حال الكون
حال الجماد
حال النبات
حال الحيوان
حال الإنسان
حال الرجل
حال المرأة
حال الطفولية
حال الفتوة
حال الشبوبية
حال الشيخوخة
حال العيلة
حال الهيئة الاجتماعية
حال البلاد
حال الشرق
حال الغرب
حال الزمان
حال العلم
حال الجهل
حال التمدن
حال المال
حال الحرب
حال السلم
حال الحب
حال البغض
حال الجمال
حال الحيوة
حال الموت
خاتمة الكتاب
حال الكون
حال الجماد
حال النبات
حال الحيوان
حال الإنسان
حال الرجل
حال المرأة
حال الطفولية
حال الفتوة
حال الشبوبية
حال الشيخوخة
حال العيلة
حال الهيئة الاجتماعية
حال البلاد
حال الشرق
حال الغرب
حال الزمان
حال العلم
حال الجهل
حال التمدن
حال المال
حال الحرب
حال السلم
حال الحب
حال البغض
حال الجمال
حال الحيوة
حال الموت
خاتمة الكتاب
مشهد الأحوال
مشهد الأحوال
تأليف
فرنسيس فتح الله مراش
حال الكون
وجود لا حد له ولا مدى، وبدء ليس له ابتدا، يفوق طور العيان فلم يره بشر قط، ويسمو على إدراك الأذهان فلا يمثله إلا ذاته فقط. حتى إذا ما لمح كمالاته الممجدة، واستملح عنايته المؤبدة، أوحى إلى الأبواب السرمدية فانفتحت، وأوعز إلى غوامض الحركة فاتضحت، فاندفع الغبار الكوني من تلك المصارع الدهرية، وانتشر في هاتيك العرصات الأبدية، وإذ تبلبل ببعضه تسلح بالتجاذب، وحمل حمل التحارب، فانطبق كل على قرينه بالالتصاق طبق إيعاز الخلاق، فنجمت العوالم الكروية، شموسا وكواكبا درية، وانطلقت ثانويات تلك الملاحم الكونية.
أجيج شب من صراع ذلك الجم الغفير، فأحرق دقائق الأثير، حتى انبجس نور الاحتراق، وأنار غسق الانطباق، فكانت الحرارة في الأكوان، بظهور النور للعيان. ولما استكملت تلك البخاريات جمادا، بعد اتقادها أجيالا وآمادا، نضجت نضوج الثمر في الكمام، وانشغل الفضاء بالأجرام، وهاك منها البعض، كعطارد والأرض.
ولما أصدرت الحرارة عنصر الضو، تمازجا فانبثقت منهما كهرباء الجو. فهاك ثلاثة متوالدة، قمن في ذات واحدة، فحصحصت الكائنات، وتحركت الساكنات، وتنوعت الحركات وتجنست، وتفاقمت الآثار وتكردست. وإذ لاحت الأرض لتلك المؤثرات صلعاء قفرا، قالت: فلنكسها بإذن الله جمال البردة الخضرا ، فانضم عنصر الناريات النواهض، واتحد أصل الماء بأصل الحوامض، حتى ترتبت الأصول فتداخلت بالاتحاد، وتفاعلت على بعضها المواد. وهكذا نهضت الحياة بين تلك الأصول الراقدة، فنبهت إلى النمو والحركة سواكن الذرات الجامدة، فهب النبات للحال من وراء تلك الفواعل الغارسة، حتى اخضرت اليابسة، وأصبحت الوحشية مأنوسة وآنسة. فما كان الله ليرضى أرضا بلا سكن، وقوتا بلا بدن؛ ولذلك دعا تلك القوة الحيوية إلى التعاظم، ونبهها إلى التراكم، فتعاظمت القوة الحيوية وكملت، وشملت أصل الحركة وحملت، حتى انتشرت النطفة الحيوانية، بعد استكمالها مقومات البنية العضوية، فأخذ الحيوان يتجمل ويتكمل، ويتوالد ويتسلسل. ولما تعدد أنواعا، طلب إشباعا، فحمل كل على قريبه حمل البعول، حتى برزت المسوخ والنغول، وهكذا حمل الهواء جانحه، والماء سابحه، والتراب سارحه، ولم يلبث أن خلق الله الإنسان، فكان علم الأكوان.
حال الجماد
نزاع دائم في دقائق الجماد، وصراع لا يفتر له انقاد، فإذا انطبقت العناصر تصاب بالجمود والقرار، وإذا تخللت انتشرت أو سالت إلى أهوية وبخار. فالصخور تتحلل، والمياه تتسلسل، والهوا يتبلبل، فحراك لا يقف مداره، وعراك لا يقر قراره. وبذلك تحترق المعدنيات، فتنهض المرتفعات، وتذوب الجامدات، وتجمد السايلات، وتفقد العيون سلسالها، وتزلزل الأرض زلزالها. وهكذا لا يزال الجماد بين اجتماع وانفصال، وسلام وقتال، ولا تبرح الحركة بين اقتراب وابتعاد، وخمود واتقاد، حتى تقوم الكائنات المختلفة، وتبرز الأصول المتصفة، بالحياة والثوران، كالنبات والحيوان.
حال النبات
فهب النبات من مرابضه الحيوية، وانتشر على سطح الكرة الأرضية، فتوج الجبال ووشح التلال، وظلل المنحدرات والوديان، وجلل السهول والقيعان، فتكلل الشجر بالسحاب، والتحف النبت بالضباب. وما زالت الطبيعة تفلح المثوى، والأرض تصلح المأوى، حتى تنوعت الأجناس وتحددت، وتفردت الأنواع وتعددت، فذهب النوع يحمي ذريته، والشخص يحفظ بنيته، فأعضاء تهتم بالتثبيت والتشييد، وأخرى تخدم للتوليد والتجديد، وأجزاء ترد غارات التقلبات، وآلات تردع طبائع المؤثرات، كتضعيف اشتداد الضو، وتلطيف كثافات الجو. فالزهور تبتسم عن أصول الحياة القوتية، والجذور والأوراق تستقي وتنتقي المواد الغذوية، على حالة البهيمية، فيتقوم الجهاز العضوي، ويتشيد البنيان الحيوي، ليكون طعاما للحيوان ومقاما للإنسان، فكان النبات طباخ الأكوان، والحيوان أكال الألوان. ولما كانت الحياة عرضة للعوارض، وموقعا للقوارض، جعلت أجناد ذلك الوجود الأكبر، تغذو قوايم هذا الكون الأخضر، فبينما الجذوع تتيه بقاماتها النضرة، والأغصان تزهو بأوراقها الخضرة، والرياض تبتسم بأزهارها لدى سقوط الأنداء، والغياض تهتز بأدواحها رافلة بمطارف الأفياء، يهب الجو عليها برامحات أهوائه، وسافحات أنوائه، فتنقض الصواعق آخذة بالجذوع، فتصاب بالهجوع، وتفتك السيول بالجذور، وتنثر عقود الزهور، فيما أن الكل يكون ملاعب الحوادث الجمادية، وفرايس الطبيعة الحيوانية، لإخراجها عن فصلها وإيلاجها في أصلها.
حال الحيوان
ولما استكملت الحياة إتقانه، وأحسنت القيام إحسانه، تحركت على الأرض فكانت حيوان، وانتقلت بالإرادة إلى كل عيص ومكان، فربض الوحش في الأحجار، وسكن الطير في الأوكار، ونام السمك في الأبحار والأنهار، وهكذا سار البعض على الأربع وساح، والبعض خفق بالجناح على الرياح، والبعض في الماء سباح. ولما على مايدة الحياة أمكن التقاء الشديد بالضعيف، والثقيل بالخفيف، والكبير بالصغير، والطويل بالقصير، أنشأ الكل قتالا وخصاما، فكان كل لسواه طعاما، وهاك أنيابا تمزق تمزيقا، ومخالبا تشقق تشقيقا، وأظفارا تنشب نشبا، وأطرافا تضرب ضربا، فعراك عظيم لا يخمد شراره، ونزال أليم لا يفتر أواره، والموت يفتك فتك الشجيع، وهو خاتمة الجميع.
حال الإنسان
ولما تم الإنسان في جنسه، وعلم علم نفسه، نظر إلى الكائنات فأدركها، وجد وراء المعرفات فأدركها، حتى إذا ما أطلق على المحيطات به نظر المنتقد، وميز الأشياء وفصلها بفكره المتقد، ما لبث أن مد على الكل ظلال رايته، وأخضع الجميع تحت رياسته. وإذ أخذته جانحة الطمع، وغلبت عليه ملكة الولع، وهام بحب الذات وبالفوز على الذوات، ثارت الموجودات عليه بطبايعها، ونهضت ضده الأكوان بشرايعها، وأخذت تدافعه وتصارعه، وتطالبه الوجد وتنازعه، فنضى سيف حكمه وحكمه، وأخضع الكل تحت قدمه. فكان غلبه غلبة عليه، وإدراكه مصيبة لديه، لا سيما إذ عرف الزمان، وميز بين الآن والأوان، فغدا يصارع الحاضر، ويرتعد من المستقبل، ويأسف على الدابر. فراحت الحوادث تطارده، والأيام تعانده، حتى أصبح هدفا للأحوال، وعرضة للأهوال، تارة يهيم بطلب المسرات، وتارة يضج في حرب المضرات. وبينما الملذات تحيط بقلبه، تحدق الآلام بلبه، فما ابتسم إلا وبكى، وما شكر إلا وشكا، وإذا فرح بضع أيام حزن بعض أعوام، فلا بد لأفعاله من رد، ولوصله من صد، يرى الدنيا زهاقا بالملذات، ولا تسقيه سوى الآفات، فيعيش فريسة لآماله، ويموت خايبا من كل أعماله. وهاك هذا المقال، منسوجا على ذلك المنوال:
صاح بي الدهر فاتبعت مسيره
لأرى أين أين أين مصيره
ظل يحدي ظعني على الأرض حتى
ظلع الظعن والطريق عسيرة
قلت يا دهر هل قراري بعيد؟
قال لي انظر بعينك الشريرة
فتأملت أين سرنا وصرنا
وإذا نحن وسط أرض كبيرة
قلت هذا المقام؟ قال نعم، قل
ت وماذا يدعى فقال الحيرة
قلت لا خرت ذا فحملق مغتا
ظا كوحش بأعين مستديرة
قال لي صه يا عاصيا فهنا قد
سقت كل الورى فما لك خيرة
قلت أنى ولم أجد غير قفر
فيه أبكي وحدي دموعا غزيرة
قال ما أنت وحدك اليوم باك
كل عين بدمعها مغمورة
إنما المرء لا يرى غير بلوا
ه فلابن الإنسان عين قصيرة
فتمعنت برهة وإذا الأش
ياء بانت لباصري والبصيرة
قد رأيت الإنسان ملقى على الأر
ض كملقي بحر بقفر جزيرة
تايها بايسا ودهر الشقا يد
عوه في التيه أن يكون سميره
يطلب النصر في منازلة البو
سي وهيهات أن يصيب نصيره
وإذا ما الآمال سرته فالخي
بة تأتي لكي تزيل سروره
كل نفس مطلوقة أسر قصد
وبقيد الصروف أضحت أسيرة
فدموع تهل من كل عين
ترمق الدهر وهي منه ضريرة
وقلوب تضج في لهب اليأ
س من الفوز بين غير وغيرة
فملوك تدور في طلب الملك
فتمسي على الفنا مستديرة
يستثيرون جمرة العنف والدن
يا عليهم نار العفاء مثيرة
ورجال من كل صف وصنف
وذوات من كل شان وسيرة
كلهم راقصون في مرسح الدن
يا وكل يبكي بعين كسيرة
وكذا الكل منشد نغمة العي
ش ويشكو سروره وشروره
فجميع الأنام راكضة رك
ضا إلى القبر وهي عنه نفورة
عندما هذه الجرايح بانت
لي ودهري أفادني تعبيره
قلت والله لا طربت بعيش
في زمان أنا غدوت خبيره
حال الرجل
فولج الرجل في الدنيا، حاملا على كاهله البلوى، فكانت له بئس المأوى. أيان اندفع يفلح الثرى، ليستنبت القوت بالشقا، فيحيا باذل القوى، وما بدون ذلك يحيا، ولا حياة من السوى، فسقى الأرض من عرق الجبين وروى، وبقوته شددها وقوى، فأنبتت له الخبز وأعارته الحمى، وأنالته الداء والدوا، وأحلته المحل الأعلى، فارتقى وتعلا، وسعى في سبيل الكدح واعتنى، فحسن لديه المسعى، وطاب له المرعى. وما زال أن تصلف وطغى، وعلى الخليقة بغى، فدك الأطواد العليا، ونسف ثبيرا ورضوى، ليمهد الممشى، فيبلغ الأقصى، ويقصر المدى. واقتلع الشجر الأقوى، وفطر الصخر الأقسى، ليبتني السرادق والمغنى، فينعم في ظل المأوى. ونحر الأنعام ليشبع ويتقوى، واستخدم البهايم ليتسلط ويتعلى. حتى إذا ما على الكل استوى، وأمد حكمه حتى إلى السها، نهضت ضده الدنيا، وشنت عليه غارات البؤسى، فأنكرته النعمى، فارتد يخبط في البلوى، ويهيم في وادي الردى، على طريق الفنا، حيث يرجو المنى، من أيدي المنى. حتى جعل يضج بالشكوى، ويطلب الخلاص فلا يعطى، فذهب يستوجد أقدارا وقضى، ويستوجب أحكام الخفا، فأمل وترجى، وبالأوهام تملى، وعلى المحال دنا وتدلى. فلولا الرجا والذكرى، لنجع بنفسه وقضى، وإلى ربه مضى.
ماذا تشاهد في دنياك يا رجل
ماذا ترى في وجود كله وجل
ذا مرسح في خباه الدهر يلعب ما
يستحضر الصاحبان اليأس والأمل
حكمت في الأرض مطلوق اليدين فلا
يعصاك بحر ولا سهل ولا جبل
كل الخليقة قد ألقت أزمتها
في راحتيك فأنت السيد البطل
فما لعينيك تبكي وهي راضية
وما لقلبك يشكو وهو مبتهل
خلقت للكد في هذه الحياة فكن
ما شئت سيان منك الكد والكسل
وقد سلكت على هذا الثرى هدفا
لكل ضيم فلا ريث ولا عجل
لكل سن هموم للفتى وعنا
لا ينقضي الهم حتى ينقضي الأجل
حال المرأة
ولما استوت الطبيعة على كيانها، وتمكنت في بنيانها، طلبت الحافظ على دوامها، والذب عن قيامها، فكانت المرأة ظرف تلك الظروف، وغصنا داني القطوف، فبادلت الرجل نظرات الاقتراب، وغازلته مغازلة الأحباب، فرتع في رياض جمالها، واقتطف ثمرات كمالها، حتى تمما وظائف الاقتران، وحفظا نوع الإنسان، وقد أشير إلى ذلك في ثمرة العصيان، فحبلت المرأة وتوجعت، وتمخضت وتفجعت، فاندفعت إلى التربية والرضاع، وتهذيب البيت والمتاع، بينما الرجل يفلح الحقول، ويستغل البقول، ويكدح ويكد، ويجهد ويجد.
ولما أغناها شأنها عن المتاعب الدنيوية، والمصاعب الأرضية، وقعت في هموم الهجس، وغموم الهدس، فتطلبت الحلى والحلل، وهامت بالرقة والغزل، لتختلس نظرات النواظر، وتسترق خطرات الخواطر، حتى إذا لم ينجع رغابها، ولم ينجح طلابها، رجعت بصفقة الغبون، ذارفة عبرات العيون، وتنظر إلى المرآة نظر المعتجب، وتقول: كيف هذا الجمال قد غلب؟! وإذا ظفرت بالمطلوب، وانتصرت على القلوب، تاهت بفوزها وتباهت، وبدلالها تناهت. وكلما دنت فاستدنت، ولوت فاستولت، وللتصابي أولت. وإذا نفيس نفس أهملها، وفي غرورها أمهلها، رجعت فاسترجعت، ونجعت فاستنجعت. ولم تزل بين ورد وصدر، وبيان وحسر، إلى أن تسقط دولة ذلك الجمال الباهر، وتذبل زهرة ذياك الشباب الزاهر، فتعود تصدع الآذان بقصص صباها، وسير مرباها، ولا تشتغل حينئذ إلا بجمع الأشباح، وبتفريق الأرواح، فتصبح خابطة خبط العشواء، وضايعة في الغارة الشعواء.
الحسن في الوجه سريع الزوال
فلتعلم الحسناء ذات الدلال
الحسن سلطان يسود على
عرش الصبا فإن يزل ذاك زال
يصبح في عجز فتصدمه
وكم وكم سطا علينا وصال
اليوم وجه حسن وغدا
يلبس هذا الوجه أقبح حال
فتختفي أنوار ذاك البها
وتنطفي جمرة ذاك الجمال
السيف ينبو والقنا تنحني
وليس يبقى للنزال رجال
يا ربة الحسن جمالك لا
يدوم إلا كدوام الخيال
فحسن وجه ذاهب كالهبا
وحسن طبع راسخ كالجبال
فجملي الطبع وحلي النهى
لتقتني الحسن العديم الزوال
هذا هو الحسن البسيط وما
للجوهر البسيط قط انحلال
لا ينفع الفرع إذا لم يكن
للأصل نفع كيف صال وطال
الفرق بين الفرع والأصل مث
ل الفرق بين الدين والرأسمال
فليحذر الإفلاس من لم يكن
ذا رأسمال والدوام محال
أما المرأة فهي جوهر بديع البنية واللطافة، يشف عن كل رقة وظرافة؛ ولذلك فهي شديدة التأثر، كثيرة التفكر، سريعة التذكر، ولها في الفهم عقل دقيق، وفي العلم ذهن رقيق. إلا أنها بطيئة الاختراع والتبيان، سريعة السهو والنسيان. ولشدة تأثرها، وغموض تبصرها، كانت حليفة الجبانة، سهلة الأمانة. ومن شأنها حفظ الوداد والأدب، وسرعة زوال الغضب، فلقلبها الوفا، ولطبعها الصفا. وبالإجمال إنما المرأة جوهر الإنسان، وأجل كيان، رغم كل عدوان.
إنما المرأة للمرء نصيب
وشريك ورفيق وحبيب
لا يطيب العيش إلا معها
كل عيش دون إلف لا يطيب
وإذا ما نكدت عيش امرئ
ليس تبقى فهي داء وطبيب
ما دعا تنكيدها يوما سوى
رجل عن معشر الأنثى غريب
وإذا ما عقد الدر على
عنق بغل لاح في لون كئيب
وكذا الزنبق إن قرب من
أنف تيس عاد في ريح كريب
هكذا كل لطيف فاقد
لطفه بين كثيف ومعيب
فاعلموا يا علما يا شعرا
يا صفوف الناس يا كل أديب
أن كل اللطف والظرف لقد
جمعا في ذلك الجنس العجيب
أيها الجاني على مرأته
أنت والله من الذوق شجيب
بئس من يفتك بالأنثى فما
هي إلا مثل شاة وهو ذيب
أي فضل لصقور فتكت
بحمام أو لليث بربيب
وإذا سلطك الطبع على
جسمها فالعقل سلطان مهيب
من غدا محكوم طبع ناشف
بات مرذولا من الطبع الرطيب
إنما الزوجان ما بينهما
حق عهد متساو لا يغيب
فعلى ذي العهد أن يحفظ ما
أوجب العهد وإن خان يخيب
حال الطفولية
هذا هو الدور الأول لحياة الإنسان، والغلوة الأولى في طريق الزمان، حيثما يقال للداخل طفلا مولودا، وللخارج شيخا مفقودا. ولما كان الإنسان في هذا المدخل عديم البصيرة، خالي السريرة، عاريا من كل الكمالات الأدبية، غير حاصل على تمام الوظائف العقلية، فلا يرى إلا ما يقوم قربه، ولا يشعر إلا بما يستعطف قلبه، فيلعب بالتراب ويذريه، ويعبث بالتبر ويذريه، ويسخر بالمقبولات والمردودات، ويضحك على كل الموجودات، فلا يهتم إلا بطلب الغذا، ولا يحفل إلا بما يورث الأذى. وإذ لا يبرح طايشا بخفة بنيته، وضايعا في تيه نيته، فلا يسمع دوي ضوضاء العوالم، ولا روي قوافي العظايم، بينما يكون باكيا تحت تأثيراتها وفواعلها، ومتحركا وساكنا تحت جوازمها وعواملها، ومسرعا في طريق حياته إلى الدخول في أبوابها، والغوص في عبابها، فليت عينيه ترى ما يستقبله من الأوصاب، وما يستنظره من الأتعاب، فما الثدي إلا رمز الردى في طلب القوت، وما المهد إلا إشارة التابوت.
حال الفتوة
هذا هو الدور الثاني للحياة الإنسانية، والمساحة الأولى لانتشار القوى العقلية، أو التل الأول في طريق الأجل، ومسلك العمل، فيصعد الإنسان عليه، وينظر العالم بعينيه، فيراه مشهدا بديع الجمال، ومرسحا تلعب به الآمال، وترقص فيه الملذات والأماني، وتحوم حوله البشاير والتهاني، فتشمله شمول هذا الظهور، وتلعب برأسه حمية هذه الأمور، فيبات سكران بالأفراح، ومأخوذا برنين تلك الأقداح، فيبسم مدى الأوقات، ولا يعلم ما الآفات، إذ يظل ملتفا بكساء الآمال، ومحتفا بأوهام الأعمال، فلا ينظر إلا إلى ذاته، ولا يحفل إلا بصفاته، هايما في ملاهي دنياه، ومتهافتا على حداثة قواه. وهكذا فيهبط في وادي هذا العالم الملم، ويخبط في ذلك البحر الخضم، ولا يزال بين هبوب وانكباب، إلى أن ينشله الصواب، ويدركه الشباب.
حال الشبوبية
أما الشبوبية فهي الدور الثالث للأجل، ومحل الكد والعمل، وموقع اليأس والأمل، حيثما يوجد الإنسان ضائعا في مفازة العمر حائرا في تنوفة النهي والأمر، فيرى نفسه قايما في وسط هذه الدنيا ممنطقا بكافة الأشياء، ملتطما بأمواج العالم وأهوائه، مصروعا ومأخوذا بضجاته وضوضائه، وهكذا فتنهض في قلبه ثورة الحواس، وتشب في دماغه نار الوسواس، وتصفر في سريرته ريح الأهجاس، فيندفع إلى منازلة الأقدار والأيام، ومقاتلة الحقايق والأوهام، فتارة تهب به الآمال إلى أوج الأفراح والمسرات، وطورا تكب به الخيبات في حضيض الأتراح والحسرات. يرى العالم قريب المنال، فيندفع وراه على متون الأهوال، حتى إذا ما ظفر بالبعض طمع بالكل، وإذا فاز بالشبح رغب في الظل، فلا يكون إلا مضغة في أفواه المطامع، وكرة تتلقفها القوامع؛ ولذلك إنما يوجد مهبطا لحوادث الحدثان ومسقطا لمكائب الزمان. ولا تزال زهرة هذا الشباب الزاهي بين ذبول وافترار، ولا يبرح بدر هذا العصر الباهي بين خسوف واسفرار، إلى أن تنثر الشيخوخة تاج تلك الزهرة، ويصفع الهرم وجه هاتيك القمرة، حيثما يسقط الشباب من فرشه، ويرتفع المشيب على عرشه.
حال الشيخوخة
إن حياتنا هي بخار يتصاعد قليلا ثم يضمحل. نعم، كل يضمحل كالضباب، حتى الجبال تمر مر السحاب، فلا دوام للوجود، ولكنما العدم محال، ولا طمع في الخلود، فكل مركب للانحلال. فلا يزال الإنسان سايرا في طريق عمره سير المسافر في القفار، إلى أن يبلغ رابع الأدوار، وهو دور الدثار. هذا إذا أمكنه الخلاص من لصوص الحوادث، والمناص من أسد الكوارث، ونهبة الأعراض، وقتلة الأمراض. فيلبث هناك منهوكا من تعب المسير، ومضض التأثير، إذ يعود منحنيا تحت أحمال الحياة وأثقالها، ومرضوضا من صدمات الدنيا وأهوالها، فتصمت ضوضاء حواسه وهواجسه، ويخرس رنين أنفاسه ووساوسه، فيكف بصره، وتجف فكره، ويقل ذوقه، ويكثر شوقه، ويبخل حتى بالفلس، ويزيد حرصه على النفس، ويجود بالقلس. فإذا التفت إلى ورائه ورأى الدنيا التي قطعها والطريق التي تتبعها، ظهرت له الأشياء أشباح أحلام، ومراسح أوهام، وكلها تجري نظيره إلى الزوال، كالطيف والخيال، فيضحك على الجميع، ضحك الطفل الرضيع. أما إذا التفت إلى الأمام، وطمع ببقية الأيام، حن إلى الوجود، وهام بحب الخلود. ولا يزال الماضي يدفعه، والحاضر يردعه، والمستقبل يطمعه، حتى تختطف يمامة نفسه بزاة المنية، وتسلبه كل بغية وأمنية، فيهبط هبوط البنيان، ويغور في قبر النسيان، حيثما تسترجع الكليات جزئياتها، وتسترد المجموعات مفرداتها.
حال العيلة
ولما أشعر الإنسان برسوم وجوده، وإدراك لزوم حدوده، أنف الشتات والانفراد، وطلب الزواج والعقاد، لينفصل عن هيئة الجهل ويتصل إلى آداب العقل، وفاقا لإمكان نفسه، وخلافا لعجز ساير جنسه، فعاهد زوجته على حفظ العهد، وحالفها على دوام الود، وعلى قيود هذه الشريعة، أخذا يفلحان الطبيعة، فجادت لهما بالأولاد، وطبعت بهم لهما الانقياد، فحن الأب إلى بنيه، ومال الابن إلى أبيه. وبقيام تلك الأحوال، تقومت الأعيال ، وتبادلت بينهما الأميال. وهكذا فالمودة الاقترانية، والمحبة الوالدية، هما أركان العيلة والذرية؛ ولذلك فالنمو يحرض الأفراح، والنقص يحضر الأتراح، فيئن الويل للمفقود، ويرن الهناء للمولود، وما تلك الأعمار الطوال، إلا حياة أسماء العيال.
