136

Mashahid Mamalik

مشاهد الممالك

Nau'ikan

وهواء تونس طيب على الجملة، يقرب من هواء سواحل الشام، والحر يشتد بها بسبب موقعها الجغرافي. وتقسم هذه المدينة إلى أربعة أحياء، هي حي المدينة، وحي باب سويقة في الشمال، وحي الجزيرة في الجنوب، وحي الإفرنج في الشرق. أما حي المدينة فله سور قديم فيه خمسة أبواب، هي باب سعدون في الغرب، وباب سيدي عبد السلام في الشمال وباب الخضراء في الشرق، وباب عليوة وباب الفتح كلاهما في الجنوب. ويقال على الجملة إن هذه المدينة من المدائن الجميلة؛ لأن تقدم البلاد وهمة الحكومة الفرنسوية ساعدا على تحسين شوارعها ومتنزهاتها، وساعدهم في هذا التحسين وجود أراض من بدء باب المدينة إلى شاطئ البحر، كانت فيما مر أرضا مهملة ينبع الماء في جوانبها فردموها وبني فيها حي الإفرنج الحالي، وفي أوله شارع اسمه شارع فرنسا تكثر فيه المخازن الكبرى، حيث تباع نفائس الأشياء الباريسية، وفيه الحانات الجميلة بعضها يلي بعضا، حتى إن المرء ليظن نفسه إذا قعد فيها أنه في قهاوي مرسيليا بشارع الكنابيير. وفي هذا الشارع النادي العسكري، تعزف الموسيقى فيه مرتين في الأسبوع، فتتزاحم أقدام القادمين إلى هذه القهاوي حتى لا يبقى فيها موضع خال في بعض الأحيان . ويتصل شارع فرنسا بشارع المينا أو حتى شارع البحر، طوله 5000 متر، وعرضه 60 مترا، وقد غرست في وسطه الأشجار على نسق يشبه ما في منشية الإسكندرية، ولكن المنازل فيه قليلة القيمة. وفي أول هذا الشارع إلى الشمال الكنيسة الكبرى، وإلى اليمين قصر الحاكم العام الفرنسوي (ريزيدان)، وفي آخر هذا الشارع تمثال المسيو جول فري، وهو الذي كان رئيس وزارة فرنسا حين احتلت جنودها بلاد تونس، صنعوه واقفا على قاعدة من الرخام، وإلى جانبه تمثال فتاة بيدها غصن زيتون علامة السلام، وإلى الجانب الآخر تمثال فلاح يحمل أدوات الزراعة بيده. والشارع المذكور ممتد من الشرق للغرب، تشطره عدة شوارع أخرى من الشمال إلى الجنوب، وقد أطلقوا أسماء الممالك على هذه الشوارع، مثل شارع روسيا، وشارع إنكلترا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا، وغير هذا من الأسماء.

