فقوبلت هذه الإشارة إلى مهنة الخطيب ووظيفته بعاصفة من الضحك والسرور، فلم تلبث بقية خطبته من أثر قرع الناقوس مرة بعد أخرى أن ضاعت في الهواء، ولم تعد مسموعة إلا حين بلغ منها العبارة الختامية التي شكر فيها للجمهور انتباهه وإصغاءه لخطبته من بدايتها إلى خاتمتها، وهو شكر قوبل بعاصفة جديدة من الضحك لبث ربع ساعة مدويا.
وانبرى عندئذ رجل نحيف طويل العود يلبس قميصا أبيض، مكويا بالنشاء؛ ليخطب في الجماهير المحتشدة، ولكنه ما كاد يتكلم حتى ارتفعت الأصوات من كل ناحية تطلب إليه أن يرسل غلاما إلى بيته ليسأل امرأته: هل تراه ترك صوته تحت الوسادة! بيد أنه استطاع أن يقول إنه يرجو أن يرشح الشخص الجدير بشرف النيابة عنهم في البرلمان. ولما قال إن هذا الشخص هو السيد هوراشيو فيزكن، قابله أنصار فيزكن بالهتاف، ومؤيدو سلمكي بالصفير، واشتد الهتاف والصفير لحظة طويلة، حتى لقد كان في وسع الخطيب والذي سيليه فوق المنبر أن يغنيا أغنيات فكهة، بدلا من أن يخطبا ويناشدا، دون أن يأبه بهما أي مخلوق لغنائهما.
وبعد أن فرغ أنصار هوراشيو فيزكن من دورهم، تقدم رجل صغير الجثة، سريع الغضب، قرنفلي الوجه، ليقترح مرشحا آخر خليقا بأن يمثل ناخبي إيتنزول في البرلمان، وكان من الجائز لذلك الرجل القرنفلي الوجه أن يمضي في خطبته سابحا طافيا، لو لم يكن مفرطا في الغضب والاحتداد إلى حد جعله لا يفطن إلى مجانة الجماهير ودعابتها، ولكنه بعد بضع كلمات حشد فيها ألوانا من الاستعارات والمجاز، انتقل من التنديد بأولئك الذين قاطعوه إلى تبادل التحدي مع السادة القائمين فوق المنصة، فلم تلبث أن ارتفعت صيحات مزمجرة في وجهه، فاضطر إلى التعبير عن مشاعره بالإشارات والحركات دون الكلام، ثم ترك المنصة للخطيب الذي يليه، فقام هذا يلقي خطبة مكتوبة استغرقت نصف ساعة، وهو يأبى الامتناع عن الكلام، والوقوف عن الخطبة؛ لأنه كان قد بعث بها إلى صحيفة «الغازت إيتنزول»، وكانت الصحيفة قد نشرتها فعلا بحذافيرها.
وعندئذ تقدم السيد هوراشيو فيزكن من «لودج فيزكن» بقرب إيتنزول ليخطب في جموع الناخبين، ولكنه ما كاد يبدأ الكلام حتى أخذت الفرقة الموسيقية التي استأجرها السيد المحترم صمويل سلمكي تعزف بقوة لم يكن صخبها في الصباح ليذكر بجانب ضوضائها في هذا المقام، فما كان من أنصار «الصفر» للرد على هذا إلا أن راحوا يضربون بالعصي رءوس «الزرق» وأكتافهم، ومضى هؤلاء يحاولون التخلص من هؤلاء الجيران الثقلاء معاشر الصفر، وعندئذ بدأ التدافع والتجاذب والعراك بين الفريقين، وهو مشهد ليس في إمكاننا أن نؤدي له من حق الإنصاف أكثر مما فعله «العمدة»، وإن كان قد أصدر أوامر مشددة إلى اثني عشر رجلا من القائمين على حفظ النظام بالقبض على كبار الجناة، وهم قرابة مائتين وخمسين رجلا، وكان السيد هوراشيو فيزكن وأصحابه خلال هذه الملاحم والاشتباكات قد استشاطوا غيظا، وتناهوا في الغضب والهياج، حتى اضطر السيد هوراشيو في النهاية أن يرجو إلى منافسه السيد المحترم صمويل سلمكي أن ينبئه هل كان عزف تلك الفرقة الموسيقية تنفيذا لأمر صادر منه؟ ولكن السيد المحترم صمويل سلمكي رفض الإجابة عن هذا السؤال، فما كان من السيد هوراشيو فيزكن إلا أن هز قبضة يده في وجه السيد المحترم، وعندئذ تصاعد الدم في وجه هذا السيد، فطلب إلى منافسه المبارزة، وإزاء هذه المخالفة الصارخة لجميع القواعد والسوابق المتصلة بأمر النظام وصونه، طلب العمدة إلى «المنادي » أن يقرع الناقوس، وأعلن أنه سوف يدعو كلا من السيد هوراشيو فيزكن، والسيد المحترم صمويل سلمكي إلى الحضور أمامه، وينذرهما بوجوب حفظ النظام، وأمام هذا التنديد المروع تدخل أنصار المرشحين، وبعد أن قضى أصدقاء كل حزب ومريدوه ثلاثة أرباع الساعة في مشاجرات ومنازعات بين كل اثنين من الفريقين، رفع السيد هوراشيو فيزكن يده، فلمس قبعته تحية للسيد المحترم صمويل سلمكي، وفعل هذا ما فعله منافسه، فكفت الموسيقى عن العزف، وهدأ الفريقان نوعا ما، وسمح للسيد هوراشيو فيزكن بمتابعة الكلام.
