قد استفاق أخيرا هرقل من رقاد غفلته، وفي سنة 622 عزم على محاربة الفرس، فمضى أولا إلى أرمينيا وظهر على الفرس في مواقع كثيرة، ثم سار إلى بلاد فارس، وتوغل فيها وفتك بجيش كبير بها واستمر يغالبهم في بلادهم وجوارها ست سنين، وفي سنة 626 قسم كسرى رجال حربه إلى ثلاثة جيوش: أرسل أحدها يحاصر القسطنطينية، والثاني إلى أرمينيا فانتصر عليه توادوروس أخو الملك هرقل وبدد شمله وأبقى الثالث عنده، فزحف هرقل من نينوى إلى قسطفون ففر كسرى أمامه، وعرض عليه في سنة 628 الصلح فأباه، وسلط الله شيرويه ابن كسرى عليه، فقتل أباه وراسل شيرويه بن كسرى هرقل بالصلاح على أن يرد إليه جميع النصارى الذين كانوا أسرى في بلاده، وفي جملتهم زكريا بطريرك أورشليم، وخشبة الصليب المقدس، فانعقد الصلح بينهما على ذلك سنة 628 وعاد هرقل ظافرا غانما إلى القسطنطينية وأتى سنة 629 إلى أورشليم؛ ليشكر الله على ما قيض له من النصر ويرد ذخيرة خشبة الصليب إلى محلها، وكانت قد بقيت في صوانها كما أخذت وتفحص البطريرك وكهنته ختومها، فإذا هي سالمة لم تفض، وطرد هرقل اليهود من أورشليم وأمر أن يستمروا بعيدين عنها ثلاثة أميال، وفي أيام هرقل كان فتح المسلمين لسورية، وسنتكلم عن ذلك في المقال التالي.
المقال الرابع
في تاريخ سورية في أيام الخلفاء
الفصل الأول
تتمة تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع
(1) في فتح العرب المسلمين سورية
في سنة 633 أخذ العرب المسلمون يشنون الغارة على سورية، وكان الخليفة حينئذ أبا بكر الصديق، فبعث جيشا أمر عليه أسامة، وأغار على ناحية البلقاء فسبى، وغنم فتهايج العرب برؤية هذه الغنائم لفتح سورية، وتألب جم غفير منهم، وأمر أبو بكر أبا عبيدة عليهم، وأمده بخالد بن الوليد وبعث عمرا ابن العاص إلى فلسطين، ولما علم هرقل ملك الروم بذلك أتى إلى دمشق، وبعث سرجيوس والي قيصرية بخمسة آلاف جندي ليوقف العرب عن المسير، فسحقوا جنوده القلائل وأخذوه أسيرا وحاصروا اليرموك، وكان عسكر المسلمين نحو أربعين ألفا وجيش هناك هرقل نحو مائتي ألف، وبعد وقائع شهيرة استظهر المسلمون وتبدد عسكر الروم، وأتى الغزاة فحاصروا دمشق، فجمع هرقل كل الحامية التي كانت في مدن سورية، وأمر على هذا الجيش أخاه توادورس فبدد شمله الغزاة المسلمون، وشددوا الحصار على دمشق وقوادهم أبو عبيدة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، فخرج أهل دمشق وبذلوا الصلح لأبي عبيدة، وفتحوا له الباب فأمنهم، ولكن دخل خالد بن الوليد من جهة أخرى عنوة والتقيا في وسط المدينة، فخير أبو عبيدة أهل المدينة أن يبقوا فيها مسلمين، أو أن يؤدوا الجزية صاغرين أو يرتحلوا عنها في مدة ثلاثة أيام، فارتحل بعضهم وأقام بعضهم ...
