185

Daga Aqida Zuwa Juyin Juya Hali

من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية

Nau'ikan

يصعب إصدار أحكام على الوجوب كمقولة مجردة؛ ومن ثم كانت معظم الأحكام على الواجب؛ فالواجب واجب لذاته ولا يكون واجبا بغيره؛ إذ إن الواجب إما أن يكون ذاتيا أو غيريا أو وضعيا أو وقتيا. والواجب لذاته ينافي الواجب لغيره؛ فهو الوجود المستقل الذي لا يحتاج في وجوده إلى غيره، وهو «واجب الوجود» الذي لا يحتاج في وجوده إلى سبب أو مرجح كما يقول الحكماء؛ وبالتالي فهو يمثل أعلى درجة من درجات الاستقلال والاكتفاء الذاتيين، كما أنه بسيط ليس مركبا لا في الذهن ولا في الخارج؛ فالبساطة من صفات المثال؛ لأن الوجود في الخارج محتاج، والمحتاج ممكن. لا يتركب عن غيره، واجب من جميع جهاته؛ لأنه بسيط لا تركيب فيه. لا يصح عليه العدم. لا يزيد وجوده على ماهيته، بل وجوده عين ماهيته وماهيته عين وجوده؛ لأن الوحدة أكمل من الكثرة، والهوية أشرف من الاختلاف فليس وجوبه زائدا على وجوده. ولا يكون مشتركا بين اثنين لأنه نفس الماهية، واحد لا يقبل الشركة. يجوز أن تعرض له صفات تستلزمها ذاته فيكون الوجوب الذاتي صفة لتلك الهوية فقط، وسائر النعوت واجبة لوجوب تلك الهوية، وتكون الوحدة صفة لتلك الهوية. وتبدو هنا إرهاصات الإلهيات وموضوع العلة بين الذات والصفات والوحدة بينها الاختيار الاعتزالي ابتداء من مقدمات نظرية أشعرية في نظرية الوجود. وقد برز ذلك في الحركات الإصلاحية المعاصرة عندما تمت المزاوجة بين أحكام الموجودات وصفات «الله»، وبالتالي لم يعد هناك فصل بين نظرية الوجود وموضوع الذات والصفات. وبعد أن كان واجب الوجود تحليلا للوجود أصبح حكما عقليا من أحكام الذهن ثم واجبا شرعيا وانتقل بذلك التوحيد من الوجود إلى العقل ثم من العقل إلى الفعل.

68

واجب الوجود هي نقطة البداية في نظرية الوجود وقمتها في آن واحد، والركن الأساسي في التوحيد كما يبدو في موضوع الذات والصفات؛ فهو أقصى ما وصل إليه علم الكلام من تجريد. يعبر عن التصور المثالي للعالم، وريث التصور الديني التقليدي، وآخر ما وصل إليه تحول «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا». وعلى هذا النحو يعد بحثا عقليا خالصا أو تحليلا أنطولوجيا صوريا تعبيرا عن الطهارة الدينية تعبيرا عقليا مجردا. اكتمل الخطاب العقلي المثالي ولم يعد يعطي جديدا أو يتغير تغيرا نوعيا، بل ظل يعبر عن التصور الديني للعالم. وبالتالي يمكن الإضافة في وصف أحكام واجب الوجود كلما اشتد التوتر الديني وازدهرت العواطف دون خروج على أوصاف الاستقلال الذاتي والبساطة والهوية والوحدة وكأنها إرهاصات الوعي الخالص قد بدأت. تقلص الفكر الموضوعي وضمر، وأصبح مرتكنا كلية على الفكر الذاتي الخالص في صورة عقلية مجردة. لم يعد هناك موضوع بل مجرد قوالب ذهنية صورية تعبيرا عن الطهارة العقلية، وبمجموعة من الألفاظ المختارة القابلة للقسمة الثنائية التي تساعد على التعبير عن هذه الطهارة بحركة من الأعلى إلى الأدنى أو من الأدنى إلى الأعلى.

69

وفي حقيقة الأمر إن أوصاف واجب الوجود، الاستقلال، والبساطة، والوحدة، والهوية، كلها أوصاف المثال الذي يفرض واقعه، ويعبر عن مطلب واقتضاء. وليس افتراضا أو ملجأ أو ملاذا أو عونا أو نصرا ناتجا عن ضعف وعجز أو كراهية وعدوانية كما هو الحال في الفكر الديني. هو الواجب الذاتي والإحساس بالأمانة والرسالة والتضحية، لا يقبل المساومة أو النسبية، وهو لفظ مشترك مما يدل على أنه ليس متفردا بالوصف؛ فواجب الوجود في نفس الوقت يعبر عن عواطف دينية وأحكام عقلية ومناطق وجودية وأهداف إنسانية وقوانين تاريخ. ليس واجب الوجود كائنا مشخصا يحس ويشعر، يسمع ويرى، يتكلم ويريد، بل هو المثل الإنساني الأعلى وغاية الإنسانية القصوى، موجود دائما كإمكانية ويتحقق بالفعل من خلال الجهد الإنساني؛ فهو موجود في النفس كدافع وباعث واتجاه وقصد، وموجود في الذهن كتعال وتجاوز ومفارقة، وموجود في الواقع كبناء اجتماعي مثالي متوحد في أمة، وموجود في التاريخ كقانون حركة وتقدم.

