وهنا زفر الشيخ، وكاد الفالج يقدح في ساقيه من نكر هذا الاعتراف، وصاح به قائلا: «ماذا تقول أيها الشقي، الماخط الأنف، المعوج الوجه، الناقص النمو؟ ماذا تعني بهذا؟ قل هذا في وجهي لكي أخنقك خنقا.»
وأكبر الظن أن الشيخ لوبز كان سيخرج ذلك الوعيد مخرج التنفيذ في فورة غضبه، لولا أن أمسك بذراعه شبح تراءى فجأة أمامه، ونعني به ابن عم مرايا ذاته، فقد خرج من محبسه، وتقدم نحو الشيخ قائلا: «لا أستطيع أن أسمح يا سيدي بأن تقع التبعة عن خطأ أنا الذي اقترفته - إن صح أن يدعى ما فعلته خطأ، وأنا على استعداد للاعتراف به - على هذا الشخص العاجز عن الأذى الذي دعي إلى هنا، بحيلة بريئة من حيل البنات، إنني أحب ابنتك يا سيدي، وأنا هنا لكي أجتمع بها.»
وفتح الشيخ لوبز عينيه على سعتهما حين سمع هذا القول، ولكن عيني نثنايل بيبكن كانتا أكثر سعة، وأرحب حدقا.
وقال الشيخ أخيرا حين تمالك أنفاسه اللاهثة: «أأنت الذي فعلت؟» - «نعم، أنا الذي فعلت.» - «بعد أن منعتك من دخول هذا البيت منذ زمن بعيد.» - «نعم، أنت منعتني، ولولا ذلك لما جئت إلى هنا سرا في هذه الليلة.»
وإني لآسف أن أقرر هنا أن الشيخ كان سيهم بالانقضاض على الفتى، لولا أن تعلقت ابنته الحسناء بذراعه، والدموع تنهمر من عينيها البراقتين.
وقال الفتي: «لا تمنعيه يا مرايا، فإن كان يريد أن يضربني فدعيه، فلن أمس شعرة واحدة من رأسه الذي علاه المشيب، ولو أوتيت ما في الأرض من ثراء.»
وأطرق الشيخ خجلا من هذا العتاب، والتقت عيناه بعيني ابنته، وقد ألمعت من قبل مرة أو مرتين إلى بريق هاتين العينين، ولكني هنا أقرر أن سلطانهما رغم اغروراقهما بالعبرات، لم يقل ولم ينقص شيئا، وأشاح الشيخ بوجهه، كأنما يتحامى من فتنتهما، وإذا هو بمحض المصادفة يلتقي بوجه تلك الصغيرة الماكرة، وكانت من خوفها على أخيها، وضحكها من نثنايل بيبكن قد أبدت من سحر محياها، وفتون مكرها، وحيائها كذلك، ما لا يقوى أي رجل - سواء أكان شيخا أم شابا - على مغالبته، وراحت تدخل في دلال ودعابة وإغراء ذراعها في ذراع الشيخ، وتهمس له كلاما في أذنه، فلم يسع لوبز - وهو حيالها العاجز المستكين - إلا أن ابتسم، وإن تسللت في الوقت ذاته دمعة إلى خده.
ولم تنقض دقائق حتى دعيت الفتيات من المخدع، فجئن في ضحك كثير واستحياء، وبينما كان الشباب في سرور وهناءة بالغين، تناول الشيخ لوبز القصبة، ومضى يدخن، وكان الظرف الذي أحاط بتلك القصبة دون سواها عجيبا، فلا عجب إذا هو شعر بأنها ألطف قصبة دخنها في حياته، وأكثر شيء إمتاعا وترفيها.
ورأى نثنايل أنه من الخير الرضى بما قسم له، والصبر على ما أصابه، فراح شيئا فشيئا يرتفع مكانه عند الشيخ لوبز، ويصيب حظوة متزايدة لديه، فجعل هذا يعلمه التدخين على الأيام، واعتادا الجلوس معا في الحديقة كلما راق المساء، عدة سنين، يدخنان ويتعاطيان الشراب في مجلس ممتع، وخلوة هنية.
ولم يلبث أن نقه من أثر الحب؛ إذ لا يزال اسمه مدونا في سجلات الأبرشية، شاهدا على زواج مرايا لوبز بابن عمها، والظاهر أيضا من الرجوع إلى وثائق أخرى أنه في ليلة الزفاف وضع في سجن القرية وهو في حالة سكر بين، وعربدة في الطريق العام، اشترك فيها معه وخفف من حدتها بجانبه، ذلك الصبي المعروق الناحل الساقين.
Shafi da ba'a sani ba