258

Misir a Farkon Karni na Sha Tara

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Nau'ikan

Te Deum

بكنيسة المبنى الخاص بهيئة «الأرض المقدسة» الدينية، وصحبه «دروفتي» في زيارة الأماكن التي أراد مشاهدتها، فكان مما لاحظه أن الباشا مثابر منذ ثلاث سنوات على تحصين الإسكندرية، ولكن تحصينات الإسكندرية ليست مخيفة أو بالدرجة التي تمكن الباشا من صد هجوم الفرنسيين عند وقوعه عليها، وأكد أن الخوف مستبد بالباشا من نزول الفرنسيين، ولكنه لا وسيلة لديه لدفعهم. وقد كتب «دروفتي» في يونيو 1811، أن الباشا يريد النزول في الشواطئ المصرية، ولو أنه مما تجدر ملاحظته أن هذا قابل للزيادة دائما بفضل المجندين الذين يبعث بهم مندوبوه إلى مصر من مقاطعات الدولة العثمانية في أوروبا، ويريد الباشا رفع عدد جيشه - إذا استطاع - إلى عشرين ألف مقاتل، وبالرغم مما يزعمونه أن في وسعهم الذود عن مصر ضد الجيوش الأجنبية، يسود الاعتقاد بين صفوف الجند بأن من المتعذر عليهم بتاتا دفع الفرنسيين عن البلاد إذا غزوها. ثم إن الباشا الذي لا يقل اعتقاده عن اعتقاد جنده بعبث المقاومة ضد الفرنسيين، قد صار يعنى عناية خاصة بفرسانه الذين يعتمد عليهم في إمكانه مغادرة البلاد إذا تأزمت الأمور، والانسحاب منها، إما بطريق العريش إلى الشام، وإما بطريق السويس إلى بلاد العرب، ثم إن أسطوله بالسويس على قدم الاستعداد للحركة في أي وقت يشاؤه الباشا.

