259

Misir a Farkon Karni na Sha Tara

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Nau'ikan

واستمر اهتمام الإمبراطور بمعرفة حال تحصينات الثغور والمراكز الرئيسية في مصر والشام، استعدادا لغزو هذه البلاد، فطلب من وزير خارجيته في 6 ديسمبر 1810 أن يكتب بالشفرة إلى قناصل الإمبراطور في مصر لإرسال المعلومات التي تصف مفصلا كل ما يتعلق بتحصينات القاهرة والإسكندرية ودمياط والعريش، كما طلب إليه أن يكتب إلى القناصل في الشام كي يبعثوا إلى الوزير بتفصيلات وافية عن التحصينات في غزا ويافا وعكا، وأن يوصوا بإرسال هذه المذكرات بطريق مأمون، وأن يكتبوها بالشفرة.

وقد تقدم كيف أن نابليون ظل يفكر تفكيرا جديا في مشروع الحملة على الشام ومصر طوال عام 1811، ويطلب من وزير بحريته «ديكريه» تهيئة الأساطيل الفرنسية في ميناء طولون وعند مصب «ألاسكو» خصوصا لهذا الغرض.

ومع أن هذا الغزو لم يقدر له الوقوع لا في هذه السنوات ولا في السنوات التالية، لأسباب خارجة في الحقيقة عن إرادة الإمبراطور نفسه، فقد كان لوجود هذا السر - سر نابليون - أثر مباشر على تكييف السياسة الفرنسية تجاه محمد علي، في الموضوع الذي استأثر باهتمامه من أيام حملة «فريزر» وهو الاستقلال من نمط استقلال وجاقات الغرب. (7) الفرنسيون يرفضون استقلال محمد علي

ولم تسد بين محمد علي والوكلاء الفرنسيين، نفس العلاقات الوثيقة التي ربطت بين الباشا و«دروفتي» على وجه الخصوص، أيام أزمة النقل إلى سالونيك، أو أثناء وجود جيش «فريزر» بالإسكندرية، فإنه ما إن جلت الحملة الإنجليزية عن هذه حتى بدأت العلاقات بينه وبين الوكلاء الفرنسيين تدخل في طور جديد، صادف فيه «دروفتي» وزملاؤه مصاعب جمة، مبعثها مضي الباشا في بيع غلاله للإنجليز، بالرغم من احتجاجات الوكلاء الفرنسيين المتكررة، ومبعثها كذلك، ما صار معروفا لدى الباشا، وحرص «بتروتشي» وسائر الوكلاء الإنجليز على إذاعته وترويجه، من انتواء الإمبراطور غزو مصر في أول فرصة سانحة.

وكان الغزو الفرنسي المتوقع لمصر من الشائعات التي ظلت رائجة في هذه البلاد خلال السنوات التي نحن بصدد دراستها (1808-1811)، وكان لها أوضح الأثر في رسم السياسة التي جرى عليها محمد علي، سواء في علاقاته مع الإنجليز والفرنسيين أنفسهم، أو مع الباب العالي، وكانت هذه سياسة تتسم بطابع الحيطة والحذر في علاقاته مع هؤلاء الأطراف الثلاثة، فهو يتقرب من الإنجليز كي يتقي شرهم، وحادث غزوهم الأخير للإسكندرية لا يزال ماثلا في الأذهان، وكي يستعين بهم على دفع الغزو الفرنسي إذا وقع ولا يريد إغضاب الفرنسيين؛ اتقاء لشرهم كذلك، وحتى لا يستعد لمجيء حملتهم المرتقبة على هذه البلاد، ولا يزال حادث غزوهم لها بدعوى الاقتصاص من المماليك على إيذائهم المصالح الفرنسية ماثلا في الأذهان كذلك، وهو لا يثق في نوايا الباب العالي نحوه، ويريد الاستعانة بإنجلترة وفرنسا في الوصول إلى الاستقلال الذي ينشده، حتى إذا رفضت هاتان الدولتان مساعدته، سلك مع الباب العالي الطريق الذي اعتقد أنه يعينه على نيل مأربه.

