" يا بنيّ، احفظوا وصيتي، فإنها أنصح الجبلة لكم، وإن أنتم حفظتموها سدتم قومكم بعدي، إلهكم فاتقّوه، ولا تخونوا، ولا تستثيروا السباع في مرابضها فتندموا، وجازوا الناس بالكف عن مساوئهم تسلموا، ونصحّوا وخفُّوا عند نائبتهم، ولا تستبطئو في حق، والزموا الصمت إلا من حق تحمدوا، وابذلو التحية تسلم لكم الصدور، ولا تظانَّو بالمنافع فتباغضو، واستتروا من العامّة تجلَّوا، ولا تكثرو مجالس الناس فيستخف بكم، ولا تزايلوهم فتعادوا، وإن نزلت معضلة فاصبروا، وأَلبسوا الهر أثوابه، فإن لسان الصدق مع المسكنة خير من لسان السوء مع الميسرة، وذلُّو لمن ذلّ لكم فإن أقرب الوسائل المودّة، ولا تعلموا الناس أَقتاركم فتهونوا عليهم، ويجمّلوا تنجبوا، وإياكم والعزبة فإنها ذلّة، ولا تضعوا الكرائم إلا عند الأكفاء، وابتغوا لأنفسكم المعالي، ولا يخلجنكم جمال النساء عن صراحة النسب، فإن مناكحة الكرام مدارج الشرف، واخضعوا لقومكم، ولا تبغوا عليهم، ولا تخالفوهم فيما اجتمعوا عليه، فإن الخلاف يزري بالرئيس المطاع، وليكن معروفكم بعدهم في غيرهم، ولا توحشوا أفنيتكم من أهلها، فإن إيحاشها إخماد الناس ودفع الحقوق، وأذكوا النار، وأحيوا الحقوق، ولا تبذلوا الوجوه إلى غير مكرميها فتكلحوها، وتحشوها الدناءة، وتقصروا بها، ولا تحاسدوا فتبورا.
والتمسوا بالتودد المنازل عند الولاة، فإنهم من وضعوا أفرد، ومن رفعوا أنجد، وابتنوا المباني بالأدب ومصافاة أهل الحبا، وابتاعوا المحبة بالجود، واجتنبوا البخل، ووقِّروا ذوي الفضيلة، وخذوا عن أهل التجارب، ولا تحتقروا الرجال من غير خبرة؛ وإنما المرء بذكاء قلبه وتعبير لسانه، وإذا خوِّفتم داهية فتثبتوا قبل العجلة، ولا يمنعنكم من المعروف صغر قدره، فإن له ثوابا، ولا تعفِّروا الأقدام إلا لأخطارها، وتنبَّلوا تسمُ اليكم الأبصار، وارفضوا النمائم بينكم تسلموا، وكونوا أنجاد عند الملمات تعّوا، واحذروا النجعة التي في المنعة.
وأكرموا الجار، وآثروا حق الضيف، وألزموا السفهاء الحلم تقلّ همومكم، وإياكم والحرص فإنه من أسباب المتالف، واتخذوا الزهد جنة تسترح أبدانكم، وإياكم والفرقة فإنها ذلّ، ولا تكلفوا أنفسكم فوق طاقتها فتعجزوا، فلأن تلاموا وبكم قوة خير من أن تعانوا بالعجز، وعليك بالجد فإنّ به يمنع الضيم، وإياكم والتفريط فيه يكون الخلل، ولا أجدبتم أبدا، ولا غلبتم - أو - قال - ولا خذلتم.
حدثنا أبو حاتم قال: وذكر بعض أهل العلم أن هشام بن عبد الملك أرسل إلى سليمان الكلبي، وكان رجلا جامعا للأدب فاضلا، ذا رأى.
قال سليمان: فدخلت عليه، وهو في غرفة له، قد علا نفسي. وانتفخ سحري، فسلمت عليه، فردّ عليّ، وأضرب عني حتى سكن جأشي، ثم قال لي: - يا سليمان، قد بلغني عنك ما أحب، وإذا بلغني عن أحد من رعيتي مثل الذي بلغني عنك أسرعت إليه بما يحب، واستعنت به على مهم أمري، وإن محمد ابن أمير المؤمنين بالمكان الذي بلغك، وهو جلدة ما بين عيني، وإني أرجو أن يبلِّغ الله به أفضل ما بلّغ بأحد من أهل بيته، وقد ولاك أمير المؤمنين تأديبه وتعليمه، وماله، والنظر فيما يصلح الله به أمره، فعليك بتقوى الله، وأداء الأمانة فيه، فإنك تقصد فيه بخصال، لو لم تكن إلا واحدة كنت قمنا ألاّ تضيّعها، فكيف إذا اجتمعت؟ أما أولها فإنك مؤتمن عليه، وحقّ لك أداء الأمانة فيه؛ وأما الثانية فأنا إمام ترجوني، وتخافني؛ وأما الثالثة فكلما ارتقى الغلام في الأمور درجة ارتفعت معه، ففي هذا ما يرغبّك فيما أوصيك به، فادخل عليه في خاصّة أهل القرآن، وذوي الأسنان، فإنك منهم بين خصلتين، إما أن يسمع منهم كلاما فيعيه ويحفظه فيكون لك صونه وذكره، وإما أن يراهم الناس يخرجون من عنده فيرون أنكم على مثل ما هم عليه.
ولا تدخل عليه الفسّاق ولا شربة الخمر، فإنك منهم بين خصلتين، إما أن يسمع منهم كلاما قبيحا فيعيه ويحفظه ويأخذ به فتريد تحويله عن ذلك فلا تقدر عليه، وإما أن يراهم الناس يخرجون من عندكم فيرون أنكم على مثل ما هم عليه.
1 / 43