Bayanin Yarinya Mai Suna Su'ad
مذكرات طفلة اسمها سعاد
Nau'ikan
وكانت جدران بيت جدها مغطاة بالصور، تعرفت في إحداها على صورة الخديوي؛ لأنها تشبه صورته في كتاب التاريخ، وتأكدت حين رأت الصورة أن الخديوي أخذ العزبة فعلا، وأنه كان صديقا للأسرة وإلا فلماذا يعلقون صورته في البيت؟ ورأت ضمن الصور أيضا صورة سعد زغلول، وحكت هذا أيضا لزملائها في المدرسة وهي تشعر بالزهو.
كانت دائمة البحث عن قصص تحكيها لزميلاتها حتى تشعر أنها أفضل منهن، فقد كانت تحس دائما أنها أقل منهن، وأنهن أكثر منها ذكاء، وأقدر منها على حفظ الدروس، ولم تكن كل تلك القصص عن أجدادها وأمجاد أسرتها تصنع شيئا، وإحساسها بأنها أقل من غيرها مكتوم في صدرها، عميق يؤلمها، وأشد ما يؤلمها إحساسها بأنها أقل من أخيها الأصغر مصطفى، وكثيرا ما سمعت أمها تقول إن مصطفى ذكي جدا، وأبوها كان يقول دائما إن مصطفى ورث الذكاء عنه، لأنه كان دائما أول فصله مثل مصطفى.
ولم يكن أبوها يقول صراحة إن مصطفى أذكى منها لكنها كانت تحس من نظراته وهو ينظر إليهما أنه يقارن بينها وبين أخيها وأنه معجب بأخيها، وغير معجب بها، وإعجابه بأخيها لا يساويه إلا عدم إعجابه بها، وتكبت المرارة والألم في نفسها، وتتظاهر بأنها لم تفهم نظرات أبيها، وقد تشترك مع أبيها في الإعجاب بذكاء أخيها، وبالفرح بهذا الذكاء، ولم تكن في الحقيقة تشعر بأي فرح، واشتراكها مع أبيها في مدح أخيها يبدو لها كالاعتراف الضمني بأن أخاها أفضل منها، وهو اعتراف لا تفصح عنه لكنه يشعرها بالإهانة المضاعفة، فكأنها تشترك مع أبيها في عدم الإعجاب بنفسها، وتشعر بالضيق لأنها تكذب لترضي أباها وتوافقه على رأيه، وإن كان هذا الرأي ضد نفسها، هذه النفس التي أصبحت تحتقرها لأنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها وإبداء رأيها الحقيقي.
وكان رأيها الحقيقي أنها لا تحب أخاها، وكلما زاد إعجاب أمها وأبيها به زادت كراهيتها له، وكانت ترى في عيني أخيها نظرة لا تعجبها، فالمفروض أنه أصغر منها بأربعة أعوام، لكنه لا يعاملها كأخت كبرى، «والأخت الكبرى» لقب محترم يعوضها عن شعورها بأنها أقل منه، وتردد أمامه دائما أنها الأخت الأكبر وللأخت الأكبر الاحترام، لكن أخاها مصطفى لم يكن يهابها ويثبت عينيه في عينيها كأنه يتحداها، ويغلي الدم في عروقها غضبا وتضربه، وتحس وهي تضربه أنه أقوى منها، ويتفوق عليها جسدا، ويزيدها هذا الشعور من إحساسها الدفين بأنها أقل منه.
وتعلقت سعاد بجدتها؛ لأنها كانت تعلن دائما في الصالة الواسعة حيث تجلس عن إعجابها بها، وعدم إعجابها بخالها حسنين الذي تقول عنه إنه شاب طائش يضيع فلوسه في الذهاب إلى السينما والمشي مع البنات، ولم تعرف أول الأمر لماذا تعجب بها جدتها، لكنها قالت إنها معجبة بها لأنها تواظب على الصلاة، أما خالها حسنين فهو لا يصلي ولا يصوم ولا يعرف ربنا، وقد ورث أخلاق المرحوم أبيه، وسوف يعاقبه الله ولن يفتح عليه أبدا لأنه لا يطيعها، وقالت لها جدتها إنها ورثت ملامح أمها، وليس خالها حسنين والحمد لله، وحذرتها من أن تقلد خالها أو تجلس معه في حجرته حين تأتي له صديقاته البنات، وأمها وأبوها أيضا حذراها، ونصحها أبوها أن تغلق حجرتها على نفسها وتذاكر، ولا تضيع وقتها بالذهاب إلى السينما، فالسينما تفسد الأخلاق وقد حرم الله الفساد وحرم علاقة الرجل بالمرأة إلا بعد الزواج.