فإنه ما كاد الباشا يفرغ من مسألة عصيان ياسين بك الأرنئودي التي انتهت بنفيه خارج البلاد في فبراير 1808، وفي الظروف التي سوف يأتي ذكرها، حتى راجت الشائعات القوية عن قرب نزول جيش فرنسي بالشواطئ المصرية، وكان الإنجليز هم المسئولون عن ترويج هذه الشائعة، عندما وصل الإسكندرية منذ 18 يناير ذلك الإبريق الإنجليزي الذي سبقت الإشارة إليه، وهرع «بتروتشي» إلى القاهرة لمقابلة الباشا بها، وأسفرت المقابلات السرية والكثيرة بينهما، منذ وصوله في 25 يناير، عن ذيوع نبأ صدقه كثيرون هو أن هناك حملة فرنسية كبيرة، تجري الاستعدادات في مواني فرنسا لإرسالها إلى مصر، فتوقفت الإجراءات التي كان قد بدأها الباشا لترحيل عدد كبير من الجند الذين أظهروا تمردهم ضد سلطانه إلى الشام، وصدرت الأوامر إلى الإسكندرية ورشيد ودمياط لتهيئة وسائل الدفاع عنها جميعها.

وكان الذي حمل الإنجليز على تحذير محمد علي من هذا الغزو المتوقع، ما عرفوه عن حملتي «أليمان» إلى ألبا و«غانتوم» إلى كرفو، واحتمال أن تذهب لذلك حملة أخرى من تارنتو أو كرفو إلى مصر، أضف إلى هذا اعتقاد الإنجليز الراسخ أن الفرنسيين لن يتخلوا عن مشروع غزو مصر بتاتا، فقال «سانت مارسيل» في تقريره إلى حكومته في 21 فبراير: إن الغرض من مجيء الإبريق الإنجليزي إبلاغ محمد علي قرب وصول قوات فرنسية عظيمة إلى مصر، ونصحه بتقوية المراكز الرئيسية في الشاطئ المصري، وتعزيز حامية الإسكندرية، وكان عندئذ أن عرض عليه الإنجليز إمداده بجيش لمساعدته ورفض الباشا الاستعانة بقوات أجنبية - على نحو ما سبق ذكره.

ولقد لقي هذا النبأ ذيوعا كبيرا في الإسكندرية على وجه الخصوص؛ حيث راح المسئولون بها يحذرون الشعب من قرب حضور جند أجانب لغزو مدينتهم، وفريق قال: إن هؤلاء من الإنجليز، واعتقد فريق آخر، وهم الأكثرية، أن الغزاة من الفرنسيين، ثم سرعان ما اشتد هياج الخواطر، عندما دخل ميناء الإسكندرية في 2 مارس 1808، ذلك الشباك الفرنسي المسلح «سربان» الذي تقدمت الإشارة إليه، فقد انزعج المسئولون من الأتراك والأرنئود بالثغر أيما انزعاج، وساورتهم المخاوف من أن تكون هذه السفينة طليعة أسطول فرنسي على وشك الظهور أمام الإسكندرية، وقلق طبوز أوغلي حاكم المدينة قلقا عظيما، فنشطت حركة الجند بها، استعدادا للدفاع، وتسلح الأهلون، وبذل «سانت مارسيل» قصارى جهده لتهدئة الخواطر، وزالت المخاوف رويدا رويدا عندما أنزلت السفينة البضائع التي كانت تحملها إلى البر، ومضت الأيام ولم يظهر للأسطول المزعوم أثر.

وفي القاهرة، كان حرج «دروفتي» وسائر مواطنيه عظيما بسبب هذا الحادث، واستمر هذا الحرج أياما عديدة؛ وذلك لأن الباشا صار يتوعد ويتهدد «دروفتي» لمعرفة المهمة الغير الاعتيادية التي كلف هذا الشباك الفرنسي بها، وكثر اعتداء الجند على الإفرنج، وأوجز «دروفتي» وصف الحالة في القاهرة، فقال: «إهانات مفرطة يرتكبها الجند في حق الأوروبيين، سرقات، وحوادث قتل تقع في الشوارع وفي وضح النهار. وأما في الإسكندرية فالغرامات والفرض بجميع أنواعها، وإزعاج وسوء معاملة للأوروبيين على يد حاكمها، وإفراط الجند في التعدي والإخلال بالنظام، مع عدم توقيع أية عقوبة عليهم لردعهم.»

