مقدمات المُختصَر
«مُقدِّماتٌ مَنْهَجِيَّةٌ بين يدَيْ المخْتَصَر للإمام المُزَنيِّ»
مع ملحق:
كتاب الأمر والنهي على معنى الشافعي ﵀
من مسائل المُزنيِّ ﵁
برواية أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق عنه
إعداد
أبي عامر عبد الله شرف الدين الداغستاني
المقدمة / 1
بعد الشكر لله على نعمه وتوفيقه ..
إلى الجنديين المجهولين وراء كل عمل خير أقوم به، من رعياني وليدا، وآزراني رشيدا، من علماني الوحيين، وأرشداني النجدين، فلما اشتد مني العود، وأزحت الطوق عن الجيد .. تركاني أواجه معمعة الحياة وحيدا، إلى أمي وأبي عرفانا بالجميل: هذا بعض ثمار جهودكما، رحمكما الله كما ربيتماني صغيرا.
إلى من رعتني في الاجتماع، وحفظتني في الاغتراب، وتولت رعاية الدار والأولاد، إلى أم عامر: هذا بعض ثمار صبرك.
إلى إخواني المتفقهين في أحكام الشريعة على قلة النصير وانعدام الدوافع، اللهم إلا نصرتهم لكلمة الله، ونصيحتهم لدينه: هذا العِلْقُ من الفقه الأوَّلِ، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ولا أنسى أن أشكر كل من ساهم على ظهر الغيب في إخراج هذا العمل المبارك إن شاء الله، وأخص منهم الشيخ الفاضل عامر بهجت، الذي أتى في حين اضطراب الأمور، فأمَّن لي الدِّفْءَ والسّكينةَ في مَسْكَنِه الواسع، وحال بلباقته دون العوائق عن إتمام العمل، فله مني جزيل الشكر والعرفان.
المقدمة / 5
بسم الله الرحمن الرحيم
«الحمدُ لله الذي خلق السمواتِ والأرضَ، وجعل الظُّلُماتِ والنورَ، ثُمَّ الذين كفروا بربهم يعدِلون.
والحمد لله الذي لا يؤدَّى شكرُ نعمةٍ من نِعَمِه إلا بنعمةٍ منه تُوجِب على مؤدِّي ماضي نِعَمِهِ بأدائها نعمةً حادثةً يجب عليه شكرُه بها، ولا يبلغ الواصفون كُنْهَ عظمته، الذي هو كما وصف نفسَه، وفوق ما يصفُه به خلقُه.
أحمَدُه حمدًا كما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله، وأستعينُه استعانةَ مَنْ لا حول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهُداهُ الذي لا يضِلُّ من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفتُ وأخَّرت استغفارَ مَنْ يُقِرُّ بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا يُنجِيه منه إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله» (^١).
أما بعدُ:
فهاكم -معاشر المتفقِّهين من عموم الأمة الإسلامية- «المختصر» لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المُزَنِيِّ، أعظم كتاب أُلِّفَ في الفقه الإسلامي على الإطلاق، قال البَيْهَقِيُّ: «لا أعلم كتابًا صُنِّف في الإسلام أعظمُ نفعًا وأَعَمُّ بركةً وأكثرُ ثمرةً من كتابه» (^٢).
_________
(^١) اقتباس عن الشافعي في خطبة «الرسالة».
(^٢) انظر «المناقب» للبَيهَقي (٢/ ٣٤٨).
المقدمة / 7
وهاكُمْ -معاشرَ الشافعيين- «المختصَر من علم الشافعي ومن معنى قوله»، «إنه زينة مذهبكم، وعمدة أصلكم، وقاعدة طريقكم، وقعر يَمِّكُمْ، وموئلُكم حين تختلفون، ومرجعكم حين تضطربون، ومفزعكم حين تتلاطم أمواج الآراء، ويتناضل في المحافل الفقهاء» (^١).
كان تصحيحه وتقريبه من متناول دارسي العلوم الإسلامية من أمانيَّ الكبار قديمةِ الأمَدِ، لكن البَدءَ في تحقيقه لم يكن بالأمر الهيِّن، فإن للشافعيِّ في القلوب هيبةً أيَّمَا هيبة، والمُزَنِيُّ أعظمُ تلاميذِه ومختصِرُ نصوصه، فكتابُه من كتبِه، وكلامه من مَعِينِهِ، فلم يكُنْ من السهل الخوضُ في عُبابِ كلام الشافعي والحديث عن بيان مراده.