وكان فتح دمشق سنة 635 في خلافة عمر بن الخطاب، ومضى أبو عبيدة بجيشه إلى حمص فاستسلم أهلها إليه وأدوه الجزية، وكذلك فعل أهل حماة وقنسرين وبعلبك، وكان الغزاة يعاملون الأهلين بالرفق واللين حتى خلع أهل بعض الأعمال ولاتهم، واستسلموا إلى الظافرين، ومضى جيش المسلمين إلى أورشليم سنة 626 فحاصروها ودام الحصار نحوا من أربعة أشهر، ولما لم ير الأهلون من منجد عولوا على التسليم، وشرطوا أن يكون على يد الخليفة عمر بن الخطاب فأتى متواضعا مستصغرا، وكان بطريرك أورشليم حينئذ صفرونيوس اللبناني، فأحبه الخليفة وأبرم معه شرائط الصلح التي كانت مثالا لكل صلح جرى بعده، ودخل الخليفة بعد التوقيع على شرائط الصلح إلى المدينة وطاف في الكنائس وبجانبه البطريرك صفرونيوس، وحان وقت الصلاة في كنيسة القبر المقدس، فخرج منها الخليفة وصلى خارجا، فسأله البطريرك لم لم يصل في الكنيسة؟ فأجابه: «لئلا يأتي المسلمون بعدي ويقولون: هنا صلى عمر ويأخذون كنيستكم.» واختار محل هيكل سليمان وبنى فيه جامعا للمسلمين، وهو المعروف بالجامع الأقصى.
وقسم عمر سورية إلى قسمين، فولى أبا عبيدة على كل البلاد التي بين حوران وحلب، وأمره بتكملة الفتح، وولى يزيد على فلسطين وشواطئ البحر ... وأعد عمرا ابن العاص لغزوة مصر بعد فتح سورية فاستحوذ جنوده على السامرة ونابلس واللد ويافا، وسائر مدن فلسطين، ثم جمع يزيد وأبو عبيدة جنودهم، ومضوا لحصار حلب فخرجت حاميتها فهزمهم العرب، فراسل الأهلون يزيد وأبا عبيدة واستسلموا إليهما، فقتل الوالي كثيرا من الأهلين، وعزم أن يحارب المسلمين، فوفد حينئذ خالد بن الوليد فهاجم المدينة، وافتتحها وحصر الوالي والحامية في قلعة حلب، فاستمروا يدافعون أربعة أشهر، فأسلم الوالي وكثيرون من الجنود، ثم أخذوا قلعة عزاز وزحفوا إلى أنطاكية فخرج واليها للقائهم وتسعرت نار الحرب، فظهر جيش المسلمين عليه وقتلوا من جنوده كثيرين وتشتت الباقون واستحوذ المسلمون على المدينة، ولم يبق من مدن سورية الحصينة إلا قيصرية فلسطين، فسار إليه عمرو بن العاص بجيش كثيف، وكان قسطنطين بن هرقل بأسطول في مرفئها وأحب أن يقابل أمير جيش المسلمين، فأجابه عمرو إلى ذلك وقال له: «لكم وسيلتان للنجاة: إما أن تسلموا وإما أن تخضعوا وتؤدوا الجزية.» فقالوا: «نحن في غنى عنهما.» فأجابهم: «الحرب إذا فاصلة.» وحمي وطيسها، فذعر الروم وانسل قسطنطين إلى سفنه وأقلع بها إلى القسطنطينية.
وسار أبو عبيدة إلى اللاذقية ففتحها عنوة، وفتح جبلة وطرطوس، وسار يزيد بن أبي سفيان ففتح صيدا وبيروت وجبيل وعرقا فتحا يسيرا، وجلا كثيرا من أهلها، على أن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر فقصدهم معاوية ففتحها ورمها وشحنها بالمقاتلة، وعلى هذا النحو استحوذ الخلفاء على أكثر مدن سورية من سنة 633 إلى سنة 638، وعلى قول بعضهم إلى سنة 642، ولم نر في تواريخهم أنهم استحوذوا على لبنان أو حاربوا فيه ... فالظاهر أن صعوبة مسالكه وقلة النفع من أرضه أو التجارة فيه أوقفتهم عن الاستحواذ عليه، وروى السمعاني في مكتبة الناموس أنهم ولوا عليه بعد الفتح واليا مسيحيا. (2) في خلاصة ما كان بسورية في أيام الخلفاء الراشدين إلى خلافة معاوية
Shafi da ba'a sani ba