Matsayi Daga Metaphysics
موقف من الميتافيزيقا
Nau'ikan
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة
1 - الفلسفة تحليل
2 - «كانت» وفلسفته النقدية
3 - الميتافيزيقا المرفوضة
4 - نسبية الخير والجمال
5 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند «مور»
6 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: أمثلة من التحليل عند بيرتراند رسل
7 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند رودلف كارناب
مقدمة الطبعة الثانية
Shafi da ba'a sani ba
مقدمة
1 - الفلسفة تحليل
2 - «كانت» وفلسفته النقدية
3 - الميتافيزيقا المرفوضة
4 - نسبية الخير والجمال
5 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند «مور»
6 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: أمثلة من التحليل عند بيرتراند رسل
7 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند رودلف كارناب
موقف من الميتافيزيقا
موقف من الميتافيزيقا
Shafi da ba'a sani ba
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة الطبعة الثانية
1
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب سنة 1953م، ونفدت تلك الطبعة الأولى في سنوات قليلة بعد صدورها، وكانت طبائع الأمور تقتضي أن يعاد طبع الكتاب فور نفاده، لكنني آثرت عندئذ ألا أخرج الكتاب في طبعته الثانية إلا بعد أن يضاف إليه - في صلب نصوصه - شروح توضح الأفكار التي غمضت حقائقها على القارئ، وذلك إما لاكتفائه بقراءة عجلى تخطف المادة المقروءة خطفا من أطرافها، وإما لسيطرة أفكار مسبقة على ذهنه سيطرة انتهت به إلى سوء الفهم، ثم من يدري؟ فلعل مؤلف الكتاب لم يحسن العبارة ولم يوضح الغامض؛ فكان من جراء ذلك كله أن وجهت إلى الكتاب هجمات نقدية، كنت يومئذ أدرك مواضع بطلانها، ومن هنا اعتزمت ألا تكون للكتاب طبعة ثانية إلا إذا جاءت مشتملة على ردود تبين لهؤلاء الناقدين مواضع البطلان.
لكن الأعوام أخذت تمضي سراعا، عاما بعد عام، وكانت كلما انقضى عام منها، ترك لي وراءه شاغلا فوق شواغل، فتزداد دواعي الإرجاء، حتى أوشكت على اليأس من أن تشهد الطبعة الثانية نور الحياة؛ بيد أن سؤال الدارسين والقارئين لم ينفك عن ملاحقتي، فماذا عسى أن أصنع وقد أضيفت إلى شواغلي الأولى علل وأمراض؟! وكيف لا يحدث وقد مضت بعد الطبعة الأولى ثلاثون عاما؟ فبات قريبا من المحال أن أحقق ما اعتزمت أداءه بادئ الأمر، وهو أن أعيد كتابة الكتاب إعادة تتيح لي أن أعرض الأفكار على صورة تتضمن الردود على معارضات الناقدين، فرأيت أن أكتفي بمقدمة أقدم بها الطبعة الثانية، واضعا فيها تلك الردود والشروح في شيء من الإيجاز، مبقيا على النص القديم كما هو بغير تعديل بكل ما فيه من قوة وضعف، ووضوح وغموض، وحسنات ومآخذ؛ فلقد بعد به العهد، وأصبح من حقه أن يصان ليكون بمثابة وثيقة تشهد على فكر المؤلف وطريقة تعبيره عن ذلك الفكر في مرحلة مبكرة نسبيا من مراحل عمره.
2
كان أوجع نقد وأبشعه، هو أن اختلط الأمر على الناقدين فخلطوا بين فلسفة ودين، حتى خيل إلي يومئذ أن بعض هؤلاء الناقدين - على الأقل - لم يقرءوا من الكتاب شيئا، وهم إما أن يكونوا قد اكتفوا بقراءة عنوانه - في طبعته الأولى - «خرافة الميتافيزيقا»، قائلين لأنفسهم شيئا كهذا: الميتافيزيقا هي ما وراء الطبيعة، وما وراء الطبيعة هو الغيب، وأيضا هو الله سبحانه وتعالي، وإذن فهذه الجوانب الهامة من الإيمان الديني خرافة عند مؤلف هذا الكتاب. أقول: إن بعض الناقدين إما أن يكونوا قد اكتفوا بقراءة عنوان الكتاب، ثم أخذت خواطرهم تتسلسل على النحو المذكور، وإما أنهم كانوا أقل من ذلك درجة، وطفقوا يرددون ما يسمعونه عن غير وعي ولا دراية.
نعم، إنهم خلطوا بين فلسفة ودين؛ فالفيلسوف عندما يقيم بناءه الميتافيزيقي من النوع الذي نرفضه؛ لأن هناك نوعا ثانيا من الميتافيزيقا مقبولا عندنا، وسنذكر ذلك بعد حين؛ أقول: إن الفيلسوف عندما يقيم بناءه الميتافيزيقي، إنما يضع في بداية طريقه «مبدأ» معينا ينطلق منه، معتقدا - بالطبع - صواب ذلك المبدأ، وليس لديه من سند يرتكز عليه في ذلك الاعتقاد، إلا ظنه بأنه قد رأى ذلك المبدأ بحدسه (أي ببصيرته) رؤية مباشرة؛ لكن اعتقاده في صواب مبدئه لا يمنع فيلسوفا آخر من أن يضع لنفسه مبدأ آخر يعتقد - بدوره - أنه هو الصواب.
ولنضرب لذلك مثلا أفلاطون، ثم أرسطو من بعده، فقد رأى الأول أن الأفكار المجردة التي هي بمثابة النماذج الأولى، وعلى غرارها جاءت الكائنات الجزئية، هي ذات وجود موضوعي مستقل وقائم بذاته، فالقط الذي تراه أمامك سائرا على أرض غرفتك، قد خلق وفق «المثال» الأزلي للقط، وما ذاك المثال إلا فكرة مجردة عن طبيعة القط الجوهرية كيف تكون. وكيف عرف أفلاطون ذلك؟ عرفه من رؤية مباشرة رأى بها تلك «المثل» حين صعد إليها في مدارج التأمل الفلسفي حتى بلغها، وجاء بعده أرسطو ليرى رؤية أخرى فيما يتخذه لنفسه «مبدأ» يقيم عليه بناءه الفلسفي، وهو فكرة «الصورة» التي من شأنها أن تتجسد المادة فتكون هذا الكائن أو ذلك، فليست صورة القط - أي جوهر طبيعته - فكرة مجردة مستقلة عن القط، بل هي سارية فيه مجسدة به ... إلى آخر ما يذهب إليه الفيلسوفان في ذلك، مما يمكن الرجوع إليه في كتب الفلسفة.
Shafi da ba'a sani ba
على أن الأمر الذي يهمنا هنا، هو أن الفيلسوف المعين مطالب بإقامة البرهان العقلي الذي يبين به صواب مبدئه، وصواب النتائج التي استدلها من هذا المبدأ، والذي نرفضه نحن ونطلق عليه صيغة «الخرافة» من عنوان هذا الكتاب - كما كان في طبعته الأولى - ليس هو أن يتخذ الفيلسوف الميتافيزيقي لنفسه ما شاء من «مبدأ»، ولا هو - بالطبع - النتائج التي استدلها، ما دام استدلاله لها جاء على منطق العقل؛ بل المرفوض هو أن يبني الفيلسوف بناءه الفكري في ذهنه، ثم يزعم أنه تصوير لحقيقة الكون كما هي قائمة في الوجود الواقعي خارج ذهن الإنسان صاحب البناء، فشأن الفيلسوف الميتافيزيقي وهو يقيم البناء العقلي نتائج مستمدة من مبادئ، هو نفسه شأن الرياضي حين يقيم بناءه الرياضي، مستخرجا فيه النتائج من المسلمات، كما نرى - مثلا - في هندسة إقليدس، لكن الرياضي إذ يقدم بناءه الرياضي المحكم في روابطه المنطقية، لا يدعي أنه تصوير للكون الخارجي. وكيف يدعي ذلك، وهو يعلم أن في مستطاع رياضي آخر أن يضع لنفسه مسلمات أخرى، فيخرج منها نتائج أخرى؟ فالبناء الرياضي يحكم عليه «داخليا» على أساس سلامة الاستدلال، لا «خارجيا» على أساس مطابقته للواقع؛ لأن ما هو صحيح رياضيا قد يأتي مطابقا للواقع وقد لا يأتي، وهكذا يجب أن تكون الحال بالنسبة للبناءات الميتافيزيقية في الفلسفة.
وأما العقيدة الدينية فأمرها مختلف كل الاختلاف؛ لأن صاحب الرسالة الدينية لا يقول للناس: إنني أقدم لكم فكرة رأيتها ببصيرتي، بل يقول لهم: إنني أقدم رسالة أوحي بها إلي من عند ربي لأبلغها، وها هنا لا يكون مدار التسليم بالرسالة برهانا عقليا على صدق الفكرة ونتائجها المستدلة منها، بل يكون مدار التسليم هو تصديق صاحب الرسالة فيما يرويه وحيا من ربه، أي إن مدار التسليم هو الإيمان.
فكيف يجيء الخلط بين موقفين: أحدهما موقف الميتافيزيقي وهو يقدم للناس بضاعته هو، مستندا إلى منطق العقل في إقامة البرهان، والآخر هو موقف صاحب الرسالة الدينية وهو يقدم وحيا أوحي به إليه، ويطلب من الناس إيمانهم بصدق ما يقوله. إنه إذا اعترض معترض على الفيلسوف فيما يقدمه، فعليه أن يبين أدلته المنطقية التي تبرر اعتراضه، وأما إذا اعترض معترض على صاحب الرسالة الدينية، فذلك ليس لأنه رأى خللا في منطق التفكير، بل لأنه لم يصدق صاحب الرسالة وكفى.
أفبعد بيان هذا الفرق الشاسع بين الموقفين: الفلسفي والديني، يمكن أن يقال للمعترض على الفيلسوف، الذي يزعم أن بناءه الفكري هو أيضا تصوير للكون الخارجي: إنك باعتراضك هذا بمثابة من يعترض على رسالة الدين؟! اللهم سبحانك.
3
يوشك الرأي في طبيعة التفكير الميتافيزيقي أن يكون على إجماع بأنه هو ذلك التفكير الذي لا يقف - في تعليله لما يتصدى لتعليله - عند مصادره القريبة، بل يمعن في الغوص وراء تلك المصادر القريبة حتى يبلغ أقصى ما يمكن بلوغه؛ فالنظر في العلل القريبة متروك للعلوم، فإذا كان علم البيولوجيا - مثلا - يكفينا لتفسير التكاثر، كائنا حيا من كائن حي كيف يتم، فإن الفكر الميتافيزيقي لا يكتفي بهذا المصدر القريب، بل يرتد بمنطقه خطوة وراء خطوة؛ ليعرف ما الحياة نفسها؟
لكنه إذا كان هنالك إجماع على هذه الطبيعة العامة للفكر الميتافيزيقي، فإن هذا الإجماع سرعان ما ينحل دروبا مختلفة عندما نسأل عن الموضوع الذي نرده إلى أصوله الأولى، ما هو؟ هنالك فريق يقول إنه الكون بكائناته الحية والجامدة، بشموسه وأقماره ونجومه وهوائه ومائه ... إلخ، هذا هو الذي نريد أن نرده إلى أصله الأول البعيد. وهنالك فريق آخر يفضل أن يوجه بحثه نحو الأفكار لا نحو الأشياء، فنسأل عن الأفكار العلمية: ما أصولها الأولى؟ فكيف نشأ العلم الرياضي، وكيف نشأت العلوم الطبيعية؟ وكيف نشأت النظم المختلفة؟ وليس السؤال هنا سؤالا عن النشأة التاريخية متى كانت، بل هو سؤال عن النشأة المنطقية، كيف تأتى للعقل الإنساني أن يفرز علما رياضيا وعلما طبيعيا وهكذا؟
وقد تسمى الميتافيزيقا التي هي من النوع الأول بالميتافيزيقا التأملية، والميتافيزيقا من النوع الثاني بالميتافيزيقا النقدية. ويمكن التمثيل للتأملية بالفيلسوف هيجل، وللنقدية بالفيلسوف كانط، وكلاهما ألماني من تاريخ الفلسفة الحديثة.
كلا النوعين من الميتافيزيقا عملية فكرية مشروعة إذا وقفت عند حدود إمكانها، أما الجانب غير المشروع فهو مجاوزة ذلك الإمكان، فتأتي المحاولة كالضرب في هواء. والرأي عندنا هو أن الميتافيزيقا التأملية مقبولة إذا هي وقفت - كما أسلفنا - عند مجرد إقامة البناء الفكري النظري، بأن تفرض لنفسها نقطة ابتداء، ثم تولد منها النتائج، فيكون لها بذلك بناء متسق الأجزاء شبيه بالبناءات الرياضية، ولكنها تجاوز مجرد إقامة البناء لتزعم بأنها تصور الكون كما هو موجود بالفعل، وهنا يكون موضع الخطأ، الذي يشبه الخطأ الذي تقع فيه الخرافة، حين يعلل الناس حدثا بغير علته، فيقولون مثلا: إن مرض المريض علته حين سكن الجسد المريض، أو إن موت المسافر علته نعيق الغراب فوق سطح الدار ليلة السفر، وهذا الزعم من الميتافيزيقا التأملية هو وحده الذي نرفضه ونصفه بالخرافة.