حال الهيئة الاجتماعية
ولما تقومت العيال، وتبادلت الأميال، أخذت كل عيلة تقترب من جارتها بالزواج، وتقايضها في أدوات النتاج، فاشتدت الروابط بين البشر، وانتصب عمود الوطر، وشرع الناس يحاضرون، وإلى بعضهم البعض يسافرون، حتى تشيدت بينهم المعاملات، وتمكنت المبادلات، فكثرت الحاجات الإنسانية، وتفاقمت الضرورات البدنية، حتى التزم هذا إلى ذاك، واحتاج ما هنا إلى هناك، وما لبث أن انتظم نثار البشر، وانضم البدو إلى الحضر. وهكذا قد استحدث الإنسان شرايع الانضمام، وأنشأ مواطن الالتئام، فنهضت مطامع النفوس، وحامت السعود والنحوس، حتى ثار الناس على بعضهم البعض، وجعلوا يسقون بدمائهم الأرض، فساد هؤلاء واغتنوا، وافتقر أولئك وعنوا، فقامت الملوك والرؤساء، وتمكنت الأسياد والأمراء، حتى لقي الإنسان ما جناه، وهلك بما جناه، إذ أضحت الروس تتهشم تحت مطارق السيادة، والأفكار تضل في مناهج القيادة، وأخذت الإنسانية بما أبدعت من المتاعب، ورجعت تشكو صروف المصائب، فما مصائبها إلا مآربها، وما أوجاعها إلا أطماعها. ولما احتاج الإنسان إلى لوازم الحياة الاجتماعية، وبواعث السكنى الانتظامية، أفضت به الضرورة إلى التمدن والألقاب، ولجم الطبيعة بالآداب، ليحسن نظام الجماعة في سلك الاتصال، وتتسهل سبل الأفعال والأعمال، وتتميز الأشخاص المجتمعة، وتتهذب الأطباع المندفعة. وما زال الاجتماع آخذا في ازدياده، والنظام سالكا في انعقاده، والضرورة تجهد المجرى، والعقل يجد بالمسرى، إلى أن اتصلت القبايل بالقبايل، ولحقت الأواخر بالأوايل.
حال البلاد
وإذا نظرت إلى البلاد وجدتها
تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
ولما سكن الأنس في الإنسان، وجمع بين أشتاته الاقتران، أنف البادية وأبى، وألف الحاضرة وصبا، فجعل ينصب المداين، ويغرس الجناين، فعوض الخيام بالقصور، والدمن بالزهور، والأوتاد بالدعايم القوايم، والأطناب بالقناطر العظائم، فيتحاشى غوايل الأخطار، وسوايل الأمطار. حتى إذا ما اشتغل بمحل دون آخر، حيثما المقام آثر، هرع إليه الجوار، وأخذوا يستزيدون العمار. وإذ اتسع المحيط، وعظم الخليط، قيل بنى الأمير المدينة، أو دخل نوح السفينة. وهكذا تنشأ البلاد، وينتظم شمل العباد. وبقدر أهمية المركز تتسع الدائرة، وعلى قبول تلك السعة تقبل الزايرة. وربما أصبحت المدنية مقاما عميما، أو عالما عظيما، إذ تعود مشهدا لعجايب الخليقة، ومحل كل وهم وحقيقة، فتموج فيها الناس موج البحور، وتصب إليها الركبان صب النهور، وترن في أسواقها قعاقع الآلات، وتحتبك في شوارعها معامع المركبات، وتنفتح ساحاتها لدخول الملذات والآلام، وتنطبق قاعاتها على عجاج الغموم والأنغام، حتى تجمع بين الأفراح والأتراح، وتوالف بين الفساد والصلاح، فتكون مرسحا لضوضاء البشر، وموقعا لوقايع الصور. ولم تزل تتقوى تلك القوة، وتتعظم تلك السطوة، إلى أن يحقد عليها الزمان، وتنهرها طوارق الحدثان، فتأخذ بالرجوع القهقري، ونقصان العبقري، حتى تصبح رمة في البوادي، ومندب الروايح والغوادي. وهاك بابل ونينوى وصور، وما شاكلها من ربات السور، ومن يعلم ما ستئول إليه مدينة باريس، هذا المقام الأعلى والبلد النفيس، حيثما أنا الآن أسحب مطارف المرح، وأحسى كئوس الفرح، متمنطقا بعجايب الآثار، ومنشدا على قوس الانتصار.
موشحا
بان في باريس لي كشف السما
فوق قوس النصر لا في بطمس
حيثما عاينت فيها كلما
طاب للأعين أو للأنفس
دور
يا أخا الذوق على ذا القوس قف
وأرسل الطرف إلى كل الجهات
والزم الحذر فكم طرف خطف
عندما استعلى على ذي الباهرات
فترى كل جلال لو وصف
مثل الثابت فوق السايرات
كل شيء حير العقل كما
حارت الأفكار بالملتبس
وأعاد الكف يزجي القلما
ما لأقلام هنا من أرؤس
دور
غير رسم النور ما جال هنا
مصحبا مرأته المستظهرة
إنما المرأة تستجلي لنا
ورق الغصن وتخفي الثمرة
فكساق نحو ظام قد دنا
حامل الطاسات دون المطرة
يا صحابي يمموا هذا الحمى
أنتم السارين تحت الحندس
تغنموا الصبح وتعطوا علم ما
كل نطق دونه في خرس
دور
إنني قد جئت باريس العلا
ورأت عيناي ما قد سمعت
شمت ما لا نظرت عيني ولا
سمعت أذني ولا روحي وعت
آه ما هذه المباني والملا
هل بروج أم نجوم طلعت
كل حي أم جماد قد سما
وبثوب المجد والكبر كسي
مشهد يسطو على العقل بما
فيه من آي بها الدهر نسي
دور
مشهد هيهات يجلي للعيان
سره ما لم تجل فيه الفكر
إنما الظاهر حظ الحيوان
بينما الباطن حظ للبشر
كل شيء لك في ذا الأفق بان
يقتضي درسا طويلا وسهر
فهو من إبداع فكر العظما
في زمان الغال لا الأندلس
لو أتى هذا الزمان القدما
ضرسوا أيديهم بالضرس
دور
أدر الطرف على هذا الأمد
وتأمل ذي الدراري الزاهرة
والأنابيب التي مثل الغدد
تفرز النور لتغذي الباصرة
وانظر الشهب المنيرات الجلد
كيف ترنو بعيون حائرة
غلب الليل هنا فانهزما
وتوارى في عباب الأطلس
فالسماء الأرض والأرض السما
ها هنا فاعجب لذا المنعكس
دور
وترى كل رداح للغرام
وضعت وهي عليه تحمل
ذات قد هو للحسن المرام
صنم والردف منها هيكل
أين من عنده كالخوط القوام
وكتل الرمل ردف عبل
أيها الشاعر ذر هذه الدمى
تكتسب منهن طيب النفس
هن في باريس علم العلما
ولكل الناس كل الهوس
دور
ما بدت باريس في هذه السنا
قط لولا حب تجميع النشب
زينوها بالمباني والبنا
والغواني والأغاني والطرب
فسعى كل إليها ودنا
ينفق الفضة فيها والذهب
ولذا المال عليها قد همى
مثل صوب العارض المنبجس
خلسة طوعية ما حرما
فعلها قط على المختلس
وفي حقل الجنان أيضا قلت:
لست أدري في أي كون مكاني
هل أنا في باريس أم في الجنان
كل ما جاء في السماع على الجن
ة ألقاه هاهنا بالعيان
ها أنا وسط جنة تحتها الأن
هار تجري لكن بها كوثران
كوثر فاض من جميع ينابي
ع الأماني وآخر من أمان
هكذا انثنى وخلفي وقدا
مي مجال للحور والولدان
رب ليل قضيته وأنا سكرا
ن سكرين في حقول الجنان
بين غيد وغرد وغدير
وغيوم وغيهب وغواني
كان فوقي ورق وتحتي زهور
وعلى جانبي صدح المثاني
وسطوع الأنوار من كل نبرا
س به البدر حار والفرقدان
ذي سماء تزينت بنجوم ال
حسن لا البهرمان والمهرجان
فأمامي تجري الكواعب من كل
محيا يحمى جنان الجنان
سافرات عن كل سكر وسحر
باسمات والله عن مرجان
وعيون إذا رنت هبط القل
ب وأضحى يروغ كالسكران
حيثما الحسن فالهوى وهما الأك
ثر لعبا في مرسح الإنسان
فهما للحياة أصل كما اللا
ذوت أصل لبنية الحيوان
بهما الناس في اتحاد وضم
فهما للجماعة العنصران
لم تصب ذا المقام باريس لو لم
تك في الأرض أجمل البلدان
كلما ازداد حسنها زادت النا
س هجوما لذا الحمى المنصان
فهي أضحت للخلق مجمع شمل
ولكل الغواني مجرى رهان
ينفق الأغنياء فيها غناهم
فبها الرزق فاض كالغدران
وإذا لم يعش أخو المال رغدا
فهو في فاقة وفي حرمان
كل ما في باريس لطف وظرف
وجمال وصحة الأبدان
ليس فيها لذي النقيصة من رأ
س ولو قد علا على الدبران
وإذا النقص في موازين ذا الده
ر علا فالكمال ذو الرجحان
أيضا في حرش بولونيا:
من ذا ينبهني فقالت لي أنا
قم فالدجى ولى وصبحك قد دنا
قم فالسماء نضت لثام ظلامها
والأفق لألأ والسني بلغ السنا
حتام كالخالي تنام ضحى فهل
عني سلوت ولم تعد بي مفتنا
ولقد عهدتك ثابتا مثلي على
حب جري ميثاقه ما بيننا
فوثبت أمسح أعيني وأجبتها
أهلا وسهلا بالصباح وبالسنا
والله قد قضيت ليلي باكيا
وإذا غفلت فذاك مفعول الضنا
ندما على ما قد جرى أمس المسا
مني فها أنا نادم وأنا أنا
لو لم أكن بك قد جننت لما بدا
سخط المحبة فاعذري هذا الجنى
ولذاك لو لم أهو عتبك ما رنا
طرفي لغيرك قط يا كل المنى
فتمايلت ضحكا وقالت طب فلا
عتب على من يستخير الأحسنا
إن الخناثة للرجال سجية
وهم الذين إلى النسا نسبوا الخنا
يا أيها الجنس الذي لا يستحي
رفقا بجنس للحياء لقد عنا
فأجبتها والجفن يرشح كالوكا
والقلب من لهب الصبابة في فنا
لا بدع إن أكن استخرتك لي إذا
فوسحر طرفك أنت أحسن من رنا
ولأنت أجمل من تجلى وانجلى
ولأنت أعدل من تمايل وانثنا
فرنت إلي بأعين لو لم أضع
كفا على قلبي لطار به الرنا
وتبسمت كالبرق نورا والتوت
كالظبي جيدا وانثنت مثل القنا
وإشارة لرضايها قبضت يدي
بيد تحاكي زنبقا أو سوسنا
وبدت تغازلني وقالت كل ما
يبنى على أس الهوى نعم البنا
فهبطت عن عرش الكرى مستبشرا
ورحضت وجهي وارتديت الأثمنا
وأخذتها تحت الذراع ضحوكة
وكذا خرجنا والضحى يذري بنا
والشمس قد أخذت بقيظ هجيرها
تقلي منافسنا وتشوي الأعينا
فاتخذت مركبة وسرنا سرعة
نسعى إلى حرش ببولونيا أكننا
حيث الرطوبة والعذوبة والصفا
حيث المسرة والمدار على الهنا
حرش كان الغاب فيه من القضا
هلعت فحبكت الغصون تحصنا
غاب بها الغزلان ترتع والمها
ترعى فلا وحش ولا غيل هنا
وهنا ضراب عيون عين لا ظبا
وكذا طعان قدود غيد لا قنا
وسنادس بالأقحوان تسمطت
فحكت سماطا بالكئوس تزينا
وخمايل بالياسمين تسيجت
فهناك سلطان الزهور توطنا
وجداول للروض منعطفاتها
أضحت أساور نعم هذا المقتنا
فإذا تأملت البحيرات التي
تجري هناك وبطها المتبطنا
لعجبت من بحر جرى في روضة
ومراكب سارت عليه بلا عنا
والجاريات ومن تجشم تبعها
هبطت به أيان تنبعث القنا
شلالة يهوي الزلال مسلسلا
عنها ويرجع دايرا متعنعنا
عجبا لماء قد هوى متكسرا
وعلى الكسور تراه يرقص في الغنا
فالصخر من جبس الثرى ورماله
لا ملح كلس قام من هدم الفنا
وكذا من السين المياه جرين لا
من ذوب ثلج في الجبال تمكنا
لكنما هيهات يمكن ناقدا
تمييز ذا المبني عن ذاك البنا
وجميع ذلك صنعة الأيدي فما
ليد الطبيعة من مواقع ههنا
ومذ اختفى ثقل النهار وحره
عدنا على الأقدام نطلب ربعنا
أيضا على جسر القناطر:
بين صرح القضا وجسر القناطر
قف تشاهد باريس ملء النواظر
وتأمل ذا البشر هذه الأماني
ذلك المجد ذا السنا ذي المفاخر
حيثما الطرف جال جالت به الده
شة والعقل راح كالضب حاير
عظمات بهن دايرة الإن
سان دارت على جميع الدوائر
فقصور شمخن حتى على النج
م كذا قد نطحن هام القياصر
وجلال ظل الأوايل عنه
في نعاس حتى انتباه الأواخر
هاهنا الكائنات تنفث بشرا
وجميع الوجود زاه وزاهر
هاهنا الله قد أفاض على الك
ل نعيما كالطل ما زال هامر
فثغور الرفاه باسمة الده
ر وكاس الهنا على الكل داير
والصفا خاطر بكل الخوافي
والهوى خافق بكل الخواطر
كل هذا الملا جميل ولكن
بعض هذا الجمال للعقل ساحر
فغوان يرتعن ما بين غيد
سارحات كالخود بين الجآذر
محرزات الجمال من كل معنى
داعيات إلى الهوى كل ناظر
كل نهد كالعاج والمرمر المنحو
ت مستكمل التخلق نافر
وقوام كأنه صنم الأسرار
يوحي بعشقه للسراير
هيكل الحسن واللطافة لم يحر
ق عليه سوى بخور الضمائر
وعيون سود على البيض تسطو
بانكسار يسبي الأسود الكواسر
يسترقن النهى بلحظة عين
ويصارعنها وهن فواتر
ووجوه يسفرن عن كل حسن
فبروحي تلك الوجوه السوافر
كل حسن وكل لطف عجيب
كل ظرف به العقول حواير
لا نطاق يشين قدا ولا ق
د غريق في الإزر أو في المآزر
وبروحي رعبوبة فتنتني
وأنا ما على الصبابة قادر
لي شغل يعيقني عن غرام
فيه كل للعقل والرشد خاسر
كيف أهوى ولم أزل ضايعا ما
بين كتب وكاغد ومحابر
تارة أختفي بمجزرة الموتى
وطورا في الروض بين الأزاهر
والهوى يقتضي كما قال زيد
أن يكون الفتى عليه مثابر
رب يوم قد مزق الأفق عنه
برقع السحب والضيا كان باهر
أقبلت دون موعد لي وقالت
أترى هل يا غايب الدهر حاضر
ذا نهار باه أجبت نعم قال
ت نعم أنت فيه لست بفاكر
قم بنا نغتنم دفاء نهار
مثله في باريس يا صاح نادر
قلت ويلاه من مناخ به يغ
نم يوم الدفاء في شهر ناجر
فطبقت الكتاب والقلب فيه
وذهبنا لله صب مساير
وسرحنا حتى انتهينا إلى عر
ض التصاوير حيث عرض الأعاصر
فأردت الدخول قالت وماذا
لك في ذا المكان قلت مناظر
فأبت أن تذوق ذوقي وقالت
طول عمري ما عدت أتبع شاعر
قلت إني أهواك يا سعد لكن
أنا والله عاشق للمآثر
فادخلي العرض أو فخلي سبيلي
إن يكن أول فلا بد آخر
فاستعاذت واستهلكت بي ضحكا
واقشعرت من ذا الجواب المهاجر
ثم لم ترض فرقة فولجنا
وأخذنا نطوف تلك المظاهر
وهي لي كالدليل تشرح ما قد
غم عني شرحا كأحسن خابر
بأصول كذي الصناعة حتى
خلت ذاتي مع ذات ميشيل داير
فهي تدري التصوير والرسم والأل
حان والفن مثل كل الأكابر
ليت شعري متى أرى في بلادي
كوكب العلم والمعارف سائر
فرجال لا يعلمون سوى صوف
وقطن وسمسم وحراير
ونساء يبحثن لكن على ثو
ب وقرط وخاتم وأساور
وإذا الجهل عم ما بين قوم
أصبح العلم عندهم كمساخر
ومن هذا القبيل:
فاض على الغيهب نوء النور
فدكه وكان مثل الطور
واندفع اللألاء كالنهور
فهبط الظل هبوط السور
وانقلع النجم من الجذور
فاتشح المشرق بالأضواء
والتحف المغرب بالأفياء
واستهلك الشهاب في السماء
ضحكا على هزيمة الظلماء
وابتسم الأثير بالسرور
والصبح ذو مكانس الشعاع
يسعى بكنس الظل في البقاع
يرش ماء الوهج اللماع
فينشر الشعاع كالشراع
وتنطوي غباير الديجور
وبالسنا تكهربت هام الشجر
فطار من أعينها الخضر الشرر
وزقزق الطير لإيقاظ البشر
فنهضت من نومها كل الصور
وانفتحت محاجر الزهور
حتى إذا ما احترقت بالنار
ذقن الدجى وراح في شنار
عانقت الكون يد النهار
وبيضت بقلم الأنوار
ما سود الليل على الأثير
والبيد بالنور رغت وأزبدت
كالبحر والهضاب كالموج بدت
وإذ بذي الأنوار باريس ارتدت
أضحت كمرآة لجين وغدت
تلوح فيها صور البدور
من كل بدر لابس الكمال
متوج بالحسن والجمال
ذي غرة غراء تشجي الخالي
ومبسم من كل عيب خالي
بينهما الصحيح في كسور
إلهة قامت لها في الأنفس
معابد والنفس بيت مقدس
وما إلى الزهرة منسوب نسي
هنا فللدمى انتمى والدرس
هنا الهوى في غاية الكدور
وكيف لا يرخي الهوى عنانه
والحسن أجرى دونه فرسانه
فكل قلب شاغل ميدانه
وكل شغل واجد أثمانه
ما ضاع إلا كل ذي قصور
من لا يرى باريس في دنياه
لم يدر ما الجنة في أخراه
ذي جنة ليس لها أشباه
ما صاح في جوارها ويلاه
سوى عديم الذوق والفقير
ليس لذي الفقر بنادي الأرض
من موضع ولا بوادي العرض
ما نال بين الناس غير الرض
فحظه في الأرض حظ النبض
أو حظ أوتار على طنبور
باريس هذه مركز التمدن
ومحتد العلوم والتفنن
ليس لقبح ضمنها من موطن
فكلها حسن وما بالحسن
ترك مكان الحسن والحبور
حسن بماء اللطف والظرف سقي
فأثمر العشق ومن لم يعشق
كم صحت سرا في ضميري القلق
حيف على هذا الجمال المشرق
أن ينطفي في لجج الدهور
أما كهذي بابل الأزمان
في عصرها ونينوى يونان
وهكذا تدمر بنت الجان
ها قد غدت جميع ذي البلدان
ملاعبا للبور والدبور
يقضي على البلاد ما على البشر
فاليوم صغر وغدا يأتي الكبر
وبعد ذا موت ذريع منتظر
ذا بطل يفتك حتى بالحجر
بين يديه منتهى الأمور
ما الموت إلا تاجر الأرواح
دهقان لم يشبع من الأرباح
ما عنده في القبض من سماح
وعدته أجرى من الرياح
وقلبه أقسى من الصخور
فلينظر الناظر أو فهو عمي
وليسمع السامع أو ذو صمم
وهذه الدنيا محل الغنم
فاغنم وإلا عشت عيش البهم
واضحك على جماعة القبور
وربما يأتي دهر تصبح فيه هذه المدينة العظمى مثل الخراب وراموز الانقلاب، وقد أوحى لي إمكان ذلك الاستقبال أن ألفق هذا المقال:
قفي قليلا عروس الدهر وارتقبي
فإن سيرك في الأجيال والحقب
مهلا فأنت على الأقدار سالكة
في مسلك رقدت فيه من التعب
في مسلك لم تزل أسد القضاء به
تغزو كذاك لصوص الدهر والخطب
تأملي ما على هذه الطريق ولا
تخفي عن الغير ما عاينت من عجب
تأملي بعيون الاعتبار وإن
جهلت ما شمت فالتبيان في الكتب
ماذا ترين وقاك الله ماذا بدا
لديك في ذا الطريق الواسع الرحب
أرى فلاة ولكن لا فلاح بها
وليس من قايم فيها سوى خرب
أرى تلال طلول لحن في بقع
تظللت بكروم الشوك لا العنب
أرى مهابط أبراج هوين كذا
عمدا فرادى فكالأوتاد للترب
أرى نهورا ولكن لا فراش لها
غير القتاد ولا جسر سوى النضب
أرى معاشر خلق ها هنا سكنوا
لكنني لا أرى شخصا بلا ذنب
أرى حدايق لكن لا نبات بها
ولا سياج سوى الصفصاف والقصب
أرى الكآبة في كل العراص ترى
كذا أرى رجسات الحرب والحرب
أرى على السحب شيخا كله كبر
يسطو على الأرض مملوا من الغضب
كذا أرى منجلا للحصد في يده
ولا يزال على هبط من السحب
فهل علمت الذي عاينت من غير
وهل عرفت الذي شاهدت من عجب
هنا بلاد على ذا الشوط قبلك قد
جدت فجد عليها الدهر بالطلب
والنحس هب عليها من مرابضه
وحاوطتها اغتيالا غارة النكب
ضاعت وكان عليها الدهر أحرص من
يد البخيل على صاع من الذهب
ذي بابل أينها ضاعت هنا وكذا
ذي أختها نينوى سلطانة القطب
وصور تاجرة الدنيا وجارتها
صيدون أصبحتا أعجاز منقلب
كذا هنا تدمر قد دمرت ووهت
ومنبج لم يعد منها سوى اللقب
فها بلاد على كل البلاد سطت
وأرسلت كبرها حتى إلى الشهب
تهدمت وانمحت آثارها وعفت
ومزقتها نحوس البؤس والعطب
وبعد ضوضاء ذياك الضجيج غدت
تمور تحت سكوت الموت والكرب
وكل أسوارها والناس قد حصدت
عمدا بمنجل ذاك الشيخ ذي النوب
هذا هو الدهر لا يرضى على فئة
دوام ملك ولا سيف على جنب
فسوف ينظر هذا الدهر نحوك يا
باريس نظرة لص نحو ذي نشب
وهكذا يسرق الآثار منك ولا
يبقي سوى أثر في الكتب محتجب
حتى إذا ما جرى ذكر سناك على
سمع يقال روايات من الكذب
حال الشرق
ها هنا وجد الإنسان الأول، وعلى هذه الأرض كان المعول، فالشرق مهد الإنسان، ومبدأ الأوطان، فلا بدع كونه الأصل للمعارف والتمدن، ومنبع العلوم والتفنن، ومنشأ القوات والدول، ومحل الأوليات الأول، إذ فيه تهذبت الأبدان، وذاعت الأديان، وظهرت الفلاسفة العظام، والحكماء الكرام، والشعراء المفلقون، والراوون الصادقون. فهناك أول ما فلحت الأرض، وعلم الطول والعرض، وتحددت الأفلاك ورصدت، وسلكت البحار وقصدت، ودرست الطبيعة، ووضعت الشريعة، وانتشرت المتاجر والصناعة، وبدت اليراعة والبراعة، وكشف اللسان قناعه، فمن الشرق مبادي المبادي، وأيادي الأيادي. ولكن الدهر غيور، والزمان غدور، فلما نظر هذا القضاء فلاح هذه الديار، ونجاح هذه الأمصار، بسط عليها سحاب الكوارث، وأثار عجاج الحوادث، فوقع النزاع بين الملل، وانتشب الحروب بين الدول، وشبت نيران القتال، وارتفع لهيب الأهوال، فضجت الناس بالفتن، وعجت في الرءوس المحن. وما برحت التقلبات تمد مضاربها، والمكائد تعد ملاعبها، والزمان ينفث الانقلاب، والخطأ يعبث بالصواب، حتى أولج الدهر سنانه في مقتل العقل، وأوقع الغلط حسامه في عنق النقل، فهجم الظلام من خباياه، وبرز الخراب من زواياه، فتاهت الأهالي في هذه الدياجر، وتساقطت في تلك المعاثر، واسترجع الإقبال يسره، واستطلع الإدبار عسره، حتى غرقت العقول في لجج الجهالة، وتمرغت الطباع في بطايح الرذالة. وهكذا قد انقلبت المدن العظيمة، وانمحت الآثار القديمة، واضطربت المتون الراسخة، وهوت السرادق الشامخة، حتى نعب بوم الدمار، ونعق غراب الدثار، وما زال أن سلم الشرق نفسه، ورفع الغرب رأسه.
