Bayanin Yarinya Mai Suna Su'ad
مذكرات طفلة اسمها سعاد
Nau'ikan
وتوقفت عن السير، فالتفت إليها أبوها وقال لها: أسرعي وإلا فاتنا القطار.
وفي القطار لم تبهجها حركة أعمدة السواري وهي تتراجع إلى الخلف، ولم تفرحها حركة القطار السريعة، كانت تحس أن القطار يحملها بعيدا عن أمها بسرعة جنونية، وهي تحب أمها رغم كل شيء، ورغم أنها أصبحت تطيع أباها طاعة عمياء وتقف معه ضدها، لكنها تحس أنها تحبها، وتحزن لفراقها إلى حد البكاء، وهي تحزن لفراقها أيضا لكنها لا تبكي مثلها، ولا يجوز لها أن تبكي مهما حدث، لقد كبرت ولم تعد تبكي كما كانت تفعل وهي صغيرة، وقلبها كان صغيرا يتأثر بسرعة ويتألم بسرعة، أما الآن فقد كبر قلبها وتحجر ولم يعد يؤلمها شيء.
وابتلعت دموعها وهي جالسة إلى جوار أبيها في القطار، وأبوها كان صامتا، وظل صامتا حتى وصلا إلى بيت جدها في العباسية، ورأت جدتها جالسة في الصالة بثوبها الأسود، وانفرجت شفتاها حين رأتهما وقالت بصوت منخفض: أهلا وسهلا، ورد أبوها قائلا: أهلا بك، ودب الصمت مرة أخرى، وجاءت خالتها ترتدي ثوبا أسود وقالت بصوت منخفض حزين: أهلا وسهلا، ورد أبوها قائلا: أهلا بك، ودب الصمت في الصالة الواسعة.
بعد أن شرب أبوها القهوة قال إنه سيعود إلى دسوق، وقالت جدتها بصوتها المنخفض: لماذا لا تبيت الليلة هنا وتسافر في الصباح؟ وقال أبوها إن عنده عمل في الصباح ولا بد أن يسافر الليلة، ونهضت جدتها وصافحته، وصافحته خالتها أيضا، وأقبل أبوها نحوها ومد لها يده وهو يقول: سأعود إلى دسوق يا سعاد وأتركك هنا في رعاية جدتك وخالتك، وأود أن أسمع عنك منهما كل خير وأنك تذاكرين ولا تضيعين الوقت.
وظل أبوها ممسكا يدها، وهم بأن يعانقها، لكنه لم يفعل، وارتعشت عضلة صغيرة تحت أنفه وأدركت من عيني أبيها أنه يكبت في أعماقه شيئا يشبه الحب، كأنما هو يحبها حقيقة، لكنه يخجل من أن يظهر هذا الحب لنفسه أو للآخرين.
وترك أبوها يدها واستدار ليخرج من الباب، ورأت ظهره تشوبه انحناءة خفيفة لم ترها من قبل، وهمت بأن تجري وراءه وتقول له: لا تتركني، لكنها خجلت من نفسها، فهي لم تعد طفلة، وكل من يراها يقول إنها كبرت وأصبحت فتاة كبيرة.
وظلت عيناها متعلقتين بظهر أبيها حتى هبط السلم وخرج من باب الحديقة، واستدار أبوها قبل أن يختفي ولوح لها بيده، فرفعت يدها ولوحت له بقلب ثقيل، ثم استدارت ودخلت إلى الصالة حيث رأت جدتها جالسة وظلت واقفة إلى جوارها لا تعرف ماذا تفعل، إلى أن سمعت صوتها المنخفض يقول لها: تعالي يا سعاد اجلسي إلى جواري، لماذا أنت واقفة هكذا؟
قبل أن تنام تلك الليلة جلست جدتها إلى جوارها وراحت تحدثها عن أيام زمان، قالت إن جدها كان رجلا غنيا، وكانت له عزبة كبيرة، والخديوي إسماعيل كان صديقا حميما له، لكن هذه الصداقة جلبت لهم الفقر، فالخديوي كان مسرفا وفاسدا إلى حد الإفلاس والاستدانة من أصدقائه الأثرياء، ومنهم جدها الذي باع عزبته وأقرض الخديوي ثمنها كله، ولم يأخذ منه إلا ورقة صغيرة على شكل إيصال، ولم يرثوا عن جدها إلا هذا الإيصال الذي حفظوه في درج له قفل، بأمل أن يخرجوه يوما ويطالبون بحقهم.
عرفت سعاد من جدتها أن الإيصال لا زال موجودا في أحد الأدراج في بيت أحد رجال أسرتها، وأن الأمل في استرداد العزبة لا زال موجودا عندها، فهي تثق أن الله عادل ولن يتخلى عن حق عباده أبدا، وهي سوف ترث حقها في العزبة، وبعد أن تموت سوف ترث أمها نصيبها بالكامل، وتنهدت جدتها وهي تقول لها: وبعد عمر طويل، وبعد أن تشبع أمك من الدنيا سوف ترثين أنت نصيبك بعد وفاتها يا سعاد.
كانت سعاد قد بلغت الحادية عشرة من عمرها، وقد سمعت من قبل مثل هذه القصة من أمها ، وشعرت بنوع من الزهو والغبطة لأنها تنتمي إلى أسرة غنية بهذا الشكل، وحكت لزميلاتها في المدرسة عنها، وأن الخديوي اقترض أموال أجدادها، ومعنى ذلك أنهم كانوا أغنى من الخديوي، وعرفت من التاريخ أن الخديوي كان جد الملك، فازدادت زهوا وخيل إليها أنها في مستوى الملك بل ربما أفضل منه؛ لأن جد الملك استدان من جدها، لكن جدها لم يستدن من أحد.
Shafi da ba'a sani ba