخلي وكل تغير سواه آتيا من التطور الآلي والاقتصادي؛ لأن مبدع الأحوال ومحدث الانقلابات هو الاحتياج البشري؛ ذلك الاحتياج الذي يستنبط صنوف التصرف ويستخدم وسائل القوة ليظفر بتنظيم الاجتماع على ما يقضي به الزمان والمكان. فالفن والصناعة على أنواعهما من لوازم الحياة العمرانية وهما يفرضان بتقسيم العمل، فينتج عن هذا تغاير الوظائف الموجد المراتب الاجتماعية. وتتطور النظم في التاريخ على هذا النمط فتسود كل مرتبة - خلقتها الوظيفة طبعا - في أشد أدوار الاحتياج إليها؛ لذلك ساد رجال الدين وذوو الشرف الموروث يوم كان الدين كل شيء، وكان الملك سليل آلهة تخاطب العباد من وراء ستار الهياكل، وتنفذ الأوامر، وتسن الشرائع على لسان الكهنة والعرافين. وتسلط رجال الحرب يوم كانت البلاد في خطر إزاء هجمات الغازي لا يرده غير اليد المسلحة بالقوة والنار. وغلب أهل المال يوم استولوا على موارد الخير ومصادر الثروة. أما سيادة الغد فلليد العاملة التي لولاها لوقف اليوم دولاب الصناعة فشلت حركة العمران.
هذه هي «المادية التاريخية» التي تضمن لماركس وقومه تغلب الاشتراكية في المستقبل على الأنظمة الأخرى. ثم إن حركة المعاش تدور بالإنتاج، وما الإنتاج العالمي الضخم بعمل فرد أو جماعة أو شعب، بل هو عمل جيش العمال المنتشر في جميع أنحاء الكرة الأرضية ينتج الثروة ويمون العالم. وهو أمام هذا الخير الفائض فقير تعس شاظف العيش، ضئيل الممكنات، محروم الوسائل، يعمل ويكد وليس بواثق من قوت غده. فإذا كان الطور جديدا، والإنتاج جديدا، والثروة جديدة، فلماذا تظل شروط العمل قديمة؟ وإذا كان الإنتاج مشتركا، فلماذا تكون الاستفادة منه فردية؟ لماذا تشتغل الألوف والملايين ليتنعم الآحاد والعشرات؟ لماذا تتلامس الثروة والفاقة، والبذخ والعري، والعلم والجهل، والسعادة والشقاء؟ إن في هذا التناقض رأس الأوجاع الحاضرة ومصدر المشاكل الاجتماعية المختلفة. فقام دعاة الاشتراكية يعالجون الأمراض ويحلون المشاكل إنصافا لبني الإنسان وتعزيزا ل «المادية التاريخية». وأنشئوا يكونون شركات التعاون ويؤلفون نقابات التضامن لمحاربة الأثرة الرأسمالية. حتى إذا ما توفرت لديهم القوة الكافية لم تعد الاشتراكية حكومة في الحكومة كما يسمونها الآن، بل أصبحت الحكومة الوحيدة القائمة على أساس المساواة بين الجميع، وحذف فروق الدرجات والمراتب، وتكسير قيود الوطنيات والأديان والثروات والامتيازات. •••
يؤاخذها كثيرون - حتى المعجبون بما فيها من المبادئ السامية - بما يشينها من أوهام ونظريات تحول دون صيرورتها نظاما شاملا نافذا. غير أنها تظل عملية في بعض أغراضها. ولكن دعنا حينا من العمليات والنظريات؛ فالاشتراكية أقدم من ماركس وهجل والقرن الذي تتابعا فيه، إنها موجودة في الطبيعة، هي والفردية والنظم الأخرى جنبا إلى جنب. لقد ابتدأت الوحدات الإثنوغرافية بها حياتها الاجتماعية يوم كان أفرادها في غفلة الفطرة لا يرون ما بينهم من تعاريف الفروق، ثم تطورت إلى الملكية فما عداها. ولكن إن اعترى الاشتراكية الكسوف وراء النظم السائدة على تعاقب الغير فقد ظلت الفكرة منها ترود أدمغة الفلاسفة والكتاب. هي التي أوحت إلى أفلاطون كتاب «الجمهورية» فكانت فيه أرستقراطية يتساوى عندها المحاربون والأماثل والموالي. وأما طائفة العبيد وما حاذاها من الطبقة الدنيا فمنهمكة طبعا في الأعمال الحقيرة، غريبة عن الكمال الأخلاقي الأسمى الذي ينزع إليه أهل «الجمهورية» وقد ترابطوا للوصول إليه بروابط الاشتراكية والمساواة. هم جماعة حكماء لا يقيدهم متاع الدنيا ولا يربطهم نسب أو قربى، تخلصا من تلك الأنانية العائلية التي تخلق الأسرة فالعشيرة فالقبيلة فالأمة فالوطن، وتتسع هنا وهناك حتى يصير الاحتكاك بين مظاهرها منشأ الخلاف والحروب.
