Mutuwar Mutum Daya a Duniya
موت الرجل الوحيد على الأرض
Nau'ikan
في مثل هذا الوقت، كل ليلة، يذهب ثلاثتهم إلى الجامع لصلاة العشاء، ثم يعودون للجلوس في شرفة بيت العمدة المطلة على النيل، أو يعرجون إلى دكان الحاج إسماعيل، حلاق الصحة، فيجلسون معه أمام الدكان يدردشون ويدخنون الشيشة.
لم يدخن العمدة الشيشة في تلك الليلة. أخرج من جيبه سيجارا طويلا وأشعله وهو مقطب الجبهة. أدرك الحاج إسماعيل أن العمدة متوعك المزاج؛ فاختفى داخل الدكان لحظة ثم عاد وجلس إلى جوار العمدة، وهو يضع في يده قطعة حشيش، لكن العمدة هز رأسه ويده معرضا وقال: لا، لا أريد أن أدخن الليلة. - لماذا يا عمدة؟ - ألم تسمع الأخبار؟ - أي أخبار؟ - أخبار الحكومة. - أي حكومة؟ - عندنا كم حكومة يا حاج إسماعيل؟ - عندنا كثير يا عمدة. - هي حكومة واحدة! - في مصر أم في كفر الطين؟ - في مصر طبعا. - ونحن يا عمدة ماذا نكون؟
وضحك شيخ الخفر وهو يقول: نحن الحكومة وأبو الحكومة أيضا.
شاركه في الضحك الشيخ حمزاوي، وظهرت أسنانه الصفراء المصبوغة بالدخان، واهتزت السبحة الصفراء بين أصابعه.
لكن العمدة لم يضحك. ظلت شفتاه الغليظتان قابضتين على السيجار السميك، وعيناه الزرقاوان تنظران بعيدا بامتداد النيل، وامتداد شريط الحقول الموازي للنيل؛ شريط طويل ممتد بامتداد بصره، يكاد يحتل المساحة كلها بين كفر الطين والرملة، لكنه لم يتصور، حين كان يزور هذه الأرض مع أمه لبضعة أيام في الصيف، أن حياته سوف تنتهي في كفر الطين. كان يعشق حياة القاهرة، أنوار الكهرباء في الليل تسطع فوق الشوارع المرصوفة، كازينوهات النيل تتراقص أنوارها فوق سطح المياه الجارية، الكاباريهات ودور اللهو والرقص والشرب والنساء الفواحات بالعطر والميوعة. كان لا يزال طالبا في الجامعة، لكنه كان، بخلاف أخيه الأكبر، يكره الجامعة، ويكره أحاديث الطلبة عن الدروس، وأشد ما كان يكره هو أحاديث أخيه في السياسة.
تذكر الحاج إسماعيل أن جريدة الصباح لا تزال داخل الدكان على المنضدة الخشبية بجوار الميزان، فسحبها بهدوء وبسطها تحت فانوس النور، وحاول أن يقرأ العناوين الكبيرة، لكنه لمح صورة شقيق العمدة في الصفحة الأولى، ولم يستطع أن يقرأ الحروف الكثيرة الصغيرة تحتها، فهمس في أذن العمدة: هل الأمر يتعلق بأخيك؟
ورد العمدة: نعم.
وسأل في لهفة: هل أصابه مكروه لا قدر الله؟
رد العمدة في زهو: لا، بالعكس.
فرد الحاج إسماعيل: ماذا تقصد يا عمدة؟ هل حصل على منصب أعلى؟
Shafi da ba'a sani ba