ورحم الله أباه! هل كان إلا خوليا في ضيعة «منصور بك» يلبس ما يخلع عليه سيده، ويأكل ما يفضل من رزقه؟
وهل كان حسان يومئذ إلا ابن أبيه، يدرج من كرم سيده وسيد أبيه في قصر ذي أبهاء وشرفات، وينعم من عطفه بأطايب المتع واللذات ...؟ ... ودخل «حسان» المدرسة الابتدائية مع ولدي سيده، وتبرع له منصور بك بمصروفات المدرسة ونفقات الطعام واللباس والمأوى؛ إذ كان وجوده في المدرسة مع ولديه حماية لهما في الوحدة، وجاها من جاه أبيهما في دار الغربة لا يقوم بمال؛ ومضى ثلاثتهم في الطريق إلى المدرسة، طريق أوله أزهار ورياحين، وآخره ... وآخره مكتوب في لوح القدر ...!
ترى أين انتهى بهم الطريق؟
هذا حسان «نائب محترم» له صوت وصيت، وله جاه وشفاعة، وله ...
فأين بلغ صاحباه بعد طول السنين؟
وكان «النائب المحترم» جالسا وحده وقد قام لتوه من نومة الظهيرة، فسرح بصره يمينا وشمالا، وتنفس تنفس الارتياح والرضا؛ وحضرته الذكرى ... «ما أسرع وثبات القدر!» قالها «النائب المحترم» لنفسه في خلوته وهو يبتسم؛ فما كان ليخفى عنه أنه لولا القدر ما بلغ هذه المنزلة. وهل كان بجده واجتهاده أن يجتذبه «الحزب الحاكم» وهو محام مغمور لا يكاد يجد رزقه؛ ليرشحه للنيابة في وجه أعظم «باشا» في الإقليم، ويحشد له الحزب كل قواه العاملة، وكل وسائله في الدعاية والترويج؛ ليفوز على منافسه الغني الوجيه؛ لأن الحزب الحاكم لا يريد أن ينجح ذلك الغني الوجيه ...؟
وهل كان بجده واجتهاده أن ينام ويصحو، فإذا «مكتبه» المنزوي في ركن من أركان المدينة لا يكاد يعرفه «شيخ الحارة» قبلة أنظار المتقاضين وأصحاب الدعاوى؛ لأن صاحبه محام ونائب محترم، له صوت وصيت، وله جاه وشفاعة ...؟
لكأنما كان له وحده مغانم هذه «الديمقراطية» التي يتغنى الجميع بنظامها ومزاياها. وهل كان ما ينعم به من الجاه والغنى والسيادة إلا حسنة من حسنات هذه الديمقراطية؟ ... وذكر ماضيه، يوم كان تلميذا في المدرسة الابتدائية مع ولدي سيده منصور بك؛ لقد كان عليه يومذاك أن يحمل كل صباح وكل مساء ثلاث حقائب ، ذاهبا إلى المدرسة مع زميليه وآيبا. واستحيا حين تذكر، وغمرته موجة من الحقد والكبرياء كادت تعميه، ثم استيقظ ضميره؛ وهل صار إلى ما صار إليه إلا بفضل هذه الحقائب الثلاث ...؟
وتتابعت الذكريات على عينيه؛ وحضرته حادثة بعينها، فعض على شفتيه واختلجت أهدابه؛ إنه لم ينسها بعد وقد مضى عليها بضع وعشرون سنة، فما ذكرها مرة إلا غص بريقه كأنما حدثت منذ ساعات ...! ... كانت تلك الحادثة في «يوم الخميس»، وقد وقف التلاميذ الثلاثة ينتظرون الصبي الذي يحضر إليهم بالحمير الثلاثة يركبونها إلى القرية، حيث يقضون عطلتهم الأسبوعية. وطال بهم الانتظار في هذه المرة، فلم يحضر الصبي إلا بعد ساعات من موعده، ولم يكن معه إلا حماران، فقد تعطل الحمار الثالث في الطريق لشر أصابه ... ... ووثب الفتيان إلى ظهر حماريهما، وتركا حسانا يعالج همه، لم يفكر أحدهما في شأنه ولم يخطر لهما على بال؛ ومضى صبيان يعدوان وراء الركب، أحدهما حسان يحمل الحقائب الثلاث ... وتذكر الراكبان صاحبهما وقد أشرفا على القرية، فالتفت إليه «إبراهيم» فدعاه أن يرتدف له فيما بقي من الطريق، وحمل الثاني عنه الحقائب الثلاث يرتفق إليها بكلتا يديه نائما أو كالنائم ...!
ليت شعري أيذكر حسان هذه الحادثة حسنة من حسنات منصور بك وولديه أم سيئة من سيئاتهم؟!
Shafi da ba'a sani ba