109

وأما ما شككوا به من تجويز وجود جزئي لم يستقرأ، وقدحهم في طريقتي السبر والدوران بالتجويز أيضا، فقد قدمنا في أول المسألة أنه يمتنع ثبوت ما لا دليل عليه، وأن من ادعى ذلك وجب نفيه والقطع ببطلانه، فكيف بمن ادعى تجويزه فقط، وبينا أنه لا يجوز خفاؤه مع وجوده إلا فيما يعم به التكليف، ومما يلزم على قواعدهم هذه من المفاسد ألا نثق بخبر الله تعالى ولا خبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن لا نصدق بنبوة نبي، وذلك لأنهم قسموا الأقيسة إلى يقينية، وغير يقينية، وجعلوا من غير اليقينية معرفة الحسن والقبح، وقالوا: لا طريق إليهما إلا الشهرة بحيث لو خلي الإنسان وعقله لما قضى بهما نحو الحكم بقبح الظلم والكذب والعبث، وحسن العدل، ووجوب رد الوديعة، وشكر المنعم، وجعلوا هذا وأمثاله من الظنيات، وحينئذ فلم يبق طريق إلى الشرائع، ولا إلى معرفة الثواب والعقاب؛ لأنه إذا لم يكن الكذب قبيحا فغير ممتنع خلق المعجز على يد الكاذب، وغير ممتنع أن يوعد الله المطيعين ثم يعذبهم بلا ذنب، وأن يتوعد العصاة ثم يثيبهم لعدم قبح ذلك، وغير ممتنع أن يخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب أمر، وهو في الواقع منهي عنه لعدم قبح الكذب وغير ذلك، ومن ذلك أنهم لما حصروا اليقينيات في القياس المركب على ما زعموا صارت السمعيات كلها ظنية، فلزم من ذلك عدم القطع بعقاب العصاة ولو كانوا كفارا، وقد التزموا ذلك كما سيأتي في سياق قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم...}[البقرة:7] الآية.

وذلك خلاف ما علم من ضرورة الدين إلى غير ذلك من اللوازم والدسائس كما سيأتي من بيان شبههم المبنية على هذه الأصول الفاسدة، والجواب عنها في مواضعها إن شاء الله تعالى.

Shafi 109