واستطرد «دروفتي» يتحدث عن خطة الانسحاب هذه والتحصينات التي بالقاهرة، فقال: «ومن عناصر هذه الخطة، وأجزائها، ذلك الطريق الذي أنشئ للمواصلات بين قلعة القاهرة وجبل المقطم.» وهو طريق لا أثر لفن تعبيد الطرق وإنشائها في شقه، يفضي بعد بلوغ القمة إلى الصحراء. وأما القلعة ذاتها وسائر التحصينات بالقاهرة فهي ليست في مثل الحال الطيبة التي تركها «جيش الشرق» عليها، ومع ذلك فإذا عمد الباشا إلى اللجوء إلى القلعة، تستطيع هذه القيام ببعض الدفاع، فقد زودها بذخائر الحرب بما يفوق كثيرا ما فعله كل أسلافه، وفي وسعه أن يمونها بالأغذية الوفيرة في أيام قليلة. وأكثر القلاع الصغيرة في المواقع التي حول القاهرة في حال سيئة، ولا يكاد يكون من هذه مزودا بالمدافع، غير تلك التي على الطريق الممتد من القاهرة إلى بولاق، وهذه - كما هو معروف - تحمي خطا من المتاريس والخنادق، كان محمد علي قد أنشأه أيام غزوة الإنجليز الأخيرة، ولا جدال في أنه سوف يعمد إلى نفس الاحتياط، إذا أرغمته الظروف على ذلك، ولكن الجند الأتراك سوف يلقون صعوبة في الدفاع عن مثل هذا الامتداد الطويل من الأرض، إلا إذا بادر لمساعدتهم على الأقل حدوث فيضان مرتفع للنيل، حتى تملأ مياه النهر الخنادق المحفورة؛ إذ يعد الهجوم الأمامي حينئذ غير عملي، ولا غنى عن الاستدارة حول هذه المراكز، مما ينجم عنه صعوبات أكثر، ولكني لا أعتقد أن الباشا سوف يصر على الدفاع خارج القلعة إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد من الحرج، ويبدو لي أن خطة الحرب التي سوف يتخذها، هي بذل قصارى الجهد للاحتفاظ بالإسكندرية حتى تأتيه النجدات التي وعد الإنجليز بإمداده بها في مثل هذه الحالة، وأما إذا فقد الإسكندرية وخسر معركته الأولى، فإنه سوف يرتد إلى القاهرة، ينشر الخراب في البلاد التي سوف يمر بها في طريقه إليها، فإذا بلغ القاهرة الخاضعة لسلطانه، دافع عنها بالحديد والنار من مدفعية «القلعة»، ووضع فرسانه حوالي القاهرة وعلى شاطئ النهر، حتى إذا لم يعد في وسعه الاستمرار في الدفاع، طلب التسليم، أو عمد إلى إنقاذ نفسه بالفرار صوب السويس، حاملا نفائسه وأمواله، وآخذا معه أهله وأصدقاءه الأوفياء، وقد احتفظ لهذا الغرض بعدد كاف من الهجن. «ولم يزد الأتراك خلال السنوات التي قضوها أخيرا بالإسكندرية شيئا على التحصينات الموجودة بها، فكان كل ما فعلوه أنهم قاموا بترميم وإصلاح التحصينات التي تركها «جيش الشرق»، ولا شك في أن السيد «سانت مارسيل» قد أبلغكم - أي الوزير - أمر الأعمال الجديدة التي قام بها الباشا، وهذه - كما يؤكد لي كثيرون - لا قيمة ولا أهمية لها، فهي لا تعدو ترميم الأسوار القديمة من أيام العصور الوسطى حول المدينة، وهذه عند بلوغها حد الكمال لا تستطيع سوى إبداء مقاومة ضعيفة ضد هجوم تؤيده المدفعية، وفضلا عن ذلك يتطلب الدفاع وجود حامية كبيرة بالإسكندرية، مما يتعذر على الباشا فعله، وفي نظري أنه يستحيل عليه العثور بتاتا على العدد الكافي من رجال المدفعية اللازمين للخدمة في المراكز الأكثر أهمية. وأما تحصينات دمياط فهي تماما نفس التحصينات التي أنشأها الفرنسيون (إبان حملتهم) على فرع النيل، على مسافة قريبة من مصبه.»

وقد صحب «دروفتي» «بوتان» في رحلة إلى الصعيد في نوفمبر 1811، استمرت حتى بداية العام التالي، فعاد «دروفتي» إلى القاهرة في أواخر يناير 1812 تاركا «بوتان» في قنا؛ حيث ذهب هذا منها إلى القصير.

وأما «نرسيا» فقد قصد إلى القسطنطينية، والمعروف أنه كان بها في مايو 1811، ثم قصد إلى الأناضول؛ حيث شاهد بؤس أهله العظيم، وانتشار روح الاستياء والتذمر بين سكانه، حتى إن الصانع أو الزارع المسلم - كما قال - صار يتوق لأن تبسط دولة أوروبية سيطرتها على البلاد؛ حتى تعمل على تحريره من طغيان العثمانيين وظلمهم، وكان من رأيه أنه إذا غزيت الشام ومصر، تسنى العثور في بلاد الأناضول على موارد عظيمة تكفي لتغذية جيش مؤلف من مائتي ألف جندي سنوات عديدة، أضف إلى هذا، أن هؤلاء الجند ال 200000 يمكن جمعهم من بلاد الأناضول، بل وأكثر من هذا العدد إذا أراد الباشوات أصحاب الحكم في هذه الجهات. وفي يناير 1812، كان «نرسيا» موجودا بطرابلس الشام، وقد راجت الإشاعات وقتئذ عن وصول أسطول فرنسي أمام الشواطئ المصرية، ثم تحدث «نرسيا» عن عكا، فقال: إن عدد سكانها لا يتجاوز الستة أو السبعة آلاف، وإن تحصيناتها أولية وضعيفة، ولا تعد وحاميتها الخمسمائة، يضاف إليهم خمسمائة آخرون من المماليك الذين هم متغيبون أكثر الوقت، أو مبعثرون في مختلف الجهات، وقال «نرسيا» عن يافا: إن الاستيلاء عليها سهل ميسور.

