فأنت تجد مما تقدم أن الخوف على العربية له ما يفرضه من النُّذُر، وأنه تمكن في النفوس حتى تضافرت جهود العلماء وذوي السلطان على صيانة العربية، وأن الحرمان من المال أو العمل مما كان يصيب اللحانة، وأن فصاحة المرء قد ترفعه إلى الولايات والغنى، وتزيد شأنه عند أولي الأمر؛ وهذا من طرف السلطان كافٍ في الترغيب والترهيب. وسؤال الحجاج عن لحن بعض الناس ذوي الشأن مشعر باهتمام الحكومة والمجتمع بأمر اللحن، وذلك طبيعي من دولة قامت على العصبية العربية بعد أن رأت اللحن يفشو في الطبقات الرفيعة من الأمراء والحكام وأشراف الناس، وفي قصة بشكست النحوي تعبير واضح عن أمرين: فشو اللحن ونظرة المثقفين إليه، ولا بأس في إيرادها ففيها طرافة، وفيها ظرف:
_________
= المؤمنين، فأين أنت عن الوليد سيد شباب العرب!، قال: "يا أبا زرعة، لا ينبغي أن يلي أمر العرب إلا من يتكلم بكلامها" فقام الوليد فدخل منزله فجمع إليه أصحاب النحو، فأقام ستة أشهر معهم، وخرج يوم خرج وهو أجهل بالنحو منه يوم دخل، فقال عبد الملك: "قد أجهد وأعذر" المصدر السابق، الورقة ٤٢١/ ١.
واحتج على عبد الملك بلحن الوليد هذا، فقد ذكر ابن عساكر أن عبد الملك قال لرجل من قريش: "إنك لرجل، لولا أنك تلحن" فقال: "وهذا ابنك الوليد يلحن! " قال عبد الملك: "لكن ابني سليمان لا يلحن" قال الرجل: "وأخي فلان لا يلحن! " الورقة ٤٢٤/ ١.
بل كان لا يستطيع تجنب اللحن حتى على المنبر، ذكره أبو الزناد يوما فقال: "كان لحانا، كأني أسمعه على منبر النبي ﷺ يقول: يا أهلُ المدينة! ".
بل كان لا يستطيع تجنبه حتى في آيات القرآن: قرأ يوما على المنبر: "يا ليتها كانت القاضيةُ" بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز "وكان تحت المنبر": يا ليتها كانت "القاضية" عليك وأراحتنا منك! " الورقة ٤٢٤/ جـ.
وكان عمر بن عبد العزيز هذا أشد الناس في اللحن على ولده وخاصته ورعيته، وربما أدَّب عليه. إرشاد الأريب ١/ ٨٩.
1 / 15