وأما أن نوجه جهودنا التحليلية نحو العلوم ونتائجها؛ لنرى متى تعوج ومتى تستقيم، وهل هي يقينية الصدق أو أنها لا تزيد في صدقها على درجة من درجات الاحتمال، فذلك ضرب من الميتافيزيقا سديد ونافع ومقبول.
Shafi da ba'a sani ba
إننا إذا أخذنا بوجهة النظر التي تجعل الميتافيزيقا لا محاولة لتحليل الوجود الشيئي ورده إلى مصادره الأولى، بل المحاولة لتحليل قضايا العلوم تحليلا منطقيا، بردها إلى جذورها الأولى ردا يتبين منه مدى مشروعية التركيب اللفظي الذي صيغت فيه قضية علمية معينة: أهو متسق الأجزاء بعضها مع بعض، أم هو منطو على تناقض مستتر؟ أهو تركيب في طبيعته ما يمكن الباحث من المقابلة بينه وبين ما يشير إليه من حقائق العالم الواقع، أم هو مشتمل على مفردات لغوية، وعلاقات رابطة بين المفردات، تجعل التحقق من الصواب أو الخطأ أمرا محالا؟ أقول: إننا لو أخذنا بوجهة النظر التي تجعل الميتافيزيقا تحليلا منطقيا لقضايا العلوم، انتهينا إلى فكرة رائعة بالنسبة إلى الفلسفة وطبيعة عملها، إذ يتضح لنا في جلاء أن الفلسفة ليست مطالبة بأن يكون لها قضايا خاصة بها، ولا هي مستطيعة ذلك حتى إذا أرادته لنفسها؛ لأن العلوم المختلفة - كل في ميدانه - هي وحدها المؤهلة بمناهجها للوصول إلى حقائق الكون والإنسان، وحسب الفلسفة - إذن - أن تسير وراء العلوم تتسقط أقوالها لتصب عليها ضوء التحليل المنطقي، فتكشف ما قد يكون فيها من خلل يستدعي من العلماء إعادة النظر.
وقد تسألني: ولماذا لا نترك الخبز لخبازه، فنترك للعلماء أنفسهم تحليل قضاياهم على النحو الذي تشير إليه؟ وجوابي هو: أن ذلك هو ما يحدث في معظم الحالات، ففيلسوف العلم هو نفسه - عادة - رجل العلم بعد أن استوقفته الأسس التي يبني عليها علمه، دون أن يفكر أحد من الزملاء العلماء في تحليل تلك الأسس ذاتها، لنرى من أي الجذور جاء نبتها؟ كأن يقف أحد علماء الرياضية - مثلا - ليحلل «العدد» الذي هو أساس البناء الرياضي تحليلا يبين كيف نبتت فكرة العدد في العقل؟ هل نبتت في أصولها من التجربة البشرية في فجر ظهور النوع الإنساني؟ أو هي من مقومات العقل في فطرته، ولا تحتاج إلى اكتساب من تجربة مع العالم الخارجي؟ فيكون مثل هذا البحث هو «فلسفة الرياضة».
وشيء كهذا هو ما صنعه «عمانوئيل كانط» في كتابه «نقد العقل الخالص»؛ وذلك أنه - بادئ ذي بدء - أراد أن يلتمس طريقا للبحث الميتافيزيقي يؤدي بنا إلى مثل اليقين الذي نراه في نتائج العلوم الرياضية والطبيعية، فكان منهجه في ذلك هو أن يبدأ بتحليل الوسيلة التي تؤدي بالعقل إلى الوصول إلى الحقائق الرياضية ، ثم الوسيلة التي تؤدي به إلى قوانين العلوم الطبيعية (وقد كان كانط أستاذا للعلوم الطبيعية) فلما أن فرغ من مشروعه التحليلي الضخم في ميدان الرياضة وميدان العلوم الطبيعية، ووصل إلى ما وصل إليه من نتائج؛ أدرك أن ذلك التحليل نفسه لقضايا العلم بشطريه الرياضي والطبيعي هو الميتافيزيقا، بعد أن كان يظن في البداية أنه إنما قام بذلك التحليل ابتغاء الكشف عن المنهج القويم الذي يعالج به موضوع الميتافيزيقا بعد ذلك، وتلك هي ما أسميناها بالميتافيزيقا النقدية، في مقابل الميتافيزيقا التأملية. ونحن نقر الأولى ونرفض الثانية للسبب الذي ذكرناه فيما سبق.
4
ونضيف الآن سببا آخر، يدعونا لرفض الميتافيزيقا التأملية، وهو أن عباراتها - بحكم طبيعة الموضوع - تشتمل دائما على حدود لا يكون لها معنى إلا في مجالها، فإذا قلنا عن أنواع الجملة إنها ثلاثة من ناحية كونها صادقة حتما، أو باطلة حتما، أو أنها مما يحتمل الصدق والكذب، وجدنا الجملة الميتافيزيقية لا تندرج تحت أي قسم من هذه الأقسام.
الجملة الصادقة حتما هي التي تكرر المفهوم الواحد مرتين في صورتين مختلفتين: إحداهما تحلل مضمون الأخرى، كأن تقول 2 + 2 = 4، والكل أكبر من أي جزء فيه؛ والجملة الباطلة حتما هي التي ينقض شطرها الثاني شطرها الأول، كأن تقول إن المثلث لا تحيط به ثلاثة أضلاع؛ والجملة التي تحتمل الصدق والكذب هي الجملة التجريبية، كأن تقول إن جبل الهملايا صخوره بركانية. وعلى ضوء هذا التقسيم للقضايا من حيث صدقها أو كذبها، انظر إلى جملة من النوع الذي تورده الميتافيزيقا التأملية في سياقها، وسنختار جملة قد تبدو للقارئ أنها دالة على معنى من جهة، وأن معناها هذا صحيح من جهة أخرى؛ لكثرة ما ألف القارئ سماعها وسماع أمثالها، وهي «الخير غاية الوجود»، وهكذا قال أفلاطون حين جعل مثال الخير قمة لسائر المثل، فكأنما المثل جميعا تتجه نحو الخير باعتباره غاية الغايات.
انظر إلى هذه الجملة؛ فهل هي من الجمل التحليلية التي نجزم بصوابها بحكم بنائها اللغوي نفسه، كما حكمنا على جملة «الكل أكبر من أي جزء فيه »؟ كلا، إنها ليست كذلك؛ لأن تحليلنا «للخير» لا يتضمن أن جزءا من معناه الضروري هو أن يكون غاية الوجود، فهل الجملة محتومة البطلان بحكم تركيبها اللغوي، كما حكمنا بذلك على جملة «المثلث ليس محوطا بثلاثة أضلاع»؟ كلا؛ لأن «الخير» و«غاية الوجود» ليس بينهما تناقض داخلي يجيز لنا أن نحكم ببطلان الصلة الإيجابية بينهما. أفنقول إذن إن الجملة من النوع التجريبي الذي يكون مرد الحكم بصوابه أو خطئه إلى التجربة؟ كلا مرة ثالثة؛ لأنه إذا جاز لنا الزعم بأننا نعرف حقيقة الخير من خبرتنا بالحياة، فليست «غاية الوجود» جزءا من تلك الخبرة، أي إنه محال علينا أن نجد في دنيا التجربة ما يؤيد أو ما ينفي أن يكون الخير غاية للوجود؛ فما معنى ذلك كله؟ معناه هو أن الجملة الميتافيزيقية إذا انتزعت من سياقها الذي وردت فيه، وجدناها غير صالحة للحكم عليها بصدق أو بكذب، أي إنها ليست قضية منطقية على الإطلاق، إذ إن تعريف القضية المنطقية هو أنها ما يمكن الحكم عليه بالصدق أو بالكذب، وبهذا تكون الجملة الميتافيزيقية خالية من المعنى.
5
وهنا لا بد من وقفة قصيرة نشرح فيها ما نريده عندما نقول إن العبارة الميتافيزيقية من النوع التأملي، هي عبارة بغير معنى؛ إذ إن العبارات ذوات المعنى لا تخرج عن أن تكون واحدة من صنوف ثلاثة أسلفنا ذكرها، على حين أن العبارة الميتافيزيقية - وضربنا مثلا لها عبارة «الخير غاية الوجود» - لا تندرج تحت أي صنف من الأصناف الثلاثة، أقول: لا بد لنا هنا من وقفة قصيرة شارحة؛ لأن القارئ يغلب عليه أن يقف ذاهلا أمام قولنا إن جملة «الخير غاية الوجود.» بغير معنى، إذ هو يشعر بينه وبين نفسه أنه يفهم معناها أوضح الفهم.
ففكرة «المعنى» وما يقصد به، هي من أهم ما شغل الفلاسفة المعاصرين، إلى الحد الذي جعل بعضهم يذهب إلى أن تعريف الفلسفة هو أنها «تحديد المعاني»، وإن الرأي عند هؤلاء الفلاسفة ليتشعب عند تحليلهم لمعنى كلمة «معنى»، فمنهم من جعل معنى اللفظة المعينة هو «الشيء» الحسي نفسه الذي تشير إليه اللفظة؟ ومنهم من وجد مثل هذا التحديد أضيق جدا من أن يشمل جميع الحالات، فقال إن «المعنى» هو «التصور الذهني» (أي المفهوم) الذي تشير إليه اللفظة، ثم لحظ فريق ثالث بأن هذه التحديدات تقتصر على اللفظة وهي «اسم» قائم وحده، على حين أن الأهم هو «الجملة» فقالوا إن الجملة ذات «المعنى» هي تلك التي تتضمن بطريقة مفرداتها وتركيبها إمكان التحقق العملي من صدقها، وإلا فهي جملة بغير معنى.
Shafi da ba'a sani ba
وهذا هو موقفنا عندما زعمنا أن الجملة الميتافيزيقية التأملية بغير معنى، وإلا فكيف يكون التحقق من صدق قولنا «الخير غاية الوجود»؟ وما الفرق - من هذه الناحية - بين هذا القول والقول الذي ينقضه فيزعم أن الشر هو غاية الوجود؟ كلا القولين سواء في عدم قابليتهما للتحقق من صدق أيهما أو كذبه، فلا يبقى أمام السامع أو القارئ - في هذه الحالة - إلا أن يحتكم إلى «شعوره»، (لا إلى منطق العقل)؛ ليرى مع أي القولين يشعر بالرضى.
وها هنا تبرز نقطة ذات أهمية خاصة، هي الألفاظ الدالة على «قيم» أخلاقية وجمالية، فلئن كان القارئ العادي لا يكاد يعبأ بما نقوله عن «المطلق» و«الوجود» و«الصورة» وما إلى هذه المعاني الفلسفية المجردة، فهو شديد الحساسية لما نقوله عن الألفاظ الدالة على قيم الأخلاق بصفة خاصة؛ ولذلك كان من بين المواضع التي استثارت نفوس الذين وجهوا النقد إلى الطبعة الأولى من هذا الكتاب ما ورد عن «القيم» من أنها معدودة بين المفاهيم الميتافيزيقية التي رفضنا أن يكون لها معنى خارج البناءات الفكرية التي وردت فيها؛ فأخذت هؤلاء الناقدين ظنون بأن في مثل ذلك القول تنكرا للأخلاق نفسها.
وحقيقة الموقف بعيدة عن ظنونهم تلك بعدا شاسعا، فلسنا نعرف ضربا واحدا من ضروب الفكر الفلسفي تنكر للقيم الأخلاقية والجمالية في ذاتها، ولكن الأمر أمر تحليل يكشف عن طبيعتها، وفرق بعيد بين أن تقول عن شيء ما إنه «غير موجود» وبين أن تقول عنه إنه موجود، وحقيقته هي كذا وكذا؛ والذي نزعمه عن أي لفظ يشير إلى قيمة أخلاقية أو جمالية، هو أن دلالة ذلك اللفظ ليست جزءا من الواقع الخارجي، ولكنها كائنة في طوية الإنسان وتظهر عندما ينفعل ذلك الإنسان بما يراه في مجرى الأحداث الخارجية، فإذا هو رأى جنديا من بني وطنه يقتل رجلا من جيش العدو في ساحة القتال، وحكم على الفصل بأنه «شجاعة» تستحق الثناء، فإنما جاء الحكم من الطريقة التي ينظر بها صاحب الحكم إلى الموقف الذي رآه وحكم عليه بأنه شجاعة محمودة، وقد يرى شخص آخر ذلك الموقف نفسه، بعين أخرى تمقت الحروب على إطلاقها، فيحكم على الفعل بأنه نذالة وهمجية، ومعنى هذا كله هو أن القيم الأخلاقية والجمالية هي ضرب من «الرؤية» التي توحي بها ثقافة الشخص الذي يطلق تلك القيم على المواقف؛ فليس الاختلاف على قيمة الشجاعة في ذاتها، بل الاختلاف على ماهية الموقف الذي يستحق أن تطلق عليه هذه القيمة.
