إبراهيم عقل
أحمد قدري
أماني محمد
أنور الحلواني
بدر الزيادي
بلال عبده البسيوني
ثريا رأفت
جاد أبو العلا
جعفر خليل
حنان مصطفى
خليل زكي
درية سالم
رضا حمادة
زهران حسونة
زهير كامل
سابا رمزي
سالم جبر
سرور عبد الباقي
سعاد وهبي
سيد شعير
شرارة النحال
شعراوي الفحام
صادق عبد الحميد
صبري جاد
صفاء الكاتب
صقر المنوفي
صبرية الحشمة
طنطاوي إسماعيل
طه عنان
عباس فوزي
عدلي المؤذن
عبد الرحمن شعبان
عبد الوهاب إسماعيل
عبدة سليمان
عجلان ثابت
عدلي بركات
عزمي شاكر
عزيزة عبده
عشماوي جلال
عصام الحملاوي
عيد منصور
غانم حافظ
فايزة نصار
فتحي أنيس
قدري رزق
كامل رمزي
كاميليا زهران
ماهر عبد الكريم
محمود درويش
مجيدة عبد الرازق
ناجي مرقص
نادر برهان
هجار المنياوي
وداد رشدي
يسرية بشير
إبراهيم عقل
أحمد قدري
أماني محمد
أنور الحلواني
بدر الزيادي
بلال عبده البسيوني
ثريا رأفت
جاد أبو العلا
جعفر خليل
حنان مصطفى
خليل زكي
درية سالم
رضا حمادة
زهران حسونة
زهير كامل
سابا رمزي
سالم جبر
سرور عبد الباقي
سعاد وهبي
سيد شعير
شرارة النحال
شعراوي الفحام
صادق عبد الحميد
صبري جاد
صفاء الكاتب
صقر المنوفي
صبرية الحشمة
طنطاوي إسماعيل
طه عنان
عباس فوزي
عدلي المؤذن
عبد الرحمن شعبان
عبد الوهاب إسماعيل
عبدة سليمان
عجلان ثابت
عدلي بركات
عزمي شاكر
عزيزة عبده
عشماوي جلال
عصام الحملاوي
عيد منصور
غانم حافظ
فايزة نصار
فتحي أنيس
قدري رزق
كامل رمزي
كاميليا زهران
ماهر عبد الكريم
محمود درويش
مجيدة عبد الرازق
ناجي مرقص
نادر برهان
هجار المنياوي
وداد رشدي
يسرية بشير
المرايا
المرايا
تأليف
نجيب محفوظ
إبراهيم عقل
سمعت أول ما سمعت عن الدكتور إبراهيم عقل في مقالة للأستاذ سالم جبر. لا فكرة لي الآن عن موضوع المقالة، ولكنه ذكر في سياقها الدكتور إبراهيم عقل، باعتباره عقلا فذا، بشر في وقت ما بثورة فكرية في حياتنا الثقافية، لولا وشاية حقيرة أجهضته قبل أن يقف على قدميه، رددها شخص لا أخلاق له، زاعما بأنه - الدكتور إبراهيم - طعن في الإسلام ضمن رسالة الدكتوراه التي قدمها للسربون. وشن على الدكتور هجوم ناري في عديد من الصحف والمجلات، فاتهموه بالإلحاد، وتبني آراء المستشرقين المبشرين لنيل الدكتوراه على حساب دينه وقومه، ثم طالبوا بفصله من الجامعة. واهتز الدكتور من جذوره حيال الحملة العاتية، ولم يكن ذا طبيعة مقاتلة ولا قبل له بتحدي الرأي العام، فضلا عن حرصه عن وظيفته وشدة حاجته إليها، فأنكر التهمة، ودافع عن عقيدته، وتوسل بكثيرين - على رأسهم صديقه وزميله في هيئة التدريس الدكتور ماهر عبد الكريم - لإخماد الفتنة واسترضاء مؤججيها. ولما التحقت بالجامعة عام 1930 وجدته أستاذا مساعدا بها. والظاهر أن المحنة التي مر بها علمته كيف يركز نشاطه في دروسه الجامعية، وينسحب من الحياة الفكرية خارج جدران الكلية. ولاحظنا أن همته يطويها الفتور والملال، وأن دروسه أقرب إلى التوجيهات العامة منها إلى المحاضرات الدسمة التي يلقيها علينا زملاؤه، رغم ما تمتع به من صحة وحيوية، ونضج تربع فوق الأربعين من العمر. وما لبث أن انقلب في مجالسنا نادرة ودعابة. ومرة سألته في أثناء مناقشة بقاعة المحاضرات: لم لم تؤلف كتبا يا دكتور؟
فرماني بنظرة متعالية وقال بصوته الجهوري: أتظن أن عالم الكتب في حاجة إلى مزيد؟
وجعل يهز رأسه الكبير فوق قامته المديدة، ثم قال: لو فرشنا بالكتب سطح الأرض لغطته مرتين!
ثم بامتعاض وازدراء: ومع ذلك فلو عددنا الكتب المتضمنة جديدا من الفكر لما غطت سطح زقاق!
ولم يكن من النادر أن ألقاه في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم بقصره الكبير في المنيرة. وما أكثر من عرفت من أهل الفكر في ذلك الصالون العتيد، وما زلت حتى اليوم أتردد عليه، وإن تغير مكانه وزمانه، وثمة ذكرى لاجتماع فيه ترد على الخاطر بوضوح ويسر، كلما استدعتها الظروف والأحوال. ولعل الدكتور إبراهيم عقل كان أقرب الحاضرين تجانسا مع البهو الكلاسيكي الفخم بجسمه العملاق ومهابته الطبيعية، ونظرته الزرقاء الذكية، وعلى غير المألوف خاض الحديث في شئون السياسة. وكنا نتجنبها إكراما لأستاذنا صاحب الصالون؛ لعلمنا المسبق بنفوره من الأحاديث الانفعالية، ولكونه من المنتمين إلى الحزب الوطني بحكم أسرته ونشأته على حين أن تلاميذه جميعا كانوا من شباب الوفد. غير أن الانقلاب الذي قام به إسماعيل صدقي في ذلك التاريخ طوق المشاعر، وضغط على الأفكار؛ فلم يكن من اليسير تجاهله. وتكلم كثير من الطلبة الحاضرين حتى قال الدكتور إبراهيم عقل: إن حياتنا الدستورية مكسب، ولكنها في الوقت نفسه فخ!
فتحفز الشبان للنضال، ولكنه قال: انحرف الجهاد الوطني عن غايته الأولى، غرقنا في معاركنا الحزبية، ولدى كل انقلاب يحدث رد فعل فظيع في العلاقات والأخلاق، ويوما بعد يوم يتفتت البناء الشامخ الذي ورثناه عن ثورة 1919.
فقال أحد أفراد مجموعتنا الشابة: بناء الشعب غير قابل للتفتت.
ابتسم أستاذنا ماهر عبد الكريم، وتفكر قليلا، ثم قال بصوته الناعم الهامس: شعبنا مثل الوحش المذكور في بعض الأساطير الشعبية يستيقظ أياما، ثم ينام أجيالا.
فعاد الدكتور إبراهيم عقل يقول: لن نضار البتة إذا استمسكنا بالمثل العليا.