والمدينة قسمان منفصلان، أحدهما إفرنجي، وهو الذي مر ذكره، والآخر عربي يفصله عن القسم الآخر باب كبير، دخلت المدينة العربية منه، ورأيت في أعلاه كتابات عربية، وتقدمت إلى الشوارع فألفيت أكثرها ضيق، ولكنها أكثر نظافة من الشوارع المصرية، ووجدت أن حوانيتها صغيرة نوعا، ولكنها ملأى بالأشكال والألوان، وقد راق لي منظر سوق الخضر والفواكه وحسن تنسيقها، وقد بنوا السوق العمومية هنا على شكل سوق الآستانة - ولو أنها أقل أهمية - وجعلوا أسواقا كثيرة تتفرع منها، لكل منها اسم الشيء الذي يباع فيها، مثل سوق البلاغجية أو هي لبيع الأحذية، وسوق العطارين تتضوع من حوانيتها روائح العطر. والورد في هذه البلاد معروف بالجودة وروائح المسك والبخور والند، وهم يوقدون بعض هذه الأصناف تشويقا للطالبين. وسوق الدلالين يدور فيها الرجال حاملين البسط والأحرمة على أكتافهم، وفي أيديهم الخواتم والحلي والساعات، وفي أعناقهم السلاسل يعملون على بيعها بالمزاد ذاهبين آيبين. وهنالك مخازن كبرى ووكالات تباع فيها المنسوجات الحريرية والبسط الصوفية والبرانس الحريرية الجميلة الألوان، ينتابها السياح ويشترون منها مقادير في كل عام. وعلى مقربة من هذه السوق جامع الزيتونة، وهو جامع قديم مشهور بني سنة 141 هجرية، وفيه المدرسة الإسلامية تلقي دروسها على الطلاب ، مثل الجامع الأزهر، ولكن دخول الجوامع غير مباح لغير المسلمين في كل بلاد تونس خلافا لبلاد الجزائر. وعلى مقربة منه جامع سيدي ابن العروس قام في موضع كنيسة إسبانية قديمة شهدناه من الخارج. وداومنا المسير حتى بلغنا القلعة، واسمها عندهم القصبة، وهي قديمة بناها الإسبانيون واحتلها الأتراك زمانا، وغير الفرنسويين هيئتها بعد احتلالهم، وهي الآن منزل الحامية الفرنسوية. ولهذه القلعة ذكر في التاريخ بحوادثها العظيمة، من ذلك أنه لما تقدم ملك إسبانيا كارلوس الخامس لفتح تونس في سنة 1535 كان في هذه القلعة عشرون ألف أسير من النصارى سجنهم خير الدين باشا، فكسروا الأبواب وخرجوا لمساعدة الملك على الدخول كما مر في المقدمة التاريخية. وقد ذكرنا أن المسلمين من أهل هذه المدينة 70 ألفا وربما كانوا أكثر، فهي فيها ساحات رحبة ولكنها خالية من الأغراس والأشجار وبرك الماء على النسق الإفرنجي، فكل ما هنالك بعض القهاوي يجلس الرجال فيها إلى مقاعد أو دكك من الخشب بعضها مفروش بالبسط والبعض بلا فرش، وهم يتربعون على هذه المقاعد بعد نزع الأحذية أو يقعدون على الكراسي يشربون القهوة وماء السوس، ولا يدخن منهم إلا القليل، وقد يجتمع حوالي ألف منهم في ساحة واحدة ولا سيما ساعة الغروب في ساحة جامع سيدي محرز، حيث ترى الهيئة التونسية على أتم أشكالها. ولما كانت الشوارع كلها ضيقة في الأحياء العربية لا تكفي لمرور العربات، فقد بنوا خطا لعربات الترامواي تجرها الخيل في محل السور القديم حول المدينة من خارجها، أوله عند باب المدينة الذي ذكرناه، ويمر على اليمين في شارع باب السويقة، فشارع المالطية فشارع قرطاجة، ثم يمر أمام القلعة ويتجه بعد ذلك شمالا إلى شارع الجزيرة حتى يبلغ باب المدينة من الشمال بعد مسير نصف ساعة يرى الراكب في خلالها هيئة هذه المدينة وشوارعها، واسم الشارع نجع.

قصر الباردو:

ذهبت في هذا اليوم إلى قصر الباردو، وهو لفظ إسباني معناه المتنزه، وقد مر وصف الباردو في فصل الكلام عن مدريد من هذا الكتاب. وأما باردو تونس فإنه كان قصر البايات في الزمان الماضي، موقعه إلى شمال تونس على مسيرة كيلومترين، وقد أحاطوه بسور بنوا من داخله عدة قصور ومنازل لهم وثكنة للجنود ودارا للقضاء وسجنا، وكل هذا داخل السور على طريقة القلعة في مصر مدة أيام محمد علي. وكان الباي ينتقل كل يوم من منزله إلى دار المحكمة أو الديوان، حيث يجتمع الوزراء والمشيرون بين يديه ويبتون في أمور البلاد، ولكن علي باشا - وهو الباي الأسبق - ترك هذا المكان بعد الاحتلال الفرنسوي، وبنى له قصرا في المرسى، سنعود إلى الكلام عنه. ولا شيء في الباردو من عظمة البناء وجماله غير أنه كثير الاتساع، يمل المرء من التجول في جوانبه؛ لأنه يدخل من ردهة إلى ردهة، ومن صحن إلى صحن ومن ممر إلى ممر، وفيها مسافات بعيدة. على أنني صعدت سلما من الرخام إلى جانبه من هنا ومن هنا تماثيل ثمانية سباع من الرخام الأبيض، وكان حارس القصر معي، وقد ولجت ردهة واسعة مبلطة بالرخام الأبيض وحولها رواق قام على عمد مستدقة من الرخام، قيل إنها نقلت من قرطاجة، وقد نقشوا على جدران هذا الرواق نقوشا عربية جميلة وآيات قرآنية. وتحت هذا الرواق قاعات، فهي تحكي قاعات قصر شبرا في مصر ورواقه، ودخلت ردهة ثانية مبلطة بالرخام الأبيض كالأولى، وفي وسطها بركة وحولها رواق قائم على 80 عمودا دقيقا وجدرانه ملبسة بالقيشاني الجميل أزرق وأخضر.

