Muhalhil Sayyid Rabica
المهلهل سيد ربيعة
Nau'ikan
قال مرة يحاول تهدئة ولده: «وأنا كذلك لا أفرط في جارك، سأرعى ناقته مع إبلي.»
فقال جساس غاضبا: «لا بل ترعى مع إبلي، والويل لمن تعرض لها.»
ثم خرج من البيت غاضبا، فذهب ولم يرجع، ولم يعرف أحد أين قضى ليلته.
وجعل مرة يخفف من خوف ابنته ويهدئ من روعها، وجلس يحادثها ويضاحكها، وهو ثقيل القلب يتوجس خيفة مما قد يجره عليه نزق ولده، فلما اطمأنت جليلة إلى وعود أبيها قامت لتعود إلى بيتها، وخرج أبوها معها ليؤنسها في ظلمة الليل، حتى إذا بلغ قبة كليب العالية، تركها عند المدخل وعاد إلى بيته، وكان الهم يملأ قلبه، من توقع ما يكون بين ابنه وبين زوج ابنته.
الفصل الثالث
مضت أيام كانت منازل بكر وتغلب في أثنائها لا تظلل إلا وجوها جاهمة عابسة ، وكانت الأندية خالية لا يتبادل فيها الشيوخ الهمسات، ولا توقد في وسط براحها النيران، قد شغل الجميع هاجس من توقع الفرقة بين أبناء العم الذين عاشوا معا في ربوع تهامة واليمامة سنين متصلة يتقاسمون العيش في سراء وضراء، ويتعاورون المروج في رعيهم وصيدهم، تجمعهم جميعا ذكريات الجهاد المشترك مع عدوهم من ملوك اليمن وقبائله. فإن الصيحة التي صاحها جساس لم تكن إلا صدى لما في قلوب شباب بكر جميعا.
كان الشيوخ إذا أحسوا من كليب طغيانا طووا ما أحسوه تحت الصمت العميق وشفعوا سابق فضله. كانوا يحسون أن كليبا قد أطغاه الملك وأبطره ما يلقاه به قومه من التبجيل والتكريم، ولكنهم كانوا كلما ثارت نفوسهم من طغيانه تذكروا سابق الذلة الي كانوا يئنون تحت أعبائها عندما كانت قبائل اليمن تتحكم في أرضهم، فيؤثرون الذلة لابن العم ويصبرون على كبرياء كليب وعسفه، فإن ذلك لا يجرعهم من الغصص مثل ما كانت تجرعهم وطأة حكم الغريب. ولكن جساسا صاح صيحته وتلقفها من ورائه الشبان ممن لم يعانوا حكم قبائل اليمن، ولم يشهدوا عسف أقيالهم وجور ملوكهم. لم ير هؤلاء الشبان كيف كانت شيوخهم تقتل وتسجن، ولا كيف كانت أموالهم تسلب، ولا كيف كانت حرماتهم تستباح. لم يشهدوا شيئا من ذلك، وكان كل ما شهدوه هو كبرياء كليب واستئثاره بالسلطان دونهم وحماية الوحش من صيدهم.
فلما سمع هؤلاء الشبان صيحة جساس اهتزوا لها ورددوها فيما بينهم، لا يبالون أن يضرموا في قبائل ربيعة نارا لا تطفئها إلا الدماء السائلة بين بني الأب والأم. فكان الشيوخ كلما سمعوا صيحاتهم أشفقوا وجزعوا مما يحمله الغد من كوارث تفجعهم في الولد والحميم، وفي النفس والمال. لقد طالما عركوا الحروب وخاضوا غمارها، وما كانوا ليخفوا إليها إذا استطاعوا إلى تجنبها سبيلا. لقد عمهم السلام ودرت لهم الأخلاف وأمرعت لهم المروج، واستقرت السيوف في أغمادها، إذ هابتهم قبائل العرب جميعا وتحامت عداوتهم وتركتهم يستمتعون بثمار النصر الباهر الذي كان رمزه وصاحب علمه كليب؛ وائل بن ربيعة.
كان الشيوخ يشفقون أن يستبدلوا بذلك السلام وهذا الرخاء حربا، تستنزف دمائهم وتخرب عمرانهم وتضيع ما حازوه من أموال؛ ولهذا قضوا تلك الأيام التي أعقبت صيحة جساس واجمين، كل منهم منطو على نفسه يفكر فيما هو صانع بنفسه وفيما هو محتال فيه مع بنيه وحفدته من أولئك الشبان الأغرار الذين لا يكتمون ما في نفوسهم ولا ينظرون في أعقاب نزواتهم.
ولكن الأمور لم تقف؛ فإن قلب جساس كان يغلي من غيظه وحقده، فلم يدع له اطمئنانا في صباح ولا مساء، بل كان يدفعه ويثور به فلا يزال يضرب في النجوع ليلم بكل فتاك من الشبان يحرضهم وينقل إليهم ما لم يبلغهم من أنباء عسف كليب. فصار لا يأوي إلى منازل أهله إلا الساعات القلائل في طويل الأيام، فإذا آوى إليها لم يرتح إلى حديث أحد ولم يرتح أحد إلى حديثه؛ إذ استبدت بخياله صورة واحدة، صورة كليب وهو يرفع رأسه عليه شموخا وينظر إليه ساخرا باسما، كأن السيد يأمر بعض عبيده ويشير إليهم بإصبعه فلا يسعهم إلا أن ينحنوا وأن يطيعوا.
Shafi da ba'a sani ba