ودخل غرفته فأشعل مصباحه وبسط دفاتره، فإذا هو لا يكاد يرى، وإذا الكلمات والسطور تتلوى أمام عينيه كما تشاهد فرقة زنجية راقصة ...
وطوى دفاتره وارتدى ثيابه وخرج إلى الطريق. كانت ليلة الجمعة، فلم يجد حرجا أن يقضيها في السينما ... ووقف ببابها مترددا وهو يحصي النقود في جيبه، وعيناه تتبعان المارة أزواجا وجماعات، وهو وحده من بينهم لا يتأبط إلا همه! ليته كان يستطيع أن يدعو واحدة من صديقاته في الدار إلى نزهة، فيصحبها ذراعا إلى ذراع في الطريق كهؤلاء الذين يرى ...! ولكن من أين له ... من أين له المال؟
كم يكفيه ليقضي ليلة سعيدة في صحبة فتاة؟ لقد عرف القاهرة الآن عرفانا تاما، فلا سبيل إلى أن يخدع؛ سيشاهد معها السينما في شرفة، ويتعشيان معا في مطعم، ثم يستقلان سيارة إلى الهرم، ويشتري لها كل ما تهفو نفسها إليه في الطريق، وبعدئذ يعودان إلى الدار ...
وفرغ من حسبته وهو يبسط أصابعه ويطويها يحصي ما أنفق وعيناه تأخذان كل من يمر به ... جنيه، جنيه واحد يمكن أن يمنحه سعادة ليلة! وسخر من نفسه حين انتهى إلى ذاك ... من أين له الجنيه ...؟
ومر به غلام يبيع الجنيهات بالقروش، يبيع النصيب ... ومد إسماعيل يده فأعطى البائع قرشا وتناول ورقة فطواها بعناية ووضعها في جيبه، كأنما هو يطوي الجنيه الذي سيصل بين يقظته وأحلامه. ثم عاد إلى البيت فلم يشهد السينما.
لم يفكر في شيء من أمره في تلك الليلة، فنام ملء عينيه وملء بطنه، ورأى أباه في الرؤيا بجلبابه الأسود الفضفاض، وعمامته التي تكبس أذنيه وتغطي بعض وجهه، جالسا بين غرائر الفول على ظهر المركب المبحر إلى الشمال، يحصي ربحه ونفقاته، وقد اغبرت لحيته وعلا التراب كتفيه.
ونهض إسماعيل في الصباح فنسي كل ما كان من أمره. وصعدت إحدى صواحبه إلى السطح لبعض شأنها، وحياها وحيته وهو يبتسم كأنه يخفي عنها مفاجأة سارة، وعادت الفتاة، وعاد إسماعيل إلى شئونه.
وأوقد النار، وراح يهيئ الفول بيده على طريقة بلاده، سوف لا يتغدى في المدرسة اليوم؛ لأن اليوم عطلة، وفي فطور الفول ما يغني عن الغداء فلا تختل ميزانية اليوم ...!
ومر يومان، وراح يكشف عن بخته بين أوراق النصيب ...
وترقب الفتيات أن يسمعن غناءه فيصعدن إليه، ولكنه لم يعد، واستقل أول قطار إلى الصعيد ...
Shafi da ba'a sani ba