في منتصف القرن الثاني ولد الإمام الشافعي رحمة الله عليه، ولد ونشأ في دولة الإسلام والعلم، فتنقل بين حواضر الإسلام الثلاثة: مكة والمدينة والعراق، ونهل من علوم أعلامها وأدرك وجوه اختلافهم ومناهج استنباطهم واجتهادهم، ثم نظر فيما تحصل لديه من العلوم وأنعم فيما وراء العلوم من الأصول، فوجد كل حاضرة من الحواضر الإسلامية تتبع إمامها وتقلده ثم تدافع عنه بالدليل وغير الدليل، وهكذا كان التقليد لفقه البلدان أول شرخ حدث في بنيان المنهج الإسلامي الخالص، فأتى الشافعي ليجدد هذا المنهج ويجدد الدين من خلاله في رأس المائة الثانية، استنبط علم أصول الفقه وطبق قواعده القطعية المتفق عليها في العصر الأول على جزئيات الأحكام، وهكذا وجدت مصنفات الشافعي الأصولية والفقهية، ثم وجد كتاب «المختصر» للمزني، الذي هو خلاصة وجوهر نصوص الشافعي في مختلف كتبه ومقالاته، وخلاصة منهجه الذي استنبطه بعلمه وقريحته.
_________
(^١) اقتباس عن ابن السُّبكيِّ في «الطبقات» (١/ ٢١).
المقدمة / 8
ويقيني أن التجديد الذي قام به الشافعي في القرن الثالث هو ذات التجديد الذي نحن في أمس الحاجة إليه أيامنا هذه في مواجهة جحافل الغزو الفكري، حيث إن أهم سمات هذا الغزو: التشكيك في المسلمات وتحريف مناهج تناول وفهم النصوص الشرعية من خلال ما يسمى بـ «القراءة المعاصرة للنصوص الشرعية»، هذه الحركة الشعواء التي إن كتب لها النجاح لم يبق على وجه الأرض أحد يذكر الله، ولكن يأبى الله والمؤمنون.
ومن هذا المنطلق أشيد بالأمة الإسلامية على اختلاف طوائفها وتوجهاتها أن تستفيد من جهد الشافعي واجتهاداته، حيث إنه نظر في اجتهادات العصر الأول على اختلافها ثم استخلص منها الوحدة المنهجية الساري فيها، المنهجية الصافية التي لم يتلوث بالفلسفات المستوردة أو التحريفات الكلامية المستحدثة، وهذه المنهجية هي الوحيدة التي بإمكانها أن تعيد للعلوم الإسلامية روح الحياة ومسايرة مستجدات العصر مع الحفاظ على قداسة الوحي والنبع الأول، وإحياء هذه المنهجية وإعادتها إلى سابق عهدها الأول هو الذي سيتيح للأمة الإسلامية أن تأخذ مكانها في تصدير رؤيتها المتفردة للأمم المختلفة، ومن ثم استعادة مكانها في قيادة العالمين من جديد كما قادتهم في سالف العصور، وعنايتي بكتاب «مختصر المزني» وكتب الشافعي عموما استجابةٌ مني لما أراه وأدين الله به من هذه الرؤية، ووجوب تجديد الخطاب الإسلامي على أساسها.
والناس مع نصوص الشافعي ومنهجه على طرفي نقيض فيما يبدو لرأي العين، لكنهما طرفان يصبان في إناء واحد:
الطرف الأول - التنكر للشافعي واجتهاده، هذه الجبهة التي يمثلها دعاة
المقدمة / 9
الحداثة على اختلاف توجهاتهم، الجامع المشترك بين هؤلاء أنهم يعتقدون عدم صلاحية أحكام الشريعة لضبط الحياة العامة المعاصرة، فهم يحاولون تحريفها باجتهادات جديدة من وحي الواقع على حسب أفهامهم، فوجدوا الشافعي بمنهجه عائقا أمام الحرية الفكرية التي يبحثون عنها ويروجون لها تمهيدا لتمييع أحكام الشريعة على حسب أهوائهم.