واجب الوجود تصور أخلاقي اجتماعي سياسي تاريخي، وما الذهن أو الوجود إلا وسائل تعبير وصياغة أو إطار مرجع وإحالة. الواجب هو الواجب الأخلاقي، والواجب الأخلاقي هو الواجب العقلي والواجب الأنطولوجي؛ فنظرية القيم هي أساس نظرية المعرفة ونظرية الوجود. «الإبستمولوجيا» و«الأنطولوجيا» كلاهما تعبير عن «الأكسيولوجيا». الوجود هو الوجود الخلقي؛ أي نزوع النفس نحو مطلب وغاية ومثال. كل أحكام واجب الوجود هي في الحقيقة تعبير عن ضرورة الخير الأقصى والنفع العام ومصالح أمة وأهدافها القومية المعبرة عن الأهداف الإنسانية جمعاء. هو تعبير عن مطلب نفسي أكثر منه وصفا لواقع حاضر من أجل تطويع الواقع للمطلب وتوجيهه بالمثال. ولما كان المطلب قد يتحقق وقد لا يتحقق فإنه يصبح مشروطا بالفعل، ويتحول الوجوب إلى إمكانية محضة ولا تتحول إلى وجوب إلا بالفعل؛ فالوجود الحقيقي هو الممكن الذي يتحول إلى واجب. الواجب في البداية ممكن، وفي النهاية واجب وأمام العاجز مستحيل. الواجب ممكن قد تحقق والمستحيل ممكن امتنع. ولما كان الفعل لا حدود له، فالمستحيل غير واقع.

70 (3-3) أحكام الإمكان

وكما كانت أحكام الوجوب هي أحكام الواجب فإن أحكام الإمكان هي أيضا أحكام الممكن. والممكن لذاته هو الذي لا يلزم من فرض وجوده ولا من فرض عدمه من حيث هو محال؛ أي أن تعريفه بالإضافة إلى الاستحالة وليس تعريفا للممكن لذاته؛ فالممكن إحدى لحظات الانتقال إلى الواجب نافيا المستحيل. وتقوم أحكامه كلها على لغة الاحتياج؛ فالممكن هو المحتاج إلى سبب. وتصوره ضروري؛ لأن الممكن هو الذي يستوي طرفاه ولا يترجح أحدهما إلا بسبب. ويمكن أن يكون تصوره استدلاليا؛ إذ إنه يقوم على الترجيح بين المتساويين أو ابتداء من الوجود والعدم بلغة الحكماء. والاحتياج هو الحدوث بلغة المتكلمين أو الإمكان مع الحدوث أو الإمكان بشرط الحدوث. الممكن مفهوم ميتافيزيقي والحدوث مفهوم طبيعي. لذلك آثر المتكلمون بعد ذلك الحديث عن أحكام القديم، وهو الواجب عند الحكماء، وأحكام الحادث وهو الممكن عند الحكماء، وكأن الفرق بينهم هو فقط في درجة التجريد بين الميتافيزيقا والفيزيقا، بين ما وراء الطبيعة والطبيعة. ليس أحد طرفي الممكن بأولى من الآخر لذاته نظرا لضرورة المرجح . يحتاج الممكن إلى علة تكون سبب وجوده. والإمكان لازم للماهية وإلا أصبح ممتنعا وهو ذو ماهية وأن ماهيته تحدث من خلال التحقق. لا يستغني الممكن في حال بقائه عن المؤثر. ولما كان الممكن أساسا هو الذي لا يوجد بذاته، بل يحتاج في وجوده إلى علة أو سبب فهو تابع غير مستقل، مركب غير بسيط، تختلف أجزاؤه ولا يتمتع بهوية مع ذاته، متعدد وليس واحدا، صفاته إذن مقابلة لصفات الواجب. لا يتحقق إلا لعلة أو سبب أو باعث. تحركه الدوافع. تصور القدماء أن علته وسبب وجوده من خارجه، وهي من داخله، من طبيعة الفصم فيه وليست مفروضة عليه، يتحقق بفعله الطبيعي وبتلقائيته وبإرادة حرة كامنة فيه، وليس بفعل الآخر فيه. بل إن الحركات الإصلاحية الحديثة لم تتخل عن لغة الاحتياج؛ فالممكن يقتضي الواجب ويحتاج إليه، ولكن الواجب لا يحتاج إلى الممكن ولا يقتضيه. والرجحان مقولة إنسانية خالصة تعبر عن وجود الاحتمال في السلوك وعن حرية الاختيار ووجوب البواعث على الترجيح. كما أن الحاجة مقولة إنسانية تعبر عن موقف إنساني خالص لأن الطبيعة لا تحتاج.

71

والاستغناء مقولة إنسانية؛ فالطبيعة لا تستغني عن شيء ولا تفتقر إلى شيء. الوجود الإنساني الهش في لحظات الضعف والخور وفي أوقات الهزيمة والعجز هو الذي يحتاج ويفتقر إلى غيره لا إلى ذاته. إن أهم صفة في الممكن هي الزمان والحركة؛ فالممكن في الحاضر والمستقبل، أما الماضي فقد تحول إلى واجب، وهو وجوب إنساني خالص، ولا ممكنات خارج الموقف الإنساني.

Shafi da ba'a sani ba