يا شرق أبا الهدى ترى أين هداك
قد غاب ضياك وانمحى كل بهاك
قد كنت لكل ذي ظما برد روى
ما بالك عدت شاكيا حر ظماك
بالأمس لكل ساقط كنت يدا
واليوم غدوت ساقطا تحت ضناك
بالأمس لكل ذي ضنى كنت قويا
واليوم غدوت فاقدا كل قواك
بالأمس لكل معشر كنت حمى
ما ضاع حماك بل قضى خان حماك
يا شرق ولو عليك مدت ظلم
لا تطغ فسوف يغمر النور سماك
الغرب إذا زها فعن ضوئك ذا
فالصبر الصبر فغدا رجع ضياك
لا تختشي يا أبا السنا تيه دجى
فالشمس أمامك اختفت وهي وراك
يا شرق عطشت بعدما قد سقيت
من وردك كل فيئة فوق ثراك
إن كان مياهك الجواري نضبت
لا بد لفيضها فبشراك بذاك
فانهض بحمى عبد العزيز السامي
هذا سلطاننا فهذا مولاك
حال الغرب
ما كان العقل ليرضى بانحطاط مراتب أعماله، وسقوط دولة أفعاله؛ ولذلك فريثما كان الشرق يلج في الظلماء، كان الغرب يعانق الأضواء، وما لبث أن تبوأ الغرب صهوة الضحى، وهار نهار الشرق وانمحى، وما زالت مناطق النور تمتد في الغرب أن غمرت القارة، وأضحت هناك قارة، وهكذا فتحت الأبصار والبصائر، وتنورت الأسرار والسرائر، حتى انتشر العلم والجهل انطوى، وجلس العقل على عرشه واستوى. فتكملت المعارف والمفهومات، وتجملت المعقولات والمنقولات، وسقطت الأكاذيب والأباطيل، وهدمت الخرافات والأضاليل، وارتفعت الحقايق، وتشيدت الطرايق. فلم يعد للفلك أحكام، ولا للعين سهام، ولا للجن مسارح، ولا للأرواح مراسح، ولا للسحر تأثير، ولا للأحلام تفسير، ولا للكيمياء إحالة بسيط، ولا بين المفقود والموجود وسيط. بل فتوح معقول، وكشف مجهول، وإبداع روابط، واختراع ضوابط، وإيراد موارد، وإرشاد شوارد، وتحصيل طرايق، وتنصيل طوارق، وتمهيد طرقات وصنايع، وتشييد متاجر وبضايع. فهناك الشمس ثبتت في مقرها، والأرض دارت على دايرتها ومحورها، والحكمة لبست ثوب الكمال والآداب، وسحبت مطاريف الجلال، والطبيعة فشت أسرار الأجسام، والشريعة فصلت بين الحقايق والأوهام. والكيمياء حررت عناصرها من حكم الاستقصات المتغلبة، وأظهرت جواهرها من صدف الآراء المتقلبة، حتى وطدت أصولها، ومكنت فصولها. والطب نشر راياته وأعلامه، وكلل بشاير الظفر هامه، فافتتح معاقل الأمراض، ورض قوارض الأعراض، إن يكن بقوة الأصول العنصرية، أو بفواعل الحواصل النباتية. واليدويات تحكمت هناك واستحكمت، وخضعت الأثقال وسلمت، فطار الإنسان على البخار، واختصر مطولات البحار، وضيق رحبات القفار. واستخدم البرق رسول أخباره، والنور مصور آثاره. وهكذا فقد سطا الإنسان الغربي على أجزاء الكاينات وكلياتها، واستخدم مجموعاتها ومفرداتها، حتى تمم نقصان الشرقي، ورقى عليه بالضرب والترقي. فلا حياة إلا هنالك، ولا ريب في ذلك، فهناك الراحة والمراح، والطرب والأفراح، والأمن والأمان، والحسن والإحسان، والثروة والغنى، والخصب والجنا، والمراسح واللهو، والمشاهد والزهو، والرقص واللعب، والأغاني والأدب، فلا يضج الملل في القلوب، ولا يعج الضجر والكروب، وكل روح ترتاح إلى علاقتها، ولا تحمل نفس فوق طاقتها، حتى إذا كان امرؤ نضو تعب، وحليف وصب، غارقا في الأكدار، وخابطا في الأقدار، فهو يرى ما يعزيه، ولا يرى ما يؤذيه. وبينما كنت ذات ليلة في باريس خائضا في كتابي، تائها بين خطائي وصوابي، وأنا حبيس في حجرتي، لا أنيس لي غير وحدتي، مللت أنس تلك الوحدة، ورخاء هذه الشدة، وأنفت مسامرة ذاك النديم الصامت، أو الصديق الشامت، فهربت إلى الشارع لا أعلم أين أنطلق، هرب الطير من القنص المنغلق، سكران بخمرة التأملات، مهشما تحت مطارق المشكلات، وما زلت أن أوقفني باب كبير، محفوف بحرس التنوير، فلبثت قليلا، ثم دخلت دخيلا، وإذا المحل مرسح رواقص، وملعب عواقص، وما زلت هناك إلى أن احترقت ناحية الدجى، والليل إلى الغرب التجا، فخرجت إذ ذاك، وها شرح ما رأيت هناك.
ليلة رقص
كفى على هذا الورق
أسكب أنوار الحدق
العلم بحر زاخر
وفيه قد طاب الغرق
لكنما للعقل أو
قات ووقت للحمق
كذاك للنهار أش
غال وشغل للغسق
ها ملك الليل بدا
يجلى على عرش الفلق
والغرب قد حاك له
في الأفق برفير الشفق
والشمس حلت في الخبا
والنجم في الأوج انطلق
وسكن الكل سوى
نفس أبت إلا القلق
نادى الهنا هيا فيا
نفس اركضي فلا زلق
قومي إلى نهب الصفا
ها علم الحظ خفق
باريس لما أصبحت
سما حوت كل الفرق
وسبيت جهنم
وبابها قد انغلق
فلنغتنم هذه السما
قبل زوال المتفق
حتام أخلو جامعا
في الذهن أفكارا عتق
من فاز بالزنبق لا
يصبو كثيرا للحبق
ومن أصاب اللحم لا
يقول ليت لي المرق
ومن كسا بخلعة
هل يفكرن بالخلق
سعيا إلى اللذات ما
دمت على بعض رمق
وأركب على خيل الصبى
وأسبق فاجرا سبق
لكل سن مسلك
له نظام ونسق
فالمرء في الدنيا سدا
يحاك والعمر شقق
وكل قلب بالمنى
يبني إلى يوم الغلق
ما القلب إلا شجر
وما المنى إلا الورق
ومنيتي مدينة
فيها لي السعد برق
أجول فيها وعلى
فمي مجال للملق
أقطف من لذاتها
ما عد لي وما اتفق
وفي لظى شبيبتي
كل أسى قد احترق
لا أرعوي ولو عوى
كل عذول أو نهق
وليلة سوادها
كالمسك بالطيب عبق
أوحى إلي الوقت أن
أطوفها دون رفق
فرحت أجري والدجى
يزيد فوقي من حنق
مهرولا كأنني
أسعى لدين مستحق
ما زلت حتى صرت في
مغنى عن المغنى انطبق
كأنه بحر به
تموج ربات الحلق
فخضت فيه وأنا
أشق أمواج الخرق
إذا بصوت قال لي
مهلا أما تخشى الغرق
كم أنت يا هذا قبا
قلت كذا كل قبق
فصار يهجو أبهتي
وطول ثوبي ذي اللبق
بكل لفظ شارد
وكل معنى لم يطق
فلم أزل مطولا
عليه بالي أن مزق
وليت منى الابتدا
فالضرب للذي سبق
قلت له ما تستحي
يا قفصا تحت طبق
أو قصبة في سلة
أو خنصرا في مختنق
قال وهل نحن الذي
بالأزر شوهنا الخلق
رح يا فتى من فئة
نساؤها مثل الحقق
ومن زوايا سقر
جمالهن مسترق
فالشعر حيات سعت
والخد نيران الحرق
والصدغ يدعى عقربا
والخال دودا أو علق
والوجه يدعى عندكم
بدرا أتهوون البهق
ولم نزل في جدل
وبيننا يجري العرق
حتى انتهينا آخرا
للوفق والوفق أحق
والجمع قد قال لنا
كل بما قال صدق
ورب خير جاء من
ضد مع الضد اتفق
وإذا جلسنا والقلا
هار بزلزال القلق
إذا غزال جانبي
يغزو فؤادي بالحدق
كأنه مكون
من جوهر لا من علق
يفتر عن ظرافة
منها سنا الحسن انبثق
وينثني عن قامة
غصن الهوى منها بثق
من لي بها رشاقة
شاقت ومكحولا رشق
يطرق في الأرض ومن
مبسمه الشوق اندفق
فناظر يرعى الحيا
ومبسم يرعى الشبق
ولم يزل طير الهوى
يصدح في دوح الأرق
ونحن في تمازج
والجنب بالجنب التصق
حتام تنحى للنوى
فقلت لا ومن خلق
فقال ها الصبح بدا
قلت ولو كان انفلق
ولم نقم حتى اختفى
دخان مركب الغسق
ولاح سلطان النها
ر لابسا تاج الألق
والشهب من شراره
قد ذبن والليل احترق
هنا افترقنا وأنا
أمشي وعيني بالطبق
فها خيم التمام على الغرب وعم، فتأمل زوالا إذا قيل تم، أوما ترى النزاع بدا يسعى بين ملله، والحسد بين دوله، فكل وقف على قدم الطراد، وفغر فم الفساد، مكدودا بمراده، ومعمودا بعناده، وهذا دليل الدمار، وطليعة الدثار. ولا بدع، فالشرق أخذ يطلب ماله، ليسترجع ما له، وما الزيادة إلا الفايدة المكررة، صلاحة في الدين مقررة، وها قد استرجع الشرق متاعه، ورفع سنجقه وشراعه، وذلك على عهد عظمة سلطاننا عبد العزيز، ذي الشوكة والسطوة والإدارة والدراية والتمييز، مبدع هذا العصر الزاهر، وجامع نفايس الأوايل والأواخر، وقد قلت تاريخا لجلوس عظمته على عرش السلطنة السنية:
تاريخ الجلوس الهمايوني
بشرا لكم بالفوز يا كل البشر
فالدهر عن وجه المكارم قد سفر
ولتنعمن نفوسكم فاليوم قد
لاحت شموس العز من فلك القدر
أهدى العزيز لنا الخليفة عبده
من كان في عثمان كنزا مدخر
فاهتزت الدنيا به فرحا وقد
طوي الأسى والسعد كالسحب انتشر
وبدت بجود الملك بارقة الهنا
وهمى على الآفاق من نعم مطر
وافتر ثغر الدهر عن شنب الصفا
فصفت لنا الأيام واندثر الكدر
ملك على عرش الخلافة مذ علا
ظهر النعيم وحاز عزا من صغر
كل الملوك كواكب لكنما
عبد العزيز لكلهم شمسا ظهر
قد زين التخت العلي بمجده
أبدا كما قد زين الطرف الحور
بالعدل كسرى والتسلط قيصر
وذكا سليمان به وقوى عمر
نامت عيون الناس تحت ظلاله
أمنا وبات لحفظه يرعى السهر
فيه غدا غصن التمني معطيا
ثمر النجاح وكلنا نجني الثمر
أخلى قلوب الشعب من خوف الردى
وأحل فيها الرعب منه والحذر
لكم الهنا يا خاضعون لحكمه
فلقد ظفرتم بالرجاء المنتظر
قد سد طرق النايبات بحزمه
عن ساحة الملك الذي فيه ازدهر
وإذا تولى الملك ملك حازم
لا يتركن به سبيلا للضرر
كتب القضاء على صفاح سيوفه
لا عيش للعاصي إذا السيف اشتهر
قد ألبست كل البلاد يمينه
حلل الأمان وقد نضت عنها الخطر
فأعاد ما هدم الزمان مشيدا
بعزيمة تحكي الزمان إذا اقتدر
وبنى من النعماء حصنا للورى
هذه هي الجدوى فقل نعم الأثر
فلتسعد الدنيا به ولتبتهج
كل الملا ولتفرح الدول الأخر
كن يا أمير المؤمنين مسربلا
بالفوز ما غنى الهزار على الشجر
ما أنت إلا الشمس في أوج العلا
وإليك كالحرباء كل قد نظر
إن المهيمن مذ دعاك خليفة
في الأرض كي ترعى الأنام بما أمر
نادى لديك العرش عش يا ذا القوى
والدهر قال مؤرخا سد بالظفر
سنة 1277
حال الزمان
هذا هو الرب القادر، والأسد الكاسر، والحسام الباتر. هذا هو الخصم والحكم، والحرب والسلم، والسيف والقلم. هذا هو الداء والدواء، والنعيم والشقاء، والراحة والعياء. هذا هو العدو والصاحب، والمطلوب والطالب، والمنهوب والناهب. هذا هو الحق والزور، والخير والشرور، والحزن والسرور. هذا هو الميزان والأوزان، والرجحان والنقصان، والطاعة والعصيان. هذا هو الظهور والخفاء، والخيانة والوفاء، والكدر والصفاء. هذا هو الوجوم والابتسام، والثواب والانتقام، والحلال والحرام. هذا هو الباب والطريق، والوحدة والرفيق، والفرج والضيق. هذا هو الزمان الغلاب، والشيخ المهاب، كاسر الأكاسرة، قاصر القياصرة، رافع الوضيع، خافض الرفيع، مفقر الأغنيا، مغني الفقرا، كاشف الأسرار، هاتك الأستار، ترجمان النوايا، قهرمان العنايا، دهقان الخبايا، محتد البلايا. إذا فرح أحزن، وإن قوى أوهن، ومتى منح أمحن. فلا يضرب إلا ليكف، ولا ينتقم إلا ليعف، ولا يواسي إلا ليأسي، ولا يذكر إلى لينبي، ولا يوجع إلى ليريح، ولا يسدل إلا ليزيح، ولا يأخذ إلا ليعطي، ولا يعلي إلا ليوطي، ولا يحصد إلا ليزرع، ولا يمنح إلا ليمنع، ولا يعدل إلا ليظلم، ولا يبني إلا ليهدم، ولا يرشد إلا ليضل، ولا يلهي إلا ليمل. ففيه اللهو والملل، والخيبة والأمل، والري والظماء، والشدة والرخاء، والثبوت والتقلب، والقهقرة والتغلب. أيان طال صال، وأينما طلب نال، وحيثما رمى أصاب، وكلما أكد أراب. فتركه طلب، وهدوه شغب، وصلاحه فساد، ونومه سهاد، ويقظته رقاد، وحلمه جور، ونجده غور، وسلسله دور، وسلمه قتال، ودوامه محال. ومن شأنه أنه كلما أعطى أطمع، وكلما طيب أفجع. ومما دهاني به في غالية، ما دعاني لهذه الأقوال القالية:
سطوة الزمان
جئت أرض الغيث كي أطفي الصدا
فطفت عزمي وزادت عطشي
وأطاشتني فصحت المددا
يا لراس عمره لم يطش
دور
لم أجد والله في هذه البلاد
غير داء لي وللغير دوا
ذقت فيها كل كاسات النكاد
وكذا غيري من البشر ارتوى
وبها الدهر كساني بالحداد
وكسا الكل بأثواب الغوى
يا فؤادي قد جرى فيك الردى
فعلى هذا الردى مت أو عش
واصطبر أو فاختبط كل سدى
قضي الأمر فلا تلتطش
دور
لست لا والله أدري حجتي
لا لدى الله ولا عند البشر
غير أني سالك في دعوتي
ولكل مسلك فيه اشتهر
فرمى الدهر اغتيالا همتي
بنبال الغدر يا قوم الحذر
ذلك الدهر لنا شر العدى
سارق لكنه لا يختشي
يرعش الدنيا إذا ألقى يدا
وهو شيخ أنحس لم يرتعش
دور
يا لقومي في صباحي والمسا
أسد الخطب لقلبي تفترس
قد أعادتني أصما أخرسا
في ربوع فاه فيها الأخرس
ما احتيال المرء في حكم الأسى
مشكل تحتار منه الأنفس
قيل صبرا قلت والصبر غدا
صاحب الدهر ومنه مرتشي
وكذا العقل الذي منه الهدى
صار كالطفل كثير الطيش
دور
إن من كان الشقا قسمته
لا يرى إلا الشقا أين سرى
لا يرى في الأرض إلا مقته
كيفما جد عليها وجرى
وأخو السعد يرى نعمته
أينما سار وأنى خطرا
رب ذي عجز له فاض الندى
وأخي عزم قضى في عطش
ما ترى الهر يعيش الرغدا
ويصاد النمر ضمن الحرش
دور
قد قطعت الآن آمال الشفا
بعدما جربت كل الأدوية
هدم البيت وأقوى وعفا
هكذا غاية كل الأبنية
فطبيب اليأس حسبي وكفى
إن في اليأس لكل تعزية
لا يغرن الفتى يوم بدا
أبيضا في زمن كالحبشي
فأمام الدهر كل وجدا
مثل عصفور أمام الحنش
دور
كلنا نحن بني هذا الوجود
نشرب السم بكاسات الذهب
تظهر الدنيا لنا ماء الورود
فندانيها فتسقينا النكب
تركها أولى فلا كان الوفود
نحو خوان إذا أعطى نهب
ليس من أمن لحي أبدا
من زمان جائع مستوحش
فاحذروا يا ناس هذا الأسدا
أي ناب في الطوى لم ينهش
دور
تفرح الآباء في حظوى البنين
فرح الصاحي بإقبال المدام
ما صراخ الطفل في أول حين
غير قول جئت فاذهب بسلام
لو درى ما النور في الدنيا الجنين
فضل الإجهاض واستحلى الظلام
حرم القتل فمثل أو فدا
والورى عن ذا القضا في طرش
كلما للدهر أعطوا ولدا
ساقه للذبح مثل الكبش
دور
يا أبي نم أمنا في ذا التراب
فعلى ذي الأرض جاءت نوبتي
قد خلصت الآن من هذا العذاب
بعدما أثبت فيه وقعتي
دمعك المهراق ما غاص وغاب
عنك لولا دوره في مقلتي
فأهنيك بموت أنجدا
آه لو ترثي لعيشي المنتشي
طب فما عدت تقاسي نكدا
قد أتى دوري فيا موت ابطش
دور
وكذا يا أم أوجاع المخاض
كن رمزا عن مصابي المقبل
أنت قد أرضعتني ذاك البياض
لدخولي في سواد الأجل
خطت لي أقمطة قبل المباض
لم تكن غير قيودي الأول
منذ ما ألبستني هذا الردا
حاك لي الدهر لباس الفحش
وأعد السهد لي والكمدا
منذ تبسيمك لي في المفرش
دور
كم بكت عينك دمعا كالدما
كلما تنظر عيني في أرق
آه لو تنظرني الآن وما
في فؤادي من لهيب وحرق
فاستريحي الآن بالموت فما
أتعب العيش على ذاك القلق
واتركيني باكيا طول المدى
خابطا وحدي رفيق الرعش
ضايعا في غربتي مبتعدا
صارخا يا سعد من لم يعش
دور
فأنا أبكيكما يا والدي
بدموع ما بكاها أحد
إن في موتكما القاسي لدي
مات حقا سندي والعضد
أي شيء عوض لي أي شي
وجميع الأرض لي تضطهد
ولذا صرت فتى منفردا
أنظر الدنيا نظير البرغش
أرتجي في خلواتي الصمدا
فسواه ليس لي من منعش
وأيضا قلت في جور الزمان:
حتام هذا الزمان يفتك بي
حتام يجري علي بالنكب
ويلاه لم يرو من دماي فلو
مستسقيا كان لارتوى وأبي
فما احتيالي وأين أهرب من
دهر إليه المصير بالهرب
دهر لذي الامتلاء كل سخا
وكل محل لكل ذي سغب
كعارض غرق السباخ ولم
يسق الأراضي التي على لغب
والدهر أعمى العيون وهو على
سبل الورى قايد فوا عجبي
بئس الليالي التي أثرن على
قلبي خطوب الحروب والنوب
كسفن شمسي على الضحى وكذا
خسفن بدري وليس في الذنب
لله كم بت والشئون على
خدي ينسجن حلة الكرب
والليل يلقي رماد ظلمته
في الشرق فوق الصباح ذي اللهب
ما لليالي غدرن بي أترى
زعمنني ثايرا على الخطب
وما لدهري أتى يطاردني
هل ظن أني مطارد الحب
فلينعم الآن كل ذي نعم
فالدهر لاه علي بالغضب
وهكذا ذي الحياة جارية
ذا في اضطراب وذاك في طرب
يا أيها الدهر لا بلغت مني
إلام أيدي سباك تلعب بي
أقمت بي دار ندوة جمعت
كل البلا خبت يا أبا لهب
فأنت خصم لكل ذي طمع
وأنت ضد لكل ذي طلب
وأنت للهدم والدثار أب
وأنت أم لكل منقلب
وأنت شيخ وأنت ذي حكم
وأنت تسعى كجاهل وصبي
فكم مدار يصيح ضدك يا
جان وكم مركز وكم قطب
وكم بلاد وكم قرى وورى
حتى وكم أنجم وكم شهب
فلا معين لنا عليك سوى
سوم الرضا في الهنا وفي الوصب
إن الرضا تارة يجر منى
والصبر طورا يجيء بالأرب
صبرت حتى العياء غار على
صبري ولولا العنا لكان سبي
وأنفس الصابرين قد خلقت
مقاومات لأثقل النكب
وكل بلواي جهل دهري بي
دهر به ضاع أجر ذي الأدب
والجهل ليل إذا فشا سرقت
فيه أجور النهى بلا تعب
وقلت أيضا استغاثة بالله:
عظمت علي نوائب الدنياء
والدهر قابلني بكل بلاء
وغدوت فوق الأرض ريشة طائر
سقطت أمام عواصف الأهواء
أيان سرت رأيت كل مصيبة
عظمى تهددني بقطع رجائي
فأود أن أهوى الزمان عسى أرى
تعذيبه عذبا على أحشائي
فكأن قلبي صار عضوا للشقا
والحزن لا لعيالة الأعضاء
قلب أبي دفع الدما إلا إلى
عيني لتطفي ناره ببكائي
أبكي أضج أنوح إذ لا سامع
غير الدجى والريح والأنواء
فدعوت من لم يدع دون إجابة
فرثي لحالي واستجاب دعائي
إن كنت صنع يديك يا ربي فلا
أدعو سواك ففي يديك شفائي
أنت العليم بما جنيت به فلا
أشكو لغيرك يا رحيم ضنائي
يا رب قد دارت علي دواير
سود وعدت فريسة النكباء
يا رب قد قهر الزمان عزايمي
فاقهر زمان القهر يا مولاي
زمن قد استسقى بكل مكيدة
وغدا على ولع بشرب دمائي
صرعتني المحن الشداد فمد لي
يدك الشديدة يا أبا الضعفاء
محن تعاظم فتكها وصراعها
فافتك بها يا أعظم العظماء
يا منقذا أيوب من بلوائه
بالصبر فأنقذني من البلواء
أذناك سامعتان أصواتي كذا
عيناك ناظرتان حال عناي
إن كان سخطك صار داء لي فلا
ريب سألقى من رضاك دوائي
أنت العليم بلى بضعف طبيعتي
وأنا العليم نعم بعظم خطائي
أغصان حلمك دانيات قطوفها
وجنان عفوك فايح الأرجاء
عبد إلى مولاه مد يد الرجا
حاشا يرد بقسوة وجفاء
عبد رأى في قلبه ربا له
رؤياه شمس الكون في العلياء
فانحاز يقرع صدره طلب الندى
قرع الفقير لباب رب غناء
إني علمت وجود باري الخلق من
إيحاء نفسي لا من الإيحاء
إن كنت موجودا فرب موجدي
هيهات مبروء بلا إبراء
ها كافة الأشياء تدعو كل ذي
عقل ليعبد مبدع الأشياء
من ذا الذي سوى السماء وصاغها
وكسا الكواكب حلة الأضواء
من ذا الذي دهق الفضا بعوالم
جلت عن التعداد والإحصاء
بعوالم صبغت بأحسن صيغة
وجرت بكل شريعة غراء
من ذا الذي جعل الجماد مجهزا
قوت الحياة وقوة الإحياء
من ذا الذي أعطى النبات طبيعة
منها إلى الحيوان كل عطاء
من ذا الذي قد صير الحيوان أن
يدري المحيط به بلا استثناء
متحركا بإرادة متمتعا
بوجوده متطاوع الأجزاء
من ذا الذي من ذلك الحيوان قد
سوى كيانا فاق كل سواء
أعني به الإنسان سيد جنسه
رأس الخليقة مالك الحوباء
من ذا الذي أعطاه خليقة
وحباه أعظم قدرة وسطاء
أعطاه أن يسطو على كل وأن
يستخدم الأشياء بالأشياء
أعطاه فهما أدرك الأشيا به
وأبان ذا عن ذاك بالأسماء
أعطاه ذكرا يستطير به على
جنح الضمير إلى أشم سماء
ذكرا بقوته يرى في قلبه
صور الحوادث في الزمان النائي
فمن الذي قد صاغ هذا كله
من حيث ليس سوى سكون فضاء
ذا خالق متحجب في ذاته
ويرى الجميع وما له من رائي
رب كبير قادر متسلط
منه الحياة ومنه كل سخاء
فيه استغثت على جميع مصايبي
وعليه قد ألقيت كل رجائي
وكذاك أرجوه يمن علي أن
أطفي بماء قويق حر ظمائي
وأعاف نهر السين فهو لذي الظما
ملح أجاج معطش الأحشاء
حيث الغريب يرى الجنان بعينه
وفواده يصلى بنار لظاء
لا ناقة أبدا له كلا ولا
جمل ولا حصباء في بطحاء
فمتى أرى الأظعان تعدو بي على
سمعان حيث مطالع الشهباء
وأرى رءوس السرو تدعوني إلى
أن أستطيب نسائم الزوراء
كل يميل إلى مساقط رأسه
ميل الرضيع إلى لقا الأثداء
فأنا إلى حلب أميل صبابة
أبدا وإن أك في سما الدنياء
بلد لرأسي مسقط وبها أرى
أهلي وأصحابي وآل ولائي
للوحش أوكار وللأطيار أش
جار وللأسماك لج الماء
لا يزأرن الليث في دوح ولا
يترنم القمري في البيداء
والجرف للظبي الغرير أحب من
قفص من البلور ذي اللألاء
كل لنغمة أرضه يصبو ولا
يلوي سوى ذي فطرة صماء
فمتى أرى جبل اللكام يمد لي
باعا يطول على جبال ألتاي
حيث الطبيعة بالطبيعة زينت
حتى اغتنت عن صنعة وعناء
حيث السما وفت الفصول فما أتت
بشتاء صيف أو بصيف شتاء
حيث المناخ كسا الثرى بل والورى
ثوب النعيم فكان خير كساء
إن المليحة من تجل بحسنها
عن صقل عرقوب ورثم رداء
وبكل أرض آفة تجري على
قدر المألوف وقدرة الأجراء
فالعمر سوق والخطوب بضايع
والدهر فيه يبيع دون شراء
إن العذوبة في الحياة عذابها
كوعود معشوق بدون وفاء
فتبسم المفقود رمز خلاصه
وتوسم المولود رمز بلاء
والدهر أعمى وهو دالول الورى
وأصم وهو يرن بالأرزاء
وقلت ندبا لفعل الحوادث:
هل عاد عندك يا زمان بعادي
خطب تعاندني به وتعادي
لا عدت أجزع منك إذ قد أفرغت
كل الكنانة في صميم فوادي
لم يبق عندك ما تروعني به
غير المنية وهي جل مرادي
أشكوك يا دهري وإني عالم
شكواي تذهب صرخة في وادي
وكذا أناديك الدوام وإنني
أدري بأنك لا تجيب منادي
لي معك يوم العرض وقفة مشتك
يا ظالما وعديم كل رشاد
يا دهر لم كسرت كل ظباك في
عنقي لحاك الله من جلاد
أترى أنا وحدي عدوك في الملا
يا من له كل الأنام أعادي
أعدمتني كل الهنا وتركتني
متغربا عن معشري وبلادي
وحكمت أن أقضي الحياة شقا وأن
أرعى الأسى كمدا ليوم معادي
ومنعت عني المنجدين فلو بدوا
لي في المنام لرمت منع رقادي
سحقا لعمر كل يوم منه لي
موت وقايعه بلا تعداد
ما أجفني فيه سوى سحب وما
نفسي سوى لهب وقدح زناد
يبدو الصباح لكل عين أبيضا
ولأعيني متوشحا بسواد
والشمس عند شروقها تلقي على
كل الطبيعة حلة الإسعاد
لكن أبت تلقي علي سوى اللظى
وأبى يراها الطرف غير رماد
وا حسرتي نفخ الزمان بلمتي
شيبا تداخل في شباب بادي
والعمر في زمن الصبا زهر الربى
للكل لكن لي كشوك قتاد
قد كنت خلو البال لا أهوى سوى
قبضي لأقلامي وبسطي مدادي
وقطوف أغصان الشباب دوانيا
وتنقلي من زينب لسعاد
فغدوت أروغ من ثعالة في العنا
وأضل من مهر بغير قياد
لم أدر قط من الشقا إلا اسمه
حتى تصرف فعله بفوادي
قد كان يحسدني على دهري الورى
والآن صرت أنا من الحساد
وأشد ما قاسيت من ألم البلى
ضجر يرافقني بكل عناد
فكأنه ملك يروم وقايتي
لكن من الإصلاح لا الإفساد
أيان سرت أراه نصب لواحظي
أبدا وأين ظنعت فهو الحادي
وهو الكرى وخياله في أعيني
ولربما هو مضجعي ووسادي
من لي به بطلا يطاردني بلا
حلم وما أنا من رجال طراد
قرد قبيح لم يخر قفصا سوى
قلبي ولم أك قط بالقراد
بعدا له نغلا شنيعا أمه
بنت الشقا وأبوه ابن جهاد
أو ذاك حظي منك يا باريس يا
دار الهناء ودارة الأعياد
وعلام أسند إن أقل هنا لي هنا
والحكم مردود بلا إسناد
ما هذه الدنيا وما هذا الملا
ما القصد في الإعدام والإيجاد
ماذا الحيوة وما الممات وما الوجود
وما النفوس تضج في الأجساد
إني رأيت الكل شيئا واحدا
يجري كصوت واحد الترداد
مع أن ذا ضد لذا والكون إن
يثبت فذا بتنازع الأضداد
فعلمت أن عناية علوية
للكل مثل الأم للأولاد
وإذا وفاق قام في أجناسه
فالخلق في الأنواع والأفراد
لكن مللت دوام صوت واحد
ملل السماع مطارق الحداد
ورأيت أن الأرض تيه مظلم
وبه الورى تسعى بلا إرشاد
يا صاحب الدنيا حذار حذار إن
عادتك يوما فهي شر معادي
أنثى فلا يرجى ثبات عندها
تبغي الوداد ولم تقم بوداد
حال العلم
ولما كان العقل مطبوعا على الاكتساب، وحاويا ملكة التمييز بين الخطاء والصواب، أوعزت إليه دواعي الحركات الذهنية، وبواعث الحياة البدنية، واللوازم الدينية، أن يرتب تصوراته ويهذبها، ويجمل دلايلها النطقية ويؤديها، وأن يبحث في الموجودات ويستقصيها، فيدنيها إليه أو يقصيها، حتى يستخدم ما طاب له وسر، ويطرد ما خبث وضر، فيستعين بالجوامد على حيوياته، وبالماديات على روحياته. وأن يعرف الخالق من المخلوق، والصانع من المصنوع، والموجد من الموجود، كمعرفة الوالد من المولود. وهكذا فقد نشأ العلم، وقام الفهم، فالعلم ريحانة النفوس، وروح قدوس، به تنشر الأفكار، وتبصر الأبصار، وتكشف الأسرار، وتجل السراير، وتبرز الضماير، وتسمو العنايا، وتصفو النوايا، وبحسنه تحسن الصفات، وبكماله تكمل الذوات، وهو الكنز الذي لا يفنى، والجمال الذي لا يشنى، قوة الكبير، سند الصغير، زخر الفقير. فمن حازه حاز الجلال ولو كان حقيرا، والكبر ولو كان صغيرا، والثروة ولو كان فقيرا، والعتق ولو كان أسيرا، والسطوة ولو كان ضعيفا، واللطف ولو كان كثيفا، والعز ولو كان ذليلا، والصحة ولو كان عليلا، والقبول ولو كان رذيلا، والدخول ولو كان دخيلا. فيه ارتقى الإنسان ونجح، وتجلل وفلح، وأصبح أعظم الكاينات وأجود الموجودات، والخيرات اتسعت، والأضرار امتنعت، والنفوس غلت، والحياة حلت، والممالك شيدت، والمدائن تسيدت، والصنايع عمت، والفلاحة تمت، والمتاجر انتشرت، والأخطار اندثرت، والطبيعة خضعت ودنت، والعاصيات طاعت وعنت، والآفات غلبت، والنوائب سلبت، والمعاملات شاعت، والمعامل ذاعت، والسياسة صلحت وتجملت، والأحكام عدلت وتكملت. ولم يعد للظلم مداو، ولا للجور جوار، فما العلم إلا جمال الإنسان وكمال الأذهان.