وكانت سعاد قد أصبحت تسمع كلام أبيها وتصدقه وتطيعه بغير مجهود أو تفكير، فأبوها هو الذي يعرف مصلحتها وهي لا تعرف مصلحتها كما قال لها أبوها دائما، وأبوها هو الذي ينفق عليها، وهي لا تستطيع أن تعيش بغير أب ينفق أو بغير بيت أو أسرة، فالحياة واسعة والناس الأشرار كثيرون، والليل مظلم ومليء باللصوص والقتلة، والعباسية مدينة كبيرة ضخمة ليست مثل دسوق، ولا تعرف من شوارعها الكثيرة إلا الطريق من البيت إلى المدرسة، وحين تسير في الشارع وحدها تحس أنها غريبة ولا أحد يعرفها ولا هي تعرف أحدا، وتخاف من الخروج وحدها بالليل، وتتعجل إجازة العيد لترى أمها وأباها وأختها وأخاها، وقد أصبحت تحبهم كلهم وهم يحبونها ويكتبون إليها رسائل يقولون فيها إنهم يشتاقون لرؤيتها، أما العباسية فلا أحد فيها يشتاق لرؤيتها في البيت أو في المدرسة، وشوارعها غريبة ومجهولة ومملوءة بوجوه مجهولة، ولا بد من بينهم لصوص ونشالون، ومملوءة أيضا بالفساد من سينما ورجال وخمر وملاهي حرمها أبوها والله وأمها وجدتها جميعا، وليس أمامها إلا أن تغلق عليها باب حجرتها وتذاكر وتواظب على الصلاة ليحميها الله من كل مكروه كما نصحها أبوها.
وأصبحت تحب الإجازات الطويلة لتسافر إلى دسوق، فإجازة الصيف أطول إجازة وتفضلها على الجميع، وإجازة العيد الكبير أفضل من إجازة العيد الصغير لأنها أطول منها، كما أن مشاهدة الجزار وهو يذبح خروف العيد لها عندها متعة أكثر من مشاهدة أمها وهي تصنع الكعك قبل العيد الصغير، وصلاة العيد تهز قلبها، وذلك الدعاء الذي تتفتح أذناها فجر العيد عليه، وصوت الآلاف يهتفون في صوت واحد: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ... ويد أبيها تمتد لها بمصروف العيد، أكبر من أي مصروف في أي يوم، وترتدي الحذاء الجديد والفستان الجديد، وتخرج إلى الشارع مزهوة بين بنات أولاد الجيران، وتشتري بالمصروف كله زمامير وبمب وبالونات ملونة.
إلا أن أكثر ما كان يثيرها تلك اللحظة التي يهوي بها الجزار على عنق الخروف، ويندفع الدم الغزير كالنافورة فوق بلاط الحمام، والأقدام الأربعة من الجسد تنتفض وتتقلص بشدة، وعينا الخروف الواسعتان مفتوحتان تنظران إليها في ألم وحزن وعتاب، كأنما يقول لها: لماذا لم تقولي لي إنهم سيذبحونني وأنت تطعمينني البرسيم؟ هل تآمرتي معهم ضدي مع أنك كنتي تربتين على ظهري؟
ويتلاشى الفرح من قلب سعاد، وتحس قلبها ثقيلا وبهجة العيد تتبخر، ولحم الخروف الذي تحمره أمها في السمن ثقيل في معدتها، تأكله بغير فرح، وترى وهي تأكله عيني الخروف تنظران إليها في حزن وتساؤل: لماذا يذبحونني؟
ولم تكن تعرف الإجابة على هذا السؤال، فسألت أباها، وحكى لها أبوها قصة سيدنا إبراهيم الذي فاجأه الله ذات يوم بأمر غريب لا بد أن يطيعه على الفور دون أن يسأل أو يناقش، فأوامر الله تطاع ولا تناقش، وليس على الإنسان أن يعرف أسبابها وحكمتها، فالله له حكمته التي تعلو فوق عقل الإنسان، وكان الأمر الذي تلقاه سيدنا إبراهيم هو أن يذبح ابنه إسحاق بسكين فوق الجبل، وساق إبراهيم ابنه إلى الجبل ليذبحه ...
Shafi da ba'a sani ba