ومن تلك الكتب الشهيرة «يوتوبيا» ثومس مورس و«مدينة الشمس» لتوماسو كمبانلا، و«اليوتوبيا الجديدة» لويلز الإنجليزي معاصرنا الذي ما فتئنا نطالع طلي كتاباته الجامعة بين حقائق العلم وبدائع الخيال مما يشوق المفكرين.
ولم تكن الاشتراكية خيالا في الكتب فحسب، بل نفذت قانونا خضعت له جماعات وقفت حياتها للفلسفة أو العلم أو العبادة أو حب الإنسانية. منها المدرسة الفيثاغورية في بلاد اليونان، وجماعة الهشنيين على شطوط البحر الميت، والترييث؛ أي زهاد اليهود في مصر، والغنوستيون، وكثير من الجمعيات الرهبانية وغير الرهبانية ذات الصبغة الدينية أو المختفية وراء المظاهر الدينية. ومنها في الشرق المزادقة والخوارج والإسماعيلية والقرامطة والحشاشون والوهابية ... إلخ. وإن كانت هذه الجمعيات الأخيرة أقرب إلى الفوضوية منها إلى الاشتراكية، أو هي الوسط بينهما. بيد أن الاشتراكية لم تظهر قبل اليوم، كما هي اليوم دستورا منظما تنظيما علميا دقيقا في جميع فروعه، يجاهر بغايته الرهيبة التي هي قلب الحكومة، ونقض النظام، وهدم المجتمع الحالي من أساسه. ليس في بلد أو في شعب أو في جنس أو في قارة، بل في جميع البلاد والشعوب والأجناس والقارات ليقيم على الأخربة نظاما جديدا، ويمد سلطانه إلى جميع أنحاء المعمور فتخضع له الأمم قاطبة مترابطة بالوحدة الاشتراكية الشاملة وأخوة المساواة التامة. إن هذه المضاربة الاجتماعية الكبرى لأول مضاربة من نوعها في التاريخ، ولا يعادل الطمع فيها إلا إقدام أتباعها القائلين بصلاحيتها ومشروعيتها التي يزعمونها المشروعية الطبيعية الوحيدة، وأن ما عداها تعسف وطغيان واستغلال الإنسان للإنسان.