الطرف الثاني - التقديس للشافعي ونصوصه، هذه الجبهة يمثلها مقلدة المذهب المتعصبون له، هؤلاء حكموا على الناس ابتداء بوجوب التقليد وحظروا من خلاله تناول النصوص الشرعية بالاجتهاد والاستنباط مطالبين باقتصار نظر المقلِّدين على نصوص مقلَّديهم، ثم زادوا فحظروا تناول نصوص الإمام بالنظر بحكم أن ذلك شغل أصحاب الوجوه فقط، وهكذا ابتعدوا شيئا فشيئا من النصوص التي تصور حركة الاجتهاد الشرعي الحي المنضبط، فكان ذلك سببا في نضوب المعرفة والإنتاج العلمي ومن ثم سقوط الأمة عن موقعها في الصدارة.
هذان الطرفان في التعامل مع الشافعي على بعد ما بينهما يجتمعان كلاهما في إبعاد الناس عن نصوصه وتحنيط علومه، وكل واحد منهما يخدم الآخر من حيث علم أو جهل، والمنهج الوسط والذي يفرض نفسه إن أردنا أن نحفظ الله في أنفسنا ونعيش حياة عصرنا هو أن نقرب هذه النصوص من متناول أهل العصر من جهة، ونرتقي بمؤهلات طلاب العلم حتى يفهموا تلك النصوص ويستفيدوا منها من جهة أخرى، وما خروج «مختصر المزني» بحلته التي أرجو أن أكون وفِّقْتُ فيه إلى درجة كبيرة إلا بعض نتائج إيماني بهذا المنهج الوسط.
المقدمة / 10
وأخيرا نحن أمام نصوص مضى عليها أكثر من اثني عشر قرنًا من الزمان، وأساليب في البيان معهودة في عصرها لكن طواها النسيان، وطريقة في التفقُّه غير الطريقة المعتادة في المدارس المعاصرة والجامعات، فجعلت من همِّي تصحيح نص الكتاب وضبطه ثم التعليق عليه وشرحه بما يقرِّبه من أفهام عموم القراء من عصارة مطالعاتي وتأملاتي، فهي
«المُعتَصَر في تقريب المُختَصَر»
وقدمت للكتاب بمقدمات هي بمثابة المدخل للانتفاع الأكمل به وبعلومه، تكلمت فيها عن المُزَنِيِّ وحياته، وعن كتاب المختصر ومنهجه، وعن مؤلفات الشافعي وكتب نصوصه، وبيان أوجه اختلاف القولين والوجهين والطريقين في المذهب، وذكرت بصائر من مسائل الأصول وشوارد الفوائد التي وردت في الكتاب، وأخيرًا تكلمت عن النسخ المعتمدة وخلاصة عملي، وهذه المقدمات الستة المداخل المنهجية إلى «المختصر»:
المقدمة الأولى في ذكر ترجمة الإمام المُزَنِيِّ
المقدمة الثانية في الكلام على الكتاب
المقدمة الثالثة في ثبَت مؤلفات الشافعي وكتب نصوصه
المقدمة الرابعة في وجوه اختلاف القولين والوجهين والطرق
المقدمة الخامسة في بصائر الأصول وشوارد الفوائد
المقدمة السادسة في بيان عملي في الكتاب
وإتمامًا للبِرِّ ألحقت بآخِر الدراسات «كتاب الأمر والنهي على معنى الشافعي ﵀ من مسائل المُزَنِيِّ ﵁».
المقدمة / 11
واللهَ أسألُ أن يجعلني سببًا ووسيلة في نشر علوم السلف من سنة نبيه واجتهادات أوليائه المقرَّبين، وأن يتقبَّل منِّي هذا العمل ويجعله ذخرًا لي عنده يوم ألقاه، وينفع به الأمة والأئمة وطلبة العلم في شتى بقاع الأرض، ولا يحرمني خالص دعواتهم الصالحة على ظهر الغيب.
إنَّ كتاب المُزَنِي … لَسَلْوَتِي مِنْ حَزَني
ومونسي في سهري … وفي نهاري سكَني
وصاحبي في غربتي … وفي ضريحي كفَني
أبو عامر عبد الله شرف الدين الداغستاني
المقدمة / 12
المقدمة الأولى في ذِكر ترجمة الإمام المُزَنِيِّ (^١)
_________
(^١) انظر ترجمته عند:
١ - أبي يَعْلَى الخَليليِّ القَزوينيِّ (ت ٤٤٦ هـ) في «الإرشاد» (١/ ٤٢٩ - ٤٣٥).
