Daga Bayan Mariro
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Nau'ikan
ما ذهب صاحبنا هذا مذهبا في حديث له إلا جعل غايته تلميحا أو تصريحا، أن يلقي في روع السامع أنه كان في إنجلترة، وأنه بذلك فوق مستوى من لم يتواف له مثل حظه مهما تكن مكانته؛ وكيف يكون لمن لم يحظ بذلك مكانة في نفسه على أية صورة من الصور؟ كذلك يعتقد ذلك الأستاذ الذي يتندر تلاميذه، فيما أعلم من عبثهم، أنهم يحصون عليه إشاراته إلى ذلك الشرف في دروسه، وإن أحدهم ليراهن صاحبه على درس يأمل أن ينسى فيه الأستاذ ذكر ذلك، ولكنه يخسر كل مرة، حتى لتحدثه نفسه أخيرا أن يذهب إلى أستاذه فيتوسل إليه أن ينسى مرة واحدة، وله ما شاء بعدها من الإذعان والمودة!
وكيف ينسى الأستاذ، وإن هذا الأمر ليجري في نفسه مجرى النفس في رئتيه لا يكاد يتسغني عنه لحظة؟ وأول ما يستطيل به عليك - إذا اغتررت بنفسك فطاولته - وأول ما يشتكي به إليك - إذا اطمأن إليك فأفضى إليك بهمه على الرغم مما يتقلب فيه من نعمة - أنه رجل
qualified ، وليعذرني القارئ إذا ذكرت عبارته كما يوردها، فإني لأخشى ألا يؤدي تعريبها ما يريد من معنى، فيضيف بذلك إلى أدلة جهلي عنده دليلا آخر، ولا تنس أن من لم يذهبوا إلى الخارج هم عنده جميعا جهلاء أدعياء!
وهو لا يسمح أن تكون كفايته موضع شبهة من أحد رئيسا كان أو مرءوسا، وإنه ليخطئ الخطأ في جدله لا يختلف اثنان في أنه خطأ، ومع ذلك فإنك لتزحزح الجبل الراسخ عن موضعه ولا تزحزحه هو عن موقفه بأية وسيلة من الوسائل؛ ويظل في مكانه لا ينحرف قيد شعرة، ولن تزداد أنت بمحاولتك عنده إلا أنك تمعن في المكابرة، وتسرف في الحمق، وتبالغ في الغفلة، وإنه لن يؤمن أنه يخطئ إلا إذا كان يجادل أحدا ممن اغتربوا ولو إلى قبرص!
وليته يقف عند هذا الحد، فإنه ليقحم نفسه في كل جدال، فيستمع لحظة حتى إذا قرر أحد المتكلمين أمرا جابهه بأنه يقرر الخطأ قائلا: «لا، هذا خطأ.» يقولها في غير مراعاة منه لأي وضع من أوضاع الذوق، ثم يزيدك نكدا بأن يسمعك نصف عباراته بالإنجليزية ونصفها بالعربية، ولقد يستكثر النصف على العربية أحيانا، فلا يأتي منها إلا ببعض ألفاظ، ويمعن في الكيد لك فيستدل على رأيه بما قرأ من كتب يذكر أسماءها، والله يعلم نصيب كل منها من الوجود، ولن يذكر فيما يستدل به من الكتب اسم كتاب عربي، وكيف يفعل هذا وهو لا يتورع أن يقول في صراحة إنه يضن بريال من ماله على شراء أي كتاب عربي، بينما يدفع جنيها كاملا أو أكثر، ثمنا لأي كتاب إفرنجي؟!
إذا صرفت النظر عن طربوشه وسحنته فأنت منه - إذا تبقى بعد ذلك شيء - حيال إنجليزي لا حيال مصري؛ فسرواله وحلته وحذاؤه، كلها إنجليزية اللون والتفصيل، وغليونه إنجليزي الوضع والهيئة والحجم، وأسلوبه في تفريغ ذلك الغليون بدقة على كعب حذائه وفي حشوه وإشعاله أسلوب إنجليزي على رغمي ورغم غيري من الذين ينكرون عليه كفايته؛ لأن الغيرة تملأ نفوسهم والحقد يوغر صدورهم.
وإنه ليدق الأرض دقا بحذائه الغليظ إذا مشى، ويومئ برأسه مع كل دقة إيماءة الكبرياء، فيكون في ذلك إنجليزيا أكثر من الإنجليز أنفسهم؛ وهو يكمل بذلك أدلته على أنه قد صار أحد هؤلاء الإنجليز الذين أخذ عنهم؛ وإني لن يسعني مع هذا إلا أن أسلم له بأنه
Qualified
حقا، وإلا فهل ثمة من فرق بينه وبين من يتشبه بهم؟
ويسيطر على سلوكه خيال إنجليزيته سيطرة عظيمة عند علماء النفس تأويلها فيما يسمونه مركب النقص؛ أما أنا فعملي عمل المصور الخبيث، فأراه حين يتكلم الإنجليزية مثلا - وقل أن يتكلم غيرها - يلعب بفكيه لعبا لن أستطيع أن أنكر ما فيه من مهارة، وإلا كنت مكابرا حقا، وأراه يلعب دور الملحن أيضا، فهو لا يقنع بالمبالغة في إمالة ما يتطلب الإمالة من الحروف، ولا بتفخيم بعض الألفاظ وترقيق البعض، ولا بمد أواخر كلمات واختطاف أواخر كلمات غيرها، ولا بالإتيان بغنة وشنشنة هناك، ولا بقلقلة لسانه فيما يقابل «الراء» عندنا من الحروف الإنجليزية؛ ليخرجه بعد حشره بين وسط اللسان وسقف الفم ... لا يقنع بذلك كله وإنما يحاول أن يكون صوته كصوت الإنجليز، فلا يتسق له - وا أسفاه - إلا خليط من اللغط والمواء يحمل أشد المحتشمين على الضحك، ولقد رأيت أحد الإنجليز يستمع إليه وهم، أراحنا الله منهم، أهل كياسة ودماثة، فلم يتمالك نفسه من الضحك فحجب وجهه بورقة في يده، وضحك ملء نفسه ثم عاد يحاول في جهد الاحتشام والوقار ...
Shafi da ba'a sani ba