أما العلم فهو لذة ثابتة للعالم، وتعزية له في آلام العوالم، وبينا ذلك فلا يخلو من النكد، والنفث في العقد. على أن العالم لا يبرح متبلبل البال، قلق الحال، لا يسكت لبه، ولا يسكن قلبه، ولا تهجع أفكاره، ولا تصمت أذكاره، فنومه أرق، وسكينته قلق، وراحته تعب ووصب، وجهاد ونصب، وسروره غموم، وضحكه وجوم، فيرى الدنيا مطارح تعاذيب، ومسارح أكاذيب. فإذا اعتبرته لا يعتبرها، وإذا عرفته ينكرها؛ لأنه لا يحفل بكل الأشياء، ولا يعبأ بحركات الأحياء، فالمراتب عنده مكارب، والمناصب مغاصب، والأموال أثقال، والإحسان قيل وقال.
وهاك مقالي إلى طالب علم:
عرفت أصلك مما فيك من ثمر
يا غصن فضل بدا من أطيب الشجر
تجنى أجل ثمار منك ناضجة
وأنت في الدوح تجني جودة القدر
فكن إلى كبد العلياء متصلا
يا أيها الغصن واخطر آمن الخطر
لمثل شخصك حق المدح من رجل
يرى النقي والنقي خيرا من الدرر
فالمرء يذكر بالآلاء جانبه
لا باللآلئ ويذري التاج بالشعر
أتيت تسترجع العالم الذي شردت
به المقادير من مصر فخذ وسر
تسلسل العلم من مصر إلى عجم
للروم للعرب للإفرنج فليدر
وإن تعكر بالآراء لا ضرر
فرب نفع أتى من موقع الضرر
فالنيل وهو عكير الوجه يطفح في
مصر ويودع فيها أروق الأثر
فاستقبل العلم مفتوح البصيرة كي
يمر فيها مرور الطلع في الزهر
فالعلم في رأس من ضاعت بصيرته
مثل السراج بأيدي ضايع البصر
هنا قد افتتحوا دنيا العلوم بلا
شوم نظير افتتاح الشام من عمر
فاغنم فلاح افتتاح عز مطلبه
وكن عليه على نصر على ظفر
عهدي بمثلك يقضي الليل معتنقا
عطف الكتاب ولم يسأم من السهر
وأنت غض الصبا كالغصن وا عجبا
لا تنحني تحت أثقال من الثمر
هذا سلوك عجب ما له مثل
كما بدا لي من أمثالك الكثر
فكن إذا مستريح البال سوف ترى
عليك يهمي جزاء الجد كالمطر
ولا معاب لأقيال الديار سوى
صول وطول وكف هامل همر
يشكون في مصر دهر النايبات ولا
أرى بمصر سوى الخيرات والبدر
كل على الدهر بالشكوى يضج ولا
دهر سوى بشر ضجت على بشر
وكم من الناس يشكو الانكسار على
خبث وكم كاسر في زي منكسر
يا صاحبي يا صديقي يا أمين على
عهد الولا وارد النعمى بلا صدر
كن شامل الأمن من إرصاد ذي نكد
ولا تخف قط سحر الحاسد الخطر
فمن صباح العنايا أنت في سحر
وليس يثبت فعل السحر في السحر
وإن ظهرت لدى الحساد ذا قدم
بلا قدوم فذا من آفة النظر
وتحسب الأرض والأجيال جامدة
بينما تمر مرور السحب والغدر
ها أنت في رتبة عليا وفي شرف
سام وفي سيرة من أحسن السير
رمت التصاغر لما قد علوت فسم
أوجا فهذا اتضاع موجب الكبر
فالبدر يصغر ما يعلو ويكبر ما
يدنو وفي الحالتين الأوج للقمر
علمت حقك فاستحسنت مدحك ما
بين الورى فاغتنم وصل ابنة الفكر
ولا تقل بئس شعر جاء من رجل
في دينه أقبل الرحمن في صور
بلى أنا من بني عيسى وما منعت
هذه الكناية كوني ناظم الدرر
قل لي متى غير الدين الطبيعة أو
حبا اعتبارا لشيء غير معتبر
هذا وإلا فخير الدين يؤخذ من
خير الأنام وحكم العين بالأثر
حال الجهل
أما الجهل فهو عدم العلم وآفته، وقاعدة التوحش ودعامته وعلامته ورايته، وما الإنسان إنسان إلا بالعلم، ووحش ضار بالجهل الملم، فالجهل عثرة الساير، ووعكة الحاير، وعماء الناظر، وتيه الضايع، وخرس الناطق، وصمم السامع، وأينما حل وحلت الملايح، ونزلت القبايح، وسقط الغار، ونهض العار، وسكتت صوادح الفطن والفكر، ونطقت جوارح العي والحصر، ونكس رأس المعلوم والمقبول، وشمخ أنف المجهول والمرذول، ووقح الأجدع، وتسلح الأكتع، وسبق ذو القزل، وأصاب ذو الشغل، واغتنى اللئيم، وافتقر الكريم، وهار الهدى والصواب، ونتأ الخطأ والمعاب، وتتوج رأس الأسير، وتقيدت رجل الأمير.
إذا حكم الخطأ قتل الصواب
فلا شرع هناك ولا كتاب
وأعلم ذا الملا يعنو ويدنو
وأجهلهم يسود ويستهاب
فلا عجب إذا ما السحب هارت
ولا بدع إذا شيد الضباب
وللحصباء في البطحاء ري
وفي العلياء للشهب التهاب
ولكن الحصا للوطي عدت
وللجليان قد عد الشهاب
فما للجاهلين سوى افتقار
ولو تبرا لهم عاد التراب
وما لذوي النهى إلا ارتواء
ولو أجرى اللظى لهم السحاب
فما نفع الجهول غداة خطب
وأين نراه إن جد الطلاب
إذا حاز الغنى أضحى لئيما
وليس يروقه إلا الخراب
يجد وراء كل ردى وشر
وينصب كلما خفضت رقاب
لأن الجهل يورث كل طبع
قبيح فالجهول إذا مصاب
وإن أعطي السيادة وفق دهر
بغى ولبغيه شاب الغراب
فتنحب يوم ميتته المعاصي
وتنبح يوم مولده الكلاب
فيحيا آثما ويموت كفرا
وينشر كي يداهيه العقاب
ولكن ذو النهى غوث لكل
وغيث لا يكف له انصباب
إذا خان الزمان هو الموافي
وعند المشكلات هو الصواب
وإن فقر اغتني وإذا اغتني لم
يعد بسوى مكارمه يعاب
أما الجهل فهو مصيبة الجاهل، وعطشه في المناهل، ومع ذلك فلا يبرح الجاهل صاحب الفرح، عدو الترح، ساكن البال، رايق الحال، مرتاح اللب، خالي القلب، يبسم مدى الدهر، ويقهقه في كل أمر، ولا يعبأ إلا بالحال، ولا يفكر إلا بالمحال، فتراه هايما بالأموال، وضاربا في وادي الآمال، يتوقع المراتب ولو بعدت عنه، ويستعطف المناصب ولو نفرت منه، ويستحب الباغض، ويستفتح القابض، وربما تقلد السيف وهو الجبان، وطلب الكرامة وهو المهان. وقد جرى ما جرى، فقلت لمن درى، وفي كل ميدان مجال، ولكل مقام مقال:
أسير ينادي العتق يا دهر لبه
حبوه حلى التشريف لكن لسبه
أرى الظبي لا يشتاق إلا كناسه
وذا الجنح لا يلتذ إلا بقضبه
ففي قفص البلور للطير سجنه
وللظبي في صرح العلا كل كربه
وهبك وثاق الأسر صيغ من الندى
فهل لأسير غل فيه روى به
فما لامرئ عيش سوى بين قومه
ولا محسن للمرء غير محبه
أيخدعني خصمي بحلو كلامه
إذا كان مر البغض يجري بقلبه
وما هو إلا الغبن إن يقبل الفتى
سلام الذي لا يرتضي غير حربه
ومن صغر في النفس بسط امرئ يدا
لمنحة من لم يسع إلا بسلبه
وكم سارق أغرى صغيرا بفلسه
ليغتال دينارا رآه بعبه
إذا كان لي يوما لسان أقل ولا
أخاف وما خوف الفتى غير شجبه
ولا ريب أن الموت خير لعاقل
يعيش أسيرا للعدو وصحبه
إذا كنت ذا غصب فكن رب ساعد
وإلا فخل المشرفي لربه
ومن لم يكن للسيف أهلا فلم يكن
على جنبه ذا السيف إلا لضربه
حال التمدن
كل حال تدور على هذه الحال، فهي قطب كل الأحوال، ولا باسط لحقايق التمدن الجليل، أبلغ من تلاوة الإنجيل. فهناك التمدن وقراره، ومحوره ومداره. هناك يقوم تأديب الطبيعة، وتهذيب الشريعة، وإصلاح السيرة، وفلاح السريرة، وتبادل الحب والولا، وتراضي البغض والقلا، ومحبة القريب، وإجارة الغريب، وصلة الفقير، ومواصلة الصغير، وعيادة المريض، ومواساة المهيض، وزيارة الأسير، وجبر الكسير، وتعزية الحزين، والرفق بالمسكين، واحتقار المال، واعتبار الأعمال، والتزام الخالق، وإطراح الخلايق، وطلب الصالحات، وترك الطالحات. فهذا اختصار التمدن المطول، وما عليه المعول، فلا تمدن بين أوليك الذين يتعرون من هذه الصفات، وينفرون من تلك الكمالات، فلا يقوم التمدن لدى من اغتنى عن فعله بالاسم، واقتصر عن حده بالرسم، ولا تمدن بين أوليك الذين يخيطون الثياب، ويمزقون الثواب، ويحسنون المسير، ويسيئون المصير، ويعجلون الخطا، ويجعلون الخطا، ويمسكون العصا، ويرتكبون العصا، وينصبون الميزان، ويكسرون الأوزان، ويعجمون لسانهم، ويرجمون إنسانهم، فيتفاصحون بالعجمات، ويتعرفون بالنكرات، ويتداولون المجهولات، ويتجاهلون المعلومات، وينظمون الموضوعات، وينثرون المحمولات، ويحبون الظواهر، ويبغضون الضوامر، ويحفلون بالمسعى، وينجعون بالرجعى، ويتغايرون بالرذايل، ويتعايرون بالفضايل، ويجمحون إلى الأموال، ويجنحون عن الأعمال، ويلبسون الخطل، ويتحلون بالعطل. وأين التمدن من أوليك الذين يتخذون دون ربهم رب المطروق، ويلهون عن الخالق بالمخلوق، فيحفلون بالأبدان ويخلفون بالأديان، إذ يعبدون الملابس ويكفرون بالمقادس، وهم في جهلهم يعمهون، وفي طغيانهم يتيهون، فكل منهم لا يعلم علما، ولا يفهم فهما، وهو يشتم الدين وقضاياه، ويرفض الناموس ووصاياه، ويلغو بالرعاة وهو الضال، ويرغو بالرشد وهو الخال، ويتفاصح بلسان معقود، ويحاج ويصغي بنطق مفسود وسمع مسدود. فهنا السباق إلى المهاوي، ومضمار المساوي، وعناق الرذيلة، وطلاق الفضيلة، حيثما تحتبك المعاصي، وتشتبك النواصي، فأين التمدن من هذه الأطوار، بين أوليك الأشرار، آل التوحش، وأولو التحرش.
حال المال
ولما كثرت جموع الملا، وآنسوا وحشة الفلا، وعلق الخاطر بالخاطر، وانضم البادي إلى الحاضر، هفا الجار إلى الجار، وذكت النار بالنار، واشتغلت هيئة بهيئة، واحتاجت فيئة إلى فيئة، فتبادلت الناس صلات الخدم، واشتف كل إلى كل والتزم. وإذ كان الإنسان يحب خيره، ويمقت غيره، ويسأم السؤال، ويسوم الاستقلال، لم يمكنه استخدام الغير، ما لم يف بالخير. فجرت الأمور بمجرى الأجور. وهكذا كان الناس يتقايضون المتاعات، ويتبايعون البضاعات، فالبهايم بالبهايم، والغنايم بالغنايم، والمحاصيل بالمحاصيل، والمثاقيل بالمثاقيل. وما زالوا على هذا السلوك، حتى ابتدعوا المسكوك، فأبدأ الذهب لمعانه، وأطال شوكته وسلطانه، واهتز كل لسطوته وارتعد، وخضع الكل له وسجد. على أن الحياة صارت تدور عليه، ومجد الإنسان يقوم لديه، فبقدره يقدر الإنسان، وبكثره يكثر الإحسان، وبوجوده وجد المفقود، وبفقده فقد الموجود. فهذا ما يقال له المال، وما عليه مدار الأعمال. فالمال رب قدير، وسلطان نصير، تندك لهيبته الجبال، وتعنو لديه الملوك والأقيال، ويخشاه الزمان، ويرهبه الحدثان، وتنطقي منه النوائب، وتختفي الشوايب. فبه الجاهل يعقل، والخفيف يثقل، والجبان يشجع، والبليد يهرع، والفهيه يفصح، والمعتوه ينصح، والأخرس يسجع، والأصم يسمع، والعبد يسود، والأعمى يقود، والحقير يعظم، واللئيم يكرم، والممقوت يرد، والمهمل يعد. أما بدون المال فالعاقل يحسب جهولا، واللبيب مهبولا، والعزيز ذليلا، والأصيل دخيلا، والنبيه فهيها، والفقيه سفيها، والصحيح سقيما، والكريم لئيما، والطيب خبيثا، والقديم حديثا، والشجاع جبانا، والوفي خوانا، والمستقيم معوجا، والحي مسجى، والمحب مبغوضا، والصديق مرفوضا. وكل ذلك يعلمه الجاهلون، ويجهله العاقلون.
هذا حال الغني والفقير
جلس الغني على ذلك الديباج العظيم، واحقوقف الفقير على مخلوق الأديم. أما الغني فكان متسربلا بالأرجوان، مزرورا بالجمان، وعلى رأسه إكليل مرصع، وفي إصبعه خاتم يسطع، والحفد يطوف حوله، والحشم يمتثل قوله. أما الفقير فكان ملتفا بالأسمال والأطمار، وممنطقا ومبرقعا بالأتعاب والأكدار، وعلى رأسه عمامة خلقة ، وفي إصبعه خاتم حلقة. فرفع الغني إلى الفقير نظره، وحملقه وشذره، ثم قال له بلسان جري، وصوت جهوري:
الغني :
ما شأنك والجلوس أمامي، والحضرة في مقامي، يا أيها الرجل الحقير، والإنسان الفقير؟ فكيف جسرت على الدخول في هذا الباب، وشجعت على هذه الأعتاب؟ ومن أنت وما أنت؟ وكيف وجدت ومتى كنت؟ أما تدري أن الأغنياء سلاطين الزمان، وأرباب الأوان، وهيبتهم تهول الحدثان، إذا تحركوا حركوا، وإذا نطقوا استنطقوا، وإذا خاطبوا خطبوا، وإذا طارحوا طرحوا، فهم الذين يسودون الجماعة، ويتصدرون في كل قاعة، يخطرون في أعظم الثياب، ويسحبون مطارف الإعجاب، لهم المقامات العليا، ولأجلهم خلقت الدنيا، فيجننون مسراتها، ويقتطفون ثمراتها، ويهصرون كل عود، ويجندون كل جود.
الفقير :
لا تفتخر أيها الغني بغناك، ولا تعجب لجمال مغناك، فما ذلك بصالح الأعمال، وما كان إلا للزوال. ولو كنت دهقان الزمان، وقهرمان الحدثان، فستظلم بسراجك، وستدرج بديباجك، وأنت في الإكليل مكبول، وفي الغلايل مغلول، تحيا قلقا، وتحبي أرقا، وأنت غريق بلجج الأعمال، وحريق بنار الآمال، لا ينعم لك جنب ولو توسدت النعام، ولا يترخم لك منزل على الرخام، فلا تفتر أليف الجهاد، وحليف الاحتشاد، بينما لا يبرح قلبك متمزقا بأنياب المطامع، ولا تزال مجامعك متفرقة بين المجامع. فكلما أعطيت استعطيت، وأينما استعصيت عصيت، وكيفما بجلت بخلت، وكلما بخلت خبلت، وحيثما حسيت حسبت، وأيان نسيت نسبت، فأنت المثري المرثى، والذهب المغثى. أما سلطانك فعلى نفسك، وتجنيك على جاني فلسك، وهيبتك على أهلك، وإلا فتهلك. فما اعتبروك إلا ليعيروك، وما مجدوك إلا ليجمدوك، وما اصطفوك إلا ليقطفوك، وما صدروك إلا ليردوك، حتى إذا ما قفيت استقفوك، وقالوا أمك وأبوك.
الغني :
اخس اخس، ولهذرك انس، فنحن القوم الكبار، وأنتم الناس الصغار، ونحن الأعيان الرفاع، وأنتم آل سوقة الرعاع، فهل تقومون إلا بنا، وهل تمطرون إلا بسحبنا، فطالما غيضنا منكم البكا، وفيضنا عليكم الوكا، وأنتم تدرون ولا تفعلون، وتفعلون ولا تدرون، فكلكم أهل متلوف، وما منكم رب معروف، فلتعش الأمانة، ولتمت الخيانة.
الفقير :
اصمت صه، اسكت مه، فما دعواك هذه إلا ابنة الجهل، آفة الأغنياء، وحليفة الكبرياء. فإذا راجعت النفس، ترى العكس، إذ أنتم بنا تحيون، ومن مناهلنا تروون. فنحن الفيئة الكبرى، وأنتم الفرقة الصغرى، ونحن فعلة الطبيعة، وشغلة الأرض الوسيعة، نحرث الأرض ونشتغلها، ونسكن الرحاب ونأهلها، فلا نحتاج إليكم، ولا للمثول لديكم، إذ نقتات من النبت والشجر، ونلبس الصوف والوبر، ونستضيء بالشمس والقمر، ونتوسد التراب والحجر، على نعيم البال، وخلو البلبال، وصحة البدن، وطيب الفدن. أما أنتم فماذا تعملون إذ لم نرفدكم؟ وكيف تعيشون إذا لم نفدكم؟ يا نسل البليد، وأهل التليد. فهل يغنيكم التبر عن التراب؟ والأكنان عن الرحاب؟ والياقوت عن القوت؟ والبحر عن الحوت؟ إنما الدر من الصدف، والانتظام من الصدف. فإذا أطمعتمونا بمالكم، فلنيل آمالكم، وإذا عاملناكم بأعمالنا، لتخفيف أحمالنا. فأنتم تحيون بنا، ونحن نشتغل بكم، فلا تحيجونا لثلبكم أو لسلبكم.
الغني (فنهض الغني على قدميه، وبسط جفون عينيه، وكشر أسنانه، ودلع لسانه) :
لماذا أكثرت شتمي، وأطلت رجمي، وأنت تغيظني بخطاك، وتعدى عن الحدود خطاك، هاتكا حرمة الأدب، وفاتكا بسطوة النشب، فلا أعتبن عليك، وإذ لا تهذيب لديك، على أن الفجور من شأن الفاقة، وما أقبح الفاقة والحماقة، فلا يجود الفقير، ولا يسود الأسير.
الفقير :
الشتم بالشتم، والرجم بالرجم، ولو لم تتخط الأدب، ما استنطقتك العتب، فأنت المبتدي، والمبتدي معتدي، والأدب من خلق النفس، كالنور من الشمس، لا يأتي بالكتاب، ولا بالجد والطلاب، فمن لم يكن ذا استعداد، لم يفز بالمراد، فلا علم يفيد، ولا معلم يقيد. والتربية في الأفلال، أعظم منها في الأموال، فالفقير يثقفه الكد، ويهذبه الجد، وتربيه الأيام، وتصلحه الأنام، فتحسن صفاته، وتحمد أوقاته، ويأمن شر النكد، وضر اللدد، ووقايع المباراة، ومواقع المداراة، وشوايب المناجاة، ومعائب المداجاة، فيعيش بلا كدر، ويموت بلا حذر، تاركا حسن الأثر، إذ لا يعتني في لعل وليت، ولا يتمنى خراب بيت، ولا يتهنى بانقلاب صيت، ولا يتكنى بالخريت، فيكون كل كنزه في الحصول على خبزه، حتى لا يخامره مرض المطامع، ولا مضض المسامع، فيخلو من الحسد المفترس، والطمع المختلس، والكبرياء الوحشية، والأميال الفحشية، أي كل الانفعالات التي تحرق الإنسان، ولو كان في الجنان.
حال الحرب
خربت الأرض خرابا، وانقلبت الجماعة انقلابا؛ لأن الحرب انتشبت، والفتنة انتصبت، فتباعدت الشعوب، وتنافرت القلوب، وخيم سحاب البغض، واكفهر محيا الأرض، حتى إذا ما كثرت مضارب السيوف، وتطنبت مضارب الحتوف، جرت الدماء كالجواري، وتضورت الناس كالضواري، فهبطت جواشن النظام، وانقلعت شواجن الانضمام، وانثلت عروش الصنايع، وانسدت مسالك البضايع، وسقطت التجارة، وانقطعت الإجارة، وتقوضت البلاد، وانجزر الإمداد، وذهب الجار يعوث بالجار، والمزار يشط عن المزار، وراح كل يزيغ في وعث البلى، ويروغ في وعكة القلى. فما هذا الدثار العام والدمار التام، إنما هو الحرب والطعن والضرب، حيثما الفيالق تحمل على الفيالق، والبنادق تسطو على البنادق، والكتائب تتجاذب الكتايب، والركائب تغور على الركائب، والقنابل تصادم القنابل، والذوابل تستميل الذوابل، فتنكسر السنابك على السنابك، وتلتطم المسابك في المسابك، إذ تلعلع المدافع بأهوالها، وتهال الأرض فتزلزل زلزالها، بينما تنجف القماقم، وتتطاير الجماجم، وتتساقط الهياكل المتحركة، وتنهدم المباني المدركة. يوم يصفر البحر بالأمواج، وتلغط الأودية بالرجراج، ويلبس الجو جلباب القتام، وتغور السماء في حجاب الظلام، ترقد عيون الدراري، وتدلهم وجوه الثراري، فظلمات بعضها فوق بعض، وبلابل تبلبل السماء مع الأرض. فما ذاك من شأن الصواب، وما هو إلا رجسة الخراب، ووقوع العذاب والمصاب. فكيف تنزل البشر منازل البهايم العارية، ويفعل الإنسان فعل الوحوش الضارية، إذ ينثر عقد شمله، ويفرق مجامع جمله، شاهرا حسام القراع، وساهرا بأعين النزاع على عزيمة الصراع، ليختلس جيرانه، ويقتبس أقرانه، محرضا من عدو الطمع الألد، ووساوس الحسد الأشد، يستزيد ذاته بنقص الغير، وينسج خيره بنقض الخير. ولذلك لا يفتر مشتغلا بتتميم العدد، وتكثير العدد. فسوف ينجم النقصان عن التمام، ويستقر الوجود من الإعدام، والحسام يبطل الحسام، فالضرب يغلب الضرب، والحرب تقلب الحرب.
