Muassis Misr Haditha
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة
Nau'ikan
وقد سارت إدارة إبراهيم في سوريا من وجوه عديدة ولأسباب كثيرة سيرا هو أبعد من الهدوء والنجاح من إدارة أبيه في مصر؛ فليس من ريب في أن انهماكه في حركة التجنيد قد نفر منه الطبقات الإسلامية؛ لأن المجندين لم يؤخذوا إلا منها وحدها، بينما أدى ما أظهره من التسامح الديني إلى قلق كل متعصب في أنحاء البلاد وشغل باله. أما الفلاحون والعمال فقد ضايقهم محاولات إبراهيم للاستيلاء على الأقوات والمحاصيل، هذا في حين أن صرامته وشدته قد أدخلتا الرهبة على قلوب الموظفين ورجال الإفتاء والقضاء وجعلهم يغرقون رعبا حرصا على مرتباتهم الفادحة التي كانوا يتناولونها منذ زمن بعيد. وفوق هذه الاعتبارات جميعها كان يوجد اعتبار آخر، ألا وهو أن الأهلين يعتبرونه حاكما غريبا هبط إلى ديارهم بأصول في الحكم ومبادئ في الإدارة اقتبسها من مصر، ولقد كان مسلمو سوريا منذ زمن طويل يعتبرون مسلمي مصر دونهم في الثقافة بكثير، فجاء فتح إبراهيم للبلاد السورية بمثابة فرصة أتاحت للمصريين أن يرفعوا عنهم ذلك الازدراء والاحتقار الذي كان ينظر السوريون به إليهم، ثم تبين أن الجندي الفلاح لم يكن يبدي من سعة الصدر نحو السوريين مثل ما كان يبديه نحو مواطنيه.
29
نعم؛ لقد ارتأى إبراهيم بأن ينشئ سلسلة مخافر بين المدن الرئيسية بعضها وبعض، لكن لم يكن للناس ثقة بهذه المخافر واستمروا يرسلون بريدهم بواسطة سعاة يستأجرونهم لهذه الغاية.
30
وثمة مسألة أخرى كانت مثارا للخلاف ومنشأ للصعوبات، وهي خاصة بآراء إبراهيم السياسية؛ فإنه كان أشد من أبيه تعلقا بفكرة إحياء الخلافة العربية، ولم يكن محمد علي ممن يفكرون جديا في هذه المسألة، وإن كان قد عرف عنه أنه كان يداعب هذه الفكرة من آن لآخر، وقد كانت ميول محمد علي بين روح الاستقلال السياسي وبين إصلاح الإمبراطورية العثمانية، وهذه الغاية الأخيرة كانت أهم ما تطمح إليه نفسه، وكان يلوح له أن العرب عنصر أحط من العنصر التركي، وأنه في حاجة إلى تعليم طويل وشاق؛ ولذا لم يكن يسمح في عهده بأن يشغل أحد من العنصر العربي مركزا خطيرا لا في الإدارة ولا في الجيش، أما ابنه إبراهيم فكان على النقيض من ذلك؛ ولذا رأيناه يسرف في تشجيع العنصر العربي. وقد ذكر كاتب فرنسي - هو «بوالي كومب» - أن خطة إبراهيم هذه قد أدت به إلى متاعب في الإدارة العسكرية، وأنه كان بطبعه شغوفا بالمعيشة في وسط جنوده مع رفع الكلفة بينهم وبينه، بل إنه كثيرا ما كان يقوم بالألعاب الرياضية معهم ويتغنى بالعنصر الذي نشأوا من سلالته ويقارنه بالعنصر التركي البليد الساقط. ولقد سأله أحد الجنود العرب يوما كيف يتفوه بأمثال هذه العبارات مع أنه تركي صميم؛ فأجابه إبراهيم من فوره بحرارة: «كلا؛ لست تركيا! فلقد هبطت أرض مصر وأنا طفل رضيع، ومنذ ذلك الحين قد غيرت شمس مصر الدم الذي يجري في عروقي، وصيرتني عربيا صميما.» وكانت حاشيته تردد هذه الآراء. مثال ذلك أن مختار بك كان يجاهر بأنه هو وأمثاله جيء بهم إلى مصر وهم في المهد، وعليه فلا تربطهم بالعنصر التركي أي رابطة وهم تابعون لا للجنس الذي لا يترك إلا الخراب وراءه أينما حل، بل لذلك الجنس النبيل الذي أضاء طريق العالم في العلوم والاختراعات وغطى أنحاء المسكونة بالمدن الناضرة والتماثيل البديعة التي أقامها على طول المسافة بين بلاد العجم إلى بلاد إسبانيا على أن التغني بتلك السلالة الوهمية لم يكن من شأنه إقناع الجنود من الجنس العربي الذين كانوا يحرمون من الترقيات لينعم بها رجال يزعمون أنهم (من الناحية الروحية فقط) من سلالة الجنس الذي انحدروا منه أنفسهم. ومما ضاعف شعور السخط هذا وزاد انتشاره التشريع الذي اقتبسه إبراهيم من القانون الفرنسي بمنع العقوبات العرفية؛ فإن أقل توبيخ كان يؤدي في الحال إلى المطالبة بعقد الديوان (أي إجراء التحقيق بواسطة المحكمة)، وكثيرا ما كان الجنود يتوعدون ضباطهم برفع شكايتهم إلى إبراهيم نفسه.