وأما القاعات فكثيرة العدد، أذكر منها قاعة كانت محكمة، في صدرها عرش كبير يرتقى إليه على ذروتين، وكله مذهب ومكسو بالحرير الأحمر، كان يجلس الباي إليه ومن حوله الكراسي الأخرى للأعضاء والأعوان. ومنها قاعة الاستقبال، وهي واسعة كبيرة، في صدرها عرش يرتقى إليه فوق ثلاث ذرى، وهو مذهب أيضا ومكسو بالقطيفة الحمراء، تتدلى منه شراريب القصب، وفي أعلاه الهلال والنجمة، وهما شعار الولاية التونسية. هنا تجري التشريفات التونسية الكبرى في أيام المواسم والأعياد؛ إذ يأتي سمو الباي بموكب حافل وهو بملابسه الرسمية وسيفه ونياشينه، ويقابل وفود المهنئين من رجال الحكومة الوطنيين والأجانب، وكلهم بالملابس الرسمية والنياشين. وعادة الوطنيين أن يقبلوا راحة الباي عند السلام خلافا للمصريين؛ فإنهم يقبلون ظاهر يد الأمير. وقد ذكر لي أحد التونسيين أن التشريفات عندهم مهيبة؛ لأن القادم يحيي الباي بما يليق بمقامه، فيصدر الباي أمره إلى أحد رجال التشريفات أن يبلغه الجواب. وقد زينت هذه القاعة من قدم برسوم الملوك والبايات بقدرهم الطبيعي داخل براويز مذهبة، منها صورة محمد باي وحسين باي وأحمد باي وصادق باي، هو الذي أمضى المعاهدة مع حكومة فرنسا في شهر مايو سنة 1881. وهنالك صورة فكتور عمانويل الثاني ملك إيطاليا ونابوليون الثالث وإمبراطور النمسا الحالي في سن العشرين، وهو السن الذي كان به يوم زار تونس. وأثمن هذه الرسوم صورة لويس فيليب ملك فرنسا، رسمت على قماش من معمل دوبلين الشهير، وثمنها لا يقل عن مائة ألف فرنك. وصحبنا الحارس بعد ذلك إلى قسم في القصر كان معدا لزوجات محمد باي الأربع الشرعيات، وفيه ردهة عظيمة أرضها رخام أبيض، وفي كل من أركانها الأربعة غرفة لإحدى الزوجات، ولهن جميعا قاعة عمومية عرفت بقبتها الشاهقة يسطع ذهبها الوهاج، وقد زخرفت بالمرائي الصغيرة، براويزها زرقاء وحمراء وبيضاء.

وعلى الجملة فهم بالغوا في إتقان هذه القاعة وزخارفها إكراما للزوجات المذكورات، وقد أصبحت هذه القاعة والغرف والردهات جزءا من المتحف العلوي، دعي باسم علي باي، جمعوا فيه كل ما في بلاد تونس من العاديات والآثار والنفائس التاريخية، ونقلوا إليه ما وجدوا من الفسيفساء من المعابد الرومانية، ورصوها في هذا المتحف على يد صناع من مهرة الطليان، وهي كثيرة بلغت مساحتها 137 مترا مربعا. وهنالك قبور قياصرة رومية وتماثيل، منها تمثال من حجر الصوان لأورفة من آلهة الموسيقى عند الأقدمين، وفي يدها قيثار، وحولها أشكال وحوش البر كأنها تسمع وتطرب لشجي الأنغام.