حال السلم
ولما وقعت دول الحروب، وسكنت حركات الشعوب، تبسم ثغر السلم عن شنب الهدو، وطافت كئوس البشرى على الآصال والغدو، وأسفرت الأرض عن محيا الابتسام، فاغتبطت الناس في بشاير الأمن والسلام، حتى اتشحت البوادي بجلابيب التهاني، وامتصت الصوادي أنابيب الأماني، وعاد الورى ينضم إلى الورى، والقوم يحمد السرى، وازدهت البلاد، وازدهرت العباد، وتمكنت مباني الأعمال، وتوطدت مغاني الأشغال، وبذخت قصور العمار، واستقرت متون القرار، وانتظمت سلوك الوفاق، وانفصمت عرى الشقاق، فخرس الفم الفاغر، وانكسر الذراع الكاسر، وانقهر الطبع القاهر، حتى نام الطرف السهود، وطاب الفؤاد المفوود، ونعم عوف الجبان، وأمن خوف الزمان، وفك الغنى طلاسم كنوزه، وأخذ الذهب ببروزه، فرنت الأغاني في المغاني، وغنت الأواني على الأواني، وقلص نهار الأفراح ليل الأتراح، واستظهرت الأقلام على الصفاح. فما هذه الحالة الهادية، والعيشة الراضية، إنما ذلك طلوع السلام، ووقوع الخصام، حيثما تنعم الناس، ويتبادلون الإيناس، آمنين على بيوتهم، وظافرين بقوتهم، فيعيشون حسب خوفهم، يموتون حتف أنوفهم، فليعش السلم المبتغى، وليمت الحرب والوغى.
حال الحب
إنما الحب رباط الجمهور، ووفاض الأمور، وصديق السراء، وعدو الضراء، به تتفق الشعاير، وتلتصق العشاير، وتبلغ الأوطار، وتغلب الأطوار، لا يقوم لديه عنيت، ولا يسطو عليه صليت، أينما حل رحلت الشرور، ونزل السرور، ونهض الوفاق، ووقع الشقاق، لا يتوطد بيت إلا به، ولا يثبت قوم بانقلابه، فهو الأساس المتين، والعضد المعين، وهو البطل المغوار، والعسكر الجرار، لا تنزل راياته الخافقة، ولا تنذل غاراته الدافعة، له الغار كلما غار، والفوز أينما سار، والسطوة حيثما ثار، وله الاعتبار والكرامة، والمجد والفخامة، لا يقبل الشين، ولا يرضى المين، ولا يصحب خلقا ذميما، ولا طبعا لئيما، ولا يلامس متصلفا، ولا يداني متجهرفا، ولا يرافق الكبريا، ولا يواصل الرياء، ويرفض النفاق، ولا يقبل الصداق، فهو السماحة والحق، والدعة والصدق، والتواضع والأناسة، والشرف والنفاسة، والكرم والجود، والرفد والوفود، والغوث والإعانة، والإحسان والأمانة. ويقسم الحب إلى خمسة أقسام، وهي: الأبوي، والبنوي، والأخوي، والودادي، والعشقي.
أما الأبوي، فهو حب الآباء لأبنايهم، ولا يوجد أصدق وأثبت من هذا الحب، فلا تغيره الأيام، ولا تعارضه الأعوام. أما البنوي، فهو حب الأبناء لآبايهم، وهذا الحب ينحط إلى المرتبة الثانية انحطاط المعلول عن العلة، فلا يبادل الابن والديه مساواة الحب، على أن الابن لا يشعر بمحبة والديه إلا بعد محبتهما له مدة طويلة، أعني كل سن الفتوة، والأغلبية للمتقدم. وبينما يعقل الابن ويبتدي أن يحب والديه، يعود مشعرا بصعوبة تربيتهما له والتزامه بالطاعة لهما، فإذ يكون مطبوعا على حب الحرية يرى نفسه غير حاصل عليها، فلا يمكنه أن يحبهما بمقدار حبهما له لمعاضتهما إياه في سلوكه. وإذا كان نشأ على خوفهما، فلا يجتمع حب الشيء والخوف منه معا. فيكون إذا الحب الأبوي طبيعيا، والبنوي أدبيا، هذا إذا لم نقل إن الحب نتيجة الموالفة.
أما الأخوي، فهو الحب القايم بين الإخوة، وهذا هو نتيجة الموالفة محضا. وقد ينقص ويزيد بمقدار هذه الموالفة، وقد يشتد في البعض وينقص في البعض، وقد لا يوجد أبدا تبعا لآداب الإخوة وتربيتهم، وما تعودوه من آبايهم. أما الحب الودادي، فهو الحب الذي يوجد بين الأقارب والأصحاب، وهو نتيجة الموالفة أيضا، وهذا إما أنه يكون مخلصا، إما أنه يكون لغرض، فالمخلص نادر، والغرضي كثير ومتواتر، وربما انقلب الغرضي إلى مخلص والمخلص إلى غرضي تبعا لقراين الأحوال ومواقع الأعمال.
أما العشقي فهو حركة تشمل القلب وتشغل الخاطر. أما حصولها فيكون أولا على طريقة الوداد، أو الميل البسيط. ثم ترتقي إلى درجة الحب، وهو الميل الثابت إلى المحبوب. ثم تصعد أخيرا إلى درجة العشق، وهناك إذا أفرطت تدعى بالهوى أو الجوى أو الغرام، وذلك حسب قوتها.
فإذا نزل العشق في قلب الشخص رحل صوابه، وصارت كل أفكاره تدور على هذا الاسم، وهكذا فتعود كل تصرفاته منصرفة إلى وجه الحبيب بحيث لا يعود ساعيا إلا في سبيل مرضاته ولا يطلب إلا شهوده حيثما يغدو موقعا لملاعب الآلام، ومهبا لعواصف الأميال، فيهيم ديمار، ويروغ ويغار. وإذ تبدل شهوده بالغيبة تلاعبت به خمرة الأشواق، وعبثت بقلبه نار الأتواق، فيحن ويئن، ويضيق صدره، ويضطرب فكره، ويأخذه القلق، ويشمله الورق، ويتصعد ويتنهد، ويهيم إلى الطرقات، ويرصد الطاقات، ولا يلذ له سوى ترداد ذكر الحبيب واللهج به.
ومن عادة العشق أن يلطف طباع العاشق ، ويجعله سميرا ونديما ولبيبا، ويرقي طبيعته، ويرقص أفكاره، ويدعوها إلى رقة الغزل، والتشبيب بالجمال، حتى يعود يمكنه التلاعب بأحوال كل الوجود، فيصير مصورا للطبيعة إذ يتوهم فيها الصور المحبوبة لديه، وشارحا لكل الحركات والظواهر المحيطة به إذ يرى أن لكل منها خدمة في بيت الحب ولعبا في مشهد الهوى، على أنه يرى أن الخليقة تتنفس لديه بالحياة، وتنفس كربه وترعرع مثواه، فيناجي الأفلاك، ويرسم الرياض، ويخاطب الأزهار، ويطارح الأطيار، ويشخص الليل والنهار. ومن ذلك ما أقول:
نفض الشرق على وجه المغيب
غبرة الديجور
وسعى الصبح على العود الرطيب
بكئوس النور
فانثنى يرقص والأمر عجيب
رقصة المخمور
بقوام خلته قد الحبيب
أسكرته الحور
دور
والنسيم العذب يجري في الصباح
حامل الرند
وعلى الأزهار فوق الدوح صاح
بلبل السعد
وندى الفجر على النسرين لاح
طالب العقد
قد حكى درا على جيد ربيب
أو على كافور
دور
ومهاة أقبلت إثر النهار
تحت ظل الليل
أقبلت بعد عتو ونفار
تستعيد الميل
وهي تدنو بحياء وافترار
والهوى كالسيل
زورة قد أولت الصب الكئيب
بهجة المسرور
دور
حبها القاسي وقلبي ارتبطا
برباط العهد
إنما عقد اصطباري انفرطا
بالجفا والصد
وفوادي لم يزل مختبطا
في الجوى والوجد
وأنا بين عذول ورقيب
أنجز المقدور
دور
سمحة لي كلما مدت يدا
صاد قلبي القلب
ذات قد بردا اللين ارتدى
ليت ذا للقلب
وأنا عنها ولو ذقت الردى
ليس لي من قلب
آه كم جار على قلبي السليب
جفنها المكسور
دور
دمية عجباء ما بين الدمى
تفضح الغيدا
ريمة ترتع في قلبي فما
تعرف البيدا
ذات عقد يزدهيني كلما
يلبس الجيدا
وعيون كيفما دارت يصيب
نبلها المحذور
ومن ذلك:
بالله قولي لنا يا نسمة السحر
من أين جئت بهذا النافح العطر
ومن أمدك كل اللطف وا عجبي
حتى غدوت بشير الصبح للبشر
وما فعلت مع الروض الأنيق فما
خطرت إلا وفاقت أعين الزهر
وأي سر ترى فيك الطيور فما
سريت إلا وغنت في ذرى الشجر
فهل سبقت عروس الصبح وهي على
نار فقبلت خد الورد من قمري
وهل ضممتي رقيق الخصر منه وقد
ثملت بالراح بين الطلع والدرر
وهل شرحت لخود الروض يقظته
عند الصباح أمام النرجس النضر
وهل رويت لأسماع البلابل عن
وساوس الحلي بين الورد والصدر
فها جنيت على كل الأنام بما
جنيت من ذلك الوسنان في السحر
بالله يا ريح إن مكنت ثانية
من صدغه فأقيمي فيه واستتري
ومن ذلك القبيل:
إذا خطرت نسيم من سعاد
أثارت كل شوق في فوادي
وإن لمعت بروق من حماها
همى من أعيني صوب العهاد
نجوم الليل هل تدرين أني
نظيرك لم أذق طعم الرقاد
فقصي يا نجوم علي مما
علمت من المواقع والجهاد
فليس سواك لي أبدا سمير
يعزيني ويعلم ما مرادي
ويروي لي حديث ذوي التصابي
ويسعفني على حمل السهاد
ويا ورقاء وفق الأيك ناحت
أمن هجر نواحك أم بعاد
أراك ترددين علي لحنا
يذيب سماعه قلب الجماد
فقد هيجت مهجة كل صب
وقد رنحت معطف كل شاد
ويا قضب الأراك أراك سكرى
لعلك شمت ثغر سعاد بادي
فميلي يا غصون علي ميلي
نعم بك للهوى لعبت أيادي
ويا زهر الربى من أين آت
عبيرك هل شممت شذا سعاد
فعدت بأعين سهرى وجسم
نحيل واهتزاز وارتعاد
ويا ماء الغدير أراك مثلي
تئن ولست مفئود الفؤاد
فأنت على فراش الوصل تجري
طوال الدهر من دون ابتعاد
رويدك يا غرام فكل خلق
غدا بيديك مطروح القياد
فكم يا فاسدا لك من صلاح
وكم يا صالحا لك من فساد
وكم يا داعيا لك من مجيب
وكم يا ظالما لك من منادي
فما من دولة دامت ولكن
لدولتك الدوام على التمادي
وكل فتى لها عبد ولكن
نظيري ليس يوجد في العباد
فوا عجبا لقلبي كيف يقضي
شروط الأسر وهو بلا رشاد
وغانية علقت بها غراما
بدت لي كالزلال لقلب صادي
فهمت إلى ورود الثغر منها
عسى الجريال يروي ذا اتقاد
وعيس صبابتي تسعى إليها
على لغب وداعي الشوق حادي
أسير ونصب عيني نار سلمى
وبين جوانحي قدح الزناد
ومن ذلك الوجه موشح:
لاح بدر الحسن من برج الحما
فنضى بالنور سجف الغلس
وسقانا إذ رنا مبتسما
خمرة قد عصرت من نرجس
دور
قمر ضاء سنا طلعته
في دجى الشعر فلا غاب القمر
وبدا الورد على وجنته
فغدا للقلب يحلو والنظر
كتب الحسن على غرته
لا ينال الوصل إلا من صبر
وعلى قلبي هواه رسما
صور الشوق بنار الهجس
وأعاد الطرف يرعى الظلما
والدراري صرن لي كالحرس
دور
هز من قامته رمح الهوى
وانتضى من جفنه سيف القضا
وأتى يسلب روحي والقوى
بعدما قد كان عني معرضا
ليت يدري ما بقلبي من جوى
عله يبكي عليه إن قضا
صحت مذ أورث جسمي السقما
بالجفا وهو شفاء الأنفس
يا غزال الحي رفقا بي فما
تركت عيناك لي من نفس
دور
أيها الغالب بالطرف الكحيل
مغرما يرعى الصبا والوصبا
ته بما شئت فلي صبر جميل
إذ أرى الدنيا لمن قد غلبا
لك ثغر باللما يشفي العليل
بأبي أفديه ثغرا أشنبا
ورضاب ليته يطفي الظما
من فواد فيه نار القبس
ودلال بعذابي حكما
فأنا اليوم كثير الهوس
دور
زارني والليل كالبحر اعتكر
وبه الشهب جرت كالسفن
والدراري قد حكت فيه الدرر
أو عيون الغيد إذ تغمزني
وعلى كل الورى ألقى القمر
حزم النور وهم في الوسن
فلثمت الخد منه والفما
وهو يسبيني بلطف الميس
والدجى مد علينا خيما
ليت لا تطوى خيام الحندس
دور
وانثنى عني وقد لاح السحر
والتهى كل بتوديع الحبيب
والندى كلل تيجان الزهر
وشدا الطير على الغصن الرطيب
وضياء الصبح في الشرق انتشر
وانطوى الديجور في وادي المغيب
فلكم ذاق فوادي ألما
حينما ودعت كرها مونسي
ولكم أجريت دمعا كالدما
من عيون في الهوى لم تنعس
دور
جرد الأفق على عنق الظلام
صارم الأنوار والقطب يدور
وغدا للصبح في الشرق اضطرام
ولجيش الليل في الغرب فتور
فبكت للبين أجفان الغمام
أدمعا لاحت بأفواه الزهور
ونجوم الأوج غارت في السما
وتوارت في حجاب الأطلس
وفوادي قد غدا مضطرما
مذ تقضى طيب ذاك المجلس
دور
سطر الفجر على لوح الجلد
بيراع النور أحكام النهار
فازدهى وجه السما بعد الكمد
إذ بدت شمس الضحى والنجم غار
وكذا الثور جرى خلف الأسد
راكب الحوت ودب الأوج طار
وصبت روحي إلى ذاك الحمى
حيثما يرتع ظبي الإنس
فهناك الحظ لي قد قسما
في ليال قد مضت كالعرس
دور
يا أخا الأشواق سم صبرا على
ذلك الوجد الذي فيك جرى
واحمل العشق ولا تشك البلا
فالهوى يجري على كل الورى
إن كأس الحب يحلو للملا
وبه كل فواد سكرا
بئس قلب لم يذق حب الدمى
فهو أحلى من مذاق الأكؤس
ورعى الله فؤادا ختما
بدم العشق وبالشوق كسي
دور
غرد الحسن على دوح القود
فغدت ترقص أعطاف الجوى
واستوى الورد على عرش الخدود
لابسا حلة سلطان الهوى
والعيون السود بالسحر تسود
ولها تخضع أرباب القوى
حدق تفعل بالقلب كما
فعلت كأس الطلى بالأرؤس
ونهود غادرتني أبكما
دهشة وهي شفاء الخرس
ومن ذلك النمط:
حتام يا ذات الجمال الأعظم
تهوين تعذيبي فجسي أعظمي
مهلا فقد بلغ الجفا ما شئت من
جسدي ورفقا بالشجي المغرم
قسما بحسنك وهو خير ألية
عندي وقط بغيره لم أقسم
لا أبتغي الإعتاق من أسر الهوى
أبدا ولو سفكت بواتره دمي
أفدي التي أبدت لعيني وجنة
تزهو بحسن تضرج وتضرم
قنواء إذ هزت قناة قوامها
ناديت وا تلفي وفرط تألمي
يا قلب هذا الحب فاحمل ضيمه
علنا ولا تسمع لهذر اللوم
واصبر على البلوى فكيف ترد ما
دفعت إليك يد القضاء المبرم
قل للذي يشكو الهوى وهوانه
سلم أمورك للأحبة تسلم
يا ربة الحسن التي سبت النهى
يكفيك ما فعلت عيونك فارحمي
حللت فصلي وهو غير محلل
وحرمت وصلي وهو غير محرم
عودي المحب فسقمه لك شاهد
عن صحة الحب الذي لم يسقم
لا أشكون لك الصبابة والجوى
حذر المخيبة فارحمي أو فاظلمي
فإذا رآك القلب ضج كأنه
لك يقصد الشكوى على كره الفم
لا تحجبي عني جمالك ذا السنى
فبغير منظره أنا لم أنعم
وإذا حجبت بهاء ذاك الحسن عن
عيني فأنظره بعين توهمي
والوهم يجلي للفتى ما لم يكن
طوع العيان فكم به من مغنم
أفدي بروحي ذلك الوجه الذي
جمع الجمال ولطف ذاك المبسم
زيحي لثامك يا ابنة الصبح التي
قد أصبحت شرفا لكل الأنجم
فمتى ترى عيناي ما قتلت به
روحي عسى تحيا بمنظره أكسمي
فلو انجلت كل الغواني لي ولم
أك ناظرا لسناك لم أتنعم
إن كان لا يبنى لغيرك منزل
في مهجتي فصبابتي لم تهدم
فإذا بسطت القلب بسط مشرح
وفحصت عضو العقل فحص معلم
تجدي بذا غي الهوى عوض الهدى
وبذاك نيران الجوى بدل الدم
قومي انظري حوض المياه عسى إذا
عاينت حسنك ترحمين تتيمي
فلقد حويت من المحاسن ما به
أصبحت ذا قلب بحبك مغرم
لك قامة قامت بها طرف الصبى
فحلت وطرف كالظبا والأسهم
ولواحظ ما غازلتني خفية
إلا وأخفت في كل تألم
حدق أحلن دمي وكل عناصري
بقوى الجمال إلى الغرام المرغم
حتى غدوت بغير أنسك لا أرى
حظا ولو قد حزت كل تنعم
هذا هو الشرف الذي لسواك لم
يسمح به فتدللي وتحكمي
شرف لديه كل قلب خافق
أبدا وكل فم يرى كالأبكم
أيحل في شرع الهوى لك هجر من
لم يرج منك سوى محادثة الفم
فأنا وإن كان الهوى بي محدقا
عف نفيس النفس لم أتجرم
ولقد صبرت على تباريح الجوى
صبرا تعجب منه كل متيم
فضعي يديك على ضنا صدري عسى
تدرين ما فعل الغرام بأعظمي
وإذا الغرام أماتني كمدا فذا
حق قد استوفاه حسنك فاسلمي
ليت القضا يحتال أن يلقيك في
وادي الهوى لتري عذاب المغرم
فمن المحال على خلي القلب أن
يدري صبابات الشجى المكلم
أذني عن العذال واللوام في
صمم وطرفي عن سواك غدا عمي
يا لايمي دعني فلا أسلو وهل
يصغي المحب إلى الملام المظلم
عبثت أيادي الدهر بي فأذبنني
وأعادت العبرات مثل العندم
حتى كأن جميع أعضاي غدت
غدرا لإفراز الهيام الأعظم
كم ليلة قد بات طرفي ناثرا
درر الدموع لدى دراري الديجم
أرعى مسير الشهب في كبد العلا
وأنا أنادي أيها الفجر اهجم
إذ ينجلي المريخ كالدينار في
كف السما والمشتري كالدرهم
وكأن جبار النجوم على الدجى
جبار قوم فوق صهوة أدهم
حيث المجرة نهر نور في السما
يسقي حديقة نرجس من أنجم
فإذا نظرت إلى السماء وجدتها
بنجومها مثل الطراز المعلم
فمناظر الأفلاك راقت كل ذي
سهر فما أشقى عيون النوم
فالسهد مثل الشهد للعشاق قد
يحلو وللخالين مثل العلقم
يا للهوى كم قد أرقت دياجرا
بهوى غزال راح يغزو كالكمي
ظبي إذا ما لاح صحت تشوقا
يا مقلتي هذا نعيمك فاغنمي
يا أيها الرشاء الذي سلب النهى
مني وغادرني أليف تظلم
كن راحما من قد سكنت فواده
صب لديك رحمت أم لم ترحم
وإذا صرمت حبال ذياك الولا
فأنا لحبل صبابتي لم أصرم
ضحك الحسود شماتة لما رأى
منك القطوب فبكه بتبسم
ليس الحسود يسود قط فقلبه
متعذب أبدا بنار جهنم
ومن ذلك النسق:
ما زال يعصي الهوى والحسن يخضعه
حتى جرت في لهيب الحب أدمعه
صب إلى كل حسناء صبا ولها
لكن إليك وقاك الله مرجعه
هيهات يعشق قلبي يا مناي سوى
هذه العيون التي بالسحر تصرعه
لواحظ فوقها بالحسن قد كتبت
يد الصبى جاذب لا شيء يدفعه
فإن أكن عنك أظهرت السلو فذا
تظاهر كان يشقيني توقعه
أين السلو وطرفي كان يسرق من
مرآك إذ لحت ما في القلب موقعه
عودي إلي فثوب الميل نحوك لا
يبلى ولست مدى الأيام أخلعه
واسترجعي ذلك الأنس القديم ولا
تنسي هوى في أقاصي القلب مرتعه
لا تنكري الحب أو خبي اصفرارك إذ
أبدو فوجه المعنى ذاك برقعه
لحسن وجهك فعل لست أدركه
على فوادي فكم في السر يصرعه
لم أدر هل قد أراني البرق ثغرك إذ
بسمت أم ذاك ماء الظرف ينبعه
كأنما بين عينيك الجمال دعا
قلبي إلى فتنة فانساب يتبعه
صرعت ذا القلب بالألحاظ ظالمة
فظل يخفق حتى ضاع موضعه
مدت له عينك الكحلاء سلسلة
خفية نحو أوج العشق ترفعه
هناك مرآك عند القرب يوسعه
وجدا وذكراك عند البعد تفجعه
إليك كل كمال ينتمي ولذا
عليك كل جمال قام مهيعه
لذاك لا أنثني نحو السوى فأنا
واف وثوب غرامي لست أنزعه
هذه يدي ووثاق العهد يربطها
وذا فوادي وعضب الشوق يقطعه
وذي دموعي وخوف الهتك يمسحها
وذاك نوحي وأذن الليل تسمعه
قومي بنا يا ابنة الصبح المنير إلى
روض به الزهر يحلو لي تنوعه
حيث الغدير رأى غدر القضا فجرى
يئن والشط يلويه ويدفعه
كأنه راكض يبغي قتال عدى
والريح بالزرد الفضي تدرعه
وفوقه لغصون الحور مشتبك
يحكي صراع عفاريت توقعه
والبدر من خلل الأوراق يطلب أن
يلوح والريح تعطيه وتمنعه
كغادة نظرت معشوقها فغدت
تلوي الإزار قليلا ثم ترجعه
والشهب تلقي على ظهر الغمام سنى
كأنها بحبال النور ترفعه
والبرق مثل حراب النار يرشق من
قوس السحاب وبطن الجو يبلعه
حتى إذا ما الدجى ضمن الوهاد هوت
قبابه وانزوى في الأفق مجمعه
والشرق من فمه المفتر رش على
وجه السما ماء نور راق منبعه
والغرب جمع جيش الليل فيه وقد
أحاطه بذراعيه يودعه
وقد سرت نسمات خلتها سحرا
روح الظلام الذي قد تم مصرعه
والصبح أرسل تلك الروح تسرق من
زهر الربى ما على الدنيا تضوعه
صبت عيوني إلى وجه التي سلبت
لبي وملت على صبري أشيعه
تلك التي كلما لاحت لدى نظري
ضج الفؤاد بصدري وهو يفرعه
تلك التي إن أكن صارمتها غضبا
فكل مر عذاب كنت أجرعه
تلك التي حينما زارت عقيب قلى
ترنو إلي بطرف سال مدمعه
والحسن يطفح من أقطار طلعتها
والوجد يقطر في قلبي فيوجعه
وضعت في يدها ذات الغرام يدي
والعهد بينهما يحيي توقعه
قالت وقد ذبلت ألحاظها خجلا
كنرجس جاء حر الشمس يلذعه
أي الذنوب جرى مني وهبك أنا
أذنبت فاذكر جنونا كنت تصنعه
إني أشعت سلوى حيث لا سبب
وكيف قلبك في غيري تضيعه
أنا التي لك قد خصصت قلبي إذ
لبست ثوب غرام رحت تخلعه
أنا التي في الدجى أصبو لشخصك عن
شوق وفي مهجتي الحراء أطبعه
أنا التي بك أيدي الشوق قد ربطت
طرفي وطرفك عني السهو يقلعه
أجبتها ولهيب الوجد متقد
وفي فوادي أسياف تقطعه
الذنب مني فكفي أدمعا حجبت
برق الشباب بطرف جل مبدعه
يا مهجتي يا مرادي يا حياة دمي
يا من بغيرك طرفي لا أمنعه
إليك ما زلت مجذوبا بغير يد
وفي حشاي الهوى ما زال مربعه
وكلما كنت أنهى القلب مني عن
ذاك الهوى كان يعصاني ويتبعه
فأي سحر عليه قد رميت وما
هذا الذي لك عنفا راح يخضعه
إن قلت حسن فكم بين الورى حسن
أو قلت طبع فأنى لا أطبعه
ها قد عرفت عرفت السر فهو على
عينيك يفشيه إجهاش ويطلعه
أنت التي لك ميل لي إليك دعا
ميلي بعنف فجهلا كنت أقمعه
ومن ذلك الصدد:
ما للمليحة غضبى لا تكلمني
كأنها بي لم تسمع ولم ترني
غضبى وما إلي من ذنب كما علمت
سوى افتتاني بمعنى وجهها الحسن
ما بال أعينها في الأرض مطرقة
وكلما أطرقت عيناي ترمقني
ونحن في مجلس قد قام من نخب
فمن حسود ومن واش ومن خشن
عسى العيون التي قد أتلفت كبدي
كلت من الفتك أو ملت من الفتن
أو أنها علمت ما قد جنت فغدت
من الخجالة ترنو مثل ذي وسن
هذا إذا لم تكن من غيرة غضبت
علي وهما فما عادت تغازلني
ليت المليحة تدري أنني كلف
بها إلى غيرها ما ملت في زمني
ولي ثبات عجيب في الهوى عجبت
منه الجبال وحار الدهر ذو المحن
على عهودي وودي قد ثبت لدى
صدم الزمان ولم أنقض ولم أخن
رويد جورك يا غضبى بلا سبب
مني الرضاء وهل للآن لم يحن
أطلت إعراضك الريمي فالتفتي
كالريم نحو فتى أحيى الهوى وفني
حتى يراك فيغدو والحشى قطع
والعقل في ذهل والقلب في حزن
ما زال يهواك حتى صار يحسب ما
بين الملا من عباد الشمس والوثن
مهلا أيا صنم الحسن الذي سجدت
له قلوب الورى من سالف الزمن
شمشوم داود حمنون ابنه تبعا
كذا سليمان رب العقل والفطن
لله درهم كل غدا لبني
حواء قدوة طهر الروح والبدن
وقال أيضا:
أسبلت فوق صحاح مراض
وجلت تحت سواد بياض
غادة في ليل طرتها
مدمعي والنوم فاض وغاض
وجهها الراضي رياض البها
آه وا شوقي لتلك الرياض
وخدود جعلت قليها
قاسيا فظا وهن بضاض
ما رنت كالظبي إلا وقد
خلت حال الأمر في القلب ماض
وإذا قامت بأردافها
ضاق صبري بين تلك العراض
عبل لولا نهوض الصبى
كان لم يسمح لها بانتهاض
أيها الحسن العجيب أنا
لك عبد فاقض ما كنت قاض
صل وطل واحكم وته وأتمر
فأنا راض بما أنت راض
أنت لي كل الرغاب وما
أنت في الدنيا بشيء تعاض
كل أهوائي انقرضن وما
لاهتمامي في هواك انقراض
خضت منذ الحمل بحر الهوى
وإلى الآن أقاسي المخاض
ها أنا فيه على سفر
بادي الإنفاض خالي الوفاض
فمن الأشجان زادي ومن
مدمعي مائي متى شيت فاض
يا أحباي أفاعي النوى
في فوادي لا تكف العضاض
حكم الدهر لفرقتنا
ما على حكم القضاء اعتراض
ذكركم زلزلة في الحشى
ولها في كل جسمي انتفاض
وهواكم بي صحيح ولو
عندكم عل ودادي وهاض
لا تظنوا أنني مثلكم
أذكر العهد متى الديك باض
ذلك البين ليال على
عاشق شق الليالي وخاض
يا سراة السفح لا زلتم
في انبساط والعدى في انقباض
ما رعى الهفاف غيطانكم
وسقى الرجاف تلك الغياض
وقال:
ته بما شئت بالهوى وتحكم
واظلم الصب ما شكى وتظلم
إن تكن ظالما فظلمك عدل
لمحب عني لديك وسلم
لك سلمت يا حبيبي أمري
فلك اليوم أن تجور وترحم
يا هلالا سبى العيون ببدر
لاح من هالة الجمال المعظم
سد بطرف له لسان وسيف
بهما كلم الفؤاد وكلم
وكذا جر علي إذ ليس لي من
ذاك واق ولا الزمان إذا هم
ما استجار المحب بالدهر من جو
رك إلا كالمستجير من الرم
سفكت بالفتور أعينك الس
ود دمي فالأمان يا سافك الدم
قد قضى الله أن أكون عميدا
بك فارفق إن القضاء لمبرم
كم وكم عن هواك حاولت سلوا
نا لأقضي منك انتقاما وكم لم
فصوابي ذو العدل يدعو إلى الثأ
ر وقلبي ذو الحلم يعفو ويرحم
ذاك ثأر إن يحلو فالعفو أحلى
وكلا الخلتين في الحب علقم
ليس لي حيلة بها العدل يرضى
غير أخذي علي ذنبك فأسلم
إن ذنبي ذنب عظيم ولكن
لك عفو عن ذلك الذنب أعظم
إن أكن قد سلوت عنك فما كا
ن سلوي إلا سحابا تجهم