وكانت خطبتا المرشحين، على اختلافهما في كل شيء، تنويها بديعا بفضل ناخبي إيتنزول ورجاحة ألبابهم، فقد ذهب كلاهما في خطابه يعلن أن الدنيا لم تشهد من قبل من هم أكثر استقلالا، ولا أوفر فطنة واستنارة، ولا أرعى للروح الوطنية، ولا أسمى أذهانا، ولا أبدع نزاهة، من معاشر الناخبين الذين تعهدوا بإعطائه أصواتهم، كما مضى كل منهما يشير من طرف خفي إلى توجسه خيفة من أن يكون الناخبون في الجانب الآخر من الخبث والسخف والعجز، بحيث لا يصلحون لتأدية الواجب الخطير الذي طلب إليهم تأديته، وراح السيد فيزكن يعلن استعداده لإنجاز كل ما يطلبه الناخبون منه، بينما مضى سلمكي يعلن أنه معتزم ألا يفعل شيئا يطلبه الناخبون إليه أن يفعله، وقال الاثنان إن تجارة «إيتنزول» ومصالح أصحاب المصانع فيها، ومستلزمات رخاء الدائرة ورفاهيتها، أعز على نفسيهما من كل شيء في هذا العالم، وإن في وسع كل منهما أن يعلن بكل اطمئنان وثقة أنه هو الرجل الذي سيفوز في المعركة، ويظفر بتمثيل الدائرة.
وعزفت الموسيقات، وأعلن العمدة أنه يؤيد السيد المحترم صمويل سلمكي، وطلب السيد هوراشيو أخذ الأصوات، فحدد موعد للتصويت، وعندئذ تقدم اقتراح بشكر العمدة على حسن تصرفه، ومقدرته في توجيه الحفل، من كرسي رياسته، ورد العمدة شاكرا بعد أن قال إنه كان يتمنى لو أنه وجد كرسيا يستطيع وهو فيه أن يظهر كفايته وحسن تصرفه؛ لأنه ظل واقفا على قدميه طيلة الاجتماع.
وأعيد تنظيم الموكب، ودرجت المركبات في طريقها برفق، شاقة صفوف الجماهير، وانثنى الناس في إثرها يرسلون صيحات وهتافات مختلفة كما تملي عليهم مشاعرهم، وترتضي أهواؤهم.
وظلت البلدة خلال فترة أخذ الأصوات في حمى شديدة من الهياج والحماسة، وجرى كل شيء على أحسن وجوهه، وفي أبدع مظاهره، فكانت السلع التي فرضت عليها المكوس تعرض رخيصة إلى حد ملحوظ في مختلف المتاجر والمحال العامة، وكانت مركبات الإسعاف تطوف الشوارع لنقل الناخبين الذين يصابون فجأة بدوار خلال المعركة الانتخابية، وهو عارض انتشر بينهم انتشارا يبعث على أشد القلق، حتى ليشاهد خلق كثير منهم في أغلب الأحيان رقودا فوق الأفاريز غائبين عن صوابهم، وقد بقيت فئة قليلة من الناخبين متخلفة عن الانتخاب إلى اليوم الأخير قبل إقفال الصناديق، وهم معاشر أهل الرأي والمفكرين الذين لم يقتنعوا بحجج كلا الحزبين، وإن كثرت الاجتماعات والمؤامرات بينهم وبين أنصارهما، وقبل انتهاء الموعد بساعة، طلب المستر بت التشرف بحديث خاص مع أولئك الأذكياء الكبار النفوس الوطنيين، فاستجابوا له، وكانت حججه موجزة ولكن مرضية، فانطلقوا بجمعهم إلى صناديق الانتخاب، وحين عادوا كان الفوز للسيد المحترم صمويل سلمكي من سلمكي هول «محققا».
الفصل الرابع عشر
يحوي وصفا موجزا لجمع تلاقوا في فندق بيكوك، وقصة تاجر متجول. ***
Shafi da ba'a sani ba