وجعل ينقل عينيه الزرقاوين بين وجوهنا المتحفزة، ثم كرر بنبرة منغومة: المثل العليا ... المثل العليا.
وكان يرددها كثيرا في محاضراته عن الأخلاق حتى أطلق عليه زميلنا عجلان ثابت «دكتور مثل عليا».
ولعل الدكتور تذكر موجة الإلحاد التي كانت تجتاح الكلية في ذلك الوقت فقال: أرجو ألا تعتبروا المثل العليا نتيجة لعقيدة دينية، اعتبروها إذا شئتم المنبع الذي تدفقت منه العقيدة نفسها.
فقال شيخ أزهري لا يحضرني اسمه الآن: السياسة ترمي بنا كل يوم في محنة جديدة.
فقال الدكتور إبراهيم عقل بإصرار: المثل العليا، حسبنا أن تبقى لنا.
فقال الأستاذ سالم جبر، وهو غائص بجسمه البدين في فوتيل وثير: يا سيدي الدكتور ما الأخلاق إلا علاقات اجتماعية، وعلينا أن نغير المجتمع.
فسأله بهدوء: أقرأت كتاب برجسون عن أصل الأخلاق والدين؟
فقال سالم جبر باستهانة: إني أقرأ برجسون كما أقرأ قصيدة حالمة!
فقال له الدكتور ماهر عبد الكريم: إنك يا أستاذ تحلم بثورة كالتي قامت في روسيا منذ أربعة عشر عاما، وهي تتكشف كل يوم عن مضاعفات خطيرة.
فقال سالم جبر بحدة: نحن لا نعرف عن روسيا إلا ما نقرؤه في صحف الغرب وكتبه.
وحلت هدنة ريثما نشرب أقداح القرفة، وننعم بحشوها الطيب من البندق واللوز والجوز. ثم خرق الهدنة شاب قائلا: لا حل إلا القضاء على أحزاب الأقلية الطامعة في الحكم.
فقال سالم جبر: هذه ترجمة ركيكة لصراع الطبقات.
ولكن الدكتور إبراهيم عقل قال: إن رئيس الوزراء يزعم أنه يسعى للحصول على الاستقلال فلندعه يسع! - وإن فرض علينا معاهدة مثل تصريح 28 فبراير؟
فقال الدكتور بشيء من العنف: الاستقلال الحقيقي في المثل العليا وبنك مصر!
طالما عذبني التناقض بين تناول الأوساط الشعبية للسياسة، وتناولها في الأوساط الثقافية الرفيعة، فهي هناك انفعال مضطرم سرعان ما يسيل دما، وهي هنا مناقشات متفلسفة لا تخلو من تثبيط للهمم وتخييب للآمال.
فكرت في ذلك ونحن راجعون من قصر المنيرة، وتبادلنا الآراء في سرعة محمومة: لا بد من ثورة! - أيكفي الإضراب لإشعال ثورة؟ - هكذا قامت ثورة 1919 فيما يقال. - كيف قامت ثورة 1919؟ - ما أقربها وما أبعدها!
وفي صيف ذلك العام قابلت الدكتور - كان بصحبته أسرته المكونة من زوجة وغلامين - في كازينو الأنفوشي بالإسكندرية. كنت أجلس هناك في الصباح - عقب الاستحمام - فأشرب القهوة وأقرأ الصحف، وأشاهد في الوقت نفسه ما يجري على مسرح الكازينو من بروفات للعروض المسائية، رغم نفوري الطبيعي من الغناء الإفرنجي.
وقدمنا الدكتور إلى حرمه، وأظنها كانت مفتشة بوزارة المعارف. ولاحظت بسرور غرامه الأبوي بابنيه، وملاطفاته لهما مما دعا زوجه لإعلان استنكارها لتدليله لهما. واستمالني لأول مرة بعواطفه الأبوية، فلم أكن أكن له احتراما يذكر لعزوفه عن التأليف، ولعدم إخلاصه في عمله. وما أعجبني فيه إلا منظره وخفة روحه، وسخريته المموهة بالتفلسف، وسألني: أتستحم عادة في الأنفوشي؟
فأجبت: إن أمواجه أهدأ بكثير من الشاطبي. - عندما يتم بناء الكورنيش سيتغير وجه الإسكندرية.
فوافقته على قوله فقال باسما: ولكنكم تكرهون إسماعيل صدقي!
فقلت وأنا أداري العواطف المريرة التي استفزها ذلك الاسم: ليس بالكورنيش وحده يحيا الإنسان.
فضحك قائلا: لا يوجد مثل السياسة مفسدة للتفكير البشري.
ثم أشار إلى زوجه وقال: والدتها - حماتي - عضوة في اللجنة الوفدية للسيدات.
فرمقت السيدة بامتنان إكراما لوالدتها.
وفي مطلع العام الدراسي، تولى الدكتور إبراهيم عقل منصبا جامعيا كبيرا، ولكنه اغتال في سبيله جميع مثله العليا. كانت الهتافات العدائية للسراي تتردد في جنبات الوادي، ونشرت جريدة "التيمز" أن مظاهرة في أسوان هتفت لمصطفى النحاس رئيسا للجمهورية، وانقسمت البلاد إلى أقلية موالية للملك، وأغلبية معادية تكاد تجهر بعدائها. وإذا بالدكتور إبراهيم عقل ينشر مقالة في الأهرام، يدعو فيها للولاء لصاحب العرش، وينوه بأيادي أسرته على نهضة البلاد، وبخاصة محمد علي وإسماعيل. كانت أزمة تهاوت فيها القيم إلى الحضيض، وتقوضت كرامات الكثيرين من الرجال، ورمى الأبرياء المهزلة بأعين حمراء، ولكن حتى صفوفهم لم تبرأ من فساد. عصر الزلازل والبراكين المتفجرة. عصر إحباط الأحلام وانبعاث شياطين الانتهازية، والجريمة. عصر الشهداء من جميع الطبقات، وظل الدكتور يخطر بيننا، متظاهرا بالثبات والشجاعة، يطالعنا بنظرات متحدية تخفي في أعماقها إحساسا بالهزيمة والذنب. وكنا نلقاه بالاحترام اللائق بمركزه، على حين نضمر له الاستهانة والسخرية؛ الاستهانة والسخرية أجل، لا البغضاء ولا الرغبة في القتل، كما شعرنا بهما نحو كثيرين من رجال السياسة. لم تكن شخصيته تثير شيئا من ذلك، وكان لخفة روحه ومناوراته البهلوانية خليقا بأن يتبدى لنا مهرجا أو دجالا لا شريرا أو سفاكا للدماء، أو عدوا حقيقيا للشعب.
وفي اليوم الأخير للدراسة، ونحن ذاهبون لعطلة قصيرة نتقدم بعدها لامتحان الليسانس، دعانا إلى الاجتماع به في مكتبه. كنا عشرة ذكور، هم طلاب الليسانس للقسم الذي يرأسه إلى جانب منصبه العام.
أجلسنا أمام مكتبه، وراح ينقل بين وجوهنا عينيه الزرقاوين مطيلا الصمت والتأمل، وابتسم وهو يهز رأسه في تعال ساخر، وقال: نحن على وشك الفراق ولا يجوز الفراق بلا كلمة.
وعاد ينقل بصره بيننا مواصلا هز رأسه، ثم قال: طالما خمنت ما دار بنفوسكم يوما، ولكن ليس الأمر كما توهمتم!