Shafi da ba'a sani ba
أقول الاشتراكية حاصرة في هذه الكلمة جميع المذاهب المدعوة باسم موجديها في الغرب، بل باسم الذين أحدثوا فيها بعض التغيير والتعديل. وسواها من المذاهب ذات الفروق المهمة ومنها ما يرمي إلى اشتراكية الأملاك ورءوس الأموال فقط، ومنها ما يعمل لشيوعية رءوس الأموال وشيوعية استهلاكها جميعا؛ لأن جميع هذه المذاهب تتفق في المسألة الجوهرية، وهي هدم الملكية الفردية وإقامة الملكية الشيوعية؛ فيمسي الفرد غير مالك بصفته فردا مستقلا، وإن أصبح مالكا من حيث هو جزء من مجتمع تتوزع الخيرات بين أفراده على قاعدة التسوية. أما نزعات طالبي تحقيقها فعلى كثرتها تنقسم إلى قسمين رئيسيين، أحدهما أقوى من الآخر كثيرا، غير أن قوته لا تنفي وجود نده، وهما: النزعة الألمانية الثوروية، أو الماركسية التي انقلبت في الروسيا بلشفية، وموجدها ماركس العظيم؛ والنزعة السلمية التي يجوز أن تنعت بالفرنساوية لأن جل أهلها أفرنسيون - وإن وجد بينهم من قرب إلى الماركسية، أو من شغل الوسط بينها وبين دعاة الإصلاح السلمي. •••
الاشتراكية السلمية كالثوروية ترمي إلى تغيير النظام القائم ولكن بوسائل غير حادة، بل بإدخال أعضائها في الهيئات النيابية والإدارية والقضائية يعدلون ما أمكن تعديله، ويكثر عددهم مع الزمن حتى تصبح يوما أعنة الشئون في أيديهم، فيسنون نظامهم وينفذونه دون استباحة أرواح وسفك دماء. ولقد ولدت الروح الاشتراكية الجديدة مع الديمقراطية الجمهورية في الثورة الفرنساوية التي استفزت في آن واحد الحماسة الوطنية وحماسة توحيد جميع الأوطان. وظلت تلك الروح نامية في فرنسا وسويسرا وإنجلترا وألمانيا حتى خطا بها لوي بلان - صديق فكتور هوغو - خطوة واسعة سنة 1839 إذ أعلن أن غايتها هي حماية العامل من جور صاحب العمل، وجعله قادرا على الإنتاج مستقلا فيما سماه «المعمل الاجتماعي». وأنشأ برودون بنك التعاون المدعو «بنك الشعب» سنة 1849 فانضم إليه عشرون ألف مساهم في ستة أسابيع، ولكن لم يطل أن حكم على برودون بالسجن عقابا على بعض كتاباته، فهرب إلى جنيف فهبط بهربه مشروعه؛ ومنذ ذلك الحين وزعماء الاشتراكية الفرنساوية يتعاقبون معدلين من المذهب ما لا يتفق مع أحكامهم دون أن يتحولوا عن الغاية الجوهرية وهي القضاء على رأس المال والتسوية بين جميع أفراد المجتمع.
وتنضم إلى هذا الحزب السلمي الاشتراكية الأمريكية وزعيمها هنري جورج الذي لم يجد لإزالة الاضطراب الاجتماعي من وسيلة أفضل من إثقال كاهل أصحاب الملك بضرائب تعادل إيراداتهم تقريبا، كأنهم «محصلون» لخزينة الحكومة. على أن تجعل هذه الضرائب رأس مال للعمال يستغلونه في معامل اشتراكية فتتعطل الصناعة الفردية شيئا فشيئا لنقص الأيدي العاملة. غير أن هنري جورج لم يقل لنا هل يقبل أصحاب الملك تأدية تلك الضرائب، وهل تقبل الحكومة فرضها على الذين يملئون خزائنها؟ وإذا هي قبلت، فهل تتنازل عن مثل تلك الثروة لترسمل من غير ربى تلك الطبقة التي تحاربها في قوتها العظمى؟ ولو رفضت الحكومة ورفض أصحاب الملك فماذا يكون؟ أليس أنه إذن يدوي صوت ماركس الرهيب وتخفق الألوية الحمراء فوق جماهير الثائرين؟ •••
ويصح أن يذكر في سياق الكلام على الاشتراكية السلمية «الحزب الاشتراكي المصري» الذي أعلن بروغرامه في شهر أغسطس المنصرم، فكان مسالما إلى حد أغاظ الأستاذ عزيز ميرهم - سكرتير الحزب الديمقراطي - من جهة ، وتخوف لتكونه المحافظون وعلى رأسهم فضيلة السيد محمد الغنيمي التفتازاني - شيخ السادة التفتازانية - من جهة أخرى؛ فقامت بين هذه النزعات الثلاث مناقشة أسفرت عن أمر واحد، هو أن جميع المتناقشين محقون فيما يدافعون عنه؛ فالمحافظ محق في محافظته، والمعتدل مصيب في اعتداله دون أن يكون تطرف المتطرف بمستهجن؛ لأن مذاهبهم هذه ومئات المذاهب الأخرى وجوه للفكر الإنساني يختفي وراء كل وجه منها قسط من الحقيقة، وأجزاء من كلية الحياة ذات ألوف الأنحاء والمناهج. فالرأي الواحد يعبر عن احتياج فرد أو جماعة، وما كانت الحقيقة يوما محتكرة لفرد، ولا الإنسانية محصورة في جماعة.
