Misir a Farkon Karni na Sha Tara
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Nau'ikan
إن محمد علي، وهو يتأهب للسفر إلى الإسكندرية، كي يشرف بنفسه - كما يقول - على شحنات الغلال التي يجب عليه إرسالها إلى القسطنطينية؛ قد رغب في أن أجتمع به اجتماعا سريا قبل رحيله، فكانت مقابلة طويلة، تناول الحديث في أثنائها الكلام عن مشاريعه التجارية في البحرين الأبيض والأحمر، ولا سيما رغبته - قبل كل شيء - في أن تكون لديه بالبحر الأبيض سفن تجارية، يسعها ممارسة حقوق الحياد في كل الأحوال، ولقد جعله النقاش حول هذا الموضوع يتطرق إلى الاعتراف بأنه ليس على صلات طيبة جدا بحكومته؛ أي الباب العالي، وأنه يريد من فرنسا موافقتها على أن يصير في مصاف وجاقات الغرب.
ولقد انتقل من ذلك في استطراد طويل، إلى الكلام عن المزايا التي بوسعه إعطاؤها للتجارة الفرنسية، ثم اختتم حديثه مطالبا إياي أن أوضح له ما إذا كان من المحتمل أو من غير المحتمل، أن تلقى المزايا التي يعرضها، والتي تنتفع بها التجارة الفرنسية قبولا لدى صاحب الجلالة الإمبراطور، ولما صار الباشا يلح علي في أن أجيب على تساؤله جوابا قاطعا، ذكرت له أن هذا أحد الشئون العليا التي يخرج تناولها عن نطاق عملي المكلف به لدى محمد علي، وأن كل ما أستطيع فعله هو أن أعده بإحالة هذا الموضوع على وزير الخارجية الفرنسية، ويبدو لي أن جوابي هذا كدره، فأظهر تحفظا في مقالته بعد ذلك، لم ألحظه عند بداية الحديث.
ويبدو مما ذكره لي قبل هذا التحفظ، أن الوكلاء الإنجليز قد أكدوا له نجاح المفاوضات التي سوف يجريها مع حكومتهم بشأن هذه المسألة، بل وأجزم أن لهم نصيبا كبيرا في جعله يقرر الذهاب إلى الإسكندرية؛ حيث ينتظرون بها وصول قنصل بريطاني جديد، هو مأمور السفارة البريطانية السابق بالقسطنطينية.
ولقد علمت أنهم؛ أي الوكلاء الإنجليز، معجبون بأنفسهم لنجاحهم في صرف الباشا عن الإصغاء لنصائحي، ويرجون بمجرد ذهابه إلى الإسكندرية أن يستطيعوا الظفر منه بتسهيلات كثيرة؛ لأخذ الحبوب، ولإنجاح كل عملياتهم الأخرى التجارية والسياسية. ومما يدعو للأسف أن الإنجليز قد اشتروا كل الرجال المحيطين بالباشا، ثم إنهم يدفعون الذهب كتضحية في سبيل تمكنهم من خديعته، وتحريضه على اتخاذ خطوات أفضت إلى توريطه دائما مع الباب العالي، فضلا عن تمكينهم من توثيق الصلة بين مصلحته وصوالحهم، وجبره على اعتبار الإنجليز وحدهم أصدقاءه المخلصين الذين في وسعه أن ينتظر بعض المساعدة منهم عند الحاجة.
ومع ذلك، فأملي كبير في أن يستطيع «سانت مارسيل» بفضل ما عرف عنه من غيرة ونشاط أن يثبت لدى محمد علي ذلك التحرز النافع الذي مبعثه إساءة الظن بالإنجليز، والذي منعه حتى الآن من الوقوع في الشرك الذي تنصبه له هذه الزمرة من الأعداء.
ذلك كان الأسلوب الذي عرض به «دروفتي» مقترحات الباشا على حكومته، ولقد كان من الواضح أن محمد علي في رغبته أن يكون لسفنه الحق في ممارسة حقوق الحياد، إنما أراد أن يظفر لباشويته بذلك الوضع الذي كان لوجاقات الغرب، والذي من خصائصه تمكين الوجاقات الثلاثة: طرابلس، وتونس، والجزائر، من التزام موقف الحياد إذا نشبت الحرب بين الدولة العثمانية صاحبة السيادة الاسمية عليها، وبين أية دولة أجنبية، فتسير سفن الوجاقات بأمان، تخفق عليها أعلامها، ودون أن تتعرض لخطر المصادرة. ولقد كان من مزايا الظفر بهذا الوضع المباشر لباشويته، عدم تعطيل نشاط الباشا التجاري، في وقت كثر فيه دخول السفن إلى ميناء الإسكندرية خصوصا، وخروجها منها محملة بالبضائع المجلوبة إلى مصر أو المصدرة منها، وعندما كان محمد علي يهتم ببناء أسطول تجاري يعمل في البحرين: الأبيض والأحمر؛ كي يستخدمه في نقل منتجات باشويته، فيستأثر هو بتجارة المرور، بدلا من أن يفيد من هذه أصحاب السفن الأجنبية، ثم إنه كان من مزايا الوضع الذي أراده لباشويته، تقرير الحكم الوراثي في أسرته في مصر، على نحو ما سبقت الإشارة إليه مرارا في هذه الدراسة.
ولكن «دروفتي» الذي لم يكن يجهل مشروع الباشا الاستقلالي، لم يجد في مقترحات محمد علي أثناء هذه المقابلة السرية ما يدعوه للفت نظر حكومته إليه جديا، سوى نشاط الوكلاء الإنجليز ومساعيهم للتأثير على بطانة الباشا بالرشاوى، وعلى الباشا نفسه بالهدايا حتى يجذبوه لتأييد مصالحهم، واعتبر مشروع محمد علي الذي يمكنه من الوقوف موقف الحياد في علاقاته مع الباب العالي والدول الأوروبية عند قيام حالة حرب بين تركيا والدول، من وحي الإنجليز أنفسهم الذين يبغون توريط محمد علي مع الباب العالي، لبواعث اعتقد «دروفتي» أنها لا بد متصلة بمصالحهم السياسية والتجارية فحسب، وكان مما أيد هذا الرأي لديه ما قاله محمد علي نفسه، من أن الوكلاء الإنجليز يؤكدون له موافقة حكومتهم على أن تكون لديه سفن تجارية بالبحر الأبيض يسعها ممارسة حقوق الحياد في كل الأحوال.
وفضلا عن ذلك، فقد كان «دروفتي» صاحب آراء محددة عن حكومة محمد علي من ناحية، وعن أساليب الباشا السياسية من ناحية أخرى، من حيث إن هذه الحكومة لم تكن متمتعة بذلك الاستقرار الذي يخول الباشا التطلع إلى الاستقلال المنشود، ومن حيث إن هذه الأساليب كانت تهدف إلى مداورة واسترضاء الدول الأوروبية جميعها، ولا يمكن الاطمئنان لذلك إلى سياسته، بل ينحصر نشاط الباشا في باشويته، ولا يتعدى أفق سياسته حدود هذه الباشوية ذاتها. وبنى «دروفتي» رأيه هذا، على تجاربه الطويلة في هذه البلاد، وعلى وقوفه على مجريات الأمور بها، لا سيما في الفترة التي تلت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية.
وقد بسط «دروفتي» وجهة نظره هذه منذ أوائل عام 1808، في تقرير مسهب عن الموقف في مصر، بعث به في 8 أبريل، إلى «تاليران» برنس ودوق دي بنيفنتو
Benevent
Shafi da ba'a sani ba