ها هو يطرق الموضوع بعد صمت طويل، صمت طويل جدا، ولكن علينا أن نلزم أنفسنا الأدب والحذر، علينا أن نذكر أننا سنمتحن في كل مادة تحريريا وشفويا معا، وعلينا أن نذكر أن من حق مجلس القسم تعديل نتيجة الامتحان - بصرف النظر عن الدرجات الحاصل عليها الطالب - لنتفق مع مستواه العام كما يقرره الأساتذة. كل ذلك يضعنا تحت رحمته بلا مراجع ولا معقب. وواصل حديثه قائلا: المسألة أنني وجدت أناسا يخطبون وأناسا يعملون؛ فاخترت الانضمام إلى العاملين، وكلنا في النهاية مصريون.
ولذنا بالصمت إلا واحدا فقال بجرأة: إن من يخطب مطالبا بالاستقلال والدستور خير ممن يبني الكورنيش ويسفك الدماء.
كان القائل يدعى إسحاق بقطر، وكان الغني الوحيد فينا، وكان سيمضي عقب الامتحان إلى مزرعته عند مشارف القاهرة لزراعة أفخر أنواع الزهور، ولم يغضب الدكتور إبراهيم عقل، ابتسم وقال بشيء من الأسى: ليس كالسياسة مفسدة للعقل.
ثم بنبرة تشي بالرجاء: الحقيقة، اعبدوا الحقيقة عبادة، ليس ثمة ما هو أثمن ولا أجل منها في الوجود، اعبدوها واكفروا بأي شيء يتهددها بالفساد.
ظللنا ملازمين الصمت، متذكرين الامتحان الشفوي، وحق مجلس القسم، أما هو فعاد يقول: لن أناقش بقطر، لن أتفوه بكلمة في السياسة، إنما دعوتكم لنلقي نظرة معا على المستقبل.
فانتشر الارتياح في نفوسنا كالضوء، نجونا من مزالق السياسة، وها هو يفتح باب المستقبل الذي نرقبه بوجوم قاتم، مذ صدرت القرارات الوزارية بوقف التعيينات والترقيات والعلاوات، لأجل غير مسمى. ماذا بقي لنا من أمل؟ وماذا عند أساتذتنا من وعود؟ قال: هذه أيام أزمة، أزمة تطحن العالم كله، وليست خاصة ببلادنا كما يصور البعض، ماذا أنتم فاعلون؟!
وسكت قليلا ثم قال: لن تجدوا وظيفة بالسرعة المطلوبة، ولن تكونوا أسرة في أجل قريب، وربما تفاوتت بينكم الحظوظ.
وتلقى نظراتنا التي أطفأ نورها الفتور بابتسام، وقال: حتى الفرص الضعيفة التي يفوز بها الطبيب، أو المهندس، أو الحقوقي في الميدان الحر، حتى هذه الفرص لا نصيب لكم فيها، ولكن يبقى لكم شيء هام، جوهرة لم يتعود أحد أن يتحلى بها بعد!
فاشتعلت أعيننا بالاهتمام مرة أخرى، فواصل حديثه قائلا: أمامكم طريق الحقيقة والقيم!
تذكر كل منا آله وحبيبته، والآمال المعقودة على الوظيفة المنتظرة، أما هو فقال: تخففوا من غلواء الطموح الدنيوي، وارضوا من الدنيا بما تجود به، أما الشوق للحقيقة فلا ترسموا له حدا!
ترى أدعانا الرجل ليعذبنا ويسخر منا؟ - إن الجلوس تحت شجرة في يوم صاف خير من امتلاك عزبة.
أنت تقول ذلك يا من بعت جميع القيم من أجل ... - إن حكمة الحياة هي أثمن ما نفوز به من دنيانا ذات الأيام المعدودات.
وما غادرنا الكلية حتى انفجرنا ضاحكين من عنف المفارقة واليأس، واستبقنا إلى نعته بكل قبيح: الوغد. - المهرج. - الدجال.
ومنذ تخرجنا في الكلية انقضى زمن طويل لم أره فيه مرة واحدة، غاب عن عيني كما غاب عن وعيي؛ إلا في النادر من المناسبات، وكان يتجنب صالون الدكتور ماهر عبد الكريم منذ وثوبه الانتهازي إلى الوظيفة الكبيرة أن يتعرض لهجوم بعض المتطرفين؛ فاقتصرت مقابلاته لصديقه على الزيارات الخاصة، لذلك مرت ثلاثة عشر عاما دون أن أراه حتى عرضت مناسبة غير سارة، بل مناسبة مؤسفة غاية الأسف؛ إذ فقد ابنيه الوحيدين في وباء الكوليرا الذي اجتاح البلاد عام 1947. عانيت صدمة وأنا أتلقى الخبر، ورجعت بي الذاكرة إلى كازينو الأنفوشي وهو يلاعب الغلامين، يا لها من ذكرى ويا لها من نهاية. وذهبت إلى الجيزة للاشتراك في تشييع الجنازة، جنازة مؤثرة مفعمة بالأشجان، وسار الرجل وراء النعشين بقامته الطويلة كأنها صورة ناطقة لليأس الأعمى، ولا أظنه عرفني، وأنا أقدم له العزاء، لم يتلفت إلى أحد، ولم يهتم بشيء مما يدور حوله، ولكن عندما تقدم الدكتور ماهر عبد الكريم لتعزيته خفض جفنيه على دمع تفجر رغم إصراره على الظهور بمظهر الثبات والصبر، وعند منتصف الليل دعاني الدكتور ماهر عبد الكريم إلى مرافقته في سيارته إلى المدينة، وفي أثناء الطريق تمتم بعطف: الله معه، إنها كارثة لا تحتمل.
فوافقته على رأيه، وكنت في الحقيقة متأثرا جدا فعاد يقول: ولكن حديثه أقلقني!
فسألته عما أقلقه فأجاب: جعل يقول بنبرة متهدجة إن الموت جميل، وإنه مظلوم، وإنه لولاه لما كانت للحياة قيمة.
فصمت متفكرا فعاد أستاذي يقول: الله معه.
غاب الدكتور إبراهيم عقل عن عيني مرة أخرى، وإن لم تغب عني مأساته طويلا، وفي صالون قصر المنيرة علمت بما طرأ عليه من أحوال في الأعوام التالية للحادث، قيل إنه أصبح يرى كثيرا في جامع الحسين، وإنه يمضي الساعات متربعا أمام المقام، وفي كلمة أنه يتدروش ويسلم للإيمان تسليما بلا قيد ولا شرط. وأثار مسلكه الكثير من الجدل عن الإيمان بصفة عامة، والإيمان بالنشأة، والإيمان بالاقتناع، والإيمان بسبب الكوارث، وإيمان الفلاسفة، وإيمان العجائز، وكان ماهر عبد الكريم يفند كل حجة يأنس منها هجوما، ولو من بعيد على مسلك صديقه القديم، وفي عام 1950 ترك الدكتور إبراهيم عقل الخدمة لبلوغه السن القانونية؛ فتفرغ تماما للدروشة، وفي يوم من عام 1953 صادفته أمام الباب الأخضر بحي الحسين - ذاهبا أو راجعا من الجامع لا أدري - فجذبتني طلعته المهيبة المجللة بالمشيب. واقتربت منه مادا يدي للمصافحة فصافحني وهو يحدجني بنظرة لا يلوح فيها أنه عرفني، فلما ذكرته بنفسي هتف بصوته الجهوري: أنت! كيف حالك؟ ماذا تفعل؟
فلما أجبته قال: لا تؤاخذني فأنا لا أقرأ.
