الغني :
اخس اخس، ولهذرك انس، فنحن القوم الكبار، وأنتم الناس الصغار، ونحن الأعيان الرفاع، وأنتم آل سوقة الرعاع، فهل تقومون إلا بنا، وهل تمطرون إلا بسحبنا، فطالما غيضنا منكم البكا، وفيضنا عليكم الوكا، وأنتم تدرون ولا تفعلون، وتفعلون ولا تدرون، فكلكم أهل متلوف، وما منكم رب معروف، فلتعش الأمانة، ولتمت الخيانة.
الفقير :
اصمت صه، اسكت مه، فما دعواك هذه إلا ابنة الجهل، آفة الأغنياء، وحليفة الكبرياء. فإذا راجعت النفس، ترى العكس، إذ أنتم بنا تحيون، ومن مناهلنا تروون. فنحن الفيئة الكبرى، وأنتم الفرقة الصغرى، ونحن فعلة الطبيعة، وشغلة الأرض الوسيعة، نحرث الأرض ونشتغلها، ونسكن الرحاب ونأهلها، فلا نحتاج إليكم، ولا للمثول لديكم، إذ نقتات من النبت والشجر، ونلبس الصوف والوبر، ونستضيء بالشمس والقمر، ونتوسد التراب والحجر، على نعيم البال، وخلو البلبال، وصحة البدن، وطيب الفدن. أما أنتم فماذا تعملون إذ لم نرفدكم؟ وكيف تعيشون إذا لم نفدكم؟ يا نسل البليد، وأهل التليد. فهل يغنيكم التبر عن التراب؟ والأكنان عن الرحاب؟ والياقوت عن القوت؟ والبحر عن الحوت؟ إنما الدر من الصدف، والانتظام من الصدف. فإذا أطمعتمونا بمالكم، فلنيل آمالكم، وإذا عاملناكم بأعمالنا، لتخفيف أحمالنا. فأنتم تحيون بنا، ونحن نشتغل بكم، فلا تحيجونا لثلبكم أو لسلبكم.
الغني (فنهض الغني على قدميه، وبسط جفون عينيه، وكشر أسنانه، ودلع لسانه) :
لماذا أكثرت شتمي، وأطلت رجمي، وأنت تغيظني بخطاك، وتعدى عن الحدود خطاك، هاتكا حرمة الأدب، وفاتكا بسطوة النشب، فلا أعتبن عليك، وإذ لا تهذيب لديك، على أن الفجور من شأن الفاقة، وما أقبح الفاقة والحماقة، فلا يجود الفقير، ولا يسود الأسير.
الفقير :
الشتم بالشتم، والرجم بالرجم، ولو لم تتخط الأدب، ما استنطقتك العتب، فأنت المبتدي، والمبتدي معتدي، والأدب من خلق النفس، كالنور من الشمس، لا يأتي بالكتاب، ولا بالجد والطلاب، فمن لم يكن ذا استعداد، لم يفز بالمراد، فلا علم يفيد، ولا معلم يقيد. والتربية في الأفلال، أعظم منها في الأموال، فالفقير يثقفه الكد، ويهذبه الجد، وتربيه الأيام، وتصلحه الأنام، فتحسن صفاته، وتحمد أوقاته، ويأمن شر النكد، وضر اللدد، ووقايع المباراة، ومواقع المداراة، وشوايب المناجاة، ومعائب المداجاة، فيعيش بلا كدر، ويموت بلا حذر، تاركا حسن الأثر، إذ لا يعتني في لعل وليت، ولا يتمنى خراب بيت، ولا يتهنى بانقلاب صيت، ولا يتكنى بالخريت، فيكون كل كنزه في الحصول على خبزه، حتى لا يخامره مرض المطامع، ولا مضض المسامع، فيخلو من الحسد المفترس، والطمع المختلس، والكبرياء الوحشية، والأميال الفحشية، أي كل الانفعالات التي تحرق الإنسان، ولو كان في الجنان.
حال الحرب
خربت الأرض خرابا، وانقلبت الجماعة انقلابا؛ لأن الحرب انتشبت، والفتنة انتصبت، فتباعدت الشعوب، وتنافرت القلوب، وخيم سحاب البغض، واكفهر محيا الأرض، حتى إذا ما كثرت مضارب السيوف، وتطنبت مضارب الحتوف، جرت الدماء كالجواري، وتضورت الناس كالضواري، فهبطت جواشن النظام، وانقلعت شواجن الانضمام، وانثلت عروش الصنايع، وانسدت مسالك البضايع، وسقطت التجارة، وانقطعت الإجارة، وتقوضت البلاد، وانجزر الإمداد، وذهب الجار يعوث بالجار، والمزار يشط عن المزار، وراح كل يزيغ في وعث البلى، ويروغ في وعكة القلى. فما هذا الدثار العام والدمار التام، إنما هو الحرب والطعن والضرب، حيثما الفيالق تحمل على الفيالق، والبنادق تسطو على البنادق، والكتائب تتجاذب الكتايب، والركائب تغور على الركائب، والقنابل تصادم القنابل، والذوابل تستميل الذوابل، فتنكسر السنابك على السنابك، وتلتطم المسابك في المسابك، إذ تلعلع المدافع بأهوالها، وتهال الأرض فتزلزل زلزالها، بينما تنجف القماقم، وتتطاير الجماجم، وتتساقط الهياكل المتحركة، وتنهدم المباني المدركة. يوم يصفر البحر بالأمواج، وتلغط الأودية بالرجراج، ويلبس الجو جلباب القتام، وتغور السماء في حجاب الظلام، ترقد عيون الدراري، وتدلهم وجوه الثراري، فظلمات بعضها فوق بعض، وبلابل تبلبل السماء مع الأرض. فما ذاك من شأن الصواب، وما هو إلا رجسة الخراب، ووقوع العذاب والمصاب. فكيف تنزل البشر منازل البهايم العارية، ويفعل الإنسان فعل الوحوش الضارية، إذ ينثر عقد شمله، ويفرق مجامع جمله، شاهرا حسام القراع، وساهرا بأعين النزاع على عزيمة الصراع، ليختلس جيرانه، ويقتبس أقرانه، محرضا من عدو الطمع الألد، ووساوس الحسد الأشد، يستزيد ذاته بنقص الغير، وينسج خيره بنقض الخير. ولذلك لا يفتر مشتغلا بتتميم العدد، وتكثير العدد. فسوف ينجم النقصان عن التمام، ويستقر الوجود من الإعدام، والحسام يبطل الحسام، فالضرب يغلب الضرب، والحرب تقلب الحرب.
Shafi da ba'a sani ba