ذلك كان مبلغ اهتمام نابليون بالشرق وقتئذ، وسواء حالت مشاغله في أوروبا دون غزو الشام ومصر - وذلك ما حدث فعلا - أو أن في وسعه في هذه السنوات، تنفيذ مشروعه، فقد شكل «سر نابليون» سياسته نحو مصر، ووجه نشاط الوكلاء الفرنسيين بها وجهات معينة، تتفق والغاية التي يستهدفها الإمبراطور، والتي ظل رغم مشاغله يمني النفس ببلوغها، ويعمل على تحقيقها.

وآية ذلك - عدا ما عرفنا - أنه حدث في اليوم نفسه الذي وافق فيه الإمبراطور على مشروع التعليمات المعطاة «لنرسيا»، أن كتب إلى وزير خارجيته «الدوق دي كادور» في 13 أكتوبر 1810، حتى يطلب من القناصل الفرنسيين في الشام ومصر مذكرات مفصلة عن مجريات الأمور في هذين البلدين عند أول يناير 1811، فيتناول هؤلاء الموضوع من نواحيه السياسية والعسكرية والمالية، وعلى أن يراجعوا هذه المعلومات حتى تتفق مع حقيقة الأحوال السائدة، عند أول يوليو من العام نفسه، ثم معاودة الكرة مرة ثانية عند أول يناير 1812؛ وذلك - كما قال نابليون - «حتى يجد كل الآراء أو الفكر التي سوف يحتاجها في هذه المذكرات التي يجب أن تكون منظمة ومرتبة، ومتصلة بشئون العلاقات الخارجية.»

وفي اليوم نفسه كذلك (13 أكتوبر 1810)، بادر «الدوق دي كادور» بالإجابة على تقارير «سانت مارسيل» بتاريخ 20 مارس، 25 أبريل، 29 مايو 1810، وقد تحدث هذا في تقريره الأول - وكان تقريرا مسهبا - عن تجارة القمح النشيطة بين مصر ومالطة وعن مسلك «الأب أرمننجيلد» المشين، الذي بادر برفع علم بيت المقدس «بمجرد أن نزل إلى البر قبطان إبريق إنجليزي، ثم وضع نفسه بعد ذلك تحت حماية القنصلية السويدية، والذي أوقف في الكنيسة الدعاء المعتاد لجلالة الإمبراطور نابليون، نتيجة لوصول أوراق غازيتة مالطة، من هذه الجزيرة، تتضمن قذفا في حق الإمبراطور، أو بناء على أوامر يدعي صدورها من البابا.» ثم استطرد «سانت مارسيل» يتحدث عن الشكاوى التي قدمها إلى «دروفتي» في القاهرة حتى يعمل على استدعاء هذا الرجل الديني المنشق، وحتى ينال من الباشا السلطة التي تمكن الوكلاء الفرنسيين من ممارسة اختصاصاتهم في الإسكندرية التي تخضع لسلطان «بتروتشي» القنصل السويدي وأحد وكلاء الإنجليز بها. كما راح يتحدث عن الشكاوى التي بعث بها إلى «لاتور موبورج» بالقسطنطينية، وقال: «وأما الأول (دروفتي) فإنه عجز عن حمل الباشا على التدخل في هذه المسألة، وأما الثاني (لاتور موبورج) فقد أجاب بكل بساطة في رسالته إلي بتاريخ 12 مايو 1809، بأنه ينبغي فيما يتعلق بمسألة «الأب أرمننجيلد» أن يعاقبه رؤساؤه.» ثم عاد فقال في رسالته بتاريخ 6 ديسمبر 1809، إن الواجب يقتضي مغادرة «الأب أرمننجيلد» للإسكندرية. «والواقع هو أني لم أظفر بشيء. وقد أبلغ نيافة الرئيس العام لهذه المؤسسة في بيت المقدس، وهي التي ينتمي إليها الأب أرمننجيلد، وقد أخبرته بكل هذه الوقائع، فأبلغ «دروفتي» في شهر ديسمبر من العام الماضي، أنه قد استدعى هذا الرجل، واستبدل غيره به، بل وأمر بمجيء أحد رجال هذه المؤسسة من القاهرة، ليقوم بوظائف «الأب أرمننجيلد» مؤقتا حتى يحضر من يتسلم عمله، ولكنه لما كان هذا الأخير يدعي لنفسه الحق في استئناف قرار صاحب النيافة لدى رومة، فقد بقي بالإسكندرية، ولم يصل المعين بدلا منه إلى الإسكندرية إطلاقا، مما ينهض دليلا على تضامن صاحب النيافة مع «الأب أرمننجيلد» ومسلكه المزيف، وهو الذي يصدر لوكلائه هنا أوامر متناقضة في نفس الوقت الذي يتهرب فيه من إحقاق مطالبنا المشروعة؛ ولذلك، فمن الضروري القضاء على مكائد هؤلاء الرهبان المشينة، أولئك الذين طمس أبصارهم ذلك التعصب الإجرامي الذي كان مبعث أضرار كثيرة في أماكن أخرى.»