قلت إن الأستاذ عزيز ميرهم قام يؤدب الاشتراكية المصرية ويحثها على «استكمال اشتراكيتها»، ليس بصفته سكرتيرا للحزب الديمقراطي، ولكن بصفته الشخصية المجردة (وقد يكون في هذا ما يخطر الحزب الديمقراطي بانفصال أحد أعضائه عنه عندما تنضج الاشتراكية في هذه البلاد)، ولقد أجاب سلامه أفندي موسى - أحد أعضاء الحزب الاشتراكي - بما يدل على تصميم الاشتراكيين المصريين على المسالمة وعلى أن رائدهم الإصلاح التدريجي:
ومع تمنينا نجاحهم (البولشفيين) في تجربتهم العظيمة فإنا لن ننصح بالطفرة، وسيكون رائدنا التدرج والتطور. ولا شك أن الاشتراكية المصرية ستكتسب لونا خاصا بتأثير الوسط المصري والمزاج المصري لا يمكننا ولا نرغب في تعيينه الآن، وإنما نأمل أنها تسير في خطة تواد الطبقات فيها أكثر من نصيب التباغض؛ فلا ينبغي أن يفهم الغني من حركتنا أنه خصم لنا نسدد إليه سهامنا؛ فإن الغنى والفقر نتيجتان للنظام الحاضر، والاشتراكية بإنقاصها من حقوق الغني من الجهة الواحدة ستزيد في حقوقه من الجهة الأخرى؛ فهي ستضمن له حياة خالية من هموم العيش ولا تكلفه سوى شغل ساعة أو ساعتين في اليوم، وأظن أنه من الممكن أن نقنع طبقة كبيرة (!!!)
1
من الأغنياء الحسني النية بأفضلية الاشتراكية على النظام الرأسمالي الحاضر، فلا يحتاج الاشتراكيون إلى اتخاذ خطة عدائية نحو الأغنياء.
وأما ما سألنا عنه الأستاذ هيكل عن كيفية تطبيق الاشتراكية على الأراضي في مصر، فهذا مما يسهل الجواب عليه: فإن في القطر المصري نحو خمسة ملايين فدان مغل يشتغل فيها نحو عشرة ملايين نفس، فلو فرضنا أن بضعة من أغنياء أمريكا ذوي الملايين ألفوا شركة واشتروا جميع أراضي القطر المصري، أكانوا يرضون بتشغيل عشرة ملايين عامل لاستغلال هذه الأرض، أما كانوا يكتفون بمليون عامل أو أقل من هذا العدد فيستخدمونهم بواسطة آلات بخارية عظيمة للزرع والري والحرث والحصيد؟ فهذه الشركة المفترضة هي الحكومة الاشتراكية، فإن القطر المصري يكفي زراعته نصف مليون عامل تقريبا إذا اعتمدنا في زراعته على الآلات وفرضنا أنه عزبة واحدة يملكها مالك واحد.
ومن البديهي أننا في نظام اشتراكي لا نخصص نصف مليون عامل للزراعة ونترك سائر الأمة في بطالة إجبارية، فإن تعميم التربية سيمنع عددا كبيرا من شباب الأمة وصبيانها عن الشغل، ثم إن زيادة السكان المطردة ستضطرنا إلى الصناعة، وهذه ستتطلب عددا كبيرا من العمال لا يمكن الحصول عليه الآن؛ لأن الزراعة بكيفية ممارستها الحاضرة تحول بينهم وبين مزاولة أي عمل آخر.
Shafi da ba'a sani ba
فالنظام المنشود للاشتراكية الزراعية هو النظام الميكانيكي، وبواسطته يخف عبء العمل الزراعي ويتحرر عدد كبير من العمال يستطيعون بذلك الشغل في المصانع، وطريقة الملك الفردي الحاضرة تحول دون الانتفاع بالآلات الحديثة. والفرق بيننا الآن وبين نظام اشتراكي هو الفرق بين رجل يعتمد في رحلته على ركوب الجمل وآخر على ركوب القطار؛ فزيادة الإنتاج التي تطلبها زيادة السكان لا تكون إلا باستعمال الآلات الكبيرة، وهذه لا يمكن استعمالها إلا في نظام اشتراكي.