6
نقطة أخيرة أقدمها إلى القارئ؛ ابتغاء مزيد من التوضيح؛ وأتمنى لو أنه كان في مستطاعي أن أقدمها مكتوبة بمصابيح «النيون» الساطعة بنورها؛ ليراها الأعشى والمبصر على السواء؛ لأنها كانت مصدرا لخلط عجيب؛ وتلك هي أن كل ما أكتبه في سبيل التجريبية العلمية، إنما يقصد به مجال واحد من مجالات القول - وهي كثيرة - وأعني به مجال «العلم» بمعناه الطبيعي التجريبي، ولم يقل أحد بأن اللغة لم تخلق إلا لهذا المجال العلمي وحده، فهنالك مجالات الشعر والنثر الأدبي، وشتى صنوف التعبير الوجداني على اختلافها، بل ومجال السحر والخرافة وأساطير الأولين. نعم، هنالك هذه المجالات كلها، وبديهي أننا إذ نشترط شروطا خاصة للعبارة العلمية كي تكون مقبولة على أسس منطقية تجعل لها «معنى» قابلا للتحقيق، بحيث يمكن الحكم عليها بالصواب أو بالخطأ، لم نكن نريد أن تطبق تلك الشروط على قصيدة الشعر أو على قصة بناها الخيال. فلكل صنف من صنوف القول الأخرى - التي ليست من صنف التفكير العلمي - معياره الخاص به، فللشعر الجيد معياره، ولأي جنس أدبي غير الشعر معياره، وهي معايير تختلف كل الاختلاف عن معيار المنطق العقلي الذي تضبط به مناهج القول في دنيا العلوم.
إنه إذا تحدث إلينا متحدث بخبر يرويه عن «هاملت» أو عن مصباح «علاء الدين»، وأردنا أن نتحقق من صدق روايته، فلن يكون سبيلنا إلى التحقيق هو الرجوع إلى عالم الطبيعة بأشيائها وكائناتها بحثا عن رجل اسمه «هاملت» بين الرجال، أو عن شاب ذي مصباح سحري بين الشباب، ولو فعلنا لما وجدنا، فهل نقول عندئذ إن الجملة التي رواها المتحدث عن هاملت أو عن علاء الدين مرفوضة؛ لأنها ليست بذات «معنى» ما دام العالم الواقعي لا يشتمل على موضوع الحديث؟ كلا، بل إننا في هذه الحالة نرجع إلى العالم الخاص بكل موضوع على حدة، فترجع بالنسبة لهاملت إلى رواية شيكسبير المعروفة، كما نرجع بالنسبة لمصباح علاء الدين إلى الحكاية الخاصة به بين حكايات ألف ليلة وليلة، وهناك نراجع حديث المتحدث على ما ورد في عالمه الخاص.
لكن الأمر يختلف إذا ما كان الخبر المروي لنا خبرا عن حقيقة من حقائق العالم المادي من حولنا، كأن يقال لنا - مثلا - شيء عن أشعة الضوء وسرعتها وزوايا انكسارها، أو خبر عن مياه البحر الأحمر، أو رياح الخماسين في مصر؛ فها هنا يتجه التحقيق العلمي نحو الواقع الطبيعي بكل ما لدى الإنسان من حواس أو أجهزة تعين تلك الحواس على دقة الإدراك.
ولما كان موضوع اهتمامنا في هذا الكتاب هو التفرقة بين ما يجوز قبوله وما لا يجوز قبوله في مجال القول «العلمي» وحده - دون سائر المجالات - قصرنا معاييرنا على موضوع اهتمامنا، فلم نسلم من هجمات الناقدين الذين لم يكن لهم من دقة النظر ما يفرقون به بين مجال أردناه ومجالات أخرى لم نردها، حدثناهم حديثا عن زيد، فراحوا يلتمسون التطبيق على عمرو؛ فلما لم يجدوا التطبيق مواتيا؛ وجهوا التهمة إلى مؤلف الكتاب لا إلى أنفسهم.
أما بعد، فقد رأيت أن أستبدل بعنوان الكتاب في طبعته الأولى - وكان «خرافة الميتافيزيقا» - عنوانا آخر هو «موقف من الميتافيزيقا»؛ لعل هذا العنوان الجديد أن يكون أخف وقعا على الأسماع، وأقرب إلى الموضوعية والحياد.
وبالله التوفيق.
Shafi da ba'a sani ba
زكي نجيب محمود
الجيزة في نوفمبر 1982م
مقدمة
تنعكس صورة العصر على أقلام الكتاب والمفكرين بإحدى طريقتين، فهؤلاء الكتاب والمفكرون إما أن يصوروا واقع الحياة من حولهم تصويرا أمينا، بحيث يبدو على صفحات كتبهم وجه الحياة القائمة كما هو بملامحه ومعالمه وقسماته ولمحاته، أو أن يصوروا هذا الواقع بالثورة عليه ومحاولة قلب أوضاعه. وعندئذ يستطيع القارئ أن ينظر إلى صفحات الكتاب، لا ليرى وجه الحياة كما هو، بل ليستدله استدلالا من الصورة الكاملة التي خلقها صاحب الكتاب بفكره، ليصلح بالكمال الذي رسمه بقلمه، نقص الحياة الشائعة التي يريد تقويمها وإصلاحها؛ فالصورة في هذه الحالة الثانية لا تصور الشبيه بشبيهه، بل تدل على الشيء بالإشارة إلى نقيضه، فلو كان الناس يعيشون - مثلا - في عصر تسوده القسوة والشدة والعنف، كان الأرجح أن يكتب بعض المفكرين داعين إلى اصطناع الرحمة والرفق والتسامح، وإن كانوا يحيون في عصر يسوده التراخي وميوعة العواطف، فالأرجح كذلك أن يجيء تفكير المفكرين في جملته أميل إلى دعوة الناس إلى شيء من التماسك والصلابة والشدة؛ ومن قبيل ذلك أنه إذا انزلق قوم مع نعومة الإيمان الساذج وطراوته؛ ظهر المفكر الذي يدعوهم إلى التشكك والتعقل كما فعل ديكارت في عصره، وكذلك إن غلا القوم في تقييد أنفسهم بشكائم العقل ومنطقه؛ ظهر المفكر الذي يثير فيهم الوجدان الشاعر والقلب النابض الحساس، كما فعل روسو رادا على فعل فولتير وتابعيه.
وعقيدتي هي أن عصرنا هذا في مصر بصفة خاصة، يسوده استهتار عجيب في كل شيء، والذي يهمني الآن ناحية خطيرة من نواحي حياتنا، هي ناحية التفكير والتعبير؛ فقد اعتادت الألسنة والأقلام أن ترسل القول إرسالا غير مسئول، دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب أدنى الشعور بأنه مطالب أمام نفسه وأمام الناس، بأن يجعل لقوله سندا من الواقع الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي.
فلو كان هذا «الارتجال» الحر الطليق من قيود الواقع وشكائمه مقصورا على جوانب هينة يسيرة من حياتنا، لما كان الأمر بحاجة إلى جهد يبذل، لكنه ارتجال اتسعت رقعته، حتى شمل حياتنا العملية والعلمية كلها أو كاد، بحيث أصبح أمرا مألوفا أن نرى الحاكم عندنا يحكم الناس بلا عد أو حساب، والاقتصادي يصدر في مشروعاته عن غير إحصاء وأرقام، والعالم يقول القول بلا سند أو دليل.
وهذه كلها - في حقيقة الأمر - فروع تفرعت عن مشكلة أعم وأضخم، هي مشكلة الأخلاق التي أحاطت بحياتنا الفردية والاجتماعية من جميع جهاتها، فتراها بادية في مظاهر لا تخطئها العين المسرعة العابرة؛ وهل من سبيل أمام الرائي أن تخطئ عينه هذا الاستخفاف الشامل، الذي رفع عن كواهل الناس كل شعور بالتبعة فيما يقولون وما يفعلون؟ لا فرق في ذلك بين حاكم ومحكوم، وكدت أقول ألا فرق بين عالم وجاهل، فهو استخفاف بكل شيء، قد تغلغل في ثنايا حياتنا، واصطبغت بلونه دنيانا بكل ما فيها من جليل وتافه، حتى أصبح المتعقب للحق - على عسر الطريق ومشقته - هو الحقيقي منا بالسخرية والضحك. •••
وهذا كتاب يتشدد في الشروط المفروضة على المتكلم الجاد إذا ما نطق بعبارة أراد بها انتقال فكرة من رأسه إلى رءوس الآخرين؛ فلئن كانت الفلسفة في هذا الكتاب مدار الحديث، وإن كانت الميتافيزيقا هدف النقد والهدم، فما ذلك إلا لنضع منوالا أمام القارئ ينسج عليه عباراته، ومقياسا يميز به ما يصلح أن يكون قولا علميا مقبولا وما لا يصلح، نعم إنه واجد ها هنا شروطا تضيق مجال القول إلى حد بعيد، لكن ما حيلتنا إن كان القول الصادق لا يجاوز هذا المجال الضيق الضئيل؟!
وإني أصارح القارئ منذ فاتحة الكتاب، بأنه مقبل على صفحات لم تكتب للتسلية واللهو، لكنه إن صادف في دراسته الكتاب شيئا من العسر والمشقة - وبخاصة في الفصول التي تناولت فن التحليل الفلسفي، وهي الفصول الثلاثة الأخيرة - فأملي أن يجد بعد ذلك جزاء ما تكبد من مشقة وعسر، وجزاؤه هو أن يلم بطرف رئيسي هام من التفكير الفلسفي المعاصر، لعله بذلك أن يشارك أصحاب الفكر في عصره تفكيرهم، وتلك هي الوسيلة التي لا وسيلة سواها أمام الإنسان ليحيا في العصر الذي أراد له الله أن يعيش فيه.
سيجد القارئ في الفصل الأول من هذا الكتاب عرضا وتأييدا للفكرة القائلة بأنه لا يجوز للفيلسوف أن يقول جملة واحدة يحاول بها أن يصف الكون أو أي جزء منه، وكل مهمته أن يحلل العبارات التي يقولها العلماء في أبحاثهم العلمية والناس في حياتهم اليومية، تحليلا يبين مكنون هذه العبارات؛ حتى نطمئن جميعا إلى سلامة ما يقال؛ إذ هي مهزلة المهازل أن يجلس الفيلسوف على كرسيه في عقر داره مسندا رأسه على راحتيه، زاعما لنا ولنفسه أنه يفكر في حقيقة العالم، كأنما العلماء أمام مخابيرهم وموازينهم ومقاييسهم يلهون ويعبثون ولا يبحثون عن حقيقة العالم بحثا هو أجدى على الناس من ألف ألف رسالة فلسفية في هذا السبيل.
Shafi da ba'a sani ba
وفي الفصل الثاني بحث في الفلسفة النقدية عند «كانت» أردت به أن أسوق للمشتغلين بالدراسات الفلسفية مثلا فنيا للتحليل الفلسفي كيف بلغ حدا بعيدا من الدقة والعمق على يدي رجل من أضخم رجال التحليل في تاريخ الفكر كله، فإن وجد القارئ العادي مشقة في تتبع هذا الفصل، فليتركه حينا حتى تتهيأ له الدراسة التي تعينه على ذلك، ولن يؤثر هذا أثرا ملحوظا في تتبعه الفكرة الرئيسية التي كتب الكتاب من أجلها.
وفي الفصل الثالث تحديد للميتافيزيقا بالمعنى الذي نرفضه، وقد حددناها بأنها مجموعة العبارات التي تحتوي على كلمات لا ترمز إلى شيء مما تقع عليه حواس الإنسان فعلا أو إمكانا. ويجيء بعد ذلك الفصل الرابع على سبيل التطبيق؛ إذ جعلناه خاصا بالبحث في الجمل التي يعبر بها قائلوها عن «القيم» الأخلاقية والجمالية، وقد بينا أن أمثال هذه العبارات فارغة من المعنى، فكل عبارة يقولها قائلها ليحكم على فعل بأنه خير أو على شيء بأنه جميل، إن هي إلا تعبير منه عن ذات نفسه، ولا تدل في العالم الواقع على شيء، وبالتالي لا يجوز أن تكون موضعا للنقاش والجدل؛ لأن العالم الخارجي - عالم الأشياء - لا خير فيه ولا جمال، كما أنه لا شر فيه ولا قبح، فهذه كلها كلمات دالة على شعور المتكلم نحو الأشياء من حب لها أو كراهية، بحكم تربيته ونشأته.
وأما الفصول الثلاثة الأخيرة، فكلها عرض لطرائق التحليل عند الفلاسفة المعاصرين؛ لأننا إذ نرفض ما نرفضه من عبارات، لا نبني ذلك على ميول وأهواء، وإنما نرفضه على أساس تحليل هذه العبارات المرفوضة نفسها تحليلا يدل على أنها فارغة لا تعني شيئا ولا تدل على شيء.
هذا هو الكتاب الذي أقدمه للقراء عامة، والمشتغلين بالدراسات الفلسفية بصفة خاصة، والأمل يحدوني أن يجيء عاملا متواضعا من جملة العوامل الكثيرة التي تؤثر في توجيه الفكر العربي، وسأعد القارئ صديقا إن أيد وجهة النظر التي عرضتها في الكتاب أو عارضها؛ لأنه في كلتا الحالين سيخرج متأثرا بما قرأ.
