ماذا ...؟ أليس يعرف الناس للأديب في هذا البلد حقه إلا بعد أن يموت؟ ما أغلاه ثمنا للمجد!
وابتسم الفتى ساخرا، ثم سكت وعاد إلى نفسه يؤامرها ... وانصرفت نفسه عما هو فيه، وتناول حزمة من الرسائل لم يقرأها بعد، وفض منها رسالة، وقرأ:
سيدي ... فلماذا ...؟ ولماذا لا نجد في الأمة العربية شعراء وكتابا ومنشئين كبعض من نقرأ لهم من أدباء أوروبا ...؟
وطوى أحمد الرسالة وهو يتمتم: نعم، لماذا ...؟ لا لا، إنني أكاد أعرف ... ولكن، لماذا ...؟ لماذا لا يزال - مع ذلك - في ناشئتنا الغافلة من يرجو الخلود في الأدب ويلتمس به المجد والغنى؟ هذا هو السؤال الذي يحق!
وتذكر الرواية التي شاهدها في السينما منذ ساعات، وتذكر صديقه الذي يهم أن يعد حديثا عنه ليوم ذكراه ... وصمت برهة، ثم وقف وراح إلى المصباح فأطفأه، وقصد إلى فراشه، ولكنه لم ينم ... واستغرق في تفكير عميق ... وأحس برد الراحة على قلبه حين انتهى من تفكيره إلى حد ... ... وأصبح أصدقاء أحمد يسألون عنه فلا يجدونه، ومضت أيام ولا حس ولا خبر، إلا رسالة موجزة تلقاها بعض صحبه وليس فيها إلا هذه الكلمات: «إنني ذاهب ... لقد برمت بدنياي ... وداعا يا أصدقائي!»
وجد أصدقاؤه في الطلب فلم يقفوا له على أثر، وظنوا الظنون ... ثم استيقنوا حين عثر بعض الرواد في صحراء الجيزة على أشلاء آدمية تكاد تواريها الرمال في قعر هوة سحيقة من هوى الصحراء. لم يكن ثمة وجه يبين، ولا لسان ينطق، ولا أثر يدل، إلا قميصا خلقا قد حال لونه وتمزقت حواشيه ... لقد أكل الوحش من ذلك الجسد ما أكل، وأبلى الرمل ما بقي، فما هو إلا عظام نخرة وأنابيب جوفاء وأديم ممزق!
وقال واحد من صحابته: لقد توقعت له هذه الخاتمة منذ بعيد، ويا طالما حذرته من ارتياد الصحراء وحيدا في غبشة الصبح أو في ظلمة الغسق فلم يسمع لي، يزعم أنه يجد هناك مهبط الوحي ومنبع العبقرية!
وقال الثاني: وكذلك زعمت لنفسي حين جاءتني رسالته يودعني ويستودعني، لم يقع في نفسي إلا أنه ذاهب إلى الصحراء، لقد تحدث إلي مرة ... وكان يتشوق إلى اليوم الذي يفارق فيه دنيا الناس إلى معزل هادئ على حدود الصحراء يأنس فيه إلى الوحش فلا يرى أحدا من الناس ولا يراه أحد، فلعله ...!
وقال الثالث: يرحمه الله! وانحدرت على خديه دمعة فجاوبتها أخواتها من عيون أصحابه، وعزى بعضهم بعضا، ثم انصرفوا يحملون رفات الشاعر الشهيد إلى مثواه، وتداعى الناس إلى مأتمه محزونين وإن حديثه ليرطب كل لسان!
وكتب اسم أحمد في سجل الراحلين من الأدباء العباقرة ...! وصاح الصائح في الأمة يدعوها لتخليد ذكرى الأديب الراحل، وطفحت أنهار الصحف الأدبية بالحديث عنه وتمجيد ذكراه! وانعقدت جماعات، وتألفت كتب، وبذل مال، وتزاحم الناشرون يزايدون بالمال لشراء مخلفاته الأدبية ... وجد البعداء من أهله يطلبون نصيبهم في تركته!
Shafi da ba'a sani ba