2
هذا ما يقوله الاشتراكي المصري الذي حذا حذو هنري جورج وسائر الاشتراكيين المسالمين - ابتداء من سان سيمون إلى أوسيب لوريه - في الاستكانة عند أمله بنجاح مساعيه ولم يزد. ترى لو لم تقنع تلك «الطبقة الكبيرة من الأغنياء» فماذا يحدث؟ أوتراهم لم يزيدوا لأن السكوت أفصح من الكلام في بعض المواقف؟
الفصل السادس
الاشتراكية الثوروية
خرجت الاشتراكية الثوروية من دماغ ماركس كتابا بين سطوره بقع الدماء ولهب الحرائق ونار المقذوفات، كما خرجت بالاس أثينا آلهة الحرب والحكمة غادة مدججة بالسلاح من دماغ أبيها جوبتر إله الآلهة. ذلك الكتاب المدعو «رأس المال»
Das Kapital
هو إنجيل الاشتراكية الحديثة، ولم يبدعه مؤلفه إبداعا بل استخرج أهم عناصره من الفلسفة الألمانية ومن الاشتراكية الفرنساوية، يضاف إليها تأثير الجمعية الشيوعية البركسلية السرية التي كان ماركس هو ورفيقه إنجلس ينتمي إليها بعد إبعاده من باريس، وإلى الجمعية الديمقراطية الدولية العامة، فضلا عن كتابات الاقتصاديين الإنجليز وتطور حركة العمال في إنجلترا، التي ابتدأت بتأثير روبرت أون
Owen ، مؤسس الاشتراكية الإنجليزية، وهو رجل وقف ثروته البالغة اثني عشر مليونا لتحقيق نظرياته.
ماذا يبغي ماركس وأصدقاؤه إنجلس ولاسال وويتلنج وغيرهم المنادون بالجمهورية الاشتراكية، الموجدون بين الطبقات حربا ما فتئت تذكيها بلاغتهم النارية، والتي ستفضي حتما إلى زلازل اجتماعية فظيعة؟ ما هي غايتهم من إلغاء فروق الوطنيات، ومحو حدود البلدان، وتكوين اتحاد العمال في جميع الأقطار؟
Shafi da ba'a sani ba
الاقتصاد دولاب تدور به آلة الحياة الاجتماعية بفروعها ومظاهرها المختلفة. وليس الاقتصاد هنا ليعني التوفير، ولكنهم يريدون به - حسب الاصطلاح الحديث - طريقة الإنتاج والتبادل. ينتج المرء ما يستطيع إنتاجه ليبدله بما يحتاج إليه من ضروري ويصبو إليه من كمالي؛ فيتمكن بعدئذ من الاستمرار على الإنتاج في نوع العمل الذي يجيده. ولقد كان التبادل يحصل مباشرة بلا وسيط في الجمعيات الأولى، غير أن تقدم الحضارة جعل المال من الأهمية بحيث أصبح واسطة التبادل الوحيدة التي يستحيل بدونها الحصول حتى على أهم الضروريات، وتفنن الناس في حشده لا سيما عن طريق الصناعة التي ارتقت آلاتها ارتقاء عظيما، واستولى أهل رأس المال على منابع الإنتاج فصاروا لا هم لهم سوى سرعة الإنتاج والإنتاج بأبخس الأثمان لتزداد الثروة بالأرباح السريعة؛ وهذان الشرطان متوفران في استخدام الآلات؛ فغدا العامل بذلك مرغما على قبول أحد اثنين: فإما الموت جوعا لضيق اليد، وإما العمل بأقسى الشروط ليعيش عيشة كلها كد وحرمان وظلام. •••
لقد مرت الأمم والجماهير في قرون العبودية فلم يبق منها على الأرض غير آثار الملكية والأرستقراطية، حتى هب الشعب في الثورة الفرنساوية يطالب بالمساواة مفاجئا المستأثرين بالسيف والنار، وانبرى نابليون الديكتاتور يلقي بذور الثورة أينما حل ويوسع من دوائر الحرية ما يسر انبساط شوكته. قبله لم يكن يحارب إلا الأشراف، ولم يكن يدخل البلاط إلا الأشراف، ولم يكن يرشح للمناصب الرفيعة إلا الأشراف؛ فرفع الصغار من ذوي الكفاءة إلى أعلى الدرجات، وجعل من ذوي البسالة والمهارة الحربية مارشالية وقوادا عظاما، وخلق ألقاب الشرف للممتازين بمواهبهم الطبيعية؛ فشعرت الأمة - بما فيها طبقة العمال - بأن الحرية السياسية التي اعترف لها بها سنة 1789 متحققة.