وسايرته حتى موقف سيارته في ميدان الأزهر، وهناك سألني: ماذا يدور في الدنيا؟
فذكرت من الأمور ما رأيته جديرا بالذكر، منوها بصفة خاصة بالثورة الجديدة فقال: هبوط صعود، موت بعث، مدني عسكري، فلتسر الدنيا في طريقها، أما أنا فإني أستعد لرحلة أخرى.
وغاب عني من جديد حتى قرأت نعيه عام 1957 على ما أذكر، وأطرف ما سمعت عنه بعد ذلك ما قيل من عثور ابن أخيه على مخطوط له لترجمة غاية في الجمال لديوان «أزهار الشر» لبودلير لم يعرف بالضبط تاريخ ترجمته، ولما كان ابن أخيه هو الوريث الوحيد له - توفيت زوجته في العام السابق لوفاته - فقد أذن بنشره، وهكذا بقي اسمه في المكتبة العربية مقرونا باسم بودلير على ديوان «أزهار الشر».
ولا خلاف في الرأي عن الدكتور إبراهيم عقل بين طلبته، فقد اعتبروه - بلا استثناء - مهرجا، ولكن ثمة مفكرا له وزنه مثل الأستاذ سالم جبر كان يراه ضحية لمجتمع فاسد، وإن لم يغفر له انهزاميته، وذات يوم قال لي أستاذي ماهر عبد الكريم بصوته الهامس: إنكم تظلمون إبراهيم عقل.
فلم أتكلم احتراما لعواطفه نحو صديقه، فقال: إنه عقلية فذة، وكان يبهرنا بذكائه، ونحن في السربون. فقلت: لم يفد أحد من ذكائه شيئا.
فقال متجاهلا تعليقي: وهو الوحيد في مصر الذي يتمتع بعقل فلسفي، بالنظرة الشاملة للأشياء.
ونظر إلي باسما ثم استطرد: لم يخلق كاتبا، ولكنه محدث موهوب، نوع من سقراط، خص أصدقاءه الحميمين بزبدة أفكاره، وطرح أيسر ما عنده على الناس.
فقلت له: لعله يحتاج إلى أفلاطون جديد؛ ليرد إليه اعتباره!
ولكنه اندثر فلم يبق منه إلا مأساة، وترجمة نادرة لأزهار الشر.
أحمد قدري
يقترن أحمد قدري في ذاكرتي بالشهد والفطائر المشلتتة والسينما، كما يقترن بواقعة لا تنسى. وهو قريب لي من أسرة ريفية، كان يفد إلينا في بعض المواسم لقضاء أيام في القاهرة، وكانت إقامته تنقضي في اللعب في شوارع العباسية الهادئة المحفوفة بالحقول والحدائق، كنت في التاسعة أو العاشرة، وكان يكبرني بخمس سنوات، وكان وحيد أبويه، وكان عفريتا بكل معنى الكلمة، واقترح ذات مرة القيام برحلة، ولكي يؤكد براءتها استأذن والدي في أن يصطحبني معه، وذهبت معه مرتديا بدلتي القصيرة، وقال لي ونحن في طريقنا إلى محطة الترام: سأشتري لك بسكوتا بشرط.
فسألت عن الشرط فقال: أن تحفظ تماما ما سأقوله لك ثم تردده عند عودتنا.
فسألت عما ينبغي لي حفظه فقال: إننا ذهبنا إلى سينما أوليمبيا وشاهدنا فيلما لشارلي شابلن.
فوعدته بذلك وأخذت البسكوت ثم ركبنا الترام، وغادرنا الترام في شارع لم أره من قبل، فمضى بي من حارة إلى حارة في عالم جديد وغريب ومثير، وجرني من يدي إلى مدخل بيت آية في الغرابة كان يجلس في دهليزه ثلاث نساء يبهرن النظر بألوان وجوههن وملابسهن، ولا يبالين أن ينكشف من أجسادهن ما ينكشف فوق السيقان، وتحت الأعناق، نهضت إليه إحداهن؛ فأجلسني مكانها وهو يقول: لا تتحرك من مكانك حتى أرجع إليك.
ووصى بي المرأتين، ومضى بصاحبته إلى الداخل، وركزت بصري في بلاط الدهليز المعصراني متجنبا النظر إلى المرأتين، شاعرا في الوقت نفسه بأن مخالفة خطيرة ترتكب على كثب مني، ومتابعا من حين لآخر صوت إحدى المرأتين وهي تغني «يوم ما عضتني العضة». ثم مالت نحوي الأخرى فسألتني: هل معك نصف ريال؟
فأجبت بالنفي فسألت: معك كم؟
فأجبت بخوف وأدب: شلن. - عال، تحب أفرجك على شيء لطيف لم تره؟ - ولكنه قال لي ألا أتحرك! - دقيقة واحدة في هذه الحجرة أمامك. - كلا! - لا تخف، مم تخاف!
وأخذتني من يدي إلى الحجرة، وأغلقت الباب وهي تقول: هات الشلن.
فأعطيتها إياه بلا تردد فقالت وهي تمسحني بعينيها: اخلع بدلتك.
فقلت بفزع: كلا.
وإذا بها تنزع ثوبها فتبدو أمامي عارية، رأيت امرأة عارية لأول مرة، ملأتني الحركة المقتحمة المستهترة فزعا، وملأني المنظر الذي رأيته خطفا فزعا أشد، تراجعت نحو الباب وأنا أنتفض.
فتحت الباب وهرولت إلى الخارج، وضحكتها المائعة المتموجة تتعقبني كثعبان، وتلقتني المرأة الأخرى بقهقهة، وأشارت إلى الكرسي كي أجلس، ولكني وقفت في وسط الدهليز لا أريد أن ألمس شيئا، ولا أريد لشيء أن يلمسني، وجعل المتسكعون خارج البيت ينظرون إلي في دهشة، ويطلقون في وجهي أبشع النكات، ولبثت أعاني محنة وأي محنة حتى رجع أحمد فسألني بفتور: مالك واقف كالديدبان؟
فقبضت على ذراعه كالمستغيث، فمضى بي إلى الخارج، ولم تكن العودة يسيرة كالذهاب؛ إذ صادفتنا مظاهرة ضخمة فشق طريقه خلال أزقة جانبية، وأصوات الرصاص تدوي في الجو، ولما جلسنا في الترام سألني بنبرة الممتحن: أين كنا يا بطل؟
فأجبت من فم جاف: في سينما أوليمبيا. - ماذا شاهدنا؟ - شارلي شابلن. - عظيم، ولكن ما لك مخطوف الوجه؟ - لا شيء. - ضايقتك المرأتان؟ - كلا.
