لقد أخفقت فيما كانت تسعى إليه، فلم تظفر بشيء من السعادة التي انطلقت وراء أوهامها وحطمت في سبيلها عش الزوجية، وقطعت آصرة الأمومة. وحالت الثمرة التي كانت تتشهى حلاوتها مرة كريهة المذاق حين عرفت منزلتها الحقيقية من نفوس المعجبين بها والمزدلفين إليها من الرجال. لقد انفضوا عنها جميعا بعد أن ملوها، وراح كل منهم يلتمس لحظات سعيدة في غرام جديد أبي يذوق فيه لذة الظفر بالمغيب المجهول ... وعادت إلى الماضي تستلهمه الرأي حين تنكر لها الحاضر، فإذا بقية من العاطفة لم تزل تجاذبها إليه، واستيقظت أمومتها ...!
وذكرت في النهاية الرجل الذي كان يحبها، والذي كان يبيع من أجلها كل شيء، فجاءت تسعى إليه معترفة تائبة ... هيهات ...!
لقد أضلها السراب طويلا، فلما همت أن تعود إلى مناخ الركب كانت القافلة قد ذهبت في طريقها، فلم تدرك غير الغبار يقذي عينيها وتتكاءدها عقبات الطريق!
واستبطأ الفتى أباه عند الباب فأطل من الشرفة ينظر، ثم ارتد ... وأغلق الرجل دونها بابه وخلفها على الطريق، ووقفت بينه وبينها الذكريات المؤلمة عن ماضيها وعن ماضيه؛ لم تؤثر فيه دموع الندم، ولم يعطفه عليها ما ناشدته الحب القديم؛ فقد علمته من قبل كيف يكون بليد العاطفة، فبقي معها بليد العاطفة؛ وعلمته ألا يؤمن بالحب، فأثبت لها أنه لا يؤمن بالحب؛ وعلمته ألا يثق بوعود امرأة، فأكد لها أنه أبدا لا يثق بوعود امرأة ...
وحين عادت المسكينة امرأة ذات قلب ... عاد المسكين رجلا بلا قلب ...!
جناية رجل!
... أجابني صاحبي: «نعم، لقد كان ذلك عملا لا ينبغي، على أنه قد أودى بشرف امرأة، وهناءة رجل، وضيعة طفل يتم في حياة أبويه، وصيرني في عين نفسي وفي عيون الناس إلى ما ترى ... وما أحاول أن أبرئ نفسي، بل إنني لأشعر أحيانا أن علي وحدي إثم هذه الجناية التي لم أقترفها ولم يكن لي يد فيها!»
وصمت صاحبي برهة وهو يحدق في وجهي بعينين فيهما حيرة وارتياب، ثم استأنف الحديث: «بلى، وأقسم لك يا صاحبي، ولكنني كنت رجلا كما تعرف، فلم يكن لي أمل في امرأة ولم يكن لامرأة حظ مني، وأين تجد المرأة عندي ما يغريها بي؟ وأين أجد من نفسي ...؟ لقد كنت أعرف نفسي عرفانا حقا، ولم يكن يخفى علي ما يتحدث به الرجال والنساء عني، وما تتحدث به إلي مرآتي. لقد كنت وما يطيب لي أن أنظر إلى المرآة، كأني حين أنظر إلى صورتي بإزائي أرى شخصا غريبا عني بغيضا إلي لا أطيق أن أراه أو أنظر إلى صورته، وحين يتفق لي أن أرى شخصا في وجهه بعض ما أعرف لنفسي من الدمامة، أزوي عنه وجهي، كأنما يذكرني مرآه بشخص أكرهه ...!
أراك تنكر علي ما أقول يا صديقي، ولكن ذلك كان هو رأيي في نفسي على حقيقته، وقد يكون رأيا غريبا، فما أعرف فيما قرأت أو سمعت أن أحدا كان له في نفسه مثل رأيي في نفسي وإن بلغت دمامته الحد الذي يوشك أن يبعده من حقيقة الآدمية! ... وكنت مؤمنا بأن القدر الذي تكتنفني صروفه منذ الطفولة قد هيأني لشيء غير ما يتهيأ له الرجال في عالم المرأة، من الحب والزواج والأبوة، كأنما كانت تلك العلة التي شوهت وجهي صغيرا، وتلك الحادثة التي أصابتني بالعرج صبيا؛ تحولا في إنسانيتي، وحجازا بيني وبين أحلام الطبيعة التي تهمس في الدم وتوسوس في القلب. وشعرت منذ فقدت أمي ولم أتجاوز السابعة بعد، أن آخر سبب كان يربطني بالمرأة قد انقطع، فليست من دنياي ولست من دنياها، وعشت عمري في هذه الحقيقة من بعد، لا تنظر عيناي إلى امرأة ولا أحس وقع نظرة امرأة، ولو قد أحسستها مرة لخجلت؛ لعلمي أنها لا تنظر حين تنظر إلي رجلا مما يقع في عالمها، ولكنها تنظر مسخا مشوها يشير إلى آية من آيات القدرة الخالقة! ... كذلك كنت عند نفسي حتى لقيتها، فأرتني من نفسي صورة غير ما كنت أعرف لنفسي، وكشفت لي عن صورتي في مرآتها ...! ... كنت يومذاك جالسا إلى مكتبي أعالج عملا دقيقا لا يصلح أن يتولاه غيري، حين دخل علي حاجبي يؤذنني أن سيدة تريد لقائي، ونهرت حاجبي إذ قطعني عن عملي من أجل امرأة، وما لي وللنساء؟ ما شأنهن وشأني؟
ودعوت شابا من مساعدي ليلقاها ويتقصى أمرها فيخبرني، وكثيرا ما كنت أندبه لمثل ذلك فيكفيني ويجزئ عني، ولكنه في هذه المرة لم يغن عني شيئا، وعاد إلي ينبئني أن السيدة لا تريد لقاء أحد غيري، وقد كنت أعلم من طول خبرتي في هذا العمل الذي أتولاه، ما تدعوني له مثل هذه الزائرة، فما هو إلا اعتقادها أنني - وأنا رئيس المكتب - أقدر على قضاء حاجتها من غيري، وإن كانت حاجتها من التفاهة بحيث يستطيع ساعي المكتب أن يقطع فيها برأي ...! ذلك رأي النساء جميعا، وإن إحداهن ليبلغ منها الإلحاح في طلب لقائي أن تضجرني وتحرج صدري، فلا أجد عقابا لها على ذلك إلا أن أخرج إليها فتراني ... ... ولم أكن في ذلك اليوم متهيئا لاستقبال أحد، ولم تكن بي رغبة إلى عقاب امرأة، فطلبت إلى حاجبي أن يعتذر إليها. وخرجت السيدة ولكنها لم تلبث أن عادت، وعاد حاجبي يؤذنني برغبتها في لقائي، وتكرر بيننا الرجاء والاعتذار، حتى لم أجد بدا في النهاية من الخروج إليها ...
Shafi da ba'a sani ba