كيف أسلوك يا معذب قلبي
لا ومن يدري ما بقلبي ويعلم
فأنا ما بدلت تبرا بترب
مذ بدلت الدينار أنت بدرهم
وعلى كل حالة إن أحل يو
ما فإني أتوب حولا وأندم
أنت غصن الهناء في العين لكن
أنت والله في الحشا شجر الهم
فجفاك العريض أقتل من سم
وصبري المريض أضيق من سم
وأنا في الحالين ميت وحي
بالجفا والرجاء والله أعلم
ومن ذلك المنوال:
يا سعاد لا تسلي
عن بكاي ذا شغلي
لو علمت سفك دمي
ما بعدت عن مقلي
كيف حلت عن كلف
عنك قط لم يحل
وابتعدت عن مقل
عدن بعد في علل
في نواك يا طلبي
قد بليت كالطلل
صرت فاقدا رشدي
مثل شارب ثمل
والهوى على مهل
والصبى على عجل
فالشباب زال وما
للشباب لم يزل
والجمال منك إذا
لاح فاز بالمقل
فاغنميه قبل فنا
فالجمال كالدول
وابتلي الفواد ولو
لا الرجا لكان بلي
إنني على أمل
باللقاء والقبل
والممات أحسن من
عيشة بلا أمل
يا بكا مودعتي
نحو أعيني انتقلي
أعيني معودة
في الهوى على الهطل
ذا الوداع أودعني
حرقة إلى الأزل
قد أضعت عهد يدي
إذ قطعت متصلي
يا سعاد لن تصلي
للعهود إن تصلي
ما أنا سوى رجل
يستسير كالرجل
رغم ذا الزمان وما
في خطاه من خطل
وقد يخامر الحب النكد، ويداهمه الحسد ، وتسعى فيه الوشاة، وتحدق به اللحاة، فينقلب الحب إلى سلوان، والود إلى عدوان، ويبتدل الوصال بالصدود، والأرق بالهجود، ولا يعود للعذل مقال، ولا للنسيب مجال. وحينئذ يهتف المجد بصوت السلو، ويتكلم بلغة الخلو، شارحا أسباب سلوانه، وبواعث عدوانه، ويحدث عن الانقلاب، كما قلت في هذا الباب:
أأذوب لا والله لست أذوب
إن قال ترك قلت ذا المطلوب
إني امرؤ عف الطباع وليس لي
بهوى الذي لم يهوني تشبيب
لا أنكرن عليه حق دلاله
فجماله للناظرين عجيب
ولكل عين أعين ترنو له
ولكل قلب في هواه قلوب
لكن قلبي لا يرن بحب ذي
قلب أصم الطبع ليس يجيب
وكذاك لم أنكر أناسة وجهه
لكنه شرس الفواد غضوب
ما لم يكن بين القلوب تبادل
في الحب لا حب ولا محبوب
رح يا رسول إلى الحبيب وقل له
مات الغرام لك البقا فتطيب
إن المحب سلاك فأبشر بالمنى
واذهب فأنت لمن تشاء حبيب
وليهن واش ولتسر حواسد
وليرض لاح وليقرب رقيب
والله لو لم يدعني هو أولا
بوداده لوداده فأجيب
ما كنت لا والله همت بمثله
حبا ولم يك مضني التخييب
لكنما لا يعرف الدنيا سوى
من راح يكشفها له التجريب
يا ظبي بل يا نافرا عن ود من
قد كان منك لوده التسبيب
والله لم يضرب فؤادي بالهوى
لو لم يئن فؤادك المضروب
وكذاك لم يسكب بحبك مدمعي
لو لم يبن لي دمعك المسكوب
والآن أنت رميت بي سهم الجفا
فرددته لك والمصيب يصيب
أبت المروءة أن يقيم على الهوى
قلبي وقلبك للسوى مقلوب
أما فلا عاد الجمال يصيدني
حتى يصيد أبا العرين ربيب
مذ شبت عشقا عفتني فأغظتني
فلسوف من غيظي عليك تشيب
ولكم شجبت بذا إلى سهر الدجى
ها نمت فاسهر أيها المشجوب
قد تبت عنك فلست أرجع لا ومن
يهب الندامة ذا الخطأ فيتوب
ومن ذلك:
دع ذكر حادي السرى والوخد والإبل
وخل عنك حديث الطل والطلل
وزر مواقع هوج اليعملات على
عوج الأباطح بين السهل والجبل
ولا تضج على سجف ولا حدج
ولا تعج على ظعن ولا جمل
واهجر ربوع خيام لا يجاورها
غير الرغام ولا تحوي سوى الهمل
ما لي وللطنب الممدود في وتد
يقوم بالسبب الزحاف ذي العلل
لا عاد يحسن لي ذوق التغزل في
منازل غرقت في أبحر الغزل
قد انحنى المنحنى من ثقل ما وضعوا
عليه من لاعجات قمن كالقلل
كذا اللوى قد لوى من وجدهم سأما
وقد ذوى البان من أشواقهم وبلي
كذا الغضا من زفير الهائمين به
ناداهمو بلسان الحال وا شغلي
وقد عدا بالدما وادي العقيق على
طفح فكم قد أذابوا فيه من مقل
دعني فلست أنا إن كنت ذا كلف
ممن يشوب صحيح القول بالدغل
ولست ممن إذا جد الغرام به
أضحى يكابده بالرمز والحيل
فهل إذا طعنت قلبي قدود بني
حسن أطيب بذكر البان والأسل
وهل إذا ما رمت ألحاظهم كبدي
أقول هذي رماة النبل من ثعل
وهل إذا ثغر من أهوى تبسم لي
أطارح الأبرق البراق بالقبل
لا والذي خلق الإنسان مكتسيا
بالذوق غير عقيم العقل والعمل
لكل عصر رجال حسب دولته
فالآن ما الرجل العبسي بالرجل
كذا لكل زمان ألسن نطقت
بكل معنى جديد غير مبتذل
قد كان بالنازحين العيس تعسف في
قفر الفلا طالعات الخب والرمل
واليوم لم يبق للأقفار من رهط
ولم يعد لظهور النجب من دخل
ولم يعد في خيام العرب من سكن
غير اللصوص وسقط الناس والسفل
فهل إذا ما جرت بالصحب باخرة
في البحر أو في الثرى أشكو إلى الإبل
ومن إذا الشمس في لوح الضحى رقمت
بياضها قال هذي صفرة الطفل
هذي عصور علينا في الحجى جدد
فلا تبلبلها بالأعصر الأول
فقد أصاب بهذا الدهر كل فتى
بحر الكمال فلا يهفو إلى الوشل
ورب طالب شيء ليس يدركه
أمسى وفي قلبه لدغ من الأمل
إذا بدا لي شأو لا وصول له
فلا أقولن عمري ليت ذلك لي
وإن أرم ود قلب غير منقلب
فإنني رمت ظلا غير منتقل
تأبى النفوس العوالي أن يخامرها
حب الأسافل كره الأعين النجل
وكيف يرعى كرام الطبع دون أذى
عهد اللئام رعاة الخون والخطل
والله إن خان ميثاقي الحبيب سلا
قلبي وحليت جيد الحب بالعطل
قولوا لميلعة والورد يطبع في
أحداقها شيم الحيران والثمل
ضربت بالغدر قلب الصب فاندملت
جراحه من ضراب الغنج والكحل
وقد أخذت بأركان الهوى فهوت
وقعا كما أخذ الغدار بالبطل
قومي أريني أيا من بالهوى عبثت
وجها كسته يد الإبرام بالهبل
ما لي أراك بلا لطف ولا خجل
من بعد ما كنت ملء اللطف والخجل
ما لي أراك إلى كل على طمح
وكنت لي بالحيا مكحولة المقل
ما لي أرى النفس منك الآن قد سقطت
على الحضيض وكانت في ذرا الكلل
ما بال وجهك هذا القح ملتفت
لكل داع وداع كل ذي شغل
مهلا فلا تدعي نفسا على طمع
بالوصل منك ولا قلبا على غلل
فمل هذا وذا أقوى وذاك سلا
وأنت أنت بلا سلوى ولا ملل
وعنك كل فتى قد عاد مجتنبا
سوى فتى من بني الأوباش والهمل
كاتمت ذا الكاشح النذل الهوى ففشا
وراح عن دبر يروي وعن قبل
من الأعاجم لا أصل ولا حسب
ولا صفات سوى الفحشاء والزلل
وحش من الحيوان السقط مفترس
وإن بدا بشرا فالمسخ ذو خلل
ما كان قط ليرضى أن يرى شرفا
فطبعه من طباع البغل والوعل
يريش نبل المساوي والفساد لكي
يرمي الصلاح ولكن قط لم ينل
وإن يكن بك قد تمت رمايته
فأنت ممن أصابتهم يد الفشل
أغنيته عن جميع الناس فافتخري
بذاك يا فخر فرد قام عن جمل
حسب الذباب افتخارا أنها شبعت
عن الفقاع وجاع النحل في العسل
قد كنت لي في مراح العز سارحة
تمشين كالليث إعجابا على مهل
والآن صرت تجاه الذل مجفلة
تسرين كالضب حيرى في يد الوجل
فسوف تلقين أهوال الأسى ندما
من حيث ألقى الأسى عن ناظري جلي
قد كنت أندب حظي منك نضو جوى
وها أنا الآن في ضحك وفي جذل
قد كان يلقاك طرفي مطرقا خشعا
والآن تلقين طرفي غير محتفل
واليوم تبكي عليك العاذلات كما
قد كنت أبكيك بين العذر والعذل
فلا برحت بأفواه الملا مثلا
ومنك لا برحت نفسي على جفل
بشراك بشراك بالصيت الذي لك قد
بدا فقد سرت بين الناس كالمثل
واستبشري بوقوع الود عنك فذا
حمل عليك ثقيل غير محتمل
لا تأسفي إن يكن منك الجمال مضى
فإن دولته من أقصر الدول
وهل مرادك إلا خدع ذي بله
فاستبضعي رقع التمويه واشتغلي
يا للزوال خدود الورد قد ذبلت
كذاك غارت عيون النرجس الخضل
وقد هوت كل أركان الشباب سوى
قلب توطد بالوسواس والخبل
تبادل الصبح والديجور لونهما
فابيض هذا وذاك اسود بالعجل
ولم يعد من مليء الجسم منك لنا
سوى جلود على عظم بلا عضل
فلا يغرن قومي البارزات فما
هذه سوى خرق شدت على قصل
ولا يغش فتى هذا الجمال على
ذاك الخنا فهو يحكي ألسن الشعل
وهكذا كل نبراس يضيء له
جوف يضم ظلاما بالدخان ملي
تلك الخصال التي رنت قباحتها
والحسن قبح على مستقبح الخصل
وجود مثلك في الأنثى أتاح لها
مقتا وقد يؤخذ المنقود بالزغل
إني وما ضم قلبي من سلوك لم
أعتب عليك فكم لي عنك من بدل
لكن عتبي على قلبي فعادته
أن يصحب الناس والدنيا بلا دخل
خذوا من الناس يا ذا الناس حذركمو
فكم من الناس ذئب في كسا حمل
ما عدت أخشى الضواري بعد غدركمو
أنا الغريق فما خوفي من البلل
جنيت ذنبا أرى فيه معاقبتي
من لي بتمسيح ذنب باهظ الثقل
بنات حواء ما أنتن غير بلا
على بني آدم كل بكن بلي
لكن فضل فكم منكن لي أدب
وربما صحت الأجسام بالعلل
ومن ذلك أيضا:
لا تدعي ببقاء العشق والتمسي
غيري فأين مزاج الكف والنفس
العشق لا يدع الأنفاس فاترة
ولا يغادر لمس الكف كالقبس
علمت أنك قد خنت الغرام فلا
تخادعيني بلين القد والميس
ولا تظني ابتسام الثغر يخدعني
فليس لي خاطر في ذلك اللعس
سلكت طرق الهوى عسفا كذي ذنب
من السما أو من الشطرنج كالفرس
لذا خلعت ثياب الحب مكتسيا
ثوب السلو ولم ألبث على هوسي
وقد حملت سلاح الصد عنك لكي
أرد شوقي فأنجو من يد الرجس
كوني بغيري في حظ كذا ليكن
ذا الغير مستهديا فالتيه في الغلس
فسوف يرجع مغدورا على ندم
ببكى الدجى وينادي آه وا تعسي
ما أنت إلا كريش طاردته بلا
رفق يد الريح بين الأربع الدرس
تذكري حينما أقسمت لي شرفا
بأن قلبك عني غير منعكس
يوما وضعنا بلا فحص يدا بيد
وقد عقدنا عهودا عدنا في خرس
إذ لم أكن عالما أن العهود جرت
من كف مستأنس في كف مفترس
فلم يكن منك قبض الكف لي علنا
للعهد لكن لخنق الحب بالخلس
نعم لخنق الهوى وا حسرتاه نعم
لقتل ودي نعم للنكث والسجس
ما لي أراك تريقين الدموع بلى
ذيلي وتبغين مني مرجع الأنس
هلا علمت بأن الرأس مني لم
يخضع ولي قدم في الذل لم يدس
لا عاد يخطر في بالي الهوى فدعي
هذا الفتى آمنا من خلقك الشكس
أنذرت قلبي بما أوحى السلو لذا
سقطت منه كأرطاميس من زفس
يكفي فوادي ما قاسى وما احتملت
جوارحي من وقود الشوق والهجس
آها ووا أسفي كم قد نثرت على
هواك لؤلؤ دمع راح في البخس
وكم سهرت الدجى شوقا وعينك في
نوم فها الآن طرفي عنك في نعس
وها عيونك قد أمست مسهدة
ترجو إلي وصولا وهي في الدلس
وها غدا اليوم منك القلب ملتمسا
ترجيع عشقي وقلبي غير ملتمس
لا تفرحي إن نظرت الوجه مني ذا
بشاشة فالهوى تحت البشوش نسي
ولا تظني اصفراري في قدومك عن
خطور حب ولكن عن ظهور مسي
فلا يغرك لين الطبع مني أو
بشاشتي فأنا قاس كنبل قسي
كذاك المنظر المرآة تظهر من
ماء ولكنها للمس من يبس
دعي دعي ذلك الصب الذي فعلت
به طباعك فعل الظالم الشرس
فلست ألقي على باغي الأسى نظري
ولو يكون بأنوار البدور كسي
قد كان يدوي بصوت الوجد قلبي إذ
أراك والآن أضحى جامد النفس
وكان ينطق فكري بالغرام بلا
صمت فبدل ذاك النطق بالخرس
وكم سفكت دموعي أو دماي على
رجليك أرجو الرضا من وجهك العبس
قد كنت حزنا لقلبي والهوى نكد
والآن صار له السلوان كالعرس
بغضت عشقك حتى لو تجسم لي
شخصا لكنت أريه الشنق بالمرس
ومن ذلك أيضا:
سلوا فذا كبر عهدتك يا قلبي
ألم تر أن الحب أشرك في الحب
ألم تر من تهواه مال إلى السوى
وعنك تخلى ريثما صرت في الركب
لحى الله حبا روحه في يد النوى
فما هو إلا رمة في يد القرب
وما هو إلا خدعة لا محبة
وما أصله يا صاح إلا على الكذب
فلا عدت أمشي في طريق الهوى فذا
طريق به من يمشي أصبح كالضب
طريق العنا والبوس والضيم والضنا
وسهد الدجى والسقم والنوح والندب
رأيت الهوى مغرى بضربي على المدى
فأضربت عنه الصفح والضرب بالضرب
سعاد أما والله أنت وطيدة
على الحب لكن طالما الشمل في الصحب
وأنت على الميثاق ساهرة بلا
رقاد ولكن طالما الشمس في القطب
إذا كنت يا سعدي كبرت فأنت هل
صغرت ولم يبرح صباك هوى الصب
وإن بصدغيك الغضون لذا الصبى
مجار وفي صدغي للكبر والكرب
كأنك بالمرآة همت صبابة
فلم تنظري فيها سوى الحسن والعجب
لعل ذبول الورد عن وهج الصبى
نشا فمياه الورد جلت عن النضب
تعلة من ظن الشباب كنجمة
على القطب ما زالت تضيء بلا غرب
وهبك شباب العمر دام فهل فتى
يدوم على عهد الشباب بلا قلب
وهيهات فالأكوان سوف تحل في
قبور الفنا والأرض تحرق كالعشب
فذا مشهد لا بد من سدل حجبه
زوالا ليبدو غيره من ورا الحجب
إذا كان في باريس كل العلا يرى
ففيه لقنسرين كل العلا مخبي
فكل عمار فيه رمز خرابه
وكل خراب عن عمار له ينبي
وفي حزن بعض الناس للناس فرحة
وفي قومة المربوب منقلب الرب
وإن دخول النفس في الخطب مخرج
لحزم النهى فالحزم يحصل في الخطب
وللناس أخلاق وعاد وأنفس
يطاوعن حكم الأين والحين والحقب
ومن ذلك أيضا:
إياك إياك تأويبي وتقريبي
ولازمي لازمي بعدي وتغريبي
وحاولي كل صد عن محادثتي
واستقبليني بتزوير الأحاجيب
وإن حضرت فخطي في الثرى عوضا
عن القيام بتسليم وترحيب
وإن نطقت فقولي فاه ذو حصر
وإن رويت فقولي ذو أكاذيب
وفضلي كل ذي نفس علي فلا
أذل مني بين المرد والشيب
والله لو لم أكن شر الأنام لما
أحببت مثلك يا أدنى المحابيب
قابلت خيري بشري والوفا بجفا
كذاك طابقت تعميري بتخريبي
هيهات يحسب إنسانا لديك فتى
يرعى الزمام بقلب غير مقلوب
قد كنت أهواك صافي القلب طيبه
فلم يرقك صفائي لا ولا طيبي
ورحت تهوين نكس القوم باذخة
به وبدلت مقبولا بمشجوب
فخان عهدك مقلوبا عليك ومذ
سمعت ذا قلت راح الذيب بالذيب
فسوف تبكي عليك الشامتات كما
علي أبكيت عذالي بتعذيبي
وما فترت بسوق الشوق مرخصة
ما كان يغليه إنشادي وتشبيبي
حتى جعلت عرين الأسد مكلبة
ومنزل العهر إخدار الرعابيب
لذا غدوت أروم البعد عنك بلا
صبر وقد كنت أرجو كل تقريب
وللفتى طلبات يختلفن على
قدر اختلاف الدواعي والمطاليب
ها تبت عنك وعن كل الهوى أبدا
وأنت عني وعن كل الهوى توبي
غيره:
يا عاذلون استريحوا فالشجي خلا
ويا وشاة تهنوا فالمحب سلا
سلا وبالغ بالسلوان خاطره
حتى جرى في الملا سلوانه مثلا
سلا وأصبح لا يشكو صروف جوى
ولا سهاد دجى ولا عذاب قلى
نعم سلوت نعم عفت الغرام نعم
فر الولوع نعم كل العنا بطلا
وارتحت من كل مهذار يلح فقد
زال الهوى فأزال العذر والعذلا
تلك التي خلبت عهدي وقد جلبت
على ودادي لها ما يصدع الجبلا
حسبت أن ودادا عندها ووفا
حتى اختبرت فلا ود هناك ولا
خيانة مزقت صبري مرارتها
كل الخيانات أضحت بعدها عسلا
بالأمس كنت على قومي أتيه بها
واليوم قد أصبحت عارا علي علا
وكنت أهتز فخرا كلما ذكرت
فصرت إن ذكرت لي أنحني خجلا
لا بدع أن أستحي من ذكر من ولعت
بالقدح بي بعدما أوسعتها غزلا
فلا رعى الله يوما عهد خائنة
قد أشمتت من درى أمري ومن جهلا
أنا الذي بيدي أوقعت نفسي في
تلك الفخاخ فإن أعتب فذاك على
تعلموا أيها العشاق واتخذوا
أمثولة لم تروا يوما لها مثلا
قضيت كل شبابي في محبة من
مذ شاب فودي راحت تطلب البدلا
وما درت أن عصر اليأس داهمها
وأنها قد غدت بين الملا هملا
قد عوضتني بمن دوني لذاك غدت
دونا فيا ويح من ينحط بعد علا
وأنكرت قدر معروفي ومعرفتي
فصار إنكارها في قلبها وجلا
كأنما الذوق يأبى أن يقوم على
أنثى فليت الأناثى لا ترى رجلا
لأصبرن على تجديد دولتها
فالدهر من شأنه أن يقلب الدولا
فسوف يضحكني صرف الزمان على
أحوالها وسيبكيها أسى وبلا
كم أضحك الدهر من باك ينوح وكم
أبكى ضحوكا وكم رقى وكم خذلا
غيره:
يليق لذي العجباء أن تتدللا
وفرض عليها أن تتيه على الملا
وحق لها أن لا تكلمني ولا
تراني ولا تلقي سلاما ولا ولا
وحلم لنا منها إذا عف حكمها
ولم نجعل الأعلى على الأرض أسفلا
فمن قدرها أن تكسف الشمس في الضحى
وتخسف وجه البدر في كبد العلا
وتهبط بالسبع الشداد على الثرى
وتفصم شمل الكاينات وتفصلا
وتستوقف الأفلاك عن دورانها
وتقلب أبراج السما وتزلزلا
وتهدم أركان الطبيعة كلها
وتجعل تنظيم الوجود مبلبلا
وتقلع أطناب السحاب وتنسف ال
جبال وتبقي واسع البحر جدولا
وتبطش بالأقدار والخطب والقضا
وتضرب شرع الكون فردا ومجملا
وتجدع بالإذلال أنف الفتى ولو
أناف على الجوزاء شأوا ومنزلا
وتسحق أحكام الزمان برجلها
وتكسر رأس الدهر إن صال واعتلا
لها البدر نعل والسها فص خاتم
وكل الدراري والنجوم لها حلى
فها كل هذا حقها غير منكر
نعم كل هذا حقها ولها ولا
نعم كيف لا وهي التي خانت الوفا
وبالغدر والإبرام قابلت الولا
وقد قذفت بالنكس عهدي ومزقت
يمين الهوى عمدا ومدت يد القلى
لذلك قلبي قد سلاها وعافها
وها هي بعد العز تعنو تذللا
فيا حسرة اسم كان يسند بالثنا
فأصبح حرفا معجم الحكم مهملا
وقال أيضا:
طرقت خباها بغتة يوم تبكير
فصبحني وجه كرقعة تصوير
هناك على المرآة كانت مكبة
تموه خديها بصبغة حنجور
فأيقنت أني في الهوى كنت والعا
بمسحوق تبييض ومحلول تحمير
وكنت أرى أني بمقصورة جو
إذا أنا أهوى رامجا ضمن حابور
مظنة نبل في محتة هجنة
حكت عزف زنبور على وز طنبور
ولما رأيت الشيب في فودها نما
عجبت لصبح لاح في ظل ديجور
وقلت عساها أمسكت أم ضجيعها
جفاها فذا تاج على رأس مهجور
جمال على فرش الهوى مات والشقا
أحال له مسك الغداف لكافور
لك الله من هذا الذي كان طالعا
مع الصبح من مغناك يجري كمذعور
فهل خلف لي ذا على فتن الهوى
نعم فاعشقي يوما خلا خلف شحرور
نهلت أنا ماء الصبا منك كله
وخلفت للأغيار ماء الحناجير
أنا نحلة الأزهار أجني نفيسها
خليقا وأبقي غثها للزنابير
غدرت وهذا الغدر ريح أمامه
أنا والهوى طود وريشة عصفور
فما أنا ممن غدر مثلك مضه
وأي كريم في الورى غير مغدور
إذا قلت فالأفعال تتلو مقالتي
ولو كنت مطبوعا على كل تقصير
توهم قوم أنهم أسد الشرى
وعند التلاقي أجفلوا كالسنانير
إذا قام شاهين الطيور مشمرا
على ساقه خابت ظنون الزرازير
وإن هب نسر الجو فيه محوقا
تفرق في الآجار جمع العصافير
يحاول ضرب اسمي الحسود ودونه
زحام الليالي واقتحام الأعاصير
تبوأت باز الدهر في حومة العدى
فرارا فرارا يا صفوف الفرافير
أنا بينكم لكنني ضعت بينكم
ورب صحيح ضاع بين مكاسير
فمي وفم الباغي يصيحان إنما
بمأذنة هذا وذلك في بير
يحوقل خصمي إذ يراني وصاحبي
يروح بتهليل علي وتكبير
أنا صخرة الوادي إزاء معاندي
وأعظم خطب للذي رام تحقيري
على أنني غيث ثجاج لذي الوفا
وملح أجاج للخئون ابن خنزير
وقال أيضا:
تشآمت إذ في النوم طيفك وافاني
فيا ليت نومي لم يعد بعد سلواني
حلفت يمينا لا أراك فإن أكن
جرحت يميني في الكرى فالكرى الجاني
وماذا يريد الطيف مني وإنني
سلوت سلوا عنك ليس له ثاني
فلو مثل الماء القراح لأعيني
خيالك لم أشرب ولم أطف نيراني
سلوتك والدنيا تضج بسلواني
عليك وأهلي يعجبون وخلاني
فكل له علم بأني كنت في
هواك صريعا ضايعا مدنفا فان
وكنت إذا أنشدت فيك قصيدة
ترامت عليها أنفس الإنس والجان
فيا ليت قومي يعلمون الذي جرى
من الغدر والإبرام منك لإحساني
وفيتك حتى خنتني بخيانة
تحير من فحشائها كل خوان
فها وجهك المنكود يشهد بالذي
فعلت وها ما بين عينيك عدواني
على أن ذياك الجمال قد انمحى
ولم يبق من ملح سوى لمح إنسان
إلام إلام العجب إذ لم يعد سوى
شنار وفي المرآة عندك برهاني
قضى حسنك الباغي وجنزه القضا
وأدرجه من ذا المشيب بأكفان
نظيرك دهر ساحر بك غشني
وحير أصحابي بأمري وأقراني
لحى الله أياما بوجدك جزتها
فيا ليتني ما كنت فيها بوجدان
وقال أيضا:
ما غريمي في الحب غير ثباتي
وثبات المحب عين الشتات
ليتني كنت كالحبيب بلا قل
ب فلا كان منبت الحسرات
لحفاظ الحياة قد خلق القل
ب ولكن قلبي لسلب حياتي
أيها القلب قد قضيت مراما
فإلام الولوع بالشهوات
تب عن الحب والعنا وعلى السلوان
ثب وانج يا أخا الوثبات
كيف يا غالبا أسود الردى صر
ت أسير الهوى بعين مهاة
عجزت أسيف المصايب عن كس
رك حتى انكسرت باللحظات
أنت أبكيت أعين الدهر ذي الغد
ر فأتى يبكيك غدر فتاة
ذلك الحسن يصرع الأسد السا
طي ويغزو الكمي ذا الغزوات
إنما الحر لم يخر حسن ذات
قط ما لم يزن بحسن صفات
فسلوا يا قلب إن كنت حرا
عن قبيح الصفات باهي الذات
ذا حبيب عيناه لم تخلقا إلا
لرشق الجميع بالنظرات
كلما شاب لمة شب لؤما
فشباب ناء وشيب آت
ما عليه فقد هصرت صباه
داني القطف طيب الثمرات
ثم غادرته فضالة لون
سرسما في صحايف الطيبات
يا خليفي في حبه فاتك العهد
فوات الحبيب عند الفوات
كن أمينا عليه من رجعتي حر
مة أمن من أحسن الحرمات
فلمثلي الثبات في كل شوط
ولغيري الترداد في الرجعات
طاير كان في يد الشهم نسرا
وبغاثا غدا بأيدي البغاة
هكذا الشاة في حمى الليث ليث
وبوكر الذباب جيفة شاة
رب ميت كأنه في حياة
عند حي كأنه في ممات
وربما كان السلو هجعة رقاد، وهدنة جلاد، حتى إذا عرض حادث، أو زال باعث، تيقظ المحب للحال، ورجع إلى جهاد الجمال، مستعطفا برجعته، ومستعذرا عن غفلته، ويستسمح عما مضى، ويستبيح عوض الرضا، وهكذا يرجع بعد نفاره، ويقع بعد فراره. وعلى هذا الحال، قلت هذا المقال:
رجع المحب إليك بعد سلوه
ودنا يروم رضاك بعد عتوه
صب رأى برجوعه كل المنا
وكذا رقى كل العلا بدنوه
وغدا وضيع النفس بعد علوها
وهوى على قدميك رغم سموه
والله ما بالغت بالإعراض لو
لم يدع ذلك منك فرط غلوه
وإذا غضبت فلم يكن غضبي سوى
ثورات هذا الحب حال نموه
لم يخل منك وعنك لم يك معرضا
قلبي فإن إليك كل حنوه
شجر الحياة وفيه حبك قد جرى
مجرى الحياة فلم أعش بخلوه
لا يألف السلوان صب دأبه
يلفيك في آصاله وغدوه
عودت خاطره الضجيج على المدى
يهواك حتى زال كل هدوه
فإذا ثنته عنك فترة صدفة
وارتد بعد علمت بعد سلوه
فإليك يدنيني الهوى بدنوه
مني ويقصيني الرجا بعلوه
عادى الرجا قلبي وصادقه الهوى
فاحتار بين صديقه وعدوه
حال البغض
البغض خصم الصلاح، وعدو الاصطلاح، وحليف الفساد، وأليف الاضطهاد، ومنجل الخير، ومحراث الضير، فهو الداهية الدهما، والبلية العظمى، حيثما وجد وجد الشر، وأينما تحرك تحرك الضر. وهو إما خلقا وإما تخلقا، فإذا كان خلقا دعي البغض الغريزي، ويكون صاحبه باغض الناس، في كل لباس، فيبغض عموم البشر، ويشتهي لهم كل ضرر، فلا يصادق صديقا، ولا يرافق رفيقا، ولا يواخي ولا يخاوى، ولا يداني ولا يداوى، وإذا استعطف نفر، وإذا استلطف نهر، وغمغم وزجر ، وإذا حولف مان، وإذا عوهد خان، وإذا وعد أخلف، وإذا قال أجحف. وهكذا فذو البغض يكون من الكل مبغوضا، ومن نفسه مرضوضا، فيستنزل عليه لعنة الجميع، ويستجلب إليه مقت الرفيع والوضيع، إذ يصبح هملا مهمولا، وسقطا مرذولا، ويغدو ذكره عارا، واسمه شنارا، ينفر منه الجنان، وتقشعر الأبدان.