ثم تزايدت متاعب الوكلاء الفرنسيين بسبب حادثي «الأب أرمننجيلد» والسفينة «لاروز»، وقد سبق الكلام عنهما، كما كثر في الشهور التالية ورود صحف مالطة الإنجليز، تقذف في حق الإمبراطور، ويروج الوكلاء الإنجليز مطاعنها عليه، وبذل الوكلاء الفرنسيون كل ما وسعهم من جهد وحيلة لكسب رضاء محمد علي، فانتهز «سانت مارسيل» قيام الباشا برحلته في الوجه البحري، في سبتمبر 1808، لمحاولة ذلك، وكان الباشا قد طلب إلى «دروفتي» مرافقته في هذه الجولة التي أراد بها زيارة دمياط ورشيد والإسكندرية، وامتنع «دروفتي» عن تلبية طلبه، في الظروف التي عرفناها، فأهدى «سانت مارسيل» محمد علي بندقية للصيد من صنع فرساي، وأهدى ترجمانه نظارة، وذلك أثناء زيارة الباشا لرشيد، وتكبد «سانت مارسيل» نفقات عظيمة بسبب هذه الزيارة، ولو أنه لم يكن هناك معدى في رأيه عن تحمل هذه النفقات لمقاومة نفوذ الوكلاء الإنجليز، ولجلب رضاء محمد علي، فكتب إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في 2 يناير 1809، يلفت نظره إلى هذه النفقات التي صار يشكو من فداحتها، ويطلب إلى الوزير إمداده بالمال اللازم لمجاراة الوكلاء الإنجليز، فكان مما ذكره، يعلل سؤاله هذا: إن الوزير قد لا يعتقد أن النفقات التي تحملتها القنصلية الفرنسية بالإسكندرية، بسبب الهدايا التي قدمت للباشا وإنفاق المال الذي أوجبه وجوده برشيد ، أكثر مما ينبغي بذله، ولكن الحقيقة أن هذه المبالغ ضئيلة بالقياس إلى ما ينفقه الوكلاء الإنجليز، وفضلا عن ذلك، فإنها لم تكف لإرضاء الباشا، ثم استطرد «سانت مارسيل» يقول: «ومما زاد في شجوني أني علمت من السيد «دروفتي» أن الباشا قد شكا إليه من قلة كرمي وسخائي ولا يسعني إلا أن أعزو هذا الإلحاح، وهذا التذمر من جانبه، إلى تلك الصداقة المغرضة التي يبديها نحو الإنجليز الذين يعطونه أكثر بكثير جدا مما في وسعنا أن نعطيه نحن له، فأنظار أعدائنا موجهة دائما نحو مصر، ويبغون من سخائهم غرضا من الضروري تلافيه قبل وقوعه، ومن واجبنا إحباط مكائدهم، ولا ندحة لنا للوصول إلى هذه الغاية، عن كسب صداقة رجال وعمال هذه الحكومة - أي حكومة محمد علي - ولا طريق إلى ذلك غير إعطاء الهدايا في الظروف المناسبة، فإذا كانت هذه ضئيلة القيمة، امتنع تحقيق الغرض منها، وأما إذا انقطع إعطاء هذه الهدايا بتاتا، فسوف يتعرض القناصل لمزعجات تسوئ في هذه البلاد سمعة الفرنسيين، وتقضي تماما على التجارة الفرنسية، بفضل ما سوف يلقاه حينئذ أعداؤنا من مزايا كثيرة؛ ولذلك فإنه إذا تعذر علينا مجاراة هؤلاء الأعداء في سخائهم، فلنعط إذن بالقدر الذي يكفي - على الأقل - لإبعاد تلك الكراهية عنا، والتي مبعثها الطمع الأشعبي، وسوف يتكفل حينئذ ما لهذه الأمة الفرنسية العظيمة من سمعة عالية، ومجد عسكري، بترجيح كفة الميزان في صالحنا.»

Shafi da ba'a sani ba