وغبرت أيام وأسابيع، وعرف البواب والبستاني ووكيل المكتب وحاجب المجلس إبراهيم بن منصور بك، وتعود حسان رنته على جرس الدار والمكتب في الصباح وفي المساء في مواعيد راتبة لا تكاد تختلف؛ فإنه ليعرف متى يقدم إبراهيم هنا ومتى يقدم هناك؛ وكانت بشاشة وجه حسان تذهب عنه السأم والملالة وتجدد له الأمل!
ولكن حسانا لم يكن مستريحا إلى ذلك وإن اصطنع الرضا والارتياح؛ فقد كان يئوده ويثقل عليه أن يتبع إبراهيم خطاه في كل غدوة وروحة ليذكره بعجزه وضعف حيلته وقصور جاهه، ولقد كان إبراهيم أكثر وقته صامتا ولكنه صمت ناطق؛ فما يزوره ويعاوده إلا لأمر واحد يذكره إياه بوجهه حين يعجز بيانه، وما يسأله حين يسأله إلا على خجل واستحياء وفي صوته رنة المعتذر، على حين لا يتلقى صاحبه سؤاله إلا كالزجر والتأنيب والعتب القاسي ...! وماذا يملك «النائب المحترم» إلا أن يحتمل على مذلة أو يصرح بعجزه وقلة حيلته ...؟ وأحلاهما مر!
وود حسان أن ينظر مرة فلا يرى وجه إبراهيم بإزائه يؤنبه بنظرته ويعيره بعجزه!
ومضى شهران منذ خطا إبراهيم أول خطاه إلى «النائب المحترم» يستعينه على أمره، ولم يظفر بشيء إلا وعودا تترادف ومواعيد لا تختلف؛ وضاقت نفسه، وعز عليه أن يبتذل نفسه على هذا الوجه؛ وقالت له نفسه: «ما أنت وذاك؟ أتراه يواعدك إلا ليراك الناس في ركابه فيزهى ويستطيل وتذل أنت وتخزى ...! وإنك لسيده ومولاه وإن شالت كفة في الميزان ورجحت كفة!»
ودمعت عين إبراهيم واحتبس خطاه منذ اليوم! ... وظل «النائب المحترم» في فراشه إلى الضحى؛ إذ لم يدخل إليه الخادم في الصباح ينبئه بمقدم إبراهيم ... كعادته منذ شهرين!
وقطع الطريق من المكتب إلى المجلس ماشيا وحده لا يتبعه أحد ...
وخرج من المجلس في المساء لا ينتظره منتظر ...
وأحس لأول مرة منذ شهرين أنه ليس «النائب المحترم» الذي كان أمس وقبل أمس له صوت وصيت، وله جاه وشفاعة، ولكنه رجل من الناس، بل رجل دون الناس؛ لأنه حسان التلميذ الفقير الذي أردفه يوما إبراهيم بن منصور بك على ركوبته في آخر الطريق!
وهل عاش ما عاش «نائبا محترما» إلا في أوهام الجاه الذي كان يزخرفه لنفسه وإبراهيم يتبعه ظلا يطأ ظلا على الطريق؟ فما هو اليوم وقد فقد الظل الذي كان يسند جاهه على أعين الناس؟
وهل زاد شيئا على ما كان يوم كان، إذا كان مجده وجاهه في حاجة إلى ما يسندهما من ظل الجاه الذي يمنحه إياه إبراهيم؟ هل زاد شيئا على التلميذ الفقير الذي أردفه ابن سيده يوما على ركوبته في طريق القرية؟ ... وافتقد النائب المحترم جاهه، فأرسل يدعو إبراهيم إلى لقائه وكان يتمنى قطيعته؛ ولكن إبراهيم حين وجد كبرياءه نسي حاجته؛ فظلت دعوة بلا جواب!
Shafi da ba'a sani ba