Matsayi Daga Metaphysics
موقف من الميتافيزيقا
Nau'ikan
على أن الأمر الذي يهمنا هنا، هو أن الفيلسوف المعين مطالب بإقامة البرهان العقلي الذي يبين به صواب مبدئه، وصواب النتائج التي استدلها من هذا المبدأ، والذي نرفضه نحن ونطلق عليه صيغة «الخرافة» من عنوان هذا الكتاب - كما كان في طبعته الأولى - ليس هو أن يتخذ الفيلسوف الميتافيزيقي لنفسه ما شاء من «مبدأ»، ولا هو - بالطبع - النتائج التي استدلها، ما دام استدلاله لها جاء على منطق العقل؛ بل المرفوض هو أن يبني الفيلسوف بناءه الفكري في ذهنه، ثم يزعم أنه تصوير لحقيقة الكون كما هي قائمة في الوجود الواقعي خارج ذهن الإنسان صاحب البناء، فشأن الفيلسوف الميتافيزيقي وهو يقيم البناء العقلي نتائج مستمدة من مبادئ، هو نفسه شأن الرياضي حين يقيم بناءه الرياضي، مستخرجا فيه النتائج من المسلمات، كما نرى - مثلا - في هندسة إقليدس، لكن الرياضي إذ يقدم بناءه الرياضي المحكم في روابطه المنطقية، لا يدعي أنه تصوير للكون الخارجي. وكيف يدعي ذلك، وهو يعلم أن في مستطاع رياضي آخر أن يضع لنفسه مسلمات أخرى، فيخرج منها نتائج أخرى؟ فالبناء الرياضي يحكم عليه «داخليا» على أساس سلامة الاستدلال، لا «خارجيا» على أساس مطابقته للواقع؛ لأن ما هو صحيح رياضيا قد يأتي مطابقا للواقع وقد لا يأتي، وهكذا يجب أن تكون الحال بالنسبة للبناءات الميتافيزيقية في الفلسفة.
وأما العقيدة الدينية فأمرها مختلف كل الاختلاف؛ لأن صاحب الرسالة الدينية لا يقول للناس: إنني أقدم لكم فكرة رأيتها ببصيرتي، بل يقول لهم: إنني أقدم رسالة أوحي بها إلي من عند ربي لأبلغها، وها هنا لا يكون مدار التسليم بالرسالة برهانا عقليا على صدق الفكرة ونتائجها المستدلة منها، بل يكون مدار التسليم هو تصديق صاحب الرسالة فيما يرويه وحيا من ربه، أي إن مدار التسليم هو الإيمان.
فكيف يجيء الخلط بين موقفين: أحدهما موقف الميتافيزيقي وهو يقدم للناس بضاعته هو، مستندا إلى منطق العقل في إقامة البرهان، والآخر هو موقف صاحب الرسالة الدينية وهو يقدم وحيا أوحي به إليه، ويطلب من الناس إيمانهم بصدق ما يقوله. إنه إذا اعترض معترض على الفيلسوف فيما يقدمه، فعليه أن يبين أدلته المنطقية التي تبرر اعتراضه، وأما إذا اعترض معترض على صاحب الرسالة الدينية، فذلك ليس لأنه رأى خللا في منطق التفكير، بل لأنه لم يصدق صاحب الرسالة وكفى.
أفبعد بيان هذا الفرق الشاسع بين الموقفين: الفلسفي والديني، يمكن أن يقال للمعترض على الفيلسوف، الذي يزعم أن بناءه الفكري هو أيضا تصوير للكون الخارجي: إنك باعتراضك هذا بمثابة من يعترض على رسالة الدين؟! اللهم سبحانك.
3
يوشك الرأي في طبيعة التفكير الميتافيزيقي أن يكون على إجماع بأنه هو ذلك التفكير الذي لا يقف - في تعليله لما يتصدى لتعليله - عند مصادره القريبة، بل يمعن في الغوص وراء تلك المصادر القريبة حتى يبلغ أقصى ما يمكن بلوغه؛ فالنظر في العلل القريبة متروك للعلوم، فإذا كان علم البيولوجيا - مثلا - يكفينا لتفسير التكاثر، كائنا حيا من كائن حي كيف يتم، فإن الفكر الميتافيزيقي لا يكتفي بهذا المصدر القريب، بل يرتد بمنطقه خطوة وراء خطوة؛ ليعرف ما الحياة نفسها؟
لكنه إذا كان هنالك إجماع على هذه الطبيعة العامة للفكر الميتافيزيقي، فإن هذا الإجماع سرعان ما ينحل دروبا مختلفة عندما نسأل عن الموضوع الذي نرده إلى أصوله الأولى، ما هو؟ هنالك فريق يقول إنه الكون بكائناته الحية والجامدة، بشموسه وأقماره ونجومه وهوائه ومائه ... إلخ، هذا هو الذي نريد أن نرده إلى أصله الأول البعيد. وهنالك فريق آخر يفضل أن يوجه بحثه نحو الأفكار لا نحو الأشياء، فنسأل عن الأفكار العلمية: ما أصولها الأولى؟ فكيف نشأ العلم الرياضي، وكيف نشأت العلوم الطبيعية؟ وكيف نشأت النظم المختلفة؟ وليس السؤال هنا سؤالا عن النشأة التاريخية متى كانت، بل هو سؤال عن النشأة المنطقية، كيف تأتى للعقل الإنساني أن يفرز علما رياضيا وعلما طبيعيا وهكذا؟
وقد تسمى الميتافيزيقا التي هي من النوع الأول بالميتافيزيقا التأملية، والميتافيزيقا من النوع الثاني بالميتافيزيقا النقدية. ويمكن التمثيل للتأملية بالفيلسوف هيجل، وللنقدية بالفيلسوف كانط، وكلاهما ألماني من تاريخ الفلسفة الحديثة.
كلا النوعين من الميتافيزيقا عملية فكرية مشروعة إذا وقفت عند حدود إمكانها، أما الجانب غير المشروع فهو مجاوزة ذلك الإمكان، فتأتي المحاولة كالضرب في هواء. والرأي عندنا هو أن الميتافيزيقا التأملية مقبولة إذا هي وقفت - كما أسلفنا - عند مجرد إقامة البناء الفكري النظري، بأن تفرض لنفسها نقطة ابتداء، ثم تولد منها النتائج، فيكون لها بذلك بناء متسق الأجزاء شبيه بالبناءات الرياضية، ولكنها تجاوز مجرد إقامة البناء لتزعم بأنها تصور الكون كما هو موجود بالفعل، وهنا يكون موضع الخطأ، الذي يشبه الخطأ الذي تقع فيه الخرافة، حين يعلل الناس حدثا بغير علته، فيقولون مثلا: إن مرض المريض علته حين سكن الجسد المريض، أو إن موت المسافر علته نعيق الغراب فوق سطح الدار ليلة السفر، وهذا الزعم من الميتافيزيقا التأملية هو وحده الذي نرفضه ونصفه بالخرافة.
وأما أن نوجه جهودنا التحليلية نحو العلوم ونتائجها؛ لنرى متى تعوج ومتى تستقيم، وهل هي يقينية الصدق أو أنها لا تزيد في صدقها على درجة من درجات الاحتمال، فذلك ضرب من الميتافيزيقا سديد ونافع ومقبول.
Shafi da ba'a sani ba