البرنس محمد الهادي بك:

وقد زرت في هذا اليوم سمو البرنس محمد الهادي بك ولي عهد تونس يومئذ وهو الباي السابق، كنت قد عرفته في فيشي من مدن فرنسا فتلطف - حفظه الله - وتنازل إلى دعوتي لزيارته إذا ما أتيت تونس، ذهبت إلى قصره في درمش، وهي من ضواحي المدينة على شاطئ البحر، فأرسلت بطاقتي، ولما دخلت عليه حياني باللطف والترحيب، وخاطبني بلسانه الطلق، وقد هابني منظره الوقور وقامته الطويلة وجبينه العالي وعيناه السوداوان البراقتان، يرى المرء من حديثه وملامحه في الحال مقدار ذكائه وإقدامه. ولجنابه شهرة في الاقتدار السياسي والإداري والمالي، وفي حل المعضلات. زار باريس مرارا وقصدها في هذا العام أيضا بالنيابة عن والده في معرضها العام، فقابله رئيس الجمهورية بما يليق بمقامه السامي من الإكرام، وأنزله ضيفا كريما في القصر الذي أضيف به شاه العجم. ولما مثلت بين يديه استدعى أنجاله الكرام وعرفني بهم، فلما انتهت المقابلة رافقني هؤلاء الأنجال إلى حديقة القصر، وفي بعض أنحائها لهم الخيول المطهمة العربية تحكي الغزلان في رشاقتها وسرعة المسير. وقد برحت القصر شاكرا ما لقيته من لطف أصحابه الفخام.

البرنسيس ناظلي هانم:

وزرت في هذه المدينة أيضا دولة البرنسيس ناظلي هانم، وهي من صاحبات المقام الخطير بين أميرات البيت الخديوي الكريم، كانت في قصرها في حلق الوادي حيث تم عقد زواجها بحضرة السري سليل الكرام خليل بك بو حاجب، وقد تنازلت - حفظها الله - ودعتني للطعام بعد أن قابلتني بالإكرام، فسمعت من درر أقوالها وشهدت من صائب آرائها ما شهد به قبلي العارفون واشتهر عن هذه الأميرة الكريمة بين الشرقيين والغربيين. وكنت مدة إقامتي في تونس أتردد إلى هذا البيت الكريم، فتعرفت به بالشاب النبيل السيد شاذلي بكوش ابن بكوش باشا الذي كان ناظر خارجية تونس، وله قصران فخيمان، أحدهما في مدينة سيدي أبو سعيد على شاطئ البحر، والثاني في إريانا من ضواحي تونس في جهة الشمال، وهو القصر الذي ذهبت إليه مع السيد شاذلي، وقد رأيت من هذا الشاب ذكاء وعلما، وهو من الذين درسوا الحقوق في باريس، وحالما دخلت القصر رأيت أدلة النعمة والترف؛ لأن كل جوانبه مبلطة بالرخام الأبيض، وقاعاته فسيحة بديعة فرشت بفاخر الطنافس ونفيس الأطالس، وفي جملة رياشها حرير دمشقي أحمر معرق مضى عليه نحو 50 سنة وهو كأنه جديد الآن. وتمشيت مع هذا الشاب السري في حديقة القصر، فإذا هي ملأى بأشكال الشجر والزهر من أفريقية وأوروبية، وبعضها نادر المثال. ومن سراة تونس المعدودين آل بيرم وبو حاجب وعياد، وهي بيوت كان لها صولة في الأيام الماضية، وكان أفرادها الحاكمين، وأهل الطبقة العليا من التونسيين يلبسون الملابس الإفرنجية، ولكن طرابيشهم مغربية لها أزرار طويلة تصل إلى الأكتاف. وقد صار الشبان يلبسون الآن الطربوش الإسلامبولي المعروف. وأما النساء فخروجهن نادر، وهن تضرب الأمثال بعفافهن ورزانتهن. ونساء اليهود من الطبقة الأولى يلبسن مثل الإفرنجيات، وأما نساء الطبقة الوسطى فإنهن يلبسن سراويلات بعضها فوق بعض حتى تصبح الواحدة منهن مثل البرميل، ومن فوق الكل شال أحمر إفرنجي أو برنس تونسي وعزيزية طويلة على الرأس.

Shafi da ba'a sani ba