وجعل يراقبني بقلق ثم عاد يسألني: ما لك؟
ففاض بي الحزن حتى كدت أبكي فسألني بقلق: ما لك؟
فقلت بمرارة: لا شيء، إنه شيء خاص جدا، دورا، ليست دورا جميلة كما توهمت. - دورا! من هي دورا؟ - حبيبة دان. - ومن هو دان؟ - بطل المغامرات، ألم تقرأ مجلة الأولاد؟! - أولاد؟! بم تهذي؟ ابسط وجهك، لن نرجع إلى البيت حتى ترجع إلى حالتك الطبيعية!
لم يعلم بمدى شغفي بدورا، ولم يدر بأني تخيلت جسدها من الماس النقي!
ولكن بصفة عامة كانت أيامه بالقاهرة من أسعد أيامي، علمني كرة القدم والملاكمة ورفع الأثقال، وأمتعني بنوادره الفكاهية، وكان يقلد شابلن في مشيته، ويغني المنولوجات المشهورة، ويحاكي عمدة القرية وشيخ الخفراء، وانتقل والداه إلى القاهرة فأقاما في عابدين، فلم يعد يزورنا إلا كل حين ومين. وتعثر في دراسته الثانوية فاختار الالتحاق بمدرسة البوليس، وعقب تخرجه عين في القاهرة لتقدمه، وشغل بحياته الجديدة فانقطع عن زيارتنا وبتنا كالغرباء. لم أره طيلة عمله الأول بالقاهرة إلا خطفا ومصادفة وهو يتسلل خارجا من سراي عصام بك عقب مغامرة غرامية. وتوفي والداه وكدت أنساه تماما، بل نسيته حتى ذكرتني به الحوادث في أثناء الحرب العظمى الثانية وما تلاها بعد أن اختير عضوا في البوليس السياسي. لم يعد أحمد قدري بأحمد قدري الذي عرفته، انقلب شخصية مخيفة تنسج حولها أساطير الرعب، سل سوط عذاب في أيدي الطغاة يلهبون به الوطن والوطنيين. وكنت أسمع عنه وأتعجب، كيف استحال الظريف الماجن شيطانا من شياطين العذاب، كيف يمثل بالشبان من ذوي العقائد الحرة فيجلدهم، ويطفئ السجائر المشتعلة في جفونهم، ويخلع بآلات العذاب أظافرهم! وحدث أكثر من مرة أن نوقش مسلكه على مسمع مني في بعض مجالس الأصدقاء من أهل الفكر والوطنية، مثل رضا حمادة، وسالم جبر وغيرهما، وقيل إنه ما دام لا توجد ثورة شاملة فلا أقل من أن توجد جمعيات سرية لممارسة الاغتيال السياسي دفاعا عن الشعب الأعزل، وقد حدثت بالفعل محاولة لاغتياله أمام نادي محمد علي، ولكنه نجا بأعجوبة، وأفلت مما سموهم وقتها بالجناة الهاربين.
وعقب ثورة يوليو 1952 قدم إلى التحقيق فاكتفي بإحالته إلى المعاش، ومضى بالنسبة إلي يذوب في ماء النسيان، حتى دعيت في خريف 1967 تليفونيا إلى المستشفى الأنجلو أمريكي، هناك وجدته راقدا مصابا بأزمة قلبية، لم أعرفه لأول وهلة، جاوز الستين وذكرني بصورة أبيه في أيامه الأخيرة. قال: معذرة عن إزعاجك.
فشجعته بما حضرني من كلمات فقال: لا أحد لي غيرك في الواقع.
ثم بصوت هامس: لكي تدفنني إذا قضي الأمر.
فعدت إلى تشجيعه، وخلوت إلى الطبيب مستعلما؛ فأكد لي أنه اجتاز مرحلة الخطر، وأن صحته بعد ذلك تتوقف على إرادته، ولما سمع بتلك المعلومات قال: عندي أكثر من داء!
فخمنت وراء قوله الخمر والنساء والقمار، فقلت: تجنب الانفعال لكي تتجنب أزمة أخرى.
فقال باستهانة: إنها آتية لا ريب فيها!
وجعلت أنقب في وجهه المريض عن الوحش الضاري الذي نشر الفزع في الزمان القديم، أو الشاب المهرج الظريف ولكن عبثا، ولم يكن في صدري حياله إلا شعور بالواجب، وعلمت أنه يقيم بشقة صغيرة بالزمالك، وأنه لم يتزوج طبعا، وأنه لم يعد له من صديق سوى نفر من كهول اليونانيين المدمنين لسباق الخيل، وهز رأسه ثم غمغم: يخيل إلي أنني انتهيت كما انتهوا.
ففطنت على البداهة إلى من يعني، كان 5 يونيو ما زال ممتزجا بريقنا كالعلقم. وأدركت من فوري مدى الحقد الذي عاشره منذ إحالته على المعاش، وكرهت مناقشة شماتته المنغصة بسوء حاله لتحديها الجارح لعواطفي الشخصية، وعلى أي حال لم تتحقق نبوءته السوداء فيما يتعلق بحياته أو حياة الثورة، غادر المستشفى عقب ذلك بثلاثة أسابيع، وزارني في بيتي للشكر، تبدى في حال صحية مقبولة، وراح يغازل ذكريات الجيل السابق، وطيلة الوقت وجدت إغراء لا يقاوم في نبش ماضيه الغريب، حتى واتتني الفرصة فقلت: أتدري أنني لم أكن أصدق ما يقال عنك؟
خيل إلي أنه تجاهل قولي تماما. اقتنعت بأنني أخطأت، ولكنه قال وكأنه يقرر حقائق لا علاقة لها بحديثي: يحدث أحيانا أن تصدم سيارة، أحد المارة فترديه قتيلا.
وأشعل سيجارة متحديا أول نصائح طبيبه ثم قال: من الخطأ أن نحمل السيارة تبعة ما حدث، التبعة تقع على السائق أو الطريق أو المصنع أو الضحية نفسها أما السيارة فلا ذنب لها.
وقال أيضا: لم لم نعذب أحدا في عهود الوفد؟ المسألة أنه يوجد نوعان من الحكومة، حكومة يجيء بها الشعب فهي تعطي الفرد حقه من الاحترام الإنساني، ولو على حساب الدولة، وحكومة تجيء بها الدولة فهي تعطي الدولة حقها من التقديس ولو على حساب الفرد.
وقال أيضا: لم نعذب أحدا بالمعنى الذي تظنه، كنا نصب العذاب كما تملأ أنت الاستمارة 50 ع.ح، أو كما تكتب تقريرا بناء على طلب الوزير، عمل ليس إلا، له مقاييسه من الإتقان، وتقديره في حساب الواجبات العامة، وإذا وجد بيننا من يغالي في عمله أو ينفذه بلذة خفية أو ظاهرة، فكما يوجد أحيانا في أوساطكم من يفرط في العمل ليداري نقصا أو تعاسة ملحة.
وفي أثناء الحديث ثبتت عيناه على صورة قائمة على منضدة فنظر إليها مليا ثم تساءل: أليس هذا هو الدكتور إبراهيم عقل؟
فقلت بدهشة: بلى، بين بعض الزملاء القدامى، وبعض الأساتذة، أكنت تعرف الدكتور عقل؟ - كلا، ولكن ظروفا معينة جعلتني أتابع ما كان ينشر له من صور في الصحف. - أي ظروف يا ترى؟!
تفكر طويلا ثم قال: لعلك تذكر وفاة ابنيه؟ - أجل، هلكا فيمن هلك من ضحايا وباء الكوليرا.