بيد أن النظام الديمقراطي قصر على تعريف المساواة بين الطبقات والأفراد في الحقوق وأمام القضاء، ونادى بالحرية النظرية التي تحرم الاستعباد النظامي على ما كانت تجوزه القوانين في الماضي، ولكنه فاته أن هناك عبودية اقتصادية أشد هولا من أية عبودية سياسية. وماذا عسى تنفع الحرية السياسية من ليس لديه ما يؤهله للتمتع بها؟ عبودية الأمس ضمنت له الغذاء والسكن والكساء، أما حرية اليوم فسلبته هذا الضمان ولم تنله ما يحتاج إليه. وما كانت قيمة المرء الاجتماعية والسياسية إلا لتوازي قيمته الاقتصادية؛ أي ما يملكه من مصادر الثروة؛ لأن الذي لا شيء عنده عبد لمن عنده شيء، وهو يواصل العمل ساعات طويلة، ويفني قواه في الكد والإجهاد، فلماذا يبقى عبدا؟!
يبقى عبدا لأن الحكومة اهتمت إلى اليوم بالإنتاج وأهملت التوزيع، وليس النقص في قلة الإنتاج فهو موفور، إلا أن سوء التوزيع يمنح قوما فيصبحون موالي، ويحرم قوما فيمسون عبيدا؛ أولئك يتنعمون ولا يعملون، وهؤلاء يبذلون حياتهم في العمل بلا أمل ولا عزاء؛ لذلك أشهر الاشتراكيون الحرب على جميع القوانين السارية لينيلوا الذين حررتهم السياسة في ثورة الأمس الحرية الاقتصادية في ثورة اليوم، وذلك بالتوزيع على الجميع سواء بسواء؛ فالتوزيع إذن قلب قلب النظام الاشتراكي، وغاية غايته. ولما كان توزيع نتاج العمل ذاته غير مفيد لمنتجه في كل الأحوال، فقد جعلوا التبادل على قاعدة ما سماه ماركس «الوقت الاجتماعي»؛ أي عدد الساعات المستهلكة لإنجاز العمل، وحذفوا المال واسطة الاحتكار والاستغلال وعامل الطغيان الأكبر - على ما يرون - وقضوا على الثورات الفردية وما لها من مصارف، وشركات مالية ، وصناديق توفير، وبورصات ... إلخ، ليوحدوا الثروة في يد الحكومة أو المجتمع، وشعارهم هو هذا «لكل ما يخصه ولكل نتيجة عمله»، ولكنهم علموا أن مثل هذه المساعي لا تنجح في بلد واحد سوى نجاح وقتي، وأنه لا تلبث الحكومات الأخرى أن تزاحم الحكومة الاشتراكية في أسواق التجارة وتتألب عليها فتقضي على أنظمتها وتطارد مؤيديها حتى الهلاك؛ ولهذا قرروا نشر دعوتها في جميع أنحاء المعمور لتتم بها تلك الثورة الدولية الكبرى والانقلاب العام العظيم الذي تنبأ عنه كروبتكن الروسي منذ أكثر من ثلاثين عاما، فقاموا ينادون باستقلال الشعوب وحريتها في تقرير مصيرها، وما هذا الاعتراف إلا تمهيد للاتحاد العالمي الشامل تحت راية الشيوعية المطلقة. •••
أما الواسطة لبلوغ هذه الغاية فهي القوة؛ لأنهم يرون أن النظام الحاضر يحول دون الإصلاح المنشود بمحافظته على الحقوق الفردية وتأييده امتيازات أصحاب المال والعقار الذين يملئون خزائنه بالضرائب، والأنانية الحيوية تحمل هؤلاء وذاك على استخدام كل وسيلة ممكنة للاحتفاظ بممتلكاتهم؛ فالقوة وحدها تتغلب عليهم، ولتنظيم هذه القوة أنشئت شركات التضامن ونقابات التعاون، وغرضها الدفاع عن حقوق العمال حتى إذا آن الأوان قاموا بالحركات الثوروية المطلوبة. وقد استحسن ماركس الديكتاتورية لتخويل هذا الانقلاب الواسع ما يحتاج إليه من الشدة والإتقان، بل رأى أنه يتحتم حصر الأمر والنهي في يد زعيم مطلق. ولا شك أن ماركس استنبط المنصب الديكتاتوري لموافقته لفطرته ومكانته؛ هو الذي كان ديكتاتور الاشتراكيين يوم أسس الإنترناسيونال
1
الأولى، وإنما انفض الأشياع يومئذ من حوله لمغالاته في الاستئثار والطغيان.
