أكان ذلك مني عن إخلاص في العمل وحرص على مصلحة التعليم، أم كان إيحاء من الواعية الباطنة التي تختزن الذكريات إلى إبانها، تحاول أن تخدعني به عن حقيقة الشعور الذي يضطرم في نفسي بالحقد والبغضاء لسيدنا، فتدفعني إلى محاولة الثأر والانتقام، وهي تسمي ذلك إخلاصا في العمل وحرصا على مصلحة التعليم ...؟
لست أدري، ولكن الذي كنت أوقنه يقينا لا شبهة فيه، هو أني كنت فرحا بذلك، طيب النفس به، فما كان لي من بعد إلا أمنية واحدة، هي أن يكون كتاب سيدنا الشيخ عبد الجليل في دائرة عملي.
ومضت سنوات قبل أن تتحقق لي هذه الأمنية ... ... ورسمت خطتي وحددت نهجي، ودنا اليوم الذي اخترته ميعادا لزيارة الكتاب الذي دخلته أول يوم ترف على شفتي بسمة الرضا والسعادة، وفارقته يوم فارقته محمولا على أكتاف الناس غائبا عن الوعي مما نالني من خوف سيدنا، ثم لم أمش بعدها إلا متوكئا على عكاز؛ وصحبتني أبالسة الشر يومين كاملين في يقظتي وفي منامي قبل أن يحين موعد هذه الزيارة، فما انتفعت فيهما بنفسي ولا انتفع أحد.
وأشرق صبح اليوم الموعود، فبكرت إلى ما عزمت عليه، يصحبني تابع يحمل حقيبتي، ويصحبني شيطاني.
وكان بيني وبين كتاب سيدنا خطوات معدودة حين صك مسمعي صراخ ... ودنا مني الصوت رويدا رويدا، وسمعت الناعي ينعى إلى أهل القرية سيدنا الشيخ عبد الجليل!
ما أعجب القدر!
وظللت في القرية طول اليوم حتى أمشي في جنازة سيدنا ... وما كان لي أن أفعل غير ذلك. وأعظم الناس هذا الوفاء - إذ حسبوني لم أقدم إلا لذاك - بقدر ما صغرت نفسي في عيني!
ومشت القرية كلها في جنازة الشيخ، لم يتخلف منهم أحد، وشيعوه محزونين وعادوا يعددون مآثره لا يذكره أحد منهم بشر.
وعدت إلى مكتبي في المدينة مبكرا، فلم ألق أحدا من الزملاء أحدثه بحديثي ويحدثني، وجلست وحدي أنشر الذكريات وأطويها، وفي نفسي ثورة تضطرم، وفي رأسي غليان. لم يكن بي في تلك اللحظة حقد على أحد، نعم، ولا كانت لي أمنية أحرص عليها، ولكني إلى ذلك كنت في حيرة من أمري، أسائل نفسي: أكنت على حق في حقدي على سيدنا وما أضمر له من البغضاء؟ وهل كان من السوء بحيث يحق لي أن أحمل له ما كنت أحمل من الكره والموجدة؟
لكم كان لسيدنا على هذه القرية من الأيادي ...! لقد كان قاسيا، جبارا، عنيفا، ولكنه مع ذلك كان رجلا للناس لا لنفسه، وما نالته في يوم ظنة ولا تعلقت به تهمة، فما يذكره أحد من القرية إلا بمعروف أداه، أو جميل أسداه، سواء في ذلك أهل العلم من تلاميذه وأهل التوكل والاعتماد. ... فإني لغارق في خواطري هذه وذكرياتي، إذ دخل إلي صديق من أصدقائي ينقل إلي النبأ الفاجع: فؤاد، ابن صديقنا فلان ... - ماذا به؟ - لقد تعجل آخرته فأزهق نفسه؛ لأن أباه أغلظ له في النصح يريده رجلا، ودعا حلاقا فقص له شعره ... وعز على الفتى ما فعل أبوه، فأغلق عليه غرفته فأحرق نفسه ... هذه هي التربية الناعمة التي نحاول بها تنشئة الجيل الجديد ليحمل تبعات الغد ... - فؤاد؟ وا حزناه!
Shafi da ba'a sani ba