فضحك قائلا: يبدو - والله أعلم - أن الكوليرا لم تكن هي الجانية.
فهتفت بذهول: ماذا تقول؟! - رئيسي رحمه الله همس لي يوما في مجلس صداقة حميمة بأنهما قتلا! - قتلا؟! - اضبط أعصابك، ذاك تاريخ مضى وانقضى. - ولكن كيف قتلا؟ ومن الذي قتلهما؟! - لا شيء مؤكد، صدقني لا شيء مؤكد، حتى رئيسي نفسه لم يكن لديه أكثر من همس، تسلل إليه خبر عن غرام امرأة هامة وشخص من رجال الملك وجريمة قتل في بيت خلوي بالطريق الصحراوي. - أعطني مزيدا من المعلومات. - لا مزيد عندي، ولا شيء مؤكد، صدقني لا شيء مؤكد.
وأصر على موقفه فلم أجد مبررا لتكذيبه، وقد أفضيت بما بلغني منه إلى أستاذي الدكتور ماهر عبد الكريم؛ فأبدى من الدهشة ما لم يعلنه وجهه الهادئ من قبل، وقال لي: لا أصدق أن المرحوم إبراهيم عقل كان يخفي عني سرا. - لعل صلة الأمر بالسراي ألزمته بالصمت.
فهز رأسه وهو في شك وحيرة ، وقررت تناسي الموضوع من أساسه، أما أحمد قدري فقد اختفى من حياتي مرة أخرى، وكنت ألمحه أحيانا في مقهى فنكس وسط نفر من كهول الخواجات، وفي أوائل عام 1970 رأيته - من بعيد - سائرا في ميدان طلعت حرب، وثبت لي من تهدل شدقيه أنه خلع أسنانه، ولكن صحته بدت خيرا مما توقعت.
أماني محمد
كان التليفون واسطة التعارف بين أماني محمد وبيني، بدأت حديثها بالتحيات والمجاملات المعروفة، واستأذنتني في طرح أسئلة عن بعض المناقشات التي تتابعها في التلفزيون، وآنست منها اهتماما بالفن ورغبة في التزود ببعض المراجع وحماسا للقاء تتم به الفائدة. دعوتها إلى مكتبي، ولكنها عالنتني بنفورها من جو المكاتب، واقترحت لقاء في الخارج، وتم اللقاء في استراحة الهرم في أواخر ربيع عام 1965. توقعت أن تجيئني طالبة أو خريجة حديثة العهد بالتخرج، ولكن التي أقبلت كانت امرأة ناضجة، في الأربعين، ريانة البدن ملونة العينين، تخطر على الحد الفاصل بين حرية المرأة العصرية وبهرج الغانية. ولدى رؤيتها غازلني شعور مستفز بأن الفن لن يكون - وحده - ثالثنا، لم يهزني قبول ولا صدني رفض، فسلمت أمري للظروف، جلسنا في طرف الحديقة المطل على المدينة، ونظراتنا المتبادلة تعكس الحياء والترقب، قالت بلسان يحور الراء غينا: معذرة عن جرأتي.
ثم كالمستدركة: كان لا بد أن أقابلك.
فأكدت لها سروري باللقاء فقالت: إن فراغ حياتي لن يملأه إلا الفن، ومن حسن الحظ أنني لا أخلو من استعداد. - سيدتي موظفة؟ - كلا، ولا حاصلة على شهادة عالية، الثانوية العامة فقط، ولكني قارئة ممتازة، وكتبت أكثر من تمثيلية إذاعية. - لم يسعدني الحظ بسماعها. - لا غرابة في ذلك.
وتفضلت بإغداق الثناء، فشكرت لها تقديرها فقالت: إني بحاجة إلى مراجع تاريخية لأواصل الكتابة. - مطلب يسير فيما أعتقد. - أود أن أكتب عن أشهر نساء الشرق، وبخاصة اللاتي لعبن أدوارا خالدة في الحب. - موضوعات شائقة.
فابتسمت ابتسامة رقيقة وقالت: أطمع أن تشترك معي في العمل ..؟
فاعتذرت بلا تردد قائلا: إني مشغول بأعمال أخرى. - ممكن أن تمدني بالمراجع والمادة العلمية، وأن تشترك فيما يعجبك من الموضوعات. - سأهديك إلى المراجع.
ولكنها تجاهلت اعتراضي، وقالت وهي ترمي بنظرتها إلى رءوس أشجار الحور تحتنا: سنعمل في الحدائق.
ثم بعد توقف قصير: إلا إذا تفضلت بتشريف بيتي.
نجحت الغزوة الجديدة في اقتحام ترددي فتساءلت: بيتك؟ - لم أعرفك بحالتي الاجتماعية، إني مطلقة، أقيم مع خالتي العجوز، ولي ابن وابنة يقيمان مع والدهما. - لكن خالتك؟! - لا عيب في العمل.
ثم وهي تنظر بعيدا: يمكن تدبير الأمر لنهيئ جوا صالحا للعمل. - ولكن ... - ولكن؟ - أصارحك بأنه من المؤسف ألا تنعم سيدة مثلك بحياتها الزوجية.
فقالت بامتعاض: لم تكن حياة موفقة، ولا يوما واحدا. - عجيبة. - علمني كيف أمقته، ولم أحبه من قبل. - ولم قبلت الزواج منه؟ - زوجت إليه، وأنا بنت ستة عشر، أبعد ما تكون عن النضج وبلا وزن لرأيي. - زيجات سعيدة كثيرة بدأت كذلك. - إنه أناني نذل متوحش.
لم تشأ أن تنتقل من العموميات إلى التفاصيل ففتر اهتمامي بالموضوع، وبخاصة وأنه أصبح من ذكريات ماض بدا أنه ذهب إلى غير رجعة، حتى الفن نفسه تراجع إلى الهامش وذاب في الظلام. وبحركة غير متوقعة تسللت يدها البضة فاستقرت فوق يدي على طرف المائدة: إني في حاجة إلى إنسان أطمئن إليه.
ورغم احتمال المبالغات بل والأكاذيب فإني شعرت نحوها بعطف ورثاء. ومع ذلك سألتها مداعبا: يهمك الفن لهذا الحد؟
فقالت ضاحكة: الفن والحياة!
ولكننا نسينا الفن والتاريخ ونحن نتجول في صحراء الهرم. تركزت همومنا في الواقع المعاصر، واقع البيت بالذات، وخالتها بصفة خاصة، سنها الطاعنة، ونومها الثقيل، وحواسها الضعيفة. - إلا إذا أردت أن نلتقي في بيت آخر!
وباندماجي في المؤامرة تدفق طوفان الرغبة في دمي فقلت: ليكن اليوم.
ولكنها قالت بسرور وبلا مكر: أمهلني حتى أهيئ الجو.
وعندما جمعتنا الحجرة هفت على حواسي أخلاط روائح مركزة من العطر والبرفان، والخمر، تسبح في أمواج نور أحمر خافت، فردتني إلى ذكريات بعيدة ما كنت أتصور أنها ستعود، وجدتني مرة أخرى موثقا بالحرير، مذعنا لرغبة سكري بيقظة مباغتة، وبلا حب بالمعنى الحقيقي. أما أماني فكانت متفانية في المودة ، اهتدت إلى مرفأ بعد تخبط في ليل بهيم، لهفة بلا حدود على الحب والحنان يزفرها قلب محروم من الحب والأمومة والثقة. وجعلت تصارحني بخباياها في لقاءاتنا المتتالية: حالتي المالية حسنة، ليس لدي ما أشكوه من هذه الناحية.