وإذا كان البغض تخلقا إنما يدعى البغض الاكتسابي، وهو يكون نتيجة غيره من الصفات، كالكبرياء والحسد، والغضب والحقد. فالمتكبر يبغض الذوات، والحسود يمقت الخيرات، والغضوب يبغض الرضوان، والحقود يمقت الغفران. وقد يكون هذا البغض أثر خلف في دين النفس، وافتراق في النوع والجنس، أو أثر وفاق الأعمال، واتفاق الأشغال، فيستنهض أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وبه يردي الزارع بالزارع، ويودي الصانع بالصانع، ويفتك التاجر بالتاجر، ويضر الآجر بالآجر، وتثور العلماء على العلماء، وتهب الشعراء على الشعراء. وهكذا تنهش هناك أنياب المثالب، وتنشب مخالب المسالب، وتسعى أفاعي الضغن، وتزأر وحوش الفتن، فينثل عرش الانتظام، ويتقوض ركن الانضمام، حتى يهبط كل عمار، ويتشيد كل دمار. فلا ريب أن البغض، آفة الكل والبعض.
حال الجمال
الجمال هبة إلهية، ومنحة طبيعية، فهو مشهد يلذ الناظر، ويروق الخاطر، ويستميل الجنان، ويشغل الأذهان، ويستفز التحبيب، ويستثير التشبيب. فحيثما لاح علقت الخواطر، وعشقت النواظر، وأجله ما سلم من الصناعة كليا، وكان جمالا طبيعيا، فلا ينزل التبليج منزلة البلج، ولا يقوم التزجيج مقام الزجج، ولا يحل التكحيل والتدعيج محل الكحل والدعج، ولا يظهر التوريد مظهر الورد، ولا يبرز التنهيد بروز النهد. وهذه الصفات الباهية، تغلب في البادية:
البدوية
سقى الجانب الشرقي من حلب الشبها
غمام حمى من شهب ذاك الحمى الشهبا
وحيا الحيا تلك الربوع وجادها
فلا وجدت جدبا ولا عدمت خصبا
ولا برحت تلك المروج زبرجدا
ولا زال ذياك الندى لؤلؤا رطبا
هناك من الأعراب لي بدوية
غزت بالعيون الترك والعجم والعربا
مهاة أبت إلا السراح مع المها
فتوحش من حاب وتونس من حبا
لها في فواد الصب مرعى ومرتع
ولو رتعت في البيد أو رعت العشبا
غناها بياض الجيد عن بهجة الحلى
وعن حسن ماء ماء حسن أبى النضبا
فما وردت خدا ولا بيضت طلى
ولا حمرت ثغرا ولا سودت هدبا
ولا جعدت شعرا ولا صقلت يدا
ولا عرضت ردفا ولا ضيقت جنبا
فقد دبج الرحمن ألوان حسنها
وقد نحتت أيديه قامتها العجبا
ترائب ساج تحمل الصبح لا الحلى
وأرساغ عاج تلبس القلب لا القلبا
ونسرين وجه لا يحول بياضه
وإن يستحل وردا فذا إن رأت صبا
أضاربة في مهجتي مضرب الهوى
عليك به لا بالقلا فهو لا يسبى
وضاحكة والرفق أنت بمدمعي
فديتك من ضحك ولو زدتني كربا
وبادية في طلعة بدوية
يروح لها دمع الحضارة منصبا
فما خضبت منك الخدود وسادة
ولا نظرت مرآتك الصبغ والخضبا
ولا شربت عيناك أدمعها ولا
أبت شفتاك الحمر في محضر شربا
وما اعتضت عن ردف بقوس وعن
ثدى بحشو ولا أوقعت في وجهك الكذبا
جمال طبيعي حوى كل بهجة
ولطف بديهي سبى العقل والقلبا
وللجمال سطوة كاسر، وهيبة أكاسر، وحكم صائل، وسودد طائل، يذل الكرام، ويعز اللئام، ويخفض الكبير، ويرفع الصغير، أينما لاح خطف الأبصار، وأخذ بالأفكار، فترتعد لديه الجوارح، وتهتز منه الجوانح، وتكثر الدموع، ويقل الهجوع. وأيان تملك كانت فرايضه الآلام، وجزيته الأسقام، وأوضاعه الوساوس، وشرائعه الهوادس، فهو ملك ظلوم، وبطل هجوم، يطلب على الكل السيادة، ومن الكل العبادة؛ ولذلك لا يفتر ثوران القلب عليه، ولا ينكف عجيج الخواطر لديه، مع أن دولته أقصر من يوم الفرح، وزواله أسرع من مرور الشبح، فما هو إلا عرض مفارق، وطيف طارق.
سطوة الجمال
للحسن حكم لا يرد وسودد
يغزو القلوب وما على يده يد
فإذا بدا برق الجمال لذي الهوى
لم يبق فيه سوى فواد يرعد
سبحان من خلق الجمال فإنه
ملك لديه كل قلب يسجد
كن يا فواد على الصبابة ثابتا
فلكم بها من لذة تتجدد
واخضع لأحكام الغرام ولا تطع
حكم العذول فإنه لا يحمد
وإذا الفتى ما ذاق آلام الهوى
لم يدر لذات الهوى إذ توجد
لا بد من ألم يضيم ولذة
عرضان بينهما الجواهر تفسد
طعنت فوادي قامة ودمي به
طرف فذي رمح وذاك مهند
كبدي بنار الحب قد ذابت ولا
عجب فكم في الحب ذابت أكبد
غلب الغرام علي حتى أنني
أبغضت عيشي وهو عيش أرغد
لا أبتغي صبرا على ألم الجوى
فالصبر يسلب همتي ويبدد
أفريدة الأوصاف رفقا بي إذا
غلب الهوى فأنا المحب المفرد
كم في الطبيعة من عجايب جمة
لكن أعجبها بوجهك يوجد
لك طلعة غراء قد نفت الكرى
عني فويح نواظر لا ترقد
لا تنكري في الحب طول تسهدي
فالبدر يشهد لي به والفرقد
لم يحل غيرك لي فمهما تأمري
أفعل فإني بالهوى مستعبد
إني سجدت لشمس حسنك فاسجدي
بتقى لنار هوى بقلبي توقد
فأنا إله العشق جئت مولعا
بك يا إلهة الحسن وهو الأمجد
لك في الهوى قلب كقلبي واجد
وعليه يوم الشمل عينك تشهد
قلبان منا يخفقان على اللقا
والشوق بينهما يقوم ويقعد
فخفوق قلبي مكمد ومصفر
وخفوق قلبك مبهج ومورد
ومن ذلك:
ملكت فوادي ربة الحسن البديع
والحسن سلطان يصول على الجميع
تلك التي إعراضها أبدى الخفا
مني بدمعي وهو ضمن خبا منيع
عذراء عودها النفار تدللا
أبدا وعودني مداومة الخضوع
وإذا الفتى هوى الملاح تهذبت
أخلاقه وغدا أخا طبع وديع
واليوم إني قد هويت بديعة
فاقت محاسنها على القمر الرفيع
غرس الجمال بخدها ورد الصبا
وأجل فوق جبينها ورد الربيع
يا عاذلي ذر عنك لومي إنني
قد ضقت ذرعا بالمحبة والولوع
حتام أنت تلومني بهوى التي
لعيونها ضعفت قوى الأسد الشجيع
يا من أشعة حسنها اندفعت إلى
عقلي وكان القلب زاوية الوقوع
لا تحجبي أنوار ذاك الجيد عن
عيني فكم حلته من درر الدموع
بالله ما هذه القساوة والقلا
شردت صبري والهوى ملء الضلوع
لا تسمعي مين الوشاة فكم وشوا
بك يا ضيا عني ولم أك بالسميع
ذو الحب لا يثنيه عن محبوبه
واش ولا عذل أتاه من الجميع
فبحق قتلك بالصدود أخا الهوى
عن أي شيء جئت بالهجر المريع
هل عن دلال أم ملال أم قلى
أم رمت تجربة لعبدك ذي الخضوع
أوتجعلين الهجر تجربة لمن
يقضي به حاشاك من هذا الصنيع
لا تحسبي أني سلوتك منيتي
كيف السلو وما لجفني من هجوع
قسما بنهدك والترائب واللما
لم أسل طلعة ذلك الوجه البديع
فكفاك ذا الهجران للصب الذي
غادرته بهواك ملقى كالصريع
من بالهوى خلع الحياء وعافه
خلع الحيا في وقته شأن الخليع
جودي على هذا القتيل بنظرة
يحيا بها من ذلك الوجه اللميع
لما رأت ذلي لها وتخشعي
ضحكت وقالت ما ورا هذا الخشوع
إن كنت تصدق بالمحبة يا فتى
فاصبر على هجر الحبيبة بالقنوع
فعساك تحظى بالوصال وربما
قلبي الرفيع يرق للصب الوضيع
ذو العقل لا يك مسرعا بمسيره
في كل شوط يا أخا القدم السريع
والشمس في راد الضحى تمشي على
مهل وتسرع في المغيب وفي الطلوع
فأجبتها والله إني صادق
بالحب ما لي عن ودادك من رجوع
إن الهوى مثل الهواء زحامه
من كل ناحية بقلبي والضلوع
ولا يحسن جمال الذات، على قبح الصفات، على أن جمال المخبر، قبل جمال المنظر، وحسن الطباع، قبل حسن الرقاع. فلا يروق الناظر بياض المحيا إذا ساه سواد العمل، ويضحك بياض السجايا على سواد الكحل، وهل يطيب ورد الوجنات على شوك الحركات، وجودة الأسنان على خبث اللسان، وفصاحة الألحاظ على ركاكة الألفاظ، وحسن المباني على سوء المعاني، فلا جمال قبل الكمال، ولا أقوال قبل الأعمال.
دع رونق الخلق وانظر رونق الخلق
حسن بلا أدب زهر بلا عبق
وأعشق بياض المزايا والصفات ولا
تحفل بعشق سواد الشعر والحدق
فهل يروقك ثوب لاق منظره
يوما إذا كان مصنوعا من الورق
إليك عني جميلا لا جميل له
إن روح العين أبقى القلب في قلق
هيهات ينطق قلبي بالغرام على
حسن أصم بلا حس ولا نطق
إذا اقتصرنا على عشق الجمال فكم
لفينس صنم مستوجب العشق
والخمر للعين تحلو منظرا وإذا
لم تحل فعلا فللتهويع والحرق
وكم قدود بدت كالنحل في سعة
وضيقة وهي عظم قام في خرق
هياكل من عظام لا لحوم لها
تلحمت بجلابيب ولم تطق
حال الحيوة
الحيوة مصدر يشتق منه نظام الأكوان الطبيعية، وأصل تنبعث منه حركات الكاينات العضوية، إذ به تحفظ الجامدات نواميسها وشرايعها، وتحرس الناميات أشخاصها وطبايعها، فهو التثاقل والتبادل للأجرام السماوية، والنمو والتغذية للأكوان الآلية، والحس والانتقال للخلايق الحيوانية، والإشعار والإدراك للطبيعة الإنسانية. فبالحياة يدخل المتحرك في العلاقة مع المحيطات الأجنبية ويستبضعها أغراضه الحيوية. فبقدر الإدراك تتسع الشقة، وبمقدار الإشعار تعظم المشقة. ولما كان الإنسان جامعا كل الإدراك والإشعار، كان أعظم حامل لأثقال تلك الآثار، وهكذا تكون حياته حية عليه، ووجوده عدما لديه، حتى إذا ما بلغ حد الانصرام، رأى ذاته خيالا مر في ضغث الأحلام، على فراش الأوهام. أما بناء حياة الإنسان، إنما يتوقف على أربعة أركان، وهي: العمل والملل والصحبة والأمل.
العمل
كل يعمل لحث راحلته، ولكل عمل على شاكلته. فلما انتقل الإنسان من الوحشية إلى الإنسية، ومن الطبيعية إلى الأدبية، أثبت له ذلك الانتقال، وجوب الأعمال، ونادته الجماعة حي على التعامل، فمن لا يوثر أن يعمل لا يأكل، فاندفع كل إلى الخبط في مهنته، والغوص في حرفته، فذهب يعارك الجامدات كل كتيف، ويباشر الصنايع كل خفيف، ويمارس العلاقات كل عليل منقطع، ويتاجر بالبضايع كل كليل مبتدع، ويستقصي الموجودات كل دقيق مخترع. وهكذا قد انخرط الجميع في سلك الارتباط، وغرق الكل في لجج الاختباط، فكل طاير على أجنحة الطيش، ليقطع آفاق العيش، فترى البعض يشكو الكلل، والبعض يندب الملل، وهذا يتوجع في التعب، وذاك يتفجع من الوصب، فأعين تبكي من العسر، وأفواه تضحك من اليسر، والزارعون يتمحلون بشح الجدب وعليه يأتمرون، أو يتبحبحون بسح الخصب فيغتبطون به ويتطوبون، والصانعون يستنظرون الطلب فيحمدون الشبع أو يذمون السغب، والتاجرون يحشرون البضايع ويرقبون الطلايع ويعومون في السوق، ويغرقون في الصندوق، ويرصدون أفلاك الدواير، ويرتصدون طوالع الدفاتر، فكم أخطأت استهم الحفرة، ولم يصب سهمهم الثغرة.
الملل
وبينا يكون الإنسان لاهيا عن نفسه بأعماله، ومشتغلا عن رمسه بأشغاله، يداهمه شيطان الملل، ويوسوس في صدره عند كل عمل، وربما يغلب عليه هذا الروح، حتى يغدو نديمه في الغبوق وفي الصبوح، وسميره في الهجر والوصال، ورفيقه في الحل والترحال، فأينما رحل رمح أمامه، وأيان حل كان خيامه، وحيثما لفت وقف قدامه. وهكذا يكون الملل ألما في الملذات، وغما في المسرات، وترحا في الأفراح، وفرحا في الأتراح، فهو حادي الأجل، وشادي الوجل، وابن الأعمال، وأبو الآمال.
الأمل
وإذ يكون الإنسان ساقطا تحت ثقل الملل، وهابطا في وهدة الوجل، تبسط له الآمال يد الخلاص، وتلقي له الأوهام حبال المناص، فيضجع على سرير الأحلام، ويضرب في وادي الأوهام، فيصعد بفكره من غرفة إلى غرفة، وينتقل من حرفة إلى حرفة، ثم يرتقي من صغرى إلى كبرى، ومن نتيجة إلى أخرى، حتى يبلغ من غناء إلى غناء، ومن سناء إلى سناء، ولم يزل إلى أن يرى ذاته مالكا كل الأشيا، وسلطان كافة الدنيا. وفيما يكون طاير فكره حايما في تلك الذروة، ومفردا بهاتيك الثروة، ينقض عليه باشق البطلان، ويرجع به إلى حيث كان، فيغيب عنه كل خيال، وينغلق دونه مرسح الآمال، فكلما ذهب أمل جاء أمل، وكلما غنت خيبة رقص وجل، وعز الدهر وجل. وبالآمال يعيش الإنسان، وبالأوهام تحيا الأذهان، ولكل سن مأمولات، وعلى كل مأمول مقولات. أما الأمل فهو تسلية الإنسان، وتعزيته في الأحزان والحدثان، وحلاوته عند الزعاق، وغناه يوم الإملاق، ويسره في العسر، وكسبه في الخسر، وسميره وأنيسه، ونديمه وجليسه، ولا تفرط سلسلة الأمل، إلا في بيت الأزل.
الصحبة
لما كان ليس يحسن أن يعيش الإنسان وحده، اتخذ له امرأة تكون عونه ورفده، فيخدمها في العيال، ويستخدمها في البعال، فالمرأة خير الأصحاب، وأطيب الأحباب، ولا تطيب الحياة إلا بها، ولا يصحب سرور إلا باصطحابها، وهي الشريكة في تقويم الحياة الطبيعية، والرفيقة في تثبيت الحياة الأدبية. فإذا كانت صالحة كانت فخرة لأهلها، ونعمة لبعلها، وأساسا لدارها، ومركزا لمدارها، وتهذيبا لذويها، وتأديبا لبينها، وغنى في الإقلال، وراحة في البلبال، وسترا للطالحات، وكشفا للصالحات. وإذا كانت شريرة إنما تكون ذلا لأهلها، ونقمة لرجلها، وزلزلة لدارها، وزعزعا لمدارها، وشكا لذويها، وعثرة لبنيها، وفقرا في الغنا، وغما في الهنا، وفضيحة للمعايب ونميمة ومثالب، وهذرا ومذر، وغمزا وشذر، وانتقالا من وحلة إلى طمس ومن رذيلة إلى دنس، فهي تناجي بأرماز الميل، وتحاجي بألغاز الليل، حتى إذا ما جاشت فأجهشت، وبشت فهشت، رجعت مخادعة بلحظ يغزل رموزا، ومخادنة بقلب يحيك نشوزا، فمخفوض ينصب شراكا، ومقصور يمد شباكا، فتكون شر الأصحاب، وأخبث الأحباب، إلا للباغي والطارق، واللاغي والمارق. ومن شأن الإنسان الميل إلى الأصحاب، والولوع بالاصطحاب، ليتأسى في الشدة، ويستأنس في الوحدة، على أنه لا يستطيع اللبوث على الانفراد، والقرار في الأمور الشداد.
فمن الأصحاب الصاحب الوفي، وهذا يكاد ألا يوجد لشدة ندارته، فهو الموافي في الشدايد، والموالي في العوايد، والمقترب في الابتعاد، والمصلح في الفساد، والصافح في الذنوب، والسامح في العيوب، والمسعف لدى الاقتضاء، والمعين في روع القضاء، والثابت على كل اضطراب، والراسخ في كل انقلاب.
ومنهم الصاحب الغرضي، وهو من يصحب لغرض متى بطل بطلت صحبته، وربما انقلب إلى عدو مبين، وداء دفين، فيرتد على صاحبه بالأضرار، وبإذاعة الأسرار، ليهتك كل ستر مسدول، ويمزق كل حجاب مسبول، فيثلب ويتم، ويقدح ويذم، حتى يكون فمه مملوا مرارة ولعنة، وقلبه ينقلب على ضغينة ونقمة. فحذار حذار، وبدار بدار.
وقد قيل:
عدوك من صديقك مستفاد
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
يكون من الطعام أو الشراب
وربما أعقبت ألفة زوال أغراض، وقام جوهر عقب أعراض، فيتلو ذلك صحبة جديدة، وتنشأ صداقة حميدة، إلى أن ينقلب القلب العديم الثبات، ويغفل الود الكثير السبات.
ومن أصحاب الأغراض يوجد المملق، والراهن، والمطرئ، والملاسن، والناصح بالأباطيل، والهادي بالأضاليل، والساعي بالخير على قدم الشر، والمهم بالنفع على همم الضر. ومنهم الصاحب البسيط، وهو من لا يفي ولا يخون، ولا يهتك ولا يصون، ولا يحب ولا يبغض، ولا يقبل ولا يرفض، فلا يتقاعس ولا يحفل، ولا ينشط ولا يكسل، ويتوجه حسب البواعث، ويتحادث طبق الحوادث، فلا تهمه حضرة ولا معاينة، ولا تمضه غيبة ولا مباينة، فهو يصلح للمنادمة والمجالسة، والمفاكهة والمؤانسة، على أنه نعم نديم مسامر، وخير جليس محاضر.
فهاك حياة الإنسان، وما فيها من الأركان، هذا عدا ما يتخللها من العاهات والأسقام، والهموم والآلام. على أن الحياة هي عرضة المصائب والبلايا، وغرض المتاعب والرزايا، حتى يكاد أن يكون وجود اللذة في عدم الألم، وحصول النعم في زوال النقم. وربما كان أعظم اللذات طليعة لهجوم الحسرات، ونذيرا يهتف بالمضرات.