٢ - وابن يونس (ت ٣٤٧ هـ) في «تاريخ مصر» (١/ ٤٤ - ٤٥)، وهو أعلى من ترجم له سندًا، وألصَقُهُم دارًا.
٣ - والبَيهَقيِّ (ت ٤٥٨ هـ) في «مناقب الشافعي» (٢/ ٣٤٤ - ٣٥٧).
٤ - وابن عبد البَر (ت ٤٦٣ هـ) في «الانتقاء» (١٦٩ - ١٧٠).
٥ - والشِّيرازي (ت ٤٧٦ هـ) في «طبقات الفقهاء» (٩٧).
٦ - وابن خَلِّكانَ (ت ٦٨١ هـ) في «وَفَيَات الأعيان» (١/ ٢١٧ - ٢١٩).
٧ - والذَّهبي (ت ٧٤٨ هـ) في «سير أعلام النبلاء» (١٢/ ٤٩٢ - ٤٩٧).
٨ - والتاج السُّبْكي في «طبقات الشافعية الكبرى» (٢/ ٩٣ - ١٠٩).
المقدمة / 13
وسنتكلَّم عنه في فصول عشرة:
الفصل الأول في بيان اسمه ونسبه وتاريخ ولادته ووفاته
الفصل الثاني في ذكر تفقُّهه وشيوخه
الفصل الثالث في ذكر علومه ومعارفه
الفصل الرابع في عقيدته ومحنته
الفصل الخامس في زهده وتحنُّثه
الفصل السادس في فروسيته
الفصل السابع في مَشيَخَته وتَصَدُّره
الفصل الثامن في ذكر قوة حُجَّةِ المُزَنِيِّ وسرعة بديهته في المناظرة
الفصل التاسع في ذكر مؤلفات المُزَنِيِّ
الفصل العاشر في ذكر مكانة المُزَنِيِّ في الفقه الإسلامي والمذهب الشافعي
المقدمة / 15
الفصل الأول في بيان اسمه ونسبه وتاريخ ولادته ووفاته
هو أبو إبراهيم، إسماعيلُ بن يَحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مُسلِم (^١)، المُزَنِيُّ، المصْرِيُّ.
والمُزَنِيُّ: بضم الميم، وفتح الزاي، نسبةٌ إلى مُزَيْنَةَ بن أدِّ بن طابخة بن إلياس بن مُضَر، واسم مُزَيْنة: عمرو، وإنما سُمِّي باسم أُمِّه مُزَيْنَةَ بنت كلب بن وبرة، وولدت هي: عثمان وأوسًا ابني عمرو بن أدّ بن طابخة، فهم مُزَيْنَةُ، وجماعة نسبوا إلى مُزَيْنَةِ تميمٍ، وهم أحلاف الأنصار، وفيهم كثرة، ومن المنتسبين إلى الأول أبو إبراهيم صاحب الترجمة (^٢).
وُلِدَ المُزَنِيُّ في سنة خمسٍ وسبعين ومائة، سنة موت الليث بن سعد، وتُوُفِّيَ سنة أربعٍ وستين ومائتين بمصر، عن تسع وثمانين سنة، واختُلِفَ في
_________
(^١) هكذا رفع نسبه ابن يونس في «تاريخه»، ووافقه في ذلك ابن عبد البر في «الانتقاء» والذهبي في «السِّيَرِ»، وزاد عليه النووي في «المجموع» (١/ ١٥٧): «بن نهدلة بن عبد الله»، وقال الشيخ أبو إسحاق الشِّيرازي في «طبقاته»: «إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق»، وتبعه ابن خَلِّكَان في «الوَفَيَات».
(^٢) انظر «الأنساب» لابن السَّمْعَاني (١٢/ ٢٢٦ - ٢٢٧).