زكي نجيب محمود
القاهرة في أبريل 1953م
الفصل الأول
الفلسفة تحليل
1
ألف الناس أن ينظروا بالمنطق ذي القيمتين إلى القول يقوله القائل ليخبر به خبرا؛ أي إنهم قد ألفوا أن يحكموا على الخبر يأتيهم به المتكلم بأحد شيئين: فهو عندهم إما صواب أو خطأ، ولا ثالث لهذين الفرضين؛ حتى جاء المناطقة المحدثون، فأضافوا إلى هذين الحكمين التقليديين حكما ثالثا، هو أن يكون القول كلاما فارغا لا يحمل إلى السامع معنى، فلا يجوز وصفه عندئذ بصواب أو خطأ، وبالتالي لا يجوز أن يكون موضع أخذ ورد وبحث ومناقشة؛ فقولنا عن العدد 2 مثلا: إنه زوجي، قول صحيح، وقولنا عنه: إنه فردي، قول خاطئ، وأما قولنا عنه: إنه «عدد أبيض» فكلام فارغ لا يكون صوابا ولا خطأ.
Shafi da ba'a sani ba
والفرق واضح بين الكلام الخاطئ والكلام الفارغ، فالأول يرسم لنا صورة إلا أنها لا تصور الحق، والثاني لا يصور شيئا؛ فإذا قلت لك: إن المصريين عددهم خمسون مليونا من الأنفس، فقد قلت لك خبرا مكذوبا، بمعنى أني قد صورت لك به صورة لا تطابق حقيقية الواقع، فأنت تستطيع أن تتصور حالة يكون عدد المصريين فيها خمسين مليونا، لكنك إذا أردت أن تراجع الحالة الواقعة فعلا بالصورة التي رسمتها لنفسك ؛ ألفيت بين الصورتين اختلافا، وفي هذا يكون المعنى الخطأ، إذ نقول عن الخبر: إنه خاطئ؛ أما إذا قلت لك: «إن المصريين عددهم أرباع مجسمة.» فقد قلت لك كلاما فارغا خاليا من المعنى، على الرغم من أن كل كلمة على حدة لها معناها الخاص المعلوم إذا ما وضعت في سياقها الصحيح، فمثل هذا الكلام الفارغ لا يقال عنه إنه خطأ؛ لأننا قد اصطلحنا على أن يكون معنى الخطأ اختلافا بين الصورة التي يرسمها الكلام وبين الحالة الواقعة فعلا، فماذا لو كان القول لا يرسم صورة كائنة ما كانت؟ عندئذ لا تكون موازنة بين الحالة الواقعة وبين صورة ما؛ وبالتالي لا يكون حكم بخطأ، دع عنك أن يكون الحكم بصواب.
وقد يجوز للقول الخاطئ - في حقيقة أمره - أن يعتقد في صوابه أحد الناس فيدافع عنه، وفي مثل هذه الحالة يحق - طبعا - لمن شاء أن يرد هذا المخطئ عن خطئه. أقول: إن ذلك جائز الحدوث؛ لأن هنالك حالة واقعة فعلا، لا تعتمد في واقعيتها على عقيدة المتكلم الأول ولا على عقيدة المتكلم الثاني، وسبيل المناقشة بين الخصمين هو أن يحاول كل منهما أن يفتح عين زميله على تلك الحالة الواقعة؛ لكي يبصره بحقيقة تفصيلاتها، فمن وجد منهما أن كلامه عنها لم يكن صورة صادقة مطابقة لتلك التفصيلات؛ عرف أنه أخطأ، ثم ارتد إلى الصواب. فافرض مثلا أن هنالك حالة واقعة فعلا، هي أن الطمي الذي يحمله النيل في فيضانه أثناء الصيف، آت من هضبة الحبشة، ثم افرض إلى جانب ذلك رجلين: أحدهما «يعتقد» في صدق العبارة الآتية: «النيل ينقل الطمي أيام الفيضان من أوغندة»، والثاني يعلم أن ذلك قول خاطئ، ويريد أن يرد صاحبه إلى الصواب؛ ها هنا يكون مدار المناقشة بين الرجلين هو الحالة الواقعة فعلا، والتي لا تعتمد واقعيتها على عقيدة أي منهما، وقد يستطيع الثاني أن يفتح عين الأول على تلك الحالة الواقعة، فيعلم أن الصورة التي كان رسمها بقوله: إن النيل ينقل الطمي من أوغندة، لا تطابق الواقع فيرتد عنها إذا أراد لنفسه صوابا.
من ذلك ترى أن المناقشة جائزة حين يكون القول خاطئا، لكنها ليست بذات موضوع إذا كان كلام المتكلم فارغا؛ لأنه لن يكون هنالك «صورة» مرسومة بالكلام، حتى نستطيع أن نوازن بين الأصل وصورته، لنرى إن كان بينهما تطابق أو لم يكن؛ هبني زعمت لك «أن المصريين أرباع مجسدة» فماذا أنت قائل إزاء هذا الزعم تأييدا أو تفنيدا؟ لا شيء؛ لأن الكلام لم يرسم صورة يمكن مقارنتها بأصل هناك، فلا تأييد ولا تفنيد. أعني أن المناقشة تنتفي من أساسها.
والغاية التي يهدف إليها هذا الكتاب، هي أن يبين أن «الميتافيزيقا»
1
كلامها كله فارغ من هذا القبيل، لا يرسم صورة، ولا يحمل معنى؛ وبالتالي لا يجوز فيها البحث واختلاف الرأي، فلو أردنا أن نقصر كلامنا على ما يكون له معنى؛ وجب اطراح الفلسفة التأملية - وهو اسم آخر نطلقه على الأبحاث الميتافيزيقية - وما يدور مدارها من صنوف التفكير، بحيث لا يبقى بين أيدينا في دائرة العلم إلا العلوم الطبيعية والرياضة.
2
إنني لأرجو أن يتبين القارئ في وضوح خلال قراءته لهذا الكتاب، أن «المشكلات الفلسفية» المزعومة إنما نشأت من طريقة استعمال «الفلاسفة» للألفاظ والعبارات؛ إذ تراهم يستخدمون الألفاظ والعبارات على نحو يختلف عن الطريقة التي اتفق الناس فيما بينهم - اتفاقا مفهوما بالعرف - على أن يستخدموا بها تلك الرموز اللغوية، وبذلك تنشأ عبارات ليست بذات معنى مفهوم، وقد لا يظهر فيها هذا الجانب إلا بعد تحليل، فتؤخذ عند فلاسفة الميتافيزيقا على أنها «مشكلات» تستدعي التفكير والتأمل، وتنتظر الحل والجواب؛ والحق أنها أخلاط من رموز لا تدل على شيء ألبتة، فإذا استوجبت منا شيئا فهو حذفها حذفا من قائمة الكلام المقبول؛ يقول «وتجنشتين»: «معظم ما كتب من قضايا وما سئل من أسئلة عن الموضوعات الفلسفية، ليس باطلا فحسب، بل خاليا من المعنى؛ فلسنا نستطيع لذلك أن نجيب عن هذه الأسئلة إطلاقا، وكل ما نستطيعه حيالها هو أن نقرر خلوها من المعنى. إن معظم أسئلة الفلاسفة وقضاياهم ناتجة عن عدم فهمنا لمنطق لغتنا ... فلا عجب إذن أن تكون أعمق مشكلاتهم ليست بمشكلات.»
2
إن الكلمات والعبارات التي تتألف منها اللغة: رموز اصطلح الناس على استخدامها بطريقة معينة ليتم التفاهم، فإذا وجدنا عبارة لا تؤدي هذا الذي خلقت من أجله، أعني لو وجدنا عبارة قالها قائلها ليفهم عنه السامع، ثم تبين أنها بحكم تركيبها يستحيل أن تنقل إلى السامع شيئا، كان حتما علينا أن نرفض قبولها جزءا من لغة التفاهم، وكان لا مندوحة لنا عن حذفها من جملة الكلام المفهوم.
Shafi da ba'a sani ba
على أن الكلام لا يكون مفهوما عند السامع، إلا إذا كان في مستطاع هذا السامع أن يتصور طريقة لتحقيقه وتصديقه إذا أراد؛ فإذا قلت لصاحبي: «إن في هذا الصندوق أربع برتقالات.» ثم إذا كان صاحبي هذا متفقا معي على مدلولات «صندوق» و«أربعة» و«برتقالة» - فضلا عن مدلولات الكلمات البنائية «إن» و«في» و«هذا» - كان في إمكانه أن يحقق هذا الذي أزعمه له، فإن وجد القول مطابقا للواقع صدقه، وإلا فهو قول كاذب، وفي كلتا الحالين - حالتي صدقه أو كذبه - يكون القول كلاما مفهوما؛ لأنه رسم لسامعه الصورة التي يتوقع أن يجدها في عالم الواقع.
لكن قارن هذا بكل من العبارتين الآتيتين: (1)
إن في هذا الصندوق أربع مشقرات. (2)
الإنسان حرارة لها زاويتان قائمتان.
تجد أن العبارة الأولى غير ذات معنى؛ لاحتوائها على كلمة «مشقرات» التي لا مدلول لها فيما اتفق عليه الناس من رموز دالة، فلا يعلم السامع ماذا عساه واجد في الصندوق إذا أراد أن يتثبت من صدق ما قاله القائل، والعبارة الثانية غير ذات معنى كذلك، على الرغم من أن كل لفظة منها ذات مدلول متفق عليه؛ لأن الألفاظ قد وضعت في غير سياقها الذي يجعلها ذات معنى؛ فماذا أنت صانع مثل هاتين العبارتين لو صادفتهما فيما تقرأ أو تسمع؟ إنك لن تتردد في حذفهما وإهمال شأنهما؛ لأنه من العبث أن تقف عندهما متفكرا متدبرا.
ونحن زاعمون لك الآن أن كل عبارة ميتافيزيقية هي من أحد هذين النوعين؛ فهي إما مشتملة على كلمة أو كلمات لم يتفق الناس على أن يكون لها مدلول بين الأشياء المحسوسة، أو مشتملة على كلمة أو كلمات اتفق الناس على مدلولاتها، لكنها وضعت في غير السياق الذي يجعلها تفيد معناها؛ وإذن فالعبارات الميتافيزيقية فارغة من المعنى، وليس لنا بد من حذفها.
3
وانظر إلى هذه الأمثلة الآتية مما يقوله الميتافيزيقيون، نسوقها لك متعجلين؛ ليتضح المعنى المراد، على أننا سنعود في بقية الكتاب إلى تفصيل القول في طرائق التحليل التي تكشف لنا عن خبيء العبارات الميتافيزيقية؛ لأنه كثيرا جدا ما نتوهم للوهلة الأولى أن عبارة معينة ذات معنى مفهوم، حتى إذا ما حللتها وأمعنت في تحليلها؛ وجدتها منطوية على خلاء، بل على ما هو شر من الخلاء؛ لأنها تخدع خديعة إيجابية حين توهمنا أنها ذات معنى ودلالة، وقد يستتبع معناها الوهمي كثيرا من أوجه النشاط والعمل، والأمر كله ضلال في ضلال. •••
فليس على الفيلسوف الميتافيزيقي من بأس في أن يقول مثلا: إن «الروح عنصر بسيط.»
4
Shafi da ba'a sani ba
كما قد يقول زميله العالم إن «الذهب عنصر بسيط»، لكن زميله العالم حين يقول ذلك عن الذهب، فإنما يقوله وأنابيب المعامل تحت يديه، وهناك قطعة الذهب، فيظل يحاورها بتجاربه أمام المشاهدين، حتى لا يجد أحد بدا من التسليم بأن قطعة الذهب ستظل ذهبا، ولا تتحلل إلى عناصر أخرى، وبهذا يكون الذهب عنصرا بسيطا، وبهذا نفسه أيضا يتحدد معنى كلمتي «عنصر بسيط»، وهو ألا يكون الشيء قابلا للتحلل إلى أجزاء مختلفة الخصائص، فأي جزء منه كأي جزء آخر. أما صاحبنا الفيلسوف حين يقول القول نفسه عن «الروح»، فهو يستحل لنفسه ألا يتقيد بهذه الضوابط والمراجعات، فلا أنابيب هناك ولا معامل ولا «روح» بين أصابعه، إنه نطق بصوت زاعما أنه رمز يرمز إلى شيء بين الأشياء، ثم زعم أن ذلك الشيء المرموز له من صفاته أنه لا يتحلل إلى أجزاء مختلفة، بل مهما حللته وجدت أجزاءه متشابهة بعضها مع بعض. هذا جميل، ونريد الآن أن نعرف مدى صدق هذا الزعم، فأول ما نلتمسه في هذا السبيل، هو أن نمسك بذلك الشيء لنخبره، فلا نجده بين الأشياء؛ ماذا حلل فيلسوفنا - إذن - فوجده متشابه الأجزاء؟ أين المسمى الذي أطلق عليه اسم «روح» ثم راح يزعم له الصفات؟ إن موضع الجدل الآن ليس هو أن يقال عن الروح بسيطة كالذهب أو مركبة كالبرونز، بل هو أن الشيء الذي يوصف بالبساطة أو يوصف بالتركيب، ليس كائنا بين الأشياء؛ فما الفرق بين أن تقول «إن الروح عنصر بسيط.» وأن تقول «إن السوح عنصر بسيط.» حين يكون لفظ «السوح» رمزا لغير مرموز له؟ أنا في كلتا الحالين صفر اليدين من الشيء المراد تحليله لمعرفة بساطته أو تركيبه. ولما كان الكلام المفهوم - كما قدمنا - هو وحده الكلام الذي يمكن التحقق من صدقه أو كذبه، كانت العبارة السابقة بغير معنى، وكان الزعم بأنها «مشكلة» فلسفية ناشئا من استخدام رمز بغير مدلول.
