وروى الطحاوي أن المُزَني قال: أخبرني أبو بكر الحميدي عن سفيان قال: كان خَلَفٌ يقول: ينبغي للناس أن يتعلَّموا هذه الأبيات في الفتنة:
الحربُ أوَّلَ ما تكون فُتَيَّةٌ … تسعى بزينتها لكلِّ جهولِ
حتى إذا اشتعلت وشبَّ ضِرامُها … ولَّت عجوزًا غيرَ ذاتِ حليلِ
شَمْطَاءَ جَزَّتْ رأسَها وتنكَّرت … مكروهةً للشَّمِّ والتَّقْبِيلِ (^١)
ومما يدل على معاناة المُزَنِي تربية نفسه، واجتهاده في مجاهدة شهواته .. اشتغاله بغسل الأموات، المذكِّر لهاذم اللذات، المنبِّه للاستعداد قبل الفوات، وهو الذي تولَّى غسل الإمام الشافعي، وقد روى ابن يونس عن إبراهيم بن محمد الضحَّاك أنه قال: سمعت المُزَني يقول: «عانيت غسل الموتى ليرقَّ قلبي، فصار ذلك لي عادة» (^٢).
وفي قوله: «فصار ذلك لي عادة» إشارة إلى قاعدة جليلة في التربية، وهي قاعدة تحوُّل العبادة عادة، فيقلُّ تأثيرها على النفس، ويضمحلُّ استشعار القائم بها بالقُرْبى، وهذا وارد في الصلوات وأنواع القربات، بل في أجلِّها وهي الدعوات، ثم إن تنبُّه المُزَني إلى هذه القاعدة لدليلٌ على نفس رباني بين جنبيه، رحمة الله عليه.
وبالجملة قال عمرو بن عثمان المَكِّيُّ: «ما رأيت أحدًا من المتعبِّدين في كثرة مَنْ لقيت منهم أشدَّ اجتهادًا من المُزَني، ولا أَدْوَم على العبادة منه، وما رأيت أحدًا أشد تعظيمًا للعلم وأهله منه، وكان من أشد الناس تضييقًا على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس، وكان يقول: أنا خلق من أخلاق الشافعي» (^٣).
_________
(^١) أخرجه البَيْهَقي في «المناقب» (٢/ ٣٥٥ - ٣٥٦).
(^٢) انظر «تاريخ مصر» (١/ ٤٥) لابن يونس.
(^٣) أخرجه البَيْهَقي في «المناقب» (٢/ ٣٥٠) و«المدخل» (١/ ٤٣) من طريق أبي عبدالرحمن السَّلَمي، وذكره الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (١٢/ ٤٩٤).
المقدمة / 47