المقدمة / 17
شهر وفاته، فذكر ابن يونس أنه تُوُفِّيَ يوم الأربعاء لستٍّ بَقِينَ من شهر رمضان (^١)، وأخرج هبة الله بن الأكفاني في آخر صحيفته في «تسمية رواة المختصر» عن عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكَتَّانِيِّ لفظًا، ثنا مكيُّ بنُ محمد بن الضَّمْرِ التميمي، ثنا أبو سليمان محمد بن عبد الله بن أحمد بن زيد، قال: قال أبو جعفر الطحاوي: «وفي سنة أربع وستين ومائتين تُوُفِّيَ أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المُزَنِيُّ، في ربيع الأول، وصلّى عليه الربيع بن سليمان المُرَادِيُّ، رحمهما الله» (^٢)، زاد ابن عبد البر: «لِسِتٍّ بَقِين من ربيع الأول» (^٣)، ونقل البَيْهَقِيُّ عن أبي الطيب علي بن محمد بن سليمان المصري أنه صلى عليه العباس بن أحمد بن طولون (^٤)، والله أعلم أيّ ذلك كان.
قال ابن يونس: «ودُفِنَ بالقرب من تربة الإمام الشافعي ﵀ بالقرافة الصغرى بسفح المُقَطَّمِ، وزُرْتُ قبره هناك» (^٥).
وقد عاصر المُزَنيُّ أحدَ عشرَ خليفةً من خلفاء بني العباس، أولهم هارون الرشيد (١٧٠ - ١٩٣ هـ)، ثم الأمين (١٩٣ - ١٩٨ هـ) والمأمون (١٩٨ - ٢١٨ هـ) والمعتصم (٢١٨ - ٢٢٧ هـ) أبناء الرشيد، ثم الواثق (٢٢٧ - ٢٣٢ هـ) والمتوكِّل (٢٣٢ - ٢٤٧ هـ) ابنا المعتصم، ثم المنتصر بن المتوكّل (٢٤٧ - ٢٤٨ هـ)، ثم المستعين بن المعتصم (٢٤٨ - ٢٥١ هـ)، ثم المعتزّ بن المتوكّل (٢٥١ - ٢٥٥ هـ)، ثم المهتدي بن الواثق (٢٥٥ - ٢٥٦ هـ)، ثم المعتمد بن المتوكّل (٢٥٦ - ٢٧٩ هـ).
_________
(^١) انظر «تاريخ مصر» (١/ ٤٤).
(^٢) ستأتي الصحيفة كاملة في فصل رواة «المختصر» إن شاء الله.
(^٣) انظر «الانتقاء» (ص: ١٧٠).
(^٤) انظر «المناقب» (٢/ ٣٥٧).
(^٥) انظر «تاريخ مصر» (١/ ٤٤).
المقدمة / 18
وإذا نظرنا لهذه الحِقبة نجد أنه عاش أوْجَ عِزَّة الدولة العباسية في أيام الرشيد وأولاده، وعاش مِحنة خَلْق القرآن في أواخر أيام المأمون وحتى أيام المتوكِّل، كما عاش أيام نفوذ الترك في مفاصل الدولة من بعد المعتصم. وفي سنة أربع وخمسين ومائتين للهجرة قامت الدولة الطولونية بمصر، وفيها كذلك بدأت ثورة الزَّنج الماحقة، التي استمرَّت حتى سنة سبعين ومائتين.
المقدمة / 19
الفصل الثاني في ذكر تفقُّهه وشيوخه
كانت بداية حياة المُزَنِيِّ العلمية على مذهب علماء الرأي والكلام، فكان اتصاله بالشافعي لَمَّا قدِم مصر سببًا في تحوُّله إلى مذهب أصحاب الحديث عقدًا وفقهًا. قال عثمان بن سعيد بن بشار الأنماطي -تلميذ المُزَنِيِّ-: سمعتُ المُزَنِيَّ يقول: «كنت أنظر في الكلام قبل أن يقدَم الشافعي، فلما قدِم أتيته فسألته عن مسألة من الكلام، فقال لي: تدري أين أنت؟ قلت: نعم، في مسجد الفسطاط، قال لي: أنت في تاران، ثم ألقَى عليَّ مسألة في الفقه فأجبت، فأدخل شيئًا أفسد جوابي، فأجبتُ بغير ذلك، فأدخل شيئًا أفسد جوابي، فجعلتُ كلَّما أجبتُ بشيء أفسده، ثم قال لي: هذا الفقه الذي فيه الكتاب والسنة وأقاويل الناس يدخله مثل هذا، فكيف الكلام في رب العالمين الذي فيه الزَّلَل كبير؟»، قال المُزَنِيُّ: «فتركتُ الكلام وأقبلتُ على الفقه»، قال عثمان: «تاران: موضع في بحر القلزم لا تكاد تسلم منه سفينة» (^١).