احذف كلمة «روح» وضع الرمز «س»، وقل «س عنصر بسيط»، ثم اشترط أن يكون معنى بساطة العنصر ألا يتحلل إلى أجزاء من غير نوع واحد، ثم حاول أن تحكم بالصدق أو بالكذب على عبارة «س عنصر بسيط»، تجد حكمك هذا مستحيلا ما لم تعرف أولا أي شيء بين الأشياء ترمز إليه «س»، فإن وضعنا مكان «س» كلمة «هواء» وقلنا: «الهواء عنصر بسيط»، كان الكلام كاذبا؛ لأن الهواء مركب من أكثر من عنصر واحد، وإن وضعنا مكان «س» كلمة «أوكسجين» وقلنا «الأوكسجين عنصر بسيط»؛ كان الكلام صادقا؛ لأن الأوكسجين لا يمكن تحليله إلى أجزاء تختلف بعضها عن بعض؛ وفي كلتا الحالتين السابقتين يكون الكلام مفهوما؛ لأننا وجدنا الشيء الموصوف بالبساطة كذبا في الحالة الأولى، وصدقا في الحالة الثانية. لكن ضع مكان «س» كلمة «سوح» وقل «السوح عنصر بسيط»، فهل تستطيع الحكم بصدق أو بكذب قبل أن تعرف ماذا عسى أن يكون هذا «السوح»؛ لتأخذ في تحليله ومعرفة بساطته أو تركيبه؟ وإن كان ذلك كذلك، فالأمر نفسه يقال عن عبارة «الروح عنصر بسيط»، هذا كلام فارغ من المعنى؛ لأن فيه رمزا لا يشير إلى مرموز له بين عالم الأشياء، فلا إشكال هناك فيما عدا مجاوزة المتكلم حدود الكلام المفهوم. يقول «ريودلف كارناب»
5
في ذلك ما يلي: «لو تقدم لك عالم بقضية لا يمكنك أن تستنبط منها ما عساك أن تدركه بالحس، فماذا يكون موقفك إزاءه؟ افرض مثلا أنه زعم لك أن الأجسام ليست فقط تتأثر في مجال الجاذبية تبعا لقوانين الجاذبية المعروفة، بل أضاف إلى ذلك زعما آخر، وهو أن للأجسام مجالا آخر تتأثر فيه أيضا، وهو مجال «اللاذبية»؛ فإذا سألته: ماذا عساي أن أشاهد في ظواهر الأجسام مما ينتج عن هذا المجال «اللاذبي» تبعا للنظرية المزعومة؟ وأجاب بأنه ليس هناك أثر مما تمكن مشاهدته بالحواس، أو بعبارة أخرى إذا سألته هذا السؤال فاعترف بعجزه عن تقديم طريقة معلومة يمكننا بمقتضاها أن نعلم ما يمكن مشاهدته بالحس مما يطرأ على الأجسام في مجالها «اللاذبى»، فماذا يكون موقفك إزاءه؟ لا شك أنك ستقف من كلامه موقفك من الكلام الذي يتخذ صورة الكلام وليس منه، إن كلامه فارغ لا يتحدث به عن شيء قط.» •••
وليس على الفيلسوف من بأس - مثلا ثانيا - في أن يسأل: «هل المعاني الكلية التي في الذهن يقابلها أو لا يقابلها مسميات في العالم الخارجي؟»
6
كما يسأل زميله الاقتصادي: هل أوراق النقد التي في السوق يقابلها أو لا يقابلها رصيد من الذهب في خزائن المصارف؟ لكن العالم الاقتصادي حين يسأل سؤاله، يعرف كيف تكون الوسيلة إلى جوابه؛ فهذه هي أوراق النقد نراها ونلمسها ونعلم أن عددها كذا وقيمتها المكتوبة عليها كيت، وهذا هو رصيد الذهب ووزنه كذا وقيمته كيت، وإذن فأوراق النقد تساوي رصيد الذهب في القيمة أو لا تساويه. وأما الفيلسوف فيسأل سؤاله وليس هنالك أمامه «معان كلية» يستطيع لها وزنا أو قياسا. إنه يحاول أن يوازن بين طرفين، مع أن أحد الطرفين لا وجود له ولا يمكن أن يكون له وجود في عالم الأشياء؛ لأن عالم الأشياء مؤلف كله من جزئيات، لكل جزئي منها مكانه وزمانه، وأما «المعنى الكلي» فليس هناك ، ليس هو على المقاعد ولا في الخزائن؛ فكيف أبحث عما يقابله وهو نفسه غير موجود؟ هب سائلا سألك: هل «للمعنى الكلي» صورة في المرآة التي في غرفتك؟ فعلام تبحث في صفحة مرآتك لكي تجيب بالإثبات أو بالنفي؟
إن فيلسوفنا حين يحاول الموازنة بين «المعاني الكلية» في ناحية و«الأشياء» في ناحية أخرى، ليعلم إن كانت للأولى مقابلات في الثانية، إنما يوهم نفسه بأنه «يوازن»، مع أن «الموازنة» مستحيلة؛ لأن كل كفة من كفتي الميزان لا بد لها من «شيء» يوضع عليها لتتم الموازنة، لكن فيلسوفنا رغم هذه الاستحالة، ما يزال يسأل سؤاله باحثا عن جواب، ثم لا يجد الجواب، فيقول إنها «مشكلة فلسفية» تتطلب التفكير والحل، والحقيقة هي ألا جواب لأنه لا سؤال، فلا يكفي أن ترص الكلمات رصا وتضع علامة الاستفهام في آخرها ليكون ثمة سؤال ينتظر الجواب، بل لا بد أن يكون هناك «الشيء» الذي هو موضع التساؤل، حتى يمكن الجواب. يقول «وتجنشتين»:
7 «الجواب الذي لا يمكن التعبير عنه، سؤاله كذلك لا يمكن التعبير عنه، فاللغز [الذي يستحيل الجواب عنه] ليس له وجود.» •••
وليس على الفيلسوف بأس في أن يقول - مثلا ثالثا - إن الشيء المادي لا يوجد إلا وهو مدرك،
Shafi da ba'a sani ba
8
على نحو ما يقول زميله العالم مثلا: إن الزئبق الصلب لا يوجد إلا والحرارة أقل من 38,86 درجة تحت الصفر بمقياس فهرنهيت، لكن العالم الطبيعي حين يقول ذلك، في مستطاعه أن يمسك ببضعة من زئبق سائل في أنبوبة، وأن يأخذ في خفض درجة حرارته درجة درجة؛ ليرى هو ومن أراد أن يرى معه، في أية درجة سيتحول الزئبق السائل إلى زئبق صلب، وإذن فقد شاهد الزئبق في الحالتين: في الحالة التي كانت درجة الحرارة فيها أكثر من 38,86 تحت الصفر بمقياس فهرنهيت، وفي الحالة التي كانت درجة الحرارة فيها دون ذلك، فرأى أن الزئبق لا يكون متجمدا إلا في الحالة الثانية دون الأولى. أما زميلنا الفيلسوف حين يصوغ قضيته على هذا الغرار، قائلا إن الشيء لا يوجد إلا وهو مدرك ، فليس في وسعه أن يخبر إلا حالة واحدة، وهي عندما يكون الشيء مدركا. إنني الآن أنظر إلى خزانة كتبي، فأرى فيها صفوفا من الكتب خلف لوح الزجاج، لكنني لا أرى الكتب التي رصصتها في أجزاء الخزانة التي تحجبها أبواب خشبية، فبناء على هذا المبدأ الفلسفي المذكور، لا أحكم بالوجود إلا على الكتب التي أراها، وأما الكتب التي لا أراها الآن لاحتجابها وراء الحواجز الخشبية فهي غير موجودة، فتسأل فيلسوفنا: كيف لا تكون موجودة وقد رأيتها منذ لحظة حين فتحت الأبواب الخشبية، كما أستطيع أن أراها بعد لحظة إذا كشفت عنها الغطاء من جديد؟ فيجيبك: إنها كانت موجودة منذ لحظة؛ لأنك كنت تدركها، وقد توجد بعد لحظة لأنك ستدركها، وأما الآن فهي ليست موجودة لأنها غير مدركة. أعود فأقول إن فيلسوف هذا المبدأ قد أشار في مبدئه هذا إلى حالتين: حالة إدراكه للشيء، وحالة عدم إدراكه له، ثم قال إن الشيء يكون موجودا في الحالة الأولى دون الثانية، مع أن الحالة الثانية - بحكم التسمية نفسها - لا تقع في حدود خبرته، وبالتالي لا يجوز له الكلام فيها.
إن أمثال هذه «المشكلات الفلسفية» المزعومة إن هي إلا لعب بالألفاظ؛ فنحن إذ نقول: «إن الشيء لا يوجد إلا وهو مدرك» إنما نستعمل كلمة «يوجد» بمعنى «يدرك» فكأننا نقول «إن الشيء لا يدرك إلا وهو مدرك»، وهو تحصيل حاصل لا يفيد شيئا. •••
ومن هذا القبيل نفسه «مشكلة فلسفية» أخرى - وهو مثل رابع نسوقه لما تزعمه الفلسفة من مشكلات - وأعني مشكلة الإدراك الحسي لشيء ما، فهل يجوز لي أن أحكم بوجود الشيء نفسه في الخارج مع أن كل ما لدي منه حاضرات حسية؟ مثال ذلك: إنني أرى الساعة الآن قائمة على مكتبي، وأسمع دقاتها، فكل ما لدي منها انطباع لوني على عيني واهتزاز صوتي في أذني، فهل تمثل هذه الحاضرات الحسية شيئا خارجها موضوعا هنالك على سطح المكتب بعيدا عني؟ أم أن حقيقة الساعة في هذا الانطباع اللوني والاهتزاز الصوتي لا أكثر؟
والحق أنك لو أمعنت في الأمر قليلا ، لما رأيت فيه إشكالا؛ لأن المشكلة المزعومة هنا - كما هي الحال في المثل السابق - قد نشأت من طريقة استعمالنا الكلمات، وليست هي بالمشكلة التي تدور حول الوقائع ذاتها، ولكي تتصور ما نريده، افرض لنفسك شخصين اختلفا مذهبا؛ أما أحدهما فيقول بأن الحاضرات الحسية معطيات جاءتنا من شيء خارجي، وأما الآخر فيقول بالمذهب الثاني وهو أن الحاضرات الحسية هي كل ما هنالك من حقيقة، ولا شيء خارجي هناك، فكيف السبيل لأحد الرجلين أن يقنع الآخر كي ينحسم ما بينهما من خلاف؟ ليس هنالك من سبيل؛ لأنهما لا يختلفان على واقعة بذاتها، حتى يمكنهما الرجوع إليها في تصديق أحدهما وتكذيب الآخر، وإنما الاختلاف على «الاسم» الذي يطلقه كل منهما على تفصيلات الموقف الذي هما بصدده، والذي لا خلاف بينهما على تفصيلاته، فأحدهما يفضل أن يسمي الموقف بلفظتي «حاضرات حسية»، وأما الآخر فيؤثر أن يطلق على الموقف نفسه اسما آخر، هو «شيء خارجى». ولزيادة الإيضاح نقول: افرض أن رجلين قد شاهدا - وهما سائران معا في الطريق - حيوانا معينا، لا يختلفان على وصف ما يشاهدان منه، أي إنه لو طلب لكل منهما أن يذكر كل التفصيلات التي تتجمع لديه عن الحيوان المشاهد؛ لجاء الوصف في كلتا الحالين متطابقا أتم التطابق، ثم افرض بعد ذلك أن أحد الرجلين قد أصر على أن يسمي هذا الذي يراه «ذئبا»، بينما أصر الآخر على أن يسميه «ثعلبا»، أفلا يكون الاختلاف بينهما على التسمية دون الخبرة التي يخبرانها؟ إنه إذا أراد أحدهما أن يصحح الآخر، فلا يرجع به إلى شيء من تفصيلات المشاهدة؛ لأنه لا اختلاف عليها، وإن جاز أن تقوم بينهما مناقشة في أمر اختلافهما، فينبغي أن تكون المناقشة في أي التسميتين «أفضل». مثل هذا هو الاختلاف الذي يقوم بين الفلاسفة حين يقول فريق منهم: إننا ندرك الحاضرات الحسية وحدها، ويقول فريق آخر: بل إننا ندرك الأشياء الخارجية التي بعثت إلينا بتلك المعطيات الحسية. لا اختلاف بين الفريقين على تفصيلات الخبرة، فما يقع في خبرة الفريق الأول هو نفسه ما يقع في خبرة الفريق الثاني، إنما آثر الفريق الأول أن يسمي هذا النوع المعين من الخبرة «حاضرات حسية»، بينما اختار الفريق الآخر أن يسميه «أشياء خارجية»، فإذا جاز للفريقين أن يقوم بينهما مناقشة وبحث، فينبغي أن ينحصر الأمر في اختيار أفضل الاسمين للدلالة على الموقف لا أكثر ولا أقل. •••
ومثل خامس وأخير نسوقه لك توضيحا لما أردناه حين زعمنا أن العبارات الميتافيزيقية أقوال فارغة من المدلول والمعنى، وأن «المشكلات الفلسفية» وليدة لعب بالألفاظ لا أكثر ولا أقل، يقول «برادلي» وهو من أعظم الفلاسفة الإنجليز المحدثين، يقول هذه العبارة الآتية في سياق كتابه المشهور «المظهر والحقيقة»:
9 «يدخل المطلق في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم.» ومعنى ذلك عنده - فيما أظن - أن العالم في سيره التطوري الذي جعل يتقدم به من الحالة السديمية إلى الحالة التي هو عليها الآن - بما فيها من نبات وحيوان وإنسان - قد تأثر بعدة عوامل من بينها عامل اسمه «المطلق»، لكن هذا «المطلق» - على الرغم من أنه قد عمل على تطور العالم وتقدمه من حالة إلى حالة - فإنه هو نفسه ثابت على حالة واحدة، لا تطور فيها ولا تقدم.