أو تقول: ربنا يسامح بابا ويرحمه، كان السبب.
أو تقول: لا أمان لشبان هذه الأيام، ربنا يحفظ بنتي.
وتضخم شعوري بالمسئولية، وكان يستفحل كلما تذكرت بأن حياتنا المشتركة تقوم على غير أساس مشترك، وأنه لا يمكن أن تمضي هكذا إلى الأبد، وأن العطف والجنس لا يكفيان لاستتباب الأمن في أسرتنا ذات الجناح الواحد. وذات يوم من أيام العام نفسه - أواخر الصيف أو أوائل الخريف - زارني في مكتبي الأستاذ عبده البسيوني، تذكرته من أول نظرة رغم التغير الهائل الذي طرأ عليه، ورحبت به بحرارة كأننا لم نفترق حوالي ربع قرن على الأقل. ترى ماذا غيره بهذه الدرجة، رغم أنه لا يكبرني بأكثر من بضعة أعوام؟ وسألته: ماذا تفعل الآن؟
ولكنه تجاهل سؤالي وسأل بدوره: لعلك تسأل عما دعاني إلى زيارتك بعد ذاك العمر من الانقطاع؟
فقلت ببراءة: لعله خير يا زميلي القديم.
فقال وهو يرمقني بهدوء: إني أزورك بصفتي زوج أماني محمد!
مرت ثانية وأنا لا أعي لقوله معنى، وفي الثانية التالية انفجر معناه في وعيي كصاروخ. الحق أني غبت عن الوجود بمعنى ما، تلاشى المكان والزمان، لم أعد أرى إلا وجه عبده البسيوني الأسمر المستدير، كأنه وجه شخص آخر، وجه تمثال يقوم أمام مكتبي منذ الأزل. لم أنبس بكلمة، وطبعا لا فكرة لي عن الصورة التي انطبعت فوق صفحة وجهي، ولكنه هز رأسه بهدوء وقال بنبرة مستأنسة: لا داعي للجزع.
وابتسم ابتسامة ما وقال: لا علم لك بشيء.
ثم بتوكيد: لم أحضر للانتقام.
مضيت أرجع إلى مقعدي وحجرتي، ولكن شعورا حادا اجتاحني بأن دنياي على وشك التصدع والتلاشي.
وسمعته يقول: من حسن الحظ أن الأيام التي عشتها في باريس لم تضع عبثا!
وقلت وأنا مستسلم تماما للمقادر: لعلك تعني امرأة أخرى. - أعني المرأة التي كنت عندها أمس! - ولكنها مطلقة! - بل هي على ذمتي وأنا زوجها!
فغمغمت: يا لها من كارثة! - لم أزرك بدافع غضب أو انتقام. - ولكني أموت أسفا وحزنا. - لا ذنب عليك.
ثم بامتعاض شديد: وما أنت إلا آخر صيد لها! - ماذا؟ - مرة ومرة ومرة، وفي كل مرة أتدخل لإنقاذها من التدهور، لإنقاذ مستقبل ابني وابنتي. - يا لها من حياة! ... ولكن ...
وتريثت مرهقا ثم عدت أتساءل: ولم تتحمل ذلك كله؟ - لا مفر، إني أرفض تطليقها رغم مطالبتها به. - لم؟ - هي أم ابنتي وابني، وهما في طور المراهقة، والطلاق يعني لها التدهور حتى الاحتراف! - قد تتزوج مرة أخرى. - لم تعد أهلا لذلك! - موقف عسير محزن. - لذلك فإني مصمم على استردادها، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومن حسن الحظ أن حياتي في باريس لم تضع هدرا!
فقلت بحزن: ما أبغض الحياة إذا فسدت! - أجل، لعلها حدثتك عني، وعندي أيضا ما أقوله، ولكني مصمم على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
فقلت متأسفا: ما تصورت يوما أن أقف منك موقفي هذا!
فلم يكترث لأسفي هذه المرة. أشعل سيجارة وراح يدخن متفكرا، بدا لي هرما متهدما، ثم نظر إلي قائلا: أنت تذكر بلا شك حياتي الماضية!
أجل أذكر، زمالته في الجامعة، سفره إلى باريس في بعثة خاصة على حسابه، عودته بعد عامين أو ثلاثة بلا نتيجة، انتخابه عضوا بمجلس النواب، تمتعه بجاه الأسرة والحزب والنيابة، قلت: طبعا أذكرها.
فقال: لما قامت ثورة يوليو لم أجد تناقضا بينها وبين فكري الحر. - معقول جدا. - وعملت في نطاقها بإخلاص، ولكني اتهمت ظلما في مؤامرة اتهم بها بعض أقطاب الحزب فقبض علي حينا ثم صودرت أملاكي.
وجمت لا أجد ما أقوله فقال: وجدت نفسي في الطريق متسولا! - ولكن حرمك ذات مال!
فضحك قائلا: أفقر من الفقر نفسه، لها خالة غنية ولكن لها وريثا، ولعلها كذبت عليك في ذلك أيضا.
وشملنا الصمت حينا حتى قلت: أذلك ما أفسد حياتكما؟ - كلا، لقد توثبت للعمل الجدي من أول يوم، كرست وقتي وما أزال للترجمة والاقتباس، واستعنت على النشر ببعض الزملاء القدامى المنتشرين في الصحف والمجلات، غير أن أخلاقي تغيرت في سياق المحنة، ونشب نزاع متواصل بيني وبينها. - ولكن تلك أمورا طارئة يمكن معالجتها. - كان قد فسد الأمر. - خسارة فادحة وغير مقنعة. - إنها حمقاء، غير جديرة بالمحافظة عليها، لولا مصلحة ابني وبنتي.
وصمت لحظات ثم قال بنبرة اعتراف: ضربتها مرة وأنا فريسة لجنون الغضب فلم تغفرها لي. - يؤسفني ما صادفك من سوء حظ.
فقال بنبرة متجددة: إني أطالبك بقطع علاقتك بها.
فقلت وأنا لا أصدق بالنجاة: طبعا. - وأن تحاول إقناعها بالرجوع إلى بيتها. - سأبذل جهدي وفوقه.
فقال وهو يلوح بحركة قاطعة: حسبنا كلاما في هذا الموضوع البغيض.
تنفست من الأعماق. وجعل يتذكر عهدنا القديم. وذكر فيمن ذكر الدكتور إبراهيم عقل، وأستاذنا الدكتور ماهر عبد الكريم. قال: لقد انقطعت عن صالونه منذ سفري إلى باريس، ولكني زرته مرارا زيارات خاصة، وأفكر في الرجوع إلى اجتماعات الصالون.
وهز رأسه قائلا: لقد ضاعت أراضي أسرته في الإصلاح الزراعي، وباع قصر المنيرة وابتاع فيلا في مصر الجديدة، انتقل إليها صالونه العتيد. - أعرف ذلك فأنا من المترددين عليه بانتظام منذ عام 1930.