_________
(^١) انظر «سير أعلام النبلاء» (١٠/ ٢٥)، وانظر «مناقب الشافعي» للبَيْهَقِيِّ (١/ ٤٥٨).
المقدمة / 21
وعن المُزَنِيِّ أنه قال: «كُنَّا على باب الشافعي نتناظر في الكلام، فخرج إلينا الشافعي وسمع بعض ما كُنَّا فيه، فرجع عنا فما خرج إلينا إلا بعد سبعة أيام، ثم خرج فقال: ما منعني من الخروج إليكم عِلَّة عرضت، ولكن لما سمعتكم تتناظرون فيه، أتظنون أني لا أحسنه؟ لقد دخلت فيه حتى بلغت منه مبلغًا، وما تعاطيت شيئًا إلا وبلغت فيه مبلغًا، حتى الرَّمْي، كنت أرمي بين الغرضين فأصيب من العشرة تسعة، ولكن الكلام لا غاية له، تناظَرُوا في شيء إن أخطأتم فيه يقال لكم: أخطأتم، ولا تناظروا في شيء إن أخطأتم فيه يقال لكم: كفرتم» (^١).
وقال أبو إبراهيم المُزَنِيُّ: «كنت يومًا عند الشافعي أُسائله عن مسائل بلسان أهل الكلام»، قال المُزَنِيُّ: «فجعل يسمع منِّي وينظر إليَّ ثم يجيبني عنها بأحضر جواب، فلما اكتفيت قال لي: يا بنيَّ، أدُلُّكَ على ما هو خير لك من هذا؟ قلت: نعم، فقال: يا بنيَّ، هذا علمٌ إن أنت أصبتَ فيه لم تُؤْجَرْ، وإن أخطأت فيه كَفَرْتَ، فهل لك في علم إن أصبت فيه أُجِرْتَ، وإن أخطأت لم تأثم؟ قلت: وما هو؟، قال: الفقه»، قال المُزَنِيُّ: «فلزمته، فتعلمت منه الفقه ودرست عليه» (^٢).
وقد توطَّدَتْ صلة المُزَنِيِّ بالشافعي إلى درجة الحب المتبادَل والإجلال، وهذا شيء بَيِّنٌ ظاهر من إجلاله له في «المختصر» وغيره من كتبه، وليس الشأن حبه لشيخه، وإنما الشأن حب الشيخ له، فقد كان الشافعي يخصُّه بما لا يخصُّ به غيره (^٣)، وعن أبي إسحاق المَرُّوزِيِّ أنه
_________
(^١) انظر «مناقب الشافعي» للبَيْهَقِيِّ (١/ ٤٥٩).
(^٢) انظر «طبقات الشافعية» للسُّبكيِّ (٢/ ٩٨).
(^٣) انظر «الإرشاد» (١/ ٤٢٩).
المقدمة / 22
قال: ذكر المُزَنِيُّ أن الشافعي أخذ بيده فقال:
أُحِبُّ من الإخوان كُلَّ مُوَاتِ … وكلَّ غَضِيضِ الطّرْفِ عن عَثَراتي
يصاحبني في كلّ أمرٍ أحبُّه … ويحفظني حيًّا وبعد وفاتي
فَمنْ لي بهذا ليت أَنِّي أصبْتُه … فقاسمته مالي مع الحسناتِ (^١)
وأخرج البيهقي عن المُزَنِيِّ أنه قال: قال لي الشافعي ﵁: «يا أبا إبراهيم: العلم جهل عند أهل الجهل، كما أن الجهل جهل عند أهل العلم»، قال المُزَنِيُّ: وأنشأ لنفسه:
ومَنْزِلة الفقيه من السفيهِ … كمَنْزِلَة السفيه من الفقيهِ
فهذا زاهد في قرب هذا … وهذا فيه أزهدُ منه فيهِ (^٢)
وهكذا بدأت رحلة المُزَنِيِّ مع الشافعي حتى صار فقيهًا راجح المعرفة، غوَّاصًا على المعاني الدقيقة، عارفًا باختلاف فقهاء الأمصار واتفاقهم، مناظِرًا مِحْجَاجًا متصرِّفًا بأصول الأدلة وقواعد الاستنباط، لكنَّ المُزَنِيَّ لم يقتصر على الشافعي وحده في التفقُّه، فللمُزَنِيِّ مشايخُ غير الشافعي ينتسبون إلى مدارس مختلِفة.