لو قال لنا عالم بيولوجى إن اختلاف البيئة يؤدي إلى تطور الحيوان من حالة إلى حالة، رأيته يقول القول وفي كراساته الأدلة التي جمعها من مشاهداته؛ لأنه حين يقول مثل هذا القول لزملائه علماء البيولوجيا، لا يفترض أن هؤلاء الزملاء سيتلقون منه القول كأنه وحي أوحي به إليه من السماء، وفي مستطاع كل زميل أن يدحض له قوله بمشاهدات أخرى إن كانت عنده مشاهدات أخرى من شأنها أن تدحض ما زعم، وهكذا يجري الأمر بين العلماء إثباتا ونفيا، فمن يثبت منهم أمرا فإنما يثبته بما قد شاهد، ومن ينفي أمرا فإنما ينفيه بما قد شاهد كذلك.
ولو قال لنا متحدث في الشئون اليومية إن إخراج الحكومة للتسعيرة قد أدى إلى تطور الأسعار من حالة إلى حالة، رأيته أيضا يقول القول وعلى لسانه الأمثلة مما قد رأى في السوق، فقد كان البرتقال ثمنه كذا وأصبح كيت، ولك - إن أردت - أن تذهب إلى السوق لتثبت أو تنفي.
فما بال الفيلسوف يجيز لنفسه ويجيز له الناس - فيما يظهر - أن يرسل ألفاظه إرسالا بغير حساب أو عقاب؟
Shafi da ba'a sani ba
ذلك لأني إذا طالبت «برادلي» بأن يشير لي إلى شيء من الأشياء التي أعرفها، أو في مستطاعي أن أعرفها إذا شئت، إذا طالبته بأن يشير لي إلى شيء يكون هو «المطلق» المزعوم، لأرى إن كان عاملا من عوامل تطور العالم - كما زعم - أم لم يكن، أنكر علي سؤالي؛ لأنه فيلسوف ميتافيزيقي كتب له الله في لوحه المحفوظ أن يعرج إلى السماء من حين إلى حين، ليعلم هناك أن «المطلق» يفعل هذا ولا يفعل ذلك.
لو طالبت «برادلي» بأن يشير لي إلى «المطلق» الذي يحدثني عنه، كان أقل ما يعترض به علي هو أن ما يشار إليه إنما يكون في مكان معلوم وزمان معلوم، أما «المطلق» فلا مكان له ولا زمان، وإلا لما صح وصفه بأنه مطلق من القيود. كيف إذن عرفته يا صاحبي؟ إنك لا تعرف إلا الأشياء ذوات المكان المعين والزمان المعين، أم وهبك الله بابا من أبواب المعرفة لم يفتحه أمامي؟ أليست حواسي وحواسك سواء؟
لا، لا يا صديقي - هكذا أتصور المجيب قائلا - ليس الأمر هنا موكولا إلى الحواس من عيون وآذان وأصابع، بل الأمر طريقه «الحدس» أو العيان العقلي المباشر.
هذا جميل، ولست أريد أن أضيق عليك ما قد وسعه الله لك، فأدرك بحدسك هذا آفاق السماء ما استطعت، لكنك الآن تحدثني أنا بما قد أدركت، وإذن فمن حقي عليك أن تترجم لي إدراكك هذا باللغة التي أفهمها، أنا الذي لم يهبني الله ما وهبك من «عيان عقلي مباشر»؛ فإن استطعت كان عيانك العقلي هذا اسما آخر على ما أسميه أنا الإدراك بالحواس، وإن لم تستطع، كان عليك أن تصمت، أو كان لي أن أسد أذني فلا تسمع، إذ ما غناء موجة صوتية ترسلها شفتاك لا تدلني على شيء مما أفهم؟
إن كلمة «المطلق» لها معناها الذي اتفقنا عليه، فإن سألت الخادم: أربطت الكلب إلى سلسلته أم تركته مطلقا؟ وأجابني الخادم: بل تركته مطلقا؛ ارتسمت عندي صورة لما وقع، وفي مستطاعي أن أراجع الخادم فيما يقول، فأبحث عن الكلب لأرى أهو على الصورة التي رسمها لي الخادم أم هو على غيرها، وإن سألت التاجر: أأسعار الفاكهة مقيدة بتسعير رسمي أم هي مطلقة؟ ثم أجابني بأنها مطلقة، فقد رسم لي صورة أستطيع أن أراجع الأمور الواقعة لأتبين هل صدق في رسمه لصورة الواقع أم كذب.
هذا - أو شيء كهذا - هو معنى «مطلق» كما اتفقنا؛ فيجيء فيلسوف ميتافيزيقي ليزعم «أن المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم»، فلا يكون لعبارته معنى؛ لأنه استخدم لفظا متفقا على معناه في غير السياق الذي يحفظ له ذلك المعنى، وإلا فحدثني ماذا عساي أن أجد في ظواهر الطبيعة كلها مما يثبت هذا القول أو ينفيه؟ هبني قلت لذلك الفيلسوف لا، بل المطلق لا يدخل في تطور العالم وتقدمه، أو قلت له لا، بل المطلق نفسه يتعرض للتطور والتقدم، فما الذي تغير في صورة الكون بين حالتي الإثبات والإنكار؟ إن الكلام إذا كان له معنى مفهوم فلا بد أن يكون هناك في عالم الأشياء الواقعة فرق بين إثباته ونفيه؛ فالفرق واضح في عالم الأشياء بين قولي: «إن الكلب مطلق» وقولي: «إن الكلب ليس مطلقا»، فما دمت أدرك كيف تتغير صورة الأشياء بين حالتي نفي القول وإثباته، فالقول ذو معنى مفهوم، وإلا فهو فارغ لا يدل على شيء.
وهكذا تستطيع أن تمضي في ذكر أمثلة مما يقوله الفلاسفة في «مشكلاتهم» المزعومة، لتعلم كيف وإلى أي حد استباحوا لأنفسهم أن يستخدموا ألفاظ اللغة التي تعاقد الناس على أن تكون لها معان محددة لكي يتم التفاهم، استباحوا لأنفسهم أن يستخدموا تلك الألفاظ على نحو يخدم أغراضهم في خلق مشكلات موهومة، ولا يستقيم مع طريقة استخدامها في العلوم وفي الحياة اليومية الجارية على السواء، ولا غرابة بعد ذلك أن يتصدى لأمثال هذا كله «جورج مور» فيدحض العبارات الفلسفية على أساس مجافاتها للغة الحديثة الجارية، ويتخذ من ذلك محورا لطريقته في التحليل،
10
كما سنفصل القول في حينه. «فكم من فيلسوف يستمد قيمته من غموض عبارته أكثر مما يستمدها من رجحان فكرته؛ وعندي أن فكرته هذه تفقد ما فيها من قوة الإقناع لو صيغت في عبارة أكثر دقة واتساقا.»
11
Shafi da ba'a sani ba
والحق ألا إسراف ولا تجن من رجال العلوم حين يهاجمون الفلسفة قائلين: إنها حين تبحث في مشكلات مثل وجود الله وخلود الروح وحرية الإرادة، فإنما تنسج نظرياتها من رءوس الفلاسفة نسجا لا تستند فيه إلى تجربة؛ ولذلك كانت الفلسفة راكدة لا تكاد تخطو كما تخطو العلوم، فلا تزال تناقش اليوم نفس المشكلات التي ناقشها اليونان الأقدمون، أما العلم فغير ذلك، إذ هو يبني على ما قاله السابقون ثم يمضى.
12
وجدير هنا بالذكر أن نشير إلى دفاع في هذا الصدد ساقته «الدكتورة روث سو»
13
في كتاب حديث أخرجته لتدافع به عن الميتافيزيقا في وجه المتنكرين لها من رجال الوضعية المنطقية، إذ قالت: إنه ليس صحيحا ما يعترض به على الفلسفة من أن مشكلاتها باقية على حالها، على خلاف العلم الذي يتقدم؛ لأن النظرية الحديثة فيه تحل محل النظرية القديمة، ذلك عندها اعتراض ليس ثمة ما يبرره؛ لأنه يستحيل على فيلسوف اليوم أن يتجاهل النتائج التي وصل إليها «كانت» والفلاسفة التجريبيون الإنجليز، لكننا نحب أن نردف هذه الملاحظة بأن «كانت» والفلاسفة التجريبيين الذين تعتمد عليهم في دفاعها، هم في الحقيقة من فلاسفة التحليل، وسنرى في غضون هذا الكتاب أن ما نهاجمه هو «الميتافيزيقا» بمعناها التقليدي، أي بمعنى البحث في أشياء لا تقع تحت الحس ك«المطلق» و«الجوهر» و«الشيء في ذاته» وما إلى ذلك؛ وأما التحليل - تحليل القضايا العلمية وكلام الناس في حياتهم اليومية - فأمر مشروع بغير شك؛ لأنه يلقي الضوء على ما تعنيه تلك القضايا والعبارات، دون أن يدعي إثبات حقيقة عن شيء من أشياء العالم، وسيرى القارئ بعد قليل، أننا نؤيد وجهة النظر القائلة بأن «الفلسفة» إذا أرادت أن تظل قائمة بين أوجه النشاط الإنساني، بحيث تؤدي عملا يساعد على تقدم الفكر في شتى ميادينه، فلا مندوحة لها عن قصر نفسها على التحليل وحده - تحليل ما يقوله غير الفلاسفة من الناس - فالقول لسواهم وعليهم التوضيح، يقول «وتجنشتين»: «الطريقة الصحيحة للفلسفة هي ألا نقول إلا ما يمكن أن يقال، أعني ألا نقول إلا قضايا العلم الطبيعي، أي أن نقول شيئا لا شأن له بالفلسفة [معناها التأملي]، فلو أراد قائل أن يقول شيئا في الميتافيزيقا، فعلينا أن نبين له أنه لم يوضح ماذا تعني رموز بعينها في قضاياه، [أي نبين له بأن قوله ليس بذي معنى مفهوم].»
14
3 «موضوع الفلسفة هو توضيح الأفكار توضيحا منطقيا.»
15
هكذا يقول «وتجنشتين»، وتقول معه الكثرة الغالبة من فلاسفة اليوم، وهكذا أيضا نريد أن نقول وندافع عن هذا القول، فأول ما نريد أن ننزعه من الأذهان، هو الاعتقاد الباطل بأن الفلسفة لها «موضوعها الخاص الذي تبحث فيه، شأنها في ذلك شأن سائر العلوم، لا، بل الفلسفة تحليل للعبارات مهما يكن مصدرها، الفلسفة طريقة بغير موضوع، إنها تأخذ العبارة التي تحللها من هذا العلم أو من ذاك، بل قد تأخذها من أفواه الناس في حياتهم اليومية؛ فلقد سمع طالب صيني بفيلسوف الإنجليز المعاصر «جورج مور»
G. E. Moore
Shafi da ba'a sani ba
فارتحل إليه ليأخذ عنه، ما دام الرأي قد أوشك على إجماع بأنه في الفلسفة المعاصرة إمام، وإذا برجاء الطالب يخيب خيبة كبرى؛ لأنه لم يجد عند هذا الفيلسوف المشهور حديثا في الكون وأسراره، وفي الحياة والموت والخلود، كما كان يتمنى ويشتهي، بل وجد الرجل يتناول عبارات إنجليزية بالتحليل، لا ينتقي في ذلك ولا يختار، فلا بأس - مثلا - في أن تكون العبارة التي يحللها هي «الدجاجة تبيض» أو «هذه محبرة كبيرة»، يا ضيعة الأمل إذن، فما جاء هذه الرحلة الطويلة ليسمع كيف يتحدد معنى كلمة أو عبارة في اللغة الإنجليزية.