وتحدث «سانت مارسيل» في رسالته بتاريخ 25 أبريل 1810، عن استمرار تصدير الغلال والأرز إلى مالطة، ونشاط تجارة الباشا مع الإنجليز، بينما لم يصل إلى الإسكندرية منذ بداية هذا العام سوى مركبين حربيين وأربع سفن تجارية فرنسية، جاءت من مرسيليا، وتحمل الأخيرة بضائع قليلة وقد عادت محملة بالنطرون خصوصا، وهذا عدا بعض السفن اليونانية التي ترفع العلم العثماني، وقد حضرت هذه من مرسيليا محملة كذلك ببضائع قليلة، وأخذت حمولتها من النطرون، وشكا «سانت مارسيل» من حاكم الإسكندرية الجديد، خليل بك ابن أخت الباشا؛ لأنه فرض ضريبة جمركية أخرى على الصادرات من الكتان والنطرون، والواردات من الأخشاب والصابون وغير ذلك، وكان خليل بك قد عين حاكما للإسكندرية، في مكان طبوز أوغلي، منذ أوائل العام نفسه، وصفه «سانت مارسيل» بأنه شاب لا خبرة له بتاتا، ولو أنه يريد النظام والعدالة، وكان - على ما يبدو في رسالته بتاريخ 29 مايو - أن أبلغ «سانت مارسيل» الوزير نجاح مساعيه أخيرا في إرغام «الأب أرمننجيلد» وغيره من الرهبان المتعصبين في ملجأ أو مؤسسة بيت المقدس الدينية بالإسكندرية على مغادرة هذه المؤسسة.

وقد أجاب «الدوق دي كادور» على هذه التقارير، بتهنئة «سانت مارسيل» على نجاحه هذا، وقال: «إن الهدوء المعتاد سوف يعود إلى الملجأ أو المؤسسة، بذهاب هؤلاء، كما امتدح نشاطه في إرسال المعلومات الخاصة بالنشاط التجاري في الإسكندرية، واستزاده منها في تقاريره المقبلة، وطلب إليه أن يبلغه كل ما يمكنه الوقوف عليه من معلومات ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بصالح حكومة جلالة الإمبراطور، وعلى الخصوص فيما يتعلق بتجارة إنجلترة ونظامها البحري.»

Shafi da ba'a sani ba