فمن شيوخه في فقه أهل الكوفة: شيخ الحنفية أبو محمد علي بن معبد بن شدَّاد العبدي الرَّقِّيُّ (ت ٢١٨ هـ)، تفقَّه على محمد بن الحسن وروى عنه جامعه الكبير والصغير (^٣)، وقد روى المُزَنِيُّ عنه في «المختصر» في موضعين (ف: ٣٤٩٦، و٣٦٨٧). وأخرج الخطيب البغدادي عن المُزَنِيِّ قال: نا علي بن معبد، نا عبيدالله بن عمرو، قال: «كُنَّا عند الأعمش وهو يسأل
_________
(^١) انظر «المناقب» للبيهقي (٢/ ٧٩).
(^٢) انظر «المدخل» (٢/ ٧٨٧)، وأخرجه كذلك الخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقِّه» (٢/ ١٤٩).
(^٣) انظر «سير أعلام النبلاء» (١٠/ ٦٣١).
المقدمة / 23
أبا حنيفة عن مسائل ويجيبه أبو حنيفة، فيقول له الأعمش: من أين لك هذا؟ فيقول: أنت حدثتنا عن إبراهيم بكذا، وحدثتنا عن الشعبي بكذا، قال: فكان الأعمش عند ذلك يقول: يا معشر الفقهاء، أنتم الأطباء ونحن الصيادلة» (^١).
ويدل على مداوَمَة المُزَنِيِّ على النظر في فقه أبي حنيفة ما أخرجه الخليلي فقال: «سمعت عبدالله بن محمد الحافظ يقول: سمعت أحمد بن محمد الشُّرُوطِيّ يقول: قلت للطَّحَاوِيِّ: لِمَ خالفتَ خالك واخترتَ مذهب أبي حنيفة؟ قال: لأني كنت أرى خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة، فلذلك انتقلت إليه» (^٢).
ومن شيوخ المُزَنِيِّ في فقه أهل المدينة: شيخ المالكية أصبغ بن الفرج (ت ٢٢٥ هـ)، وقد قال أبو بكر بن خُزَيْمَة: «سمعت يونس بن عبدالأعلى يقول: أنا ابن وهب، عن مالك: وسألت عن مَسِّ الذَّكَر فقال: أُحِبُّ الوضوء منه، قال: وسمعت يونُس أن أشهب بن عبدالعزيز أخبرهم عن مالك في رجل مَسَّ ذَكَرَه ثم صلَّى ولم يتوضأ وفات الوقت، قال: لا أرى عليه الإعادة، وسألت ابن عبدالحكم: من أعلم أصحابكم وأفقه أصحابكم؟ قال: نحن نقول: لم يكن منهم مثل أشهب بن عبدالعزيز، فسألت المُزَنِيَّ، فقال لي: عبدالرحمن بن القاسم أتبع الرجلين لصاحبه، وأشهب بن عبدالعزيز أفقه الرجلين، وابن وهب أعلم الثلاثة باختلاف المدنيِّين» (^٣)، وهذا يدل على معرفة وافرة بفقه مالك ورجاله.
_________
(^١) انظر «الفقيه والمتفقِّه» (٢/ ١٦٣).
(^٢) انظر «الإرشاد» (١/ ٤٣١).
(^٣) انظر هامش «المختصر» (الفقرة: ٤٤)، وأخرج القسمَ الأخير منه البَيهَقيُّ في «المناقب» (٢/ ٣٥٦).
المقدمة / 24
ومن شيوخه في فقه الليث بن سعد: يحيى بن عبدالله بن بُكَيْر المَخْزُومِيّ (ت ٢٣١ هـ)، كان جار الليث بن سعد، وهو أثبت الناس فيه، وعنده عن الليث ما ليس عند أحد، وقد نَقَل عنه المُزَنِيُّ في «المختصر» (ف: ٣١٥٠) قول إبطال طلاق السكران ووافقه عليه مخالفًا للشافعي.