بين الناس اليوم شعور قوي بأن اليهود هم الذين ابتدعوا الاشتراكية وما والاها؛ انتقاما من الشعوب والأجناس والأديان التي حملت عليهم واضطهدتهم عشرين قرنا لم يكن لهم فيها حرية ولا وطن ولا كيان، وسعيا لنشر سلطانهم على العالم، فعملوا في تأسيس الإنترناسيونال التي سميت المؤتمر الدولي الأحمر، وأقاموا إزاءها في فيينا تحالف الممولين الذي دعي المؤتمر الدولي الذهبي - ذلك ليقبضوا على ناصيتي القوة في المعمور: وفرة العدد ورأس المال. ويستشهد الناس على صدق شعورهم بأن كبار زعماء البلشفية من اليهود، كما أن كبار الممولين في العالم يهود يمدون البلشفية بالمساعدة السرية رغبة في نشرها وبقصد ابتزاز المال أيضا؛ لأن الثورة العامة مضاربة مالية وسياسية فيحاء تروج سوقها الصحافة العالمية بلهجات متناقضة - وزعماء الصحافة يهود كذلك.
فيدافع اليهود عن نفوسهم قائلين إن رئيس الشركة الصحافية الكبرى المستر أستون ليس يهوديا، وأن «شركة الأنباء البرقية الأمريكية» ليست إسرائيلية، وأن مستر هرست صاحب سلسلة الصحف والمجلات ليس يهوديا، وأن اللورد نورثكليف قطب أقطاب الصحافة البريطانية ليس يهوديا، ومثله صاحبا «الشيكاغو تريبيون» وغيرهما كثيرون. وإذا كان هناك ممولون من اليهود فلماذا لا يذكر حيالهم روكفلر ومورغن وريان ودوبون وهنري فورد وويرهاوز، و15 ألفا سواهم من الأمريكان أصحاب الملايين الذين ليسوا يهودا؟ وإذا كان بعض زعماء البلشفية يهودا، فألوف من صغار تجار اليهود فقدوا أموالهم ولاقوا حتفهم في الثورة الروسية بعدما ذاقوا في عصر القيصرية من الإهانة والعذاب والتجرد من الحقوق السياسية والقضائية؛ فإن هم ثاروا فإنما فعلوا كمرتبة اجتماعية وليس كطائفة دينية، وإذا كان تروتسكي وسڤرولوف وغيرهما من البلشفيين يهودا، فليس في لنين وتشيتشرين وكراسين وكلينين قطرة دم إسرائيلي. وأكثر قادة المنشفيك - أعداء البلشفيك الألداء - يهود، ومثلهم زعماء الديمقراطية الدستورية المنافسة حكومة السوفييت. وإن البلشفيين يكرهون اليهود لأنهم ينظرون إليهم كمحافظين على النظام الرأسمالي، وأن اليهود محبون للقانون وهم في البلاد اللاتينية - حيث تراعى الحرية الدينية - أقرب الناس إلى حفظ النظام وأشدهم تعلقا بالعائلة والفردية والملكية.
ذكرت هذا الاتهام والدفاع لأنه نقطة ذات أهمية خاصة في هذا الاضطراب الشامل، ليس استجلاؤها بالممكن في الحاضر ولن يكشف أسرارها إلا المستقبل. •••
Shafi da ba'a sani ba