16
إن هنالك طائفة من الأفكار جعل الناس يتبادلونها في وصف تجاربهم وخبراتهم، تسليما منهم بأنها معلومة مفهومة، فتراهم يتحدثون عن هذا الشيء أو ذاك، عن المقاعد والنوافذ وما إليها، يتحدثون عنها فيقولون: إنها في «مكان» معين، وإنها في اللحظة الفلانية من «الزمان» قد حدث لها كيت وكيت، وإنها «تتغير» لهذا السبب أو ذلك؛ ثم يأتي العلم فيأخذ هذه الأفكار من الاستعمال اليومي ليستخدمها بدوره بغير تعديل كبير، فيستخدم فكرات «المكان» و«الزمان» و«التغير» و«السببية» وغيرها، كأنما هي واضحة المعنى لا تحتاج إلى تحليل وتفسير.
لكنها في حقيقة الأمر فكرات غامضة بعيدة جدا عن التحديد والوضوح، وإذا لم يكن غموضها هذا باديا في معظم حالات استعمالها؛ فذلك لأننا في معظم هذه الحالات إنما نستعملها في دائرة لا يكاد يكون هنالك اختلاف بيننا في حدودها، غير أننا قد نجاوز هذه الدائرة أحيانا، وعندئذ يتبين ما كان يكتنف تلك الفكرات من غموض، لما يقوم بيننا عندئذ من اختلاف في معانيها، فمثلا قد نسأل عن مكان دبوس فنتفق جميعا على مكانه، ثم نرى صورته في المرآة فنسأل عن مكان تلك الصورة، وهل نقصد بالمكان هنا نفس ما نقصده حين نسأل عن مكان الدبوس؟ عندئذ نعجز عن الجواب حتى نحدد أولا معنى «مكان».
17
فالمهمة الأساسية للفلسفة هي أن تتناول أمثال هذه الفكرات التي نستعملها كل يوم في الحياة الجارية وفي العلوم، تتناولها بالتحليل الذي يحدد معانيها تحديدا دقيقا، وإنها لمهمة خطيرة؛ لأن المعرفة الواضحة الدقيقة بأي شيء كائنا ما كان هي - ولا شك - خطوة إلى أمام في سير الإنسان نحو العلم بما يريد العلم به، وليس هنالك من العلوم الأخرى ما يضطلع بهذه المهمة، فالكيمياء تستخدم فكرة «العنصر»، والهندسة تستخدم فكرة «المكان»، والميكانيكا تستخدم فكرة «الحركة» وهكذا، لكن لا هذه ولا هذه ولا تلك - باعتبارها علوما طبيعية - من شأنها تحديد معاني هذه الفكرات، فهي تتخذها نقطة ابتداء، فالمكان في الهندسة - مثلا - مفروض وجوده، وبقي أن نقسمه إلى مثلثات ومربعات ودوائر، لنعرف خصائص كل شكل من هذه الأشكال.
الفلسفة تحليل للألفاظ والقضايا التي يستخدمها العلماء والتي يقولها الناس في حياتهم اليومية، فليس من شأن الفيلسوف أن يقول للناس خبرا جديدا عن العالم، ليس من مهمته أن يحكم على الأشياء؛ لأن هذا الحكم يقوم به فريق آخر هم العلماء، كل في علمه الذي اختص به؛ فعالم الطبيعة أولى منه بالتحدث عن قوانين الطبيعة، وعالم النفس أولى منه بالتحدث عن قوانين السلوك ... وهكذا، بل مهمة الفيلسوف هي أن يحلل ويوضح المعاني، حتى لقد عرفت «سوزان لانجر» الفلسفة بأنها «علم المعنى».
18
وهنا قد يسأل سائل: ولماذا لا نترك توضيح معاني الألفاظ والعبارات في كل علم إلى أصحاب ذلك العلم؟ أليس العلماء أدرى بما يستخدمونه في علومهم من ألفاظ وعبارات؟
والجواب عن هذا السؤال ذو شطرين:
Shafi da ba'a sani ba
فأولا:
ليس ثمة ما يمنع العلماء من القيام لأنفسهم بهذه المهمة، بل كثيرا ما قاموا بها؛ غير أنهم إن فعلوا ذلك كانوا فلاسفة إلى جانب كونهم علماء؛ فقد كان «نيوتن» فيلسوفا في محاولته تحديد كلمة «كتلة»، وكان «أينشتاين» فيلسوفا في تحديده لمعنى «الآنية»، وكان «رسل» فيلسوفا في تحديده لمعنى «العدد»؛ ذلك لأن القضية العلمية هي التي تقول شيئا عن ظاهرة من ظواهر الطبيعة، أما إن دار بحثك لا عن ظواهر الطبيعة مباشرة، بل عن «كلمة» أو عن «عبارة»، فإنك بذلك تدخل في نطاق آخر غير نطاق العلوم بمعناها الدقيق، وهذا النطاق الآخر هو ما اخترنا له كلمة «فلسفة».
وثانيا:
إن العلماء في أغلب الأحيان لا يقومون بهذا التحديد لألفاظهم، فكثيرا جدا ما يستخدمون كلمات مثل «مكان» و«زمان» و«مادة» بغير الوقوف عندها ليحللوا معانيها؛ لأنهم قد لا يشعرون بحاجة إلى هذا التحليل فيما هم بصدده من استخراج للقوانين العلمية؛ وإذن فمن حسن الحظ أن رضيت جماعة من الناس لأنفسها أن تسير أمام عربة العلوم - أو إن شئت فقل إنها تسير وراءها - تتسقط الكلمات والعبارات التي يكون لها أهمية خاصة، فتجعلها موضوع بحثها، حتى إذا ما وضحت كلمة منها بالتحليل ردوها إلى العلم وأخرجوها من دائرتهم بصفة نهائية.
وذلك هو معنى قولهم إن الفلسفة كانت في بدء تاريخها تضم المعرفة الإنسانية كلها، ثم أخذت العلوم تنسلخ من حظيرتها علما بعد علم؛ لأن الألفاظ العلمية بدأت غامضة، فإذا كنا نسمي من يحاول توضيح لفظ فيلسوفا، إذن فكل محاولة في بداية تاريخ الفكر كانت فلسفة؛ ثم أخذت المصطلحات العلمية تتضح شيئا شيئا، وكلما وضح منها جانب أصبح علما قائما بذاته، ولا يزال الفلاسفة حتى اليوم مشتغلين بتوضيح ألفاظ غامضة في مجالات فكرية معينة، مثل الأخلاق والجمال والسياسة والنفس والاجتماع؛ ولذلك فهذه كلها ما تزال تعد «علوما فلسفية»، فهي من مجال الفلسفة بدرجة تقل أو تزيد بمقدار درجة التحديد والوضوح اللذين قد بلغتهما ألفاظها.
ليس هناك - كما أسلفنا - غير الفلسفة ما يجعل تحديد المعاني شغله الشاغل، فالكيمياء تستخدم فكرة «العنصر»، والهندسة تستخدم فكرة «المكان»، والميكانيكا فكرة «الحركة»، وهي جميعا تفرض أن معاني هذه الألفاظ مفهومة، وإذا تعرض العلماء لها بشيء من التحديد، فإنما يفعلون ذلك بما يكفي لعلومهم فقط، أما إذا راح عالم يتعقب التحليل - لفكرة يستخدمها - حتى النهاية دون أن يكتفي بما يكفي بحثه العلمي، فإنه بذلك يكون قد ترك دائرة علمه ودخل في «فلسفة ذلك العلم».
19
4
إذا اتفقنا على أن الفلسفة تحليل للألفاظ والعبارات - ونحتفظ الآن بالمعنى المراد من كلمة «تحليل»؛ لأننا سنفيض فيه القول في فصول الكتاب التالية - وجب أن نفرق بين الفلسفة وبين الميتافيزيقا،
20
Shafi da ba'a sani ba
فبينما «الفلسفة» - بمعنى التحليل - ضرورية لتوضيح القضايا العلمية والعبارات الجارية في الحياة اليومية، نرى «الميتافيزيقا» - بمعنى الحكم على أشياء غير محسوسة - واجبة الحذف من دائرة المعارف الإنسانية؛ لأنها لا هي مزودة بأدوات المشاهدة التي تمكنها من الحكم على الأشياء، ولا هي ارتضت لنفسها أن تسمع ما يقوله المؤهلون لذلك مكتفية بتوضيحه وفهمه، «فإذا أراد الفيلسوف أن يثبت صدق ما يزعمه من أنه شريك في زيادة المعرفة الإنسانية، فلا يجوز له أن يحاول وصف الحقائق عن طريق التأمل الخالص، أو أن يبحث عن المبادئ الأولى، أو أن يصدر أحكاما قبلية عن صحة ما نعتقد في صدقه على أساس التجربة، بل ينبغي له أن يحصر مجهوده في التوضيح والتحليل.»
21
نعم، إن الفلسفة لم تجعل مهمتها دائما تحليل ألفاظ الناس وعباراتهم
22
كما نريد لها أن تكون، فقد جرى التقليد على أن تطلق كلمة «فلسفة» على موضوعات مختلفة فيما بينها جد الاختلاف، إذ تطلق على موضوعات شيئية كما تطلق على موضوعات منطقية على السواء.
غير أنها حين كانت تصب بحثها على موضوعات شيئية، لم تكن «أشياؤها» التي جعلتها موضوع بحثها هي بذاتها الأشياء التي تبحثها العلوم الطبيعية، أو ربما كانت هي نفسها أشياء العلوم الطبيعية، منظورا إليها من زاوية أخرى، ومبحوثا فيها بمنهج آخر غير التجربة. فإن كانت العلوم الطبيعية تبحث في الصخور والمعادن والنبات والماء والهواء، فقد جعلت الفلسفة «أشياءها» التي تبحث فيها غير تلك، إذ جعلتها أحد نوعين: فإما هي «أشياء» لا تقع لنا في الخبرة الحسية، مثل «الشيء في ذاته» و«المطلق» و«العدم» و«القيم»، وعندئذ كانت تسمي بحثها بالميتافيزيقا، وإما هي «أشياء» مما نصادفه في مباحث العلوم الأخرى، كالإنسان والمجتمع واللغة والتاريخ والاقتصاد والمكان والزمان والسببية، لكنها تعالجها بغير الطريقة التجريبية التي تعالجها بها العلوم، وعندئذ كانت تسمي بحثها فلسفة طبيعية أو فلسفة التاريخ أو فلسفة اللغة ... وهكذا.
وأما الموضوعات المنطقية التي كانت هي الأخرى تندرج تحت كلمة «فلسفة» - إلى جانب الموضوعات الشيئية التي ذكرناها - فلا يتعذر حصرها، فهي واقعة فيما نسميه حتى اليوم «بالمنطق»، وأهم أبحاثه طرائق تعريف الألفاظ وتحديدها، وصور القضايا المختلفة، وأنواع الاستدلال وهكذا، أضف إلى ذلك بعض أجزاء ما يسمى بنظرية المعرفة.
23
من ذلك ترى أننا حين نختار للفلسفة أن تحصر نفسها حصرا في التحليل المنطقي وحده، وأن تطرح كل محاولة نحو وصف شيء من العالم وصفا إيجابيا تعتمد فيه على التأمل، فإننا في الحقيقة نختار لها إحدى المجموعتين اللتين جرى العرف على جمعهما معا تحت اسم «الفلسفة»، وليس اختيارنا المجموعة المنطقية، وتركنا المجموعة «الشيئية» تعسفا وجزافا، بل هو قائم على أننا ننكر الميتافيزيقا إنكارا تاما من جهة -كما سيتبين خلال الكتاب - ونريد، من جهة أخرى، أن نترك «الأشياء» كالإنسان والمجتمع والتاريخ واللغة والطبيعة، إلى العلوم؛ لأن العلماء وحدهم، بما لديهم من أدوات ومناهج للبحث، هم القادرون على الوصول بهذه المباحث إلى نتائج يمكن الاعتماد على صدقها.
إننا نريد الإبقاء على الفلسفة، على شرط ألا تجاوز دائرة التحليل لما يقوله الناس في شتى نواحي التفكير، أي إننا لا نريد للفيلسوف أن يتقدم إلينا بقائمة من القضايا، قائلا هذه القضايا هي ما تقوله الفلسفة، فلكم أن تضيفوها إلى القضايا التي يقولها العلماء، ليتم بذلك علمكم عن العالم. كلا، فليست الفلسفة مع العلوم الأخرى في مستوى واحد، وليست الفلسفة علما من العلوم الطبيعية، بل موضوعها هو توضيح الأفكار توضيحا منطقيا، ليست الفلسفة نظرية تضاف إلى غيرها من النظريات، بل هي فاعلية [تنصب على تحليل القضايا العلمية]، وقوام العمل الفلسفي طائفة من توضيحات، ليست نتيجة العمل الفلسفي مجموعة من القضايا الفلسفية، بل نتيجته توضيح للقضايا [التي يقولها غير الفلاسفة من الناس]، واجب الفلسفة أن توضح وأن تحدد تحديدا قاطعا تلك الأفكار التي لولا الفلسفة لظلت معتمة مهوشة.»
