كان لإبراهيم ولد واحد يدخره للزمان، وقد تقلبت به الحياة من تقلباتها حتى صار مسئولا في كل يوم أن يفكر في غده. ونال ولده «إجازة الجامعة» فأهمه أمره بعد تخرجه أكثر مما كان يهمه وهو تلميذ بين يدي معلميه؛ إن عليه أن يفكر في غده ومعاشه، فإن تكاليف الحياة اليوم غير ما كانت منذ بضع عشرة سنة؛ لقد كان يومئذ في يده غده!
وراح إبراهيم يطرق أبواب الدواوين يطلب عملا لولده؛ فإذا الأبواب موصدة، وإذا على كل باب مكتوب: «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟»
ومضى يلتمس الشفعاء من ذوي الحسب الرفيع والنسب العالي، فإذا مكتوب على كل باب: «لكل زمان دولة ورجال!»
وسأل: «لمن الحكم اليوم؟» فإذا ضحكة ساخرة تتجاوب بها جدران أربعة ولها صريف كصريف الدينار، وارتد إليه الصدى بعيدا من بعيد فتذكر من غفلة ...
وتذكر صديقه حسانا وماضيه معه، يوم كانا جنبا إلى جنب في المدرسة، وكتفا إلى كتف في الطريق، ويدا إلى يد على المائدة، ولكل ثوب من ثيابهما تاريخ في الجدة وتاريخ في البلى ...!
وذهب إليه ... ... وعاد يزوره بعد أيام، وأفضى إليه بسره ...
وغامت في وجه حسان غائمة؛ إنه لم يكن يقدر أن صديقه القديم قد جاءه لمثل ذاك؛ لقد كان حسبه أن يستشفع به في تعيين خفير، أو إبدال عمدة بعمدة، أو رخصة في مناوبات الري؛ فإن ذلك شيء يطيقه ولا يكلفه رهقا، ولا عليه أن يرجو مأمور الضبط، أو وكيل المديرية، أو مهندس الري. أما هذه المشكلة المالية التي تقتضيه كلام الوزير، أو توصية اللجنة المالية، أو تهديد الوزارة كلها بسؤال أو استجواب؛ فذلك شيء لا طاقة له به؛ لأنه لم يبلغ من الجاه هذا المبلغ بعد!
وعز على «النائب المحترم» أن يعتذر؛ فطول لصاحبه في الأمل وطاوله ... وهل يهون عليه أن ينزل عن جاهه في وجه سيده القديم فيعتذر إليه من عجز؟ يا للهوان!
وراح يحاول سعيا يعرف آخرته من أوله، وواعد صاحبه موعدة ... وتكررت مواعيده، وتكررت زيارة إبراهيم ...!
وألف الناس أن يروا إبراهيم بن منصور بك رائحا مع حسان في المساء، وغاديا عليه في الصباح، وألف حسان أن يراه في ركابه مصبحا إلى المحكمة، وممسيا إلى دار النيابة، وكل زيارة تجد له أملا وتقطع مللا؛ واقترنت في خيال سكان الحي وفي مرأى عيونهم صورتان لا تكاد تفترق واحدة منهما عن واحدة: رجلان وجه أحدهما إلى الأرض وأنف الآخر إلى السماء، ولا يكادان يتقاربان في الطريق إلا ظلا يطأ ظلا!
Shafi da ba'a sani ba