غرور الحيوة
أهذه حياتي بئس عمري وأيامي
عذاب هموم في عذوبة أوهام
وما هي لذات الحياة وكلها
بكور خطوب أو أصائل أسقام
يروم الفتى نيل الرجا كلما ارتجى
وطالب معدوم كطالب إعدام
سريع وقوع ظن أن مطيره
يدوم فغنى كالسهام من الرامي
فما هو إلا الخلد يبصر عندما
يموت وفي ريع الحياة هو العامي
أرى الناس في الآمال غرقى وكلهم
سيمضون أشباحا بأضغاث أحلام
فما هذه الدنيا لدى عين خبرتي
سوى مرسح والكل يلعب قدامي
نعم مرسح لكن وراء ستاره
تساق البرايا للفنا سوق أغنام
عناصر في دور الوجود تسلسلت
فتنحل من جسم لتركيب أجسام
هو الموت يلوى فاه كي يمضغ الملا
وفي جوفه لم ينهضم غير أعوام
تسير بنا الأيام وهي تضلنا
مسير لميع الآل بالتايه الطامي
فما خلق الإنسان إلا لجعله
على هذه الدنيا ملاعب أحكام
فتخرجه الدنيا ليسعى لها بها
خروج بخار السفن من بحره الطامي
ومهما أذاع المرء ضوضاء نفسه
فما ذاك إلا رعدة بين آكام
وليس يعيش المرء إلا لغيره
ولا يجهدن القوم إلا لأقوام
يذب الفتى عما له بيد أنه
يذوب مداسا تحت أرجل أيام
وتحمي من اللثم المليحة وجنة
سيأكلها في حفرة دود إعدام
تخالفت الأطوار بين الملا على
طريق البلى والكل يجري بإلهام
فذاك أخو بؤس وذا ذو هنا كذا
هناك صفا عرس ونوح هنا دامي
فيا خطة خطت على كل خاطر
سطور ملذات بأقلام آلام
ويا فلتة قد طيشت كل ذي نهى
وهبت بأذهان وطارت بأفهام
عقول حيارى في الوجود وأعين
سهارى وأرواح سكارى بلا جام
فصبرا بني حواء صبرا وإنني
أقول لكم صبرا ولا صبر قدامي
حياتكم موت زوام وموتكم
حياة وما أعمالكم غير آثام
وما حظكم في الأرض غير العنا وما
حقايقكم إلا عوارض أوهام
صحبت بني الدنيا فلم أر عندهم
سوى نفق ساعات على جمع أرقام
وفي صحبة الأرواح مدرسة يرى
جهولا سوى فهامها كل فهام
حال الموت
الموت خاتمة كل الأحوال، ونهاية الأعمال والآمال، فلم تزل الفواعل الطبيعية، تصادم مجال الحركة العضوية، ولم تبرح الأكوان الخارجية، تعارض مجرى الأعمال الحيوية، حتى ينقطع الواصل، ويتفرغ الحاصل، إذ يكون الظاهر عاث بالباطن، وعبث الراحل بالواطن، فينحط الركن العضوي، ويندك الوطد الحيوي، حتى إذا ما تغلب التحليل على التمثيل، وترجح التفصيل على التوصيل، بطلت عوامل الإحساس، وهبطت صواعد الأنفاس، وسكتت ضجات الأفكار، وسكنت حركات الأبصار، ولم يعد في الذهن تمثال، ولا في اللسان مقال، إذ يبرقع العدم محيا الوجود، ويطفي الخمود أعين الوقود، ويضرب السكون هام الحراك، ويصفع السدر قزال الإدراك، وهكذا تستولي ظلمات الحتوف، وتنجدع شوامخ الأنوف، فلا سيف هناك ولا نجاب، ولا تبهنس ولا إعجاب، حيثما يبتلع الكل فم القبر الفاغر، ويهضم الجميع جوف التراب الداغر، فهناك تنخذل الرءوس المترقية، وتعفر الوجوه المتنقية، وتغور العظمات، وتمور الكرامات، ويتمزق البرفير والأرجوان، وينكسر كل قضيب وصولجان، وتتساقط الأكاليل والتيجان، فترى الأرامس تنطبق على القصور، والسرادق تنطوي في القبور، والتابوت يحمل المعركات، والدركات تعلو على الدرجات. هناك تسكت ضوضاء النفوس، وتخرس رنات الكئوس، وينتثر عقد الأعمال، وتنفرط سلسلة الآمال، وترد جوامح الجوانح، وتصد طوامح الجوارح. هناك يروي الجمود عن الهيبة، وتضحك على الشهود أفواه الغيبة، وتبكي على المطامع عيون الخيبة. هناك يقبح منظر الجمال، وينقص كل كمال، فيسيل على ورد الخدود كافور المنون، ويأخذ سكون الموت بحركات العيون، وينشمر الأقنى، وينشدق الألمى، ويكفهر الأسنى، حتى يعود اللطيف كثيفا، والظريف مخيفا، والأنيس وحشيا، والجليس سئيا، والمعشوق مهجورا، والصديق مغدورا. هناك تسلو العشاق، وينفر المشتاق، ويتقاعس الطالب، ويقشعر الراغب، ويسبك الكل في قالب النسيان، ولا يعود يذكر الإنسان، وهكذا يسترجع الجماد إلى حوزته، ما استعاره الحيوان في عوزته.
خاتمة الكتاب
في الحقيقة
الحقيقة معلوم وجودي، أو تصديق تصوري، وكل حقيقة لا بد من كونها إما أولية، أو قضية. فالأولية هي حكم لا يحتمل الرد، والقضية هي حكم يحتمل القبول أو الرد. فإذا قلنا القمر جرم إنما يكون ذلك أولية لعدم احتماله الرد، وإذا قلنا القمر مسكون إنما يكون ذلك قضية لاحتماله الرد إذ لا يوجد حجة قاطعة.
والحقيقة تنقسم إلى طبيعية وأدبية. أما الحقيقة الطبيعية فهي أمر ثابت الوجود في نفس الطبيعة، أو متجدد بين حوادثها، كثبوت وجود الشمس وتجدد حصول الفصول. أما الحقيقة الأدبية، فهي أمر وهمي يوخذ على التصورات العقلية وحوادثها، أو عن شرايع النظام البشري، كحقيقة نفع العلم وضرر الجهل.
والحقيقة الطبيعية تنقسم إلى أصلية وفرعية، وفاعلية وانفعالية، ولازمة ومتعدية، وذاتية ونسبية، وآلية وعضوية، وجوهرية وعرضية.
والحقيقة الأدبية تنقسم إلى وجودية، وعدمية، وأصلية، وفرعية، وحقيقية، ومجازية.
في الحقيقة الطبيعية الأصلية
إن الحقيقة الطبيعية الأصلية هي معلوم يستمد حكمه من أصله الطبيعي. وذلك كما إذا قلنا: المغناطيس يجذب الحديد، والهواء يحمل الصوت، والعصب آلة الحس. فإن جذب المغناطيس للحديد وحمل الهواء الصوت والعصب للحس هي حقايق طبيعية أصلية لعدم استمداد أحكامها من غيرها، فتأمل.
في الحقيقة الطبيعية الفرعية
إن هذه الحقيقة هي عكس المتقدمة لكون حكمها مستمدا من غيرها، أي من حقيقة أصلية. وذلك كما إذا قيل: لا تميل الإبرة إلا إلى الجنوب، ولا صوت في عدم الهواء، وإذا انفلج عضو بطل حسه. فإن هذه الحقايق تدعى فرعية لكون أحكامها مستمدة أو متفرعة من الحقايق الأصلية المتقدمة، وهي وجود كثرة المغناطيس في القطب الجنوبي، وكون الهواء يحمل الصوت، والعصب آلة الحس، فتبصر.
في الحقيقة الطبيعية الفاعلية
الحقيقة الطبيعية الفاعلية هي معلوم متى ذكر أحدث في الذهن صورة معلوم طبيعي آخر لوجود علاقة فعلية بينهما. كما إذا قيل: الحرارة تذيب، أو الخمرة تفرح، فإن ذلك يستوجد في الذهن حصول صورة جسم يذوب ونفس تفرح. على أن الإذابة والتفريح أفعال تستوجب لها مفعولات يدركها الفهم من طبيعة الفعل نفسه، وقس على ذلك.
في الحقيقة الطبيعية الانفعالية
إن هذه الحقيقة هي عكس المتقدمة لأنها معلوم متى ذكر أقام في الذهن صورة حقيقية فاعلية لوجود تلك العلاقة الفعلية نفسها. وذلك كما إذا قيل: الأرض مستنيرة، فإن ذلك يحدث في الذهن صورة الجرم المنير لها. وهكذا في قولك: الثمر مأكول، والزهر مشموم، ونحو ذلك.
في الحقيقة الطبيعية اللازمة
إن هذه الحقيقة الطبيعية اللازمة هي معلوم يستقر حكمه في نفسه بدون أن يتعدى إلى غيره لانقطاعه عن كل صلة أجنبية. كقولك: جبل عال، وواد عميق، وماء جار، وصخر جامد، فكل ذلك حقايق طبيعية لازمة، لا يدخل في قيامها أشياء أخر، وأحكامها مستقرة فيها.
في الحقيقة الطبيعية المتعدية
إن الحقيقة الطبيعية المتعدية هي معلوم يدخل في حكمه أمور أجنبية عنه، بحيث لا يمكن قيامه بدون اتصاله إلى غيره، وذلك إما بأداة أو بغير أداة. فالحقيقة المتعدية بأداة هي كقولك: السحاب مخيم، والنهر حايل، والجذب وسيط، فإن تخييم السحاب يستوجب أشيا يقوم عليها ويتم بأداة الاستعلا، وهكذا النهر الحايل يقتضي موضوعات يحول بينها ويتم بأداة الفصل، وكون الجذب وسيطا يلزم كونه واسطة لجمع الأجسام المتفرقة ويتم ذلك بأداة ذهنية وهي الربط أو الضم. وعلى ذلك تعرف كل حقيقة متعدية بالأداة. وما يتعدى بغير أداة أي رأسا هو كقولك: سم قاتل، فإن القتل يتوجه من الفاعل إلى المفعول رأسا بغير واسطة، فتأمل.
في الحقيقة الطبيعية الذاتية
إن الحقيقة الطبيعية الذاتية هي معلوم يأخذ حكمه من ذاته لا بالنسبة إلى غيره، كما إذا قيل: الأرض كروية، فإن الحكم بكروية الأرض قد أخذ من ذات شكلها، من دون وجود أدنى نسبة.
في الحقيقة الطبيعية النسبية
إن هذه الحقيقة هي عكس المتقدمة لأنها معلوم يأخذ حكمه بالنسبة إلى غيره، وذلك كقولك: أشرقت الشمس وأغربت، فإن شروق الشمس أو غروبها إنما يتم بالنسبة إلى حركة الأرض على محورها بحيث لولا هذه الحركة لما حدث شروق ولا غروب؛ لكون الشمس تعتبر ثابتة على مركز دايرة البروج، وما يدور من الشرق إلى الغرب إلا الأرض على محورها؛ ولذلك فالمسير اليومي للشمس إنما هو حقيقة طبيعية نسبية، وقس على ذلك.
في الحقيقة الطبيعية الآلية
الحقيقة الطبيعية الآلية هي كل معلوم يحتوي في طبيعته عمل الآلات الصناعية، وهذه الحقيقة تقوم إما بالإسناد، أو بإضافة السبب إلى مسببه، أو بنعته به، أو بغير وجوه. كما لو قيل: الكهرباء ممزقة، أو زلزلة كهرباء، أو تكسير كهربائي. فلما كانت الكهرباء تحوي في طبيعتها هذه الأعمال الآلية، وهي التمزيق والزلزال والتكسير، كان كل من تلك الأمثال حقيقة طبيعية آلية.
في الحقيقة الطبيعية العضوية
إن هذه الحقيقة هي كل معلوم يؤخذ من حصول مؤثرات وتأثيرات بين الطبايع العضوية، وذلك كما إذا قيل: الخمر مهيج، والأفيون مسكن، والنور منبه. فإن كل ذلك تراه حقايق طبيعية عضوية، مأخوذة مما يشاهد من تأثير طبيعة الخمر على طبيعة الأعضاء بالتهيج، وهكذا الأفيون والنور بالتسكين والتنبيه. وعلى ذلك تجري كل حقيقة طبيعية عضوية إما بالإسناد كقولك: الخمر مهيج، أو بالإضافة كقولك: تسكين الأفيون، أو بالوصفية كقولك: تنبيه نوراني، أو بغير وجوه.
في الحقيقة الطبيعية الجوهرية
إن الحقيقة الطبيعية الجوهرية هي كل شيء يقوم في ذاته بدون أن يكون عارضا عن غيره، وذلك كما إذا قيل: هذا ذهب، فإن الذهب جوهر قايم في ذاته غير عارض عن شيء آخر، وهكذا في قولك: إنسان، وحيوان، وشجر، ونحو ذلك.
في الحقيقة الطبيعية العرضية
إن هذه الحقيقة هي كل أمر يعرض عن غيره ولا يكون موجودا بذاته، فيكون عكس المتقدم. وذلك كالثقل والبرودة والظلمة، فإن الثقل ليس له وجود ذاتي في الطبيعة بل هو أمر يعرض عن جاذبية الأرض للأجسام التي على سطحها، وهكذا البرودة والظلمة، فالأولى تعرض عن ذهاب الحرارة، والثانية عن ذهاب النور؛ ولذلك فالثقل والبرودة والظلمة هي حقايق طبيعية عرضية.
كلام على ما تقدم
لما كان مدار الحقايق الطبيعية يقوم على المعلومات الوجودية الخاضعة للإدراك الحسي والعقلي، كانت منزلتها أعلى من منزلة الحقايق الأدبية التي لا تدور إلا على التصديقات التصورية الخاضعة لأحكام العقل الهفوي وأوهامه بدون علاقة مع أحكام الحس المعصوم. وهكذا فالحقايق الطبيعية تشتمل على الصحة والقبول بديهيا غير محتملة ما تحتمله الحقايق الأدبية من النضال والجدال والقبول والرد، فلا يسع العين إنكار وجود النور، ولا تحتمل الأذن جحد رنين الأصوات، ولا يمكن الشم رفض وجود الروائح، ولا يطيق الذوق نفي الطعم، ولا يستطيع اللمس جهل الملموسات؛ ولذلك فأصحاب الحقايق الطبيعية لا يختلفون في أحكامهم إلا عرضيا لأنهم لا يأخذون أحكامهم إلا من طبيعة المحكومات الراهنة، ولا يقبلون حقيقة ما لم تقم لهم الحجة على صحتها من نفس طبيعتها، ولا يبنون براهينهم إلا على المشاهدة والعيان، فتكون كل قضاياهم أوليات أساسية، بحيث لا يحفلون أصلا بما تحتفل به تصورات العقل وتبتدعه أغراض الأوهام.
ويدخل في مبحث الحقيقة الطبيعية كل الحقايق الحسابية والهندسية والمنطيقية والفوق الطبيعية، لثبوت أصولها ورسوخ قواعدها وصدق نتايجها المطردة، فإنه يستحيل ألا يصدق قولنا: ثلاثة في ثلاثة تسعة، وقولنا: حاصلا مضروب فيه متساو متساويان في خارج قسمتهما عليه ومتناسبان، وقولنا: حاصل ركني الوسط يعادل حاصل ركني الطرف في النسبة الأربعية الأركان. وقولنا في الهندسة: منفرجة وحادة تعدلان قايمتين، والمنحي يصنع قوس دايرة، والأقطار المارة من المحيط في المركز هي متساوية، ومن كل ضلع معلوم وزاوية معلومة يخرج مجهول. وقولنا في المنطيقية: المتناقضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. وفي الفوق الطبيعية: الله موجود، والنفس بسيطة، وكل الحقايق الدينية المدروجة في الوحي الصادق والمسنودة إليه فكل هذه الحقايق لها أن تدخل في مقام الحقايق الطبيعية لاشتراكها معها في الثبوت والرسوخ والصدق.
في الحقيقة الأدبية الوجودية
إن الحقيقة الأدبية الوجودية هي تصديق تصوري يستنتجه العقل من تصورات يستفيدها من الحوادث المخبورة والمسموعة، وذلك كحقيقة نفع العلم وضرر الجهل، فإن تصور العلم المستفاد من الخبرة أو السماع، وتصور النفع المستفاد منهما أيضا، يطبعان في الذهن تصور علاقة أدبية تضم النفع إلى العلم ضم المعلول إلى العلة، وهكذا يحكم العقل بكون العلم نافعا، ويكون حكمه هذا حقيقة وجودية أدبية. فقولنا حقيقة إنما هو لكون نفع العلم صحيحا، وقولنا وجودية إنما هو لكون هذا النفع موجودا، وقولنا أدبية إنما هو لكون هذه الحقيقة قد تولدت تصوراتها تولدا وهميا غير مشتمل على تماثيل حسية نظير الحقايق الطبيعية.
في الحقيقة الأدبية العدمية
إن حصول هذه الحقيقة هو عين حصول الحقيقة المتقدمة، ولكنها تختلف من جهة كونها مأخوذة عن حوادث كاذبة غير حقيقية، وذلك كحقيقة ظلم الدهر وإصابة العين، والارتباط ما بين أعمال الإنسان وحركة الفلك، وزوس اليونانيين وأبو هول المصريين وبرهمة الهند، وما شاكل ذلك. فإن كل هذا كان يعتبر عند أهله كحقايق وجودية صحيحة، مع أنه عدمي لا أصل له. فإن الدهر كلمة لا يوجد لها معنى لعدم دلالتها على شي وجودي؛ لأن الدهر ليس شيئا، وهكذا ظلمه، وكل الحوادث التي ينسبها الناس إليه إنما هم خليقون باستحداثها، فلا دهر إلا أعمالهم وشرايع هيئتهم. وهكذا في إصابة العين وهلم جرا، فإن العين موضوعة للبصر لا للإصابة، والفلك للأزمنة والأوقات لا للسعد والنحس، وزوس وأبو الهول وبرهمة آلهة لا وجود لها، وربما كانوا بشرا تألهوا على بشر.
في الحقيقة الأدبية الأصلية
إن مدار هذه الحقيقة يتوقف على مباد وأوضاع تنشأ عن أحكام الاتفاق أو صواب العقل، وذلك كقولك في الوضعيات: الكل أعظم من جزأيه، ومساوي المساوي مساوي، وكقولنا في الأدبيات: كل لسان بإنسان، وكل حال تزول. فالمثلان المتقدمان هما حقيقتان مأخوذتان عن صواب العقل، وأصليتان لكونهما منشأ حقايق فرعية كثيرة. والمثلان المتأخران هما حقيقتان مأخوذتان عن أحكام الاتفاق، وأصليتان لكونهما مقياس عدد وافر من الحقايق الأدبية. وقس على ذلك.
في الحقيقة الأدبية الفرعية
إن هذه الحقيقة تأخذ صدورها من الحقيقة المتقدمة لأنها تتفرع عنها، وذلك كقولنا: النهر جزء من البحر فالبحر أعظم منه، والحيوان كلي للإنسان فهو أعظم منه، وزيد مساو لعمرو وعمرو مساو لبكر فزيد مساو لبكر، وفلان يتكلم لسانين فهو يعدل إنسانين، وحال زيد في نعيم أو في شقا فهي تزول. فإن كل ذلك يدعى حقايق أدبية فرعية لأنه قد تفرع عن الحقايق الأصلية المتقدم إيرادها.
في الحقيقة الأدبية الحقيقية
إن الحقيقة الأدبية الحقيقية هي التي يعبر عنها بالإسناد الوضعي الحقيقي، وذلك كما إذا قلنا: الصدق ثابت، والكذب زايل، والقدح شر، والمدح خير، وزيد شجاع، وعمرو جبان، فجميع هذه الأمثال هي حقايق أدبية حقيقية إذ يعبر عنها بكلام وضعي لمعانيها، لأن إسناد الثبوت إلى الصدق هو إسناد حقيقي، وهكذا الزوال إلى الكذب، والشر إلى القدح، والخير إلى المدح، والشجاعة إلى زيد، والجبانة إلى عمرو، وقس على ذلك.
في الحقيقة الأدبية المجازية
إن هذه الحقيقة هي عكس المتقدمة؛ لأنها تقوم بالإسناد المجازي، أي بكلام غير موضوع لمعناه، وذلك كما إذا قيل: الصدق غالب، والكذب هارب، والقدح جلاد، والمدح صديق، وزيد أسد، وعمرو أرنب. فإن كل ذلك يدعى حقايق مجازية لاشتمالها على الإسناد المجازي بوجود وجه معنوي بين ركني الكلام، كالوجه الموجود بين الصدق والغلب وهو القوة، والوجه الموجود بين الكذب والهرب وهو الضعف، وهكذا فعل الصيت بين القدح والجلاد، والموالاة بين المدح والصديق، وكذلك حصول وجه الاستعارة المجازية بين زيد والأسد وهو الشجاعة، وبين عمرو والأرنب وهو الجبانة. وعلى ذلك تجري كل حقيقة تتضمن مجازا إسناديا أو استعاريا أو مرسلا، فتأمل.
ويدخل في هذه الحقيقة كثير من الحقايق التي تكون طبيعية لفظا وأدبية معنى، أو طبيعية المادة وأدبية الصورة، وذلك كقولي من قصيدة مطلعها:
دارت علي من الصفاح كئوس
وبدت لدي من الرماح شموس
بأبي كئوس هوى تطوف بها على
قلبي شموس دمى لهن نفوس
إلى أن أقول:
قسي فوادك ما استطعت فإن لي
سحرا يقود زمانه ويسوس
هذا فواد من حديد بارد
أبدا وذاك السحر مغناطيس
فهنا ترى في البيت الأخير حقيقة كل ألفاظها طبيعية محضا وأدبية معنى؛ لأن المراد هو عصاوة الميل المعبر عنها بفواد من حديد، والاستعطاف المعبر عنه بسحر من مغناطيس أي حسن البيان، والوجه في هذه الحقيقة هو الشبه الحاصل بين الحديد والقساوة وبين المغناطيس وحسن البيان، على أنه كما أن المغناطيس يجذب الحديد هكذا حسن البيان في التكلم يجذب الخواطر القاسية.
كلام على ما تقدم
إنه لما كانت الحقايق الأدبية مشيدة على التصورات والأوهام، أو على الصواب والاستحسان، أو على الحوادث الاجتماعية والمبادي العرفية، كان جوقها خاضعا لأحكام العقل عليها، وتصرف الزمان بها؛ ولذلك كان أغلبها يتقلب حسب تقلب أهواء البشر، ويتغير حسب تغير الظروف، وينتقل تبعا لتنقل الأزمنة والأجيال. وهكذا فإننا نرى كثيرا من الحقايق الأدبية التي كانت تعتبر قديما كحقايق صحيحة راهنة صارت تعتبر اليوم كخرافات وأراجيف. وكذلك يوجد من هذه الحقايق ما يختلف اعتباره بين البشر اختلاف أجناسهم ونواميسهم وأذواقهم، ومن هذه الحقايق ما يختلف مقامه اختلاف عقول الأفراد بأحكامها، فما يراه الإفرنج صحيحا يراه العرب عليلا، وما يراه الفرس صادقا يراه الغول باطلا، وما يحكم عليه زيد بكونه صوابا يحكم عليه عمرو بكونه خطأ. وهكذا فإننا نرى عددا وافرا من هذه الحقايق الأدبية قد صار سببا لكثير من الحروب بين البشر والفتن والقلاقل والبلابل والاضطهادات حتى ولكثير من الانقلابات والدثار والدمار.
وطالما نرى بين أصحاب الحقايق الطبيعية وأصحاب الحقايق الأدبية نزاعا وقراعا لا يفتران، على أن كلا من الفريقين يكافح ويقارع الآخر بأسلحة حقايقه ليستظهرها ويستنصرها، فهذا يهجم بقوات الطبيعة والهيولى، وذاك يهجم بقوى العقل والصواب، هذا ينقض بأجنحة المشاهدة والمعاينة، وذاك ينقض بأجنحة الاستقراء والاستنتاج. وخاصة حزب الحقايق العدمية، فإن إيقاد نيرانهم ضد حزب الحقايق الوجودية لا يفتر شراره، ولا يخبو أواره، ولا يزالون ساعين في تدمير معاهد الحقايق الوجودية وتهبيط كل مشاداتها لإيجاد المعدوم وإعدام الموجود، وحسبنا شهادة كل التواريخ على ذلك.
بيان
أنا على ما أنا من الخلق
باق على مذهبي وفي طرقي
أصون عرضي وإن نطقت فذا
بالحق فالحق لي يفي ويقي
ما لي عدو سوى الكذوب فلم
يزل عدوا لصاحب الصدق
لا أكذب الله أن لي شيما
تحمي فمي من شوايب الملق
فلا كبير سطا علي ولا
يد لها منة على عنقي
ولا تسابقت في المفاخر بل
سرت الهوينى وفزت بالسبق
ولا اشتريت الثناء من أحد
بالمال بل بالجهاد والأرق
ولا تقاعست قط عن طلب
لكن دهري علي في حنق
أسقي غروسي فإن أجد ثمرا
أقطف وإلا رضيت بالورق
والقنع للنفس راحة وغنى
فلا طماعية بلا قلق
هذي العنايا وهن بحر شقا
أخوض والناس أوجبوا غرقي
إن كان لي حكمة فلي همم
تسعى بها دون كل ذي حمق
أقول والقول في فمي لهب
يسطو على الأغبياء بالحرق
قوم يرومون قفل كل فم
لذا يلومون كل ذي نطق
يباركون انغلاق منفتح
ويلعنون انفتاح منغلق
سبرت أخلاقهم فليس لنا
إلا شقي يريك وجه تقي
يا أيها القاصدون غلق فمي
خبتم فهذا فم بلا غلق
هداي برق وجهلكم سحب
مهلا فلا برق غير منطلق
لدولة الحق سطوة قهرت
بالعزم أهل الصفاح والدرق
ليخفض الليل رفع رايته
فذاك جيش الضحى على الأفق
ليل فشا الصبح شهبه وإذا
ذي الشهب بهم كسين بالغسق
إيضاح
دارت على هممي هموم عداتي
وجرت على كلمي كلوم وشاتي
هذا عدو بانكسار ذاهب
عني وذا واش بعذر آت
ليت العداة علمن أن الدهر لم
يبرح بهن منفذا نفثاتي
إن كان دهري خانني فلأن لي
فضلا ولكن لم يخن كلماتي
يا أيها الباغون سد قريحتي
مهلا فليس يهون سد فرات
أو تطرقون عزيمتي وأمامها
رضوى يرض وطارق الأكمات
لا يشمتنكم سكوتي بالردى
إن الفتى لمقدر الحركات
عودتموني ذمكم وأنا على
ما قيل لست أحول عن عاداتي
قمتم علي كأنني ملك لكم
إن الملوك تجل بالقومات
هل قد أضر بكم جميل فعايلي
معكم وهل ساءتكم حسناتي
لا تحسدوني إن أفق آفاقكم
بل سابقوني والحقوا خطواتي
كل له فعل يناسب عزمه
ما كل ذي سيف بذي غزوات
شاءول بالآلاف أقبل فاتكا
لكنما داود بالربوات
جئتم بشمشوم وجئت بهرقل
والله يعطي النصر في الوقعات
إن كان باخ ذو العمود نصيركم
خبتم فلي زوس أبو الصعات
وقلت:
ما لي وللفضل والجهالة لي
أولى فذي لذة وذا ألم
إن كان بالفضل رفع مرتبة
لم ينخفض ما جرى به القسم (انتهى)
Shafi da ba'a sani ba