ومن شيوخه في السُّنَّة: نُعَيْم بن حَمَّاد، أُخِذ في المحنة مع البُوَيْطِي فمات بالعسكر (سنة ٢٢٩ هـ).
المقدمة / 25
الفصل الثالث في ذكر علومه ومعارفه
المُزَنِيُّ كان أعلم أصحاب الشافعي بمذهبه، وقد نقل ابن السُّبْكِيِّ عن والده أنه قال: «لا يَعْرِف قدر الشخص في العلم إلا من ساواه في رُتْبَتِه وخالطه مع ذلك، وإنما يُعْرَف قدره بمقدار ما أوتيه هو»، قال ابن السُّبْكِيِّ: «وكان يقول لنا: لا أحد من الأصحاب يعرف قدر الشافعي كما يعرفه المُزَنِيُّ، وإنما يعرف المُزَنِيُّ من قدر الشافعي بمقدار قُوَى المُزَنِيِّ، والزائد عليها من قُوَى الشافعي لم يدركه المُزَنِيّ».
ومِمَّا أسعَفَ المُزَنِيَّ في معرفته بالشافعي جمعُه إلى فقهه فقه كُلٍّ من أبي حنيفة ومالك والليث، ثم استقراؤه مؤلَّفات الشافعي وجمعُه بين مُتَّفِقِها ومختلِفها، بحيث يظهر مِنْ تَتَبُّع مختصَره أنه عَرَفَ كل مسألة من مسائل الشافعي وموقعها من كتبه، وعَرَفَ بعد ذلك اتفاق ما بينها والاختلاف، ومما يدل عليه أن المُزَنِيَّ من رُواة الجديد، لكنه جمع إليه القديم أيضًا، وذلك دليل على عنايته بكتب الشافعي القديمة مع الجديدة.
المقدمة / 27
وكان له معرفة جيِّدة بعلم الحديث والأثر وإن لم يشتهر به ولم يقصد من أجله، وقد تكون رئاسته في الفقه وأصوله طغت على سائر جوانب المعرفة منه، ثم إنه لم يكن من الرحَّالين في الحديث ولا من المكثِرين من الشيوخ، وجُلُّ حديثه من طريق الشافعي، وهو قليل الرواية على ثقة فيه، قد وثَّقَه ابن يونس (^١)، وكان أحمد بن صالح المصري (ت ٢٤٨ هـ) يبجِّله، وقد قال فيه: «لو أن رجلًا حَلَفَ أنَّه لم يرَ كالمُزَنِيِّ آخَرَ كان صادقًا»، فقال له أبو أفلح المصري: نكتب عنه؟ قال: «إن حدَّثَكم» مرَّتين (^٢)، وقال ابن أبي حاتم: «صدوق» (^٣).
وأخرج ابن السُّبْكِيُّ بسنده من طريق أبي الفوارس أحمد بن محمد الصابوني قال: أخبرنا المُزَنِيُّ: أخبرنا الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ نهى عن الوِصال، فقيل: إنك تُوَاصِل؟، فقال: «لستُ مثلكم، إني أُطْعَمُ وأُسْقَى»، قال ابن السُّبْكِيُّ: «وبهذا الإسناد: أن رسول الله ﷺ ذكر رمضان فقال: لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تُفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له»، قال: «وبه: أن رسول الله ﷺ فرض زكاة الفطر من رمضان، على السنة، على الناس، صاع من تمر، وصاع من شعير، على كل حُرٍّ وعبد، وذكر وأنثى، من المسلمين»، قال ابن السُّبْكِيِّ: «مُتَّفَق عليها، وهي من الأسانيد التي ينبغي أن تُسَمَّى عقد الجوهر ولا حرج» (^٤).
_________
(^١) انظر «تاريخ مصر» (١/ ٤٤).
(^٢) أخرجه البَيْهَقِيُّ في «المناقب» (٢/ ٣٥٧).
(^٣) انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٢/ ٤٩٥).
(^٤) انظر «الطبقات» (٢/ ٩٥).
المقدمة / 28