وفي المدرسة الثانوية تغير مذاق الجهاد، فتوارت عنا وجوه الإنجليز وبرزت في الصورة وجوه المصريين الموالين لهم واحتلت الحزبية المكان الأول في الصراع، وخاض الشيخ المعركة الجديدة بنفس القوة والصلابة، وكان يقول: المعركة هي المعركة، ولكن الأعداء ازدادوا عددا فوجب علينا مضاعفة الجهاد.
ويوم أضربنا على عهد محمد محمود، اليوم الذي استشهد فيه بدر الزيادي، أخرجه ناظر المدرسة فطالبه بأن يخطب التلاميذ حاثا إياهم على الانتظام في الدراسة ، وكان في طبعه حدة تثور على التحدي وتنفجر غضبا أعمى، فاعتلى المنصة أمام حجرة الناظر وصاح بصوت رهيب: العلم يطالبكم بالنظام والوطن يطالبكم بالجهاد وليس لكم إلا ضمائركم فارجعوا إليها.
وكتب الناظر تقريرا عنه فرفعه إلى وزير المعارف، وسرعان ما تقرر فصله، ويوم غاب عن المدرسة وانتشر الخبر هاجم الطلبة حجرة الناظر حتى اضطر إلى الفرار من المدرسة، واضطرت الوزارة إلى نقله حماية لحياته، وقد عاد الشيخ إلى المدرسة في عهد الوفد، ولكنه فصل مرة أخرى في عهد صدقي، فعمل في مدرسة بين الجناين الأهلية التي كان يملكها رجل وفدي معروف. وفي حكومة المعاهدة تعين مفتشا بالوزارة وسويت حالته تسوية عادلة، وفي انتخابات 1942 رشح نفسه على مبادئ الوفد فنجح، كما نجح مرة أخرى عام 1950، وقد التقيت به مرات في بيت رضا حمادة كما عرفت بعض أبنائه. ولما صدر قرار حل الأحزاب - بعد ثورة يوليو - رجع إلى قريته في الصعيد فلم يبرحها، ولا أدري إن كان ما زال على قيد الحياة أم انتقل إلى جوار ربه. ومما يذكر أنه في سبتمبر عام 1952 أو 1953 وكنت مارا أمام نادي الجيش القديم بالشاطبي، رأيت بعض أعضاء الوفد واقفين في فناء النادي يحيط بهم جند، وسمعت من بعض المارة بأنهم اعتقلوا وسيرحلون إلى القاهرة، ورأيت بين الضباط الذين يشرفون على الإجراءات الضابط محمد هجار ابن شيخنا القديم هجار المنياوي. تأملت الموقف، نظرت طويلا إلى الابن، تذكرت الأب، ثم خيل إلي أني أسمع هدير الزمن وهو يتدفق حاملا متناقضاته المتلاطمة.
وداد رشدي
رأيت وداد رشدي لأول مرة عندما جاءت لزيارة كاميليا زهران بإدارة السكرتارية يوما من أيام 1965، وكانت عملاقة، تمتد طولا وعرضا، ولكنها رشيقة بالنسبة لحجمها، وقسماتها كانت كبيرة في ذاتها، ولكنها مقبولة وجميلة في موضعها من الجسم المترامي، وبصفة عامة يوحي منظرها بالقوة والجمال والطلاقة كتمثال، وتؤثر نظرة عينيها العسليتين بجرأتها غير العادية، هذا إلى جاذبية جنسية نفاذة كالعطر الفواح. وكلما اختلست منها نظرة وجدتها تنظر إلي حتى ثارت تساؤلاتي. قدرت عمرها بالثلاثين ، ومن ملاحظة يسراها عرفت أنها متزوجة، وجعلت أتساءل عما يدعوها إلى ملاحقتي بنظراتها، وكانت علاقتي بأماني محمد ما زالت في عنفوانها، وخيل إلي أني عرفت السبب عندما أقبلت هي وكاميليا نحو مكتبي، جلستا على كرسيين متقابلين أمام المكتب، وقالت كاميليا: لا مؤاخذة يا أستاذ نريد استطلاع رأيك في مسألة؟
فسلمت وأنا أقول: تحت أمركما.
فقالت كاميليا: صديقتي وداد رشدي، ستحدثك بنفسها.
وقالت وداد بصوت ناعم واضح ذي درجة عالية تناسب حجمها: المسألة بكل بساطة أني حصلت على ليسانس الحقوق منذ خمسة أعوام، لكني تزوجت ولم أتوظف، وزوجي الآن معار في الكويت لمدة عام، وأفكر في التوظف، فهل يمكن إتمام ذلك عن طريق إدارة القوى العاملة؟
فقلت: كلا، ولكن جربي حظك بطلب خاص أو بالاشتراك في أي مسابقة يعلن عنها. - واضح أن الأمل في تلك الحالة ضعيف. - لا أقول إنه قوي، ولكن عليك أن تجربي.
وقالت كاميليا زهران: إنها أم لطفلتين ومع ذلك تريد أن تتوظف.
Shafi da ba'a sani ba