Shafi da ba'a sani ba
24
فإذا وضعنا نصب أعيننا هذه الحقيقة، وهي أننا نقبل الفلسفة على أساس انحصار عملها في التحليل، تقشع على الفور كثير جدا من نقد الناقدين الذين يحرصون على الفلسفة ولا يريدون لها الزوال تحت ضربات الوضعية المنطقية.
خذ مثلا هذا النقد الذي يعتمد فيه الناقدون على عبارة قالها أرسطو، إذ قال: «سواء تفلسفنا أو لم نتفلسف، فلا بد لنا من التفلسف.»
25
على اعتبار أننا نتفلسف حتى ونحن نجاهد في إنكارنا للفلسفة؛ فالعبرة هنا بالمعنى الذي نحدد به عملية التفلسف، فقد كان يجوز هذا الاعتراض لو كنا منكرين لكل ضروب الفلسفة على حد سواء، لكننا نبقي من تلك الضروب على التحليل المنطقي، وإذن فلا غبار على رجل يتناول عبارة قالها قائل ليحلل ما تنطوي عليه من عناصر وأجزاء، ولا يمنع ذلك طبعا أن يكون هنالك الفلاسفة المتأملون، الذين يقولون عن الكون عبارات ميتافيزيقية، فيتناول أصحاب التحليل عباراتهم تلك، ليبينوا أنها كلام فارغ ليس بذي دلالة، وهل يستطيع إنسان أن يمنع إنسانا سواه من النطق بأخلاط صوتية كما يشتهي؟ فلينطق من شاء بما شاء، ولنا نحن كل الحق في غربلة هذه المنطوقات، لنميز فيها بين ما نقبله لما يحتوي عليه من معنى، وما نرفضه لخلائه من المعنى، «فالمهمة الأولى للفيلسوف هي تمييز العبارة الخالية من المعنى من العبارة الدالة على معنى.»
26
إن القائلين بالاعتراض الأرسطي السالف، الذي مؤداه أنك لا بد متفلسف حتى وأنت تهدم الفلسفة، قد أخذوا كلمة «الفلسفة» بمعنى «التفكير»، وعندئذ يصح قولهم؛ لأنك لا تنقض تفكيرا إلا بتفكير، وربما كان هذا المعنى جائزا بالنسبة لأرسطو، الذي كانت الفلسفة عنده هي جماع الفكر كله، لكننا بمعنى الفلسفة الذي أوردناه، لا نرى تناقضا في هدمنا للميتافيزيقا بالتحليل المنطقي لعباراتها.
ومن أنواع النقد الذي يوجهونه أيضا، قولهم إن محاولة هدم الميتافيزيقا بالتحليلات اللغوية، إن هي إلا اسكولائية جديدة، فالمنكرون للفلسفة - بمعنى الميتافيزيقا - إنما ينكرونها دفاعا عن نوع آخر من المعرفة، ولئن أراد رجال العصور الوسطى للفلسفة أن تكون خادمة تابعة للدين، فهؤلاء المحدثون يريدون لها أن تكون خادمة تابعة للعلم.
27
ونحن نعجب من نقد كهذا يوجهه أستاذ للفلسفة محترف؛ لأنه بدل أن يقول للمنكرين أين أخطأوا، فهو يعيرهم بأنهم يجعلون أنفسهم أشباها لاسكولائية العصور الوسطى، فهل هذا التعيير دليل كاف على أن الميتافيزيقا يمكن أن تقوم بذاتها فرعا من فروع المعرفة الإنسانية؟
Shafi da ba'a sani ba
وانظر كذلك في عناية إلى النقد الآتي؛ لأنه - في رأينا - أخطر أساسا من النقدين السابقين:
إن الرأي الذي يأخذ به أنصار المدرسة التحليلية الحديثة، ينتهي بهم - كما سيأتي في موضع آخر من الكتاب بالتفصيل - إلى أن المعرفة العلمية نوعان لا ثالث لهما: وهما الرياضة والعلوم الطبيعية؛ وهم في ذلك أتباع لأب أصيل من آباء المذهب الوضعي، وأعني به «هيوم»، وله العبارة المشهورة التي نصها بالترجمة هو ما يأتي: «إذا تناولت أيدينا كتابا - كائنا ما كان - في اللاهوت أو في الميتافيزيقا الاسكولائية مثلا، فلنسأل: هل يحتوي هذا الكتاب على أي تدليل مجرد يدور حول الكمية والعدد؟ لا، هل يحتوي على أي تدليل تجريبي يدور حول الحقائق الواقعة القائمة في الوجود؟ لا، إذن فاقذف به في النار؛ لأنه يستحيل أن يكون مشتملا على شيء غير سفسطة ووهم.»
28
فيقول الناقدون تعليقا على هذا الموقف؛ لكن هذه العبارة نفسها التي قالها هيوم لا هي تدليل رياضي يدور حول الكمية والعدد، ولا هي تدليل تجريبي يدور حول وقائع الوجود، فماذا هي إذن؟
وجوابنا هو أنها منطق؛ أي تحليل؛ أي فلسفة بالمعنى الذي نريد أن نحدد الفلسفة به.
فأمامنا عبارات يقولها المتكلمون والكاتبون، يقولونها لمن؟ يقولونها لمن يسمعونهم أو يقرءونهم، يقولونها لنا، أفلا يكون من حقنا أن نستوثق أولا من أن ما يقولونه وما يكتبونه يمكن مراجعته لتصديقه على أساس سليم؟ فإذا سألت العالم الرياضي عن حقيقة ما يقوله، أجاب في اختصار: إنني أقدم لك معادلات، كل معادلة منها تقول الشيء الواحد بصيغتين، وإنما أعتبر الصيغتين متساويتين على أساس كذا وكذا من الفروض، فعلي أنا بعد ذلك - إذا أردت التحقق من صدق زعمه - أن أراجع تلك الفروض لأتأكد أن كل معادلة من معادلاته متساوية الشطرين حقا على أساس الفروض المزعومة المشار إليها.
وإذا سألت العالم الطبيعي عن حقيقة ما يقوله؛ أجاب في اختصار: إنني أقدم لك قوانين تلخص بعبارة موجزة جملة مشاهداتي وتجاربي، فعلي أنا بعد ذلك - إذا أردت التحقق من صدق زعمه - أن أراجع العالم الواقع لأتأكد أنه قد شاهده مشاهدة دقيقة وسجل مشاهداته تسجيلا صحيحا.
وليس أمامي إلا هذان الطريقان في التحقق من صدق ما يقال: طريق مراجعة الاستدلال الاستنباطي في حالة العلوم الرياضية، وطريق مراجعة المشاهدات للعالم الواقع في حالة العلوم الطبيعية، ومن أجل ذلك قبلت ما يقوله الرياضيون وعلماء الطبيعة، ولم أكن في قبولي هذا عالما من علماء الرياضة ولا عالما من علماء الطبيعة، إنما كنت رجلا من رجال التحليل، تناول ما يقوله هؤلاء وأولئك للتأكد من أنها أقوال ذوات معنى مفهوم؛ فأين التناقض في مثل هذا الموقف؟
أإذا وقفت أمام كومة من أشياء مختلفة، بينها برتقال وكمثرى وأصناف أخرى، ثم جعلت غايتي جمع البرتقال والكمثرى وحدهما والقذف ببقية الأشياء، يقال لي: لكنك لست برتقالا ولا كمثرى، فماذا أنت؟ هذا هو بعينه موقفي حين أقف أمام كومة من أقوال العلماء، ثم أجعل غايتي هي جمع الأقوال ذوات المعنى المفهوم وحدها، والقذف ببقية الأقوال، فإذا حصلت في النهاية على مجموعة من أقوال مفهومة، ثم حللتها فوجدتها صنفين: أقوال رياضية وأقوال في العلوم الطبيعية، فانتهيت إلى الحكم الآتي: الأقوال المقبولة هي قضايا الرياضة والعلوم الطبيعية وحدها، فهل يجوز أن يعترض على ذلك بقولهم: لكن هذا القول نفسه لا هو رياضة ولا هو من العلوم الطبيعية. فماذا هو؟ لو قيل ذلك لأجبت بالجواب الذي أسلفته وهو: أنه منطق، وقد اعترفنا بالفلسفة إذا جعلت بحثها تحليلا منطقيا، ولم ننكر هذا المعنى من معانيها، وما كان لنا أن ننكره؛ لأن المنطقي لا يقول شيئا من عنده، إنما يحلل ما يقوله الآخرون وكفى.
ولزيادة التوضيح نسوق التشبيه الآتي: هبني قلت: «إن أعضاء النواب وأعضاء الشيوخ وحدهم هم المسموح لهم بدخول القاعة، وأما الزائرون فينبغي إخراجهم.» أفلا يكون لهذه العبارة معنى ما دامت هي نفسها ليست عضوا في النواب ولا عضوا في الشيوخ ولا واحدا من الزائرين؟ كذلك الحال فيما نحن بصدده: أمامنا أكداس من عبارات لغوية يقولها الناس في مناسبات شتى، فنقول: «إن العبارات المقبولة من هذه الحكومة كلها في القضايا الرياضية وقضايا العلوم الطبيعية؛ لأن هاتين الطائفتين هما وحدهما العبارات ذوات المعنى، أما العبارات التي لا هي من هذه ولا من تلك فينبغي حذفها؛ لأنها بغير معنى» ... لماذا يعترض على هذا بقولهم: لكن هذه العبارة نفسها لا هي من قضايا الرياضة ولا من قضايا العلوم الطبيعية فينبغي حذفها؟ وحتى لو فرضنا جدلا أننا حذفناها، فإن الموقف لا يتغير، إذ ستظل العبارات ذوات المعنى هي قضايا الرياضة والعلوم الطبيعية وحدها.
Shafi da ba'a sani ba
ولعل هذا هو نفسه الذي حدا بوتجنشتين أن يقول في آخر كتابه ،
29
إن ما أورده في الكتاب ليهدى به القارئ إلى ما يترك وما يأخذ من الأقوال، هو نفسه مما يترك، فكأنه للقارئ الدارس بمثابة السلم الخشبي، يستعين به على الصعود إلى السطح، ثم يقذفه بقدمه بعيدا؛ لأنه لم يعد بحاجة إليه، وهذا هو نص عبارته مترجم: «إن ما قد أوردته [في الكتاب] من قضايا يدل على أن من يفهمني سيرى في النهاية أن تلك القضايا ليست بذات معنى، وذلك بعد أن يكون قد صعد على سلمها، وخطا على درجاتها، وأصبح فوقها، فيجب أن يقذف بالسلم - إن صح هذا التعبير - بعد أن يفرغ من استخدامه لصعوده.»
30
فاحذف إن شئت ما يقوله لك المذهب الوضعي المنطقي، احذفه باعتباره كلاما هو في ذاته لا يدل على شيء من رياضة أو علوم طبيعية، لكنك إذ تحذفه ستكون قد بلغت ما أردنا لك بلوغه، وهو ألا تبقي بين يديك من العبارات إلا قضايا الرياضة وقضايا العلوم الطبيعية، وقذفت بالبقية الباقية كلها في المهملات؛ لأنها كلام فارغ بغير معنى.
5
الفكرة التي نعرضها في هذا الفصل وندافع عنها، هي أن «الفلسفة» لا ينبغي أن تجعل غايتها شيئا غير التحليل المنطقي لما يقوله سواها؛ إنها لا تتكلم بذاتها، بل تدع غيرها يتكلم بما قد كشف عنه من حقائق العالم، ثم تتقدم هي لتحليل هذا الذي نطق به غيرها في تصويره للعالم؛ كي تستوثق بأن الكلام الذي قيل قد كان كلاما له معنى، وليس من شأنها بعد ذلك أن تقول إن كان الكلام الذي قيل، والذي وجدته كلاما ذا معنى، ليس من شأنها أن تقول إن كان ذلك الكلام صادق التصوير لحقائق العالم أو غير صادق؛ لأن مراجعة الصورة الكلامية على الأصل الطبيعي من صميم عمل العلماء بما لديهم من أدوات المشاهدة والتجربة.
وأعيد هنا ما قلته في موضع آخر:
31
الفلسفة طريقة في البحث بغير موضوع، فليست غايتها أن تبحث «مسائل» لتصل فيها إلى «نتائج»؛ لأنه ليس هناك «مسائل فلسفية»، ولا ينبغي أن يطلب من الفلسفة أن تصل إلى «نتائج » عن حقائق الكون؛ كل مسألة في الدنيا يراد فيها الوصول إلى نتائج يجب أن تترك للعلم والعلماء، إذ هي والله أضحوكة الأضاحيك أن يجلس المتفلسف على كرسيه في برجه معزولا عن العالم، حتى إذا ما سئل: ماذا تصنع ها هنا في عزلتك هذه؟ أجاب: أريد الوصول إلى حقيقة العالم! وسأسوق لك مثلا كلام فيلسوف مسلم - هو الكندي
Shafi da ba'a sani ba