31
ولم يك تدهور النظام العسكري وتضعضعه بالبلاد الوحيد الذي ترتب على تحمس إبراهيم للجامعة العربية وأخذه بمناصرتها؛ فإنه لم يكن يقتصر نحو إبداء ميوله نحو تلك الجامعة سرا، كلا بل كان يتكلم علنا عن إنعاش القومية العربية والسعي إلى نظم كل من يتكلمون بلغة الضاد تحت حكم واحد وفتح أبواب وظائف الدولة على مصاريعها أمام أبناء العرب، وكذلك تقليدهم أسمى المناصب في الجيش واشتراكهم معه في التمتع بنعيم الإيرادات العامة وأبهة الحكم وعظمته، على أن هذه الآراء والنوايا مهما كانت محبوبة في مصر كانت تقابل في سوريا مقابلة أخرى؛ لأن التمييز لم يكن بين الأهالي باعتبارهم أتراكا أو عربا، كلا بل كانوا يميزون بعقيدتهم الدينية فقط أي إن أهالي سوريا كانوا منقسمين إلى مسلمين ومسيحيين فحسب، وعليه فإن نظريات إبراهيم لم يكن من شأنها أن تطمع السوريين في شيء كانوا محرومين منه، في حين أنهم كانوا يكادون يوضعون في مستوى المسلمين الذين كانوا موضع ازدراء السوريين واحتقارهم، أو بعبارة أخرى أن هذه الآراء بدلا من أن تغرس حب إبراهيم في قلوب الأهالي قد جعلته هو وسياسته موضع ارتياب الشعب السوري.
وفي الحق لم يرزق إبراهيم ما كان لأبيه من هيبة حكم الناس وإسلاس قيادهم؛ فإن الباشا الكبير كان يعرف بالضبط مواضع الندى ومواضع السيف، ومتى يترفق في القول ومتى يتوعد ومتى يضرب ضربته الحاسمة؛ فكانت ملاطفته أشبه شيء بالقطيفة المخيفة التي تكسو براثن النمر. ولم يكن تعوزه الحيلة أو يخونه ذكاؤه لابتكار مختلف المعاذير والتعللات المتعددة لتنفيذ إرادته.
أما إبراهيم فكانت له موهبة واحدة؛ فقد كان جنديا باسلا موفقا وكان مبدأه أن القوة وحدها هي الكفيلة بتذليل المصاعب، ولو كان إبراهيم ترك وشأنه لما تردد في تحدي كلمة أوروبا المتحدة ولهدم في ساعة واحدة ما تجشم أبوه نحوا من ثلاثين عاما في إنشائه وبنائه، وإذا كان إبراهيم قد فشل في اكتساب السوريين إلى جانبه فإنه قد نجح في نشر لواء الأمن والسلام والتسامح الديني، كما أنه وفق في تقليم أظافر المغيرين وتنشيط الزراعة وتطهير العدالة مما كان عالقا بها من الشوائب والأدران كما ساعد على توسيع دائرة التجارة، ولكن مسلمي سوريا لم يذعنوا لإبراهيم إلا رهبة من جبروته وخشية من سطوته؛ ولذا كانوا يتربصون به الفرص الملائمة لخلع يده والتخلص من حكمه والعودة من جديد إلى ولائهم السابق واستعادة ما كان لهم من السيطرة التقليدية على المسيحي المكروه وغسل عار ذكرى غلبة المصريين وفتحهم لسوريا.
الخاتمة
Shafi da ba'a sani ba