فراح ينوه بنشاطي وتقدمي ثم قال: إني أكدح بلا انقطاع للمحافظة على كرامتي. - أنت مثال طيب. - ولدي مشروعات ترجمة لا حصر لها .. كتب .. مسرحيات .. قصص سينمائية. - عظيم .. عظيم. - ولكن تلزمني عقود مع المؤسسات الثقافية. - اعرض ما لديك.
فسكت قليلا ثم قال: قيل لي إنه لا جدوى من العرض وحده؟
فتساءلت متبالها: ماذا تعني؟ - قيل إن الوصول قد يقتضي مالا ولا مال لدي! - لا تصدق جميع ما يقال! - أو أن أكتب مقالات نقدية تقديرا للبارزين في المؤسسات. - قلت لا تصدق. - أنا على استعداد لتقرير أن أي بغل فيهم أعظم من أحمد شوقي، ولكن المتنافسين في التقدير لم يدعوا مجالا لشخص مثلي، لم يعرف كناقد من قبل! .. وفضلا عن ذلك فلست إذاعيا ولا تلفزيونيا؛ لأدعوهم إلى برامج أو أعرض أعمالهم، فلم يبق أمامي إلا الطريق الطبيعي، وهو كما تعلم غير طبيعي.
وضحك لأول مرة فشعرت بالنجاة أكثر، وحاولت تبديد ظنونه وتشجيعه. وقام وهو يذكرني بمطلبه الأصلي فقلت له: سأبذل ما فوق طاقة الإنسان.
وقد بررت بوعدي. وما إن طرقت الموضوع حتى هتفت أماني: الوحش وصل إليك!
واحترقت عيناها بنار الغضب فذكرتها بواجبها نحو ابنها وابنتها فصاحت: أنت لا تعرفه!
فقلت: بل أعرفه من قديم، ليس شيئا كما تتوهمين، وهو خير من كثيرين. - كلا .. أنت لا تعرفه.
فأصررت على نصحها فصاحت: كفى .. لا تضطهدني. - بل لي عليك عتاب، كيف تخفين عني علاقتك الزوجية وأنت تعلمين أنه يطاردك؟
فهتفت: لا غيرة عنده ألبتة! - إنه يحب ابنه وابنته. - بل يحب نفسه وحدها. - المسألة ...
فقاطعتني بحدة: المسألة أنك لا تحبني.
ثم وهي تجفف عينيها: مات الحب في هذه الدنيا منذ زمن بعيد.
ثم رمتني بنظرة عتاب وقالت: لم تقل لي إنك تحبني ولا مرة واحدة، ولكني لا ألومك.
فقلت معتذرا: أنت تستحقين الحب أما أنا فلم أعد أهلا له. - كلام .. كلام .. كلام. - ستجدين في بيتك ما هو أهم.
رجعت وفي أعماقي شعور بالتحرر والنجاة والندم، ثم اجتاحني حزن عميق. وظل إحساس حاد بالرثاء يطاردني نحو زميلي القديم عبده البسيوني وزوجه أماني محمد، وتوقعت أن يتصل بي ولكنه لم يفعل، وأردت أن أتصل بها لأطمئن عليها، ولكني لم أجد فرصة ولا وسيلة، والتقيت بعد ذلك بأزمنة متفاوتة وفي أماكن مختلفة بعبده البسيوني، فأشعرني سلوكه بأنه يتقدم في طريقه المرسوم بإرادته الكادحة. وفي 1968 أو 1969 وكنت سائرا بشارع رمسيس أمام مبنى التليفون وجدت أماني مقبلة نحوي على بعد خطوات! وبحركة عفوية مددت يدي فصافحتني بلهوجة وارتباك أشعراني بتسرعي وخطئي، وهمست معتذرا: إن شاء الله تكونين بخير!
فأجابت وهي تمضي: الحمد لله.
تبدت مفرطة في البدانة والرزانة، غير أن ارتباكها أقنعني بأنها تعاني مسئولية السيدة المتزمتة إذا ورطتها ظروف خارجة عن الإرادة في مصافحة رجل «غريب».
أنور الحلواني
اسمه قادر على استدعاء عالم متكامل بأسره. ميدان بيت القاضي المتربع بين الجمالية وخان جعفر والنحاسين، وأشجار البلح المثقلة بأعشاش العصافير، وقسم الجمالية العتيق، وحوض الماء القائم في الوسط تسقى منه البغال والحمير، وكشك حنفية المياه العمومية، وهو ملعب طفولتي وصباي، وكنت أتطلع باهتمام إلى أنور الحلواني في ذهابه من بيته الملاصق لبيتنا أو في إيابه إليه. لم يكن شابا عاديا، كان من رواد المتعلمين الأوائل في الحي، كان طالبا بمدرسة الحقوق، وربما كنت معجبا بطربوشه المفرط في الطول، وشاربه الغزير المبروم، وبذلته الأنيقة، وكان يسير في رزانة لا تناسب سنه فكان يحلو لي أن أقلده ما تيسر لي ذلك، وكنت أتذكر جيدا الشربات الذي شربته احتفالا بنجاحه في البكالوريا، قدمته لي أمه بيدها، وهي امرأة من أصل ريفي كان يحلو لي أيضا أن أقلد لهجتها، والظاهر أن أحداثا كانت تجري في خفاء من حولي، وأنا ألعب تحت أشجار البلح.
استيقظت ذات صباح على صوات يترامى من بيت جيراننا. وحدث اضطراب شامل في بيتنا فجعلت أتمسح من المضطربين والمضطربات مستطلعا، وعرفت في ذلك الصباح أن جارنا الشاب أنور الحلواني قد قتل برصاصة في مظاهرة، بيد جندي إنجليزي، عرفت لأول مرة فعل «القتل» في تجربة حية لا في حكاية من الحكايات الشعبية، وسمعت لأول مرة عن «الرصاصة» في أول اتصال سمعي بإحدى منجزات الحضارة، وثمة لفظة جديدة أيضا «مظاهرة» استدعت الكثير من الشرح والتفسير، وربما لأول مرة سمعت عن ممثل جنس بشري جديد في حياتي الصغيرة هو «الإنجليزي». وتطايرت الأحاديث في البيت وفي الميدان مكررة لتلك الكلمات ومضيفة إليها غيرها مثل الثورة والشعب وسعد زغلول. انهمرت علي الكلمات حتى أغرقتني وانطلقت مني الأسئلة بلا حساب وبإلحاح شديد، قتل .. ما معنى قتل؟ وأين ذهب أنور؟ وماذا ينتظره في العالم الذي ذهب إليه؟ ومن الإنجليزي؟ ولم قتله؟ وما معنى الثورة؟ وما معنى سعد زغلول؟ وما وما وما؟ وما لبثت الأحداث أن تدافعت إلى الميدان نفسه في جنون خيالي.
قبعت وراء شيش النافذة أنظر بعينين محملقتين إلى جموع البشر المتدفقة من ذوي البدل والجبب والقفاطين والجلاليب، حتى النساء في الحناطير والكارو، يحملون الأعلام ويهتفون، وسمعت أزيز الرصاص ، أجل لأول مرة أسمعه، ينطلق من اللوريات ومن فوق صهوات الخيل، ورأيت الإنجليز رؤية العين بقبعاتهم العالية وشواربهم النافرة ووجوههم الغريبة، ورأيت الجثث بالعشرