تلحمت بجلابيب ولم تطق
حال الحيوة
الحيوة مصدر يشتق منه نظام الأكوان الطبيعية، وأصل تنبعث منه حركات الكاينات العضوية، إذ به تحفظ الجامدات نواميسها وشرايعها، وتحرس الناميات أشخاصها وطبايعها، فهو التثاقل والتبادل للأجرام السماوية، والنمو والتغذية للأكوان الآلية، والحس والانتقال للخلايق الحيوانية، والإشعار والإدراك للطبيعة الإنسانية. فبالحياة يدخل المتحرك في العلاقة مع المحيطات الأجنبية ويستبضعها أغراضه الحيوية. فبقدر الإدراك تتسع الشقة، وبمقدار الإشعار تعظم المشقة. ولما كان الإنسان جامعا كل الإدراك والإشعار، كان أعظم حامل لأثقال تلك الآثار، وهكذا تكون حياته حية عليه، ووجوده عدما لديه، حتى إذا ما بلغ حد الانصرام، رأى ذاته خيالا مر في ضغث الأحلام، على فراش الأوهام. أما بناء حياة الإنسان، إنما يتوقف على أربعة أركان، وهي: العمل والملل والصحبة والأمل.
العمل
كل يعمل لحث راحلته، ولكل عمل على شاكلته. فلما انتقل الإنسان من الوحشية إلى الإنسية، ومن الطبيعية إلى الأدبية، أثبت له ذلك الانتقال، وجوب الأعمال، ونادته الجماعة حي على التعامل، فمن لا يوثر أن يعمل لا يأكل، فاندفع كل إلى الخبط في مهنته، والغوص في حرفته، فذهب يعارك الجامدات كل كتيف، ويباشر الصنايع كل خفيف، ويمارس العلاقات كل عليل منقطع، ويتاجر بالبضايع كل كليل مبتدع، ويستقصي الموجودات كل دقيق مخترع. وهكذا قد انخرط الجميع في سلك الارتباط، وغرق الكل في لجج الاختباط، فكل طاير على أجنحة الطيش، ليقطع آفاق العيش، فترى البعض يشكو الكلل، والبعض يندب الملل، وهذا يتوجع في التعب، وذاك يتفجع من الوصب، فأعين تبكي من العسر، وأفواه تضحك من اليسر، والزارعون يتمحلون بشح الجدب وعليه يأتمرون، أو يتبحبحون بسح الخصب فيغتبطون به ويتطوبون، والصانعون يستنظرون الطلب فيحمدون الشبع أو يذمون السغب، والتاجرون يحشرون البضايع ويرقبون الطلايع ويعومون في السوق، ويغرقون في الصندوق، ويرصدون أفلاك الدواير، ويرتصدون طوالع الدفاتر، فكم أخطأت استهم الحفرة، ولم يصب سهمهم الثغرة.
الملل
وبينا يكون الإنسان لاهيا عن نفسه بأعماله، ومشتغلا عن رمسه بأشغاله، يداهمه شيطان الملل، ويوسوس في صدره عند كل عمل، وربما يغلب عليه هذا الروح، حتى يغدو نديمه في الغبوق وفي الصبوح، وسميره في الهجر والوصال، ورفيقه في الحل والترحال، فأينما رحل رمح أمامه، وأيان حل كان خيامه، وحيثما لفت وقف قدامه. وهكذا يكون الملل ألما في الملذات، وغما في المسرات، وترحا في الأفراح، وفرحا في الأتراح، فهو حادي الأجل، وشادي الوجل، وابن الأعمال، وأبو الآمال.
الأمل
وإذ يكون الإنسان ساقطا تحت ثقل الملل، وهابطا في وهدة الوجل، تبسط له الآمال يد الخلاص، وتلقي له الأوهام حبال المناص، فيضجع على سرير الأحلام، ويضرب في وادي الأوهام، فيصعد بفكره من غرفة إلى غرفة، وينتقل من حرفة إلى حرفة، ثم يرتقي من صغرى إلى كبرى، ومن نتيجة إلى أخرى، حتى يبلغ من غناء إلى غناء، ومن سناء إلى سناء، ولم يزل إلى أن يرى ذاته مالكا كل الأشيا، وسلطان كافة الدنيا. وفيما يكون طاير فكره حايما في تلك الذروة، ومفردا بهاتيك الثروة، ينقض عليه باشق البطلان، ويرجع به إلى حيث كان، فيغيب عنه كل خيال، وينغلق دونه مرسح الآمال، فكلما ذهب أمل جاء أمل، وكلما غنت خيبة رقص وجل، وعز الدهر وجل. وبالآمال يعيش الإنسان، وبالأوهام تحيا الأذهان، ولكل سن مأمولات، وعلى كل مأمول مقولات. أما الأمل فهو تسلية الإنسان، وتعزيته في الأحزان والحدثان، وحلاوته عند الزعاق، وغناه يوم الإملاق، ويسره في العسر، وكسبه في الخسر، وسميره وأنيسه، ونديمه وجليسه، ولا تفرط سلسلة الأمل، إلا في بيت الأزل.
الصحبة
Shafi da ba'a sani ba