وأجاب المستر سنودجراس: «هذا حق وصدق يا سيدي.» واستطرد الرجل التعس حديثه قائلا: «إن الوقوف أمام الأضواء الأمامية على المسرح هو كالجلوس في بلاط عظيم، ومعرض بديع، والإعجاب بالثياب الحريرية التي يرتديها السادات فيه والغيد، أما المجلس من تحتهم، فذلك مكان الشعب الذي صنع ذلك الرواء، وأحدث ذلك البهاء، ولكنه ترك مهملا مجهولا، لا يعنى أحد به، ولا يأبه إنسان بمعرفته ... ترك ليغرق أو يعدم، ليهلك جوعا أو يحيا، كما تشاء الحظوظ وتريد المقادير ...»
وهنا قال المستر سنودجراس، وكانت عين الرجل التعس مستقرة عليه، فلم يكن بد من أن يقول شيئا: «بلا شك.»
وقال السائل الأسباني: «امض في حديثك يا جيمي كسوزان السوداء العين ... الكل في البادية ... لا نقيق ... تكلم بوضوح، وتهلل، وأبد مرحا.»
وقال المستر بكوك: «هل لك في كأس أخرى قبل أن تبدأ القصص يا سيدي؟»
فما كان من الرجل التعس إلا أن قبل هذا العرض، ومزج لنفسه كأسا من البراندي بالماء، واجترع في رفق نصفها، ونشر الأوراق الملففة بين يديه، وبدأ يقص القصص، بين تلاوة من الأوراق وسرد من غير أوراق.
وكانت القصة التالية هي قصته، كما سجلت في محاضر النادي بعنوان: «قصة الممثل المتجول».
قصة الممثل المتجول
ليس فيما أنا قاصه عليكم شيء عجاب، ولا أمر غير مألوف، فإن الحاجة والمرض ليسا غريبين في كثير من شئون الحياة، غرابة تستحق من التنويه أكثر مما تستحقه عادة تقلبات الطبيعة البشرية وتغيراتها المألوفة، وقد جمعت هذه الملاحظات معا في ورق مكتوب؛ لأني عرفت المرء الذي تتصل به حق المعرفة منذ عدة سنين، وجعلت أتابع شقاءه خطوة خطوة، وهو يهوي، حتى بلغ في النهاية حدا متناهيا من العوز والإدقاع، لا قيام له إلى الأبد منهما.
كان الرجل الذي أتحدث عنه ممثلا فقيرا من ممثلي المسرحيات الإيمائية الصامتة، وكان كخلق كثير ممن هم في مركزه وطبقته سكيرا مدمنا، وكان في أيامه النضرات قبل أن يوهن منه الإسراف في الملذات، ويحط السقام عليه، يتقاضى مرتبا حسنا، لو أنه انتهج سبيل الحرص والحكمة والقصد لظل يتقاضاه بضع سنوات، ولكنها ليست سنوات كثيرة على أية حال؛ لأن أمثاله يموتون في نضارة العمر، أو يفقدون قبل الأوان باستنفاد قواهم الجسدية استنفادا غير طبيعي، الملكة الوحيدة التي يعتمدون عليها في كسب أقواتهم وسداد أرماقهم، وقد أسرف على نفسه، وأمعن في آثامه، حتى أصبح من المحال أن يستعان به في الأعمال التي كان فيها نافعا فعلا للمسرح، فقد كان للحانة جاذبية لم يستطع مغالبتها، وكان المرض الذي يسوقه الإهمال، والفقر الذي لا أمل في النجاة منه، نصيبه المحقق كالموت ذاته إذا هو استمر ولم ينته، وثابر ولم يرعو، وقد استمر وثابر فعلا، فكانت النتيجة معروفة، وهي العجز عن الظفر بعمل، وهو يطلب القوت ويحتاج إلى الخبز.
ولا يجهل أحد ممن عرفوا المسرح، وكل ما يتصل به، كثرة الذين يترددون عليه من الفقراء والكدورين، والبادين في الثياب الناحلة الألوان، وما هم بممثلين يعملون فيه بانتظام، ولكنهم يشتركون في المراقص أو المواكب التي تشاهد في بعض الروايات أو البهلوانات، والمهرجين ومن إليهم ممن يستعان بهم في إخراج مسرحية «صامتة»، أو قطعة بمناسبة عيد الفصح، ثم يفصلون حين تنقطع الحاجة إليهم، وريثما يستوجب إخراج مشاهد حافلة، وروايات ضخمة، العودة إلى استئجارهم، وإلى هذا الأسلوب من العيش اضطر الرجل إلى الالتجاء، وكان يجلس كل ليلة مجلس الرياسة ببعض دور التمثيل الصغيرة، فيصيب منها بضعة شلنات أخرى في الأسبوع، تيسر له إرواء غلته ومعاودة كئوسه، ولكن هذا المورد أيضا لم يلبث أن انقطع، فقد كثرت تصرفاته الشاذة، إلى حد لم يعد معه في الإمكان أن يصيب الأجر الزهيد الذي كان ممكنا أن يصيبه، حتى بلغ فعلا حدود الجوع، ولم يعد يظفر بغير قدر تافه من المال أحيانا يستعيره من زميل قديم، أو يأتيه من الظهور على المسرح في أحقر دور التمثيل، فإذا أصاب شيئا، أنفقه في الخمر ديدنه القديم.
Shafi da ba'a sani ba