Muhalhil Sayyid Rabica
المهلهل سيد ربيعة
Nau'ikan
في تلك الأيام الجاهمة الساكنة كان شابان اثنان لا يعبآن بشيء مما يفكر فيه الشيوخ، ولا يباليان شيئا مما يصل أسماعهما من ثورة جساس. وكانا صديقين شبا معا وتقاسما حياة النعيم في أكبر بيتي ربيعة. نشآ في سلام لم يعرفا مآزق الحروب، وفي بحبوحة من العيش لم تلجئهما ضرورة إلى كبح النفس عن لذات الحياة. وكانا جميلين ناعمين تركهما الأهل للهو، فلم تكن بهما حاجة إلى الجد، واكتفى الشيوخ بأن يتحدثوا فيهما وأن يتهكموا بانصرافهم إلى اللذات، وعنفوا عليهما في الأحاديث، ولكنهما لم يباليا من ذلك شيئا، فما كان يضرهما أن يسمعا رأي الشيوخ فيهما؛ إذ كان ذلك أبعث لهما على المرح والاستهتار بالمجون.
كان أحدهما عدي - المهلهل بن ربيعة - الذي كان أخوه كليب يسميه زير النساء تهكما وسخرية، وكان الآخر همام بن مرة أخو جساس.
ترك الصديقان الشابان منازل الحي الساكنة الجاهمة، واعتزلا في روضة من الرياض عند رأس واد صخري ضيق تنحدر جوانبه في درجات وعرة، تجري من فوقها جداول من مياه المطر المجتمعة عند رأسه، وكانت المياه في هبوطها على الجوانب الصخرية تهمس في خرير رقيق يشبه وسوسة أوراق الأغصان إذا هزها النسيم. كانت السفوح مخضرة تكسوها خصل متفرقة من أعشاب بارضة وشجيرات قصيرة أحياها الموسم المطير.
وأعد الصديقان ليومهما عدته من خمر وفاكهة وطعام، ورياحين من زهور العرار العطرة البيضاء ذات الحدقة الصفراء، وبعثا إلى فتيات من خليعات القبائل ليؤنسنهما في المنادمة على الشراب كما اعتادا في مجالسهما؛ إذ كانا لا يرهبان أن يتحدث عنهما الناس، فما كان ذلك عنهما بالحديث الجديد.
وبقيا في مجلسهما إلى أن تصرم النهار، وهب النسيم باردا يؤذن باستطالة الظلال، واضطربت غصون الأشجار، وتمايل سعف النخلات ودارت الخمر بهما فاضطجعا، ومالت النسوة حولهما يتهاتفن بضحكات وسنى. ولكن زقاق الخمر كانت في وسط جمعهم بعضها ممتلئ وبعضها مفشوش، ولا يزالون يملئون منها كأسا بعد كأس، وهم كلما شربوا منها زاد بهم الظمأ وطلبوا المزيد. وفيما هم في ذلك لاح لهم قادم من أسفل الوادي، فنظرت إحدى النساء إليه وقالت ضاحكة بلسان متلعثم: «هذا ضيف كريم!»
فنظرت أخرى نحوه وهمت قائمة وهي تقول: «ما رأيته مرة إلا كرهت الرجال.»
فجذبتها أخرى وهي ضاحكة في خلاعة وهي تقول: «لنسقينه معنا حتى يلين، فإنا لا نعرف الانهزام.»
وعلت الضحكات من الجميع حتى سمعها القادم وهو يعلو فوق جانب الوادي الصخري متكئا على رمحه، فرفع نحوهم رأسه فرآه الجالسون، وصاح همام في شيء من الفزع: جساس!
فضحك مهلهل وقال: إنك لترهبه رهبة لا تحمل مثلها لأبيك مرة.
فضحك النساء وقالت إحداهن: وحق مناة لو جاء مرة إلى هنا لأبلن لحيته من هذا الزق حتى تعود صفراء!
Shafi da ba'a sani ba