وقالت له أمه: «ما بي خوف الوحدة يا بني وأنت لي، فقم على الدار والدرس، إن الرجولة تقتضيك أن تكون من أهل العلم والكرامة، فقد كان أبوك عالما كريما. كن للناس ما كان أبوك: وجها طلقا، ونفسا سمحة، ويدا معطية، وقلبا يفيض بالحب!»
وخيل إلى الغلام أنه الرجل، وطمأنه إلى الناس أن أباه أوصاه بالناس، فلم يرد لأحد طلبة، وإنه ليحمل من هموم الناس أكثر مما يحمل من هم نفسه، مؤمنا بأنه يفعل واجبه للجماعة، ويؤدي دينه للإنسانية، مستيقنا أن الناس ستحمل عنه إذا نابه هم!
وقال له جاره يوما: «إن دائني يركب كتفي، فهل عندك فضل من المال إلى حين؟» وأعانه ما قدر على إعانته، فإذا جاره لا يلقاه من بعدها إلا حاد عن الطريق، وإن في «الرجل الصغير» لقليلا من سوء الظن، وإن فيه لكثيرا من الحياء!
وهل يحيد الرجل عن طريقه إلا استحياء من عسرته وضيق يده؟ وهل في الناس - فيما يرى - من يجحد الفضل وينكر العارفة ...؟
وسأله صديق مرة: «هل تعينني على تأديب ولدي؟ فما بي طاقة على أن أدفعه إلى معلم بالمال، وما بي طاقة على أن أهمله من التعليم!»
واهتزت نفس الفتى؛ لأنه - فيما بدا له من صاحبه - قادر على أن ينفع الناس مثل أبيه. وشدا الولد من العلم ما شدا، فأنكر معلمه وتنكر له أبوه!
وقال رجلنا لنفسه: «يا للأب المكدود! لقد حزبته مشغلة العيال عن ذكري، ليته يستعينني على بعض أمره!»
ومن أين للفتى أن يعلم بأن كل مبذول مهين ...؟
وقال له واحد من قرابته ينصحه: «هلا ادخرت فضل اليوم للغد؟ إن المال عصب الحياة، وجاه الرجولة، ومطية الأمل البعيد!»
وابتسم «الفيلسوف الصغير» وهو يقول: «المال؟ ما أحب أن أجعل المال خاتمة المسعى وغاية الجهاد، إن البطن لشبر في شبر، وإن الثوب لذراع في ذراع؛ أفيتسع البطن حتى يبتلع غلات ضيعة، أو تطول القامة حتى ما يكسوها إلا ثوب بألف، أو يتضاعف الجسم حتى ما يؤويه إلا بيت في مساحة مدينة؟ أنا هو أنا يا صديقي غنيا أو فقيرا ، بطني هو بطني، وثوبي هو ثوبي، وبيتي هو ما امتد من قدمي إلى رأسي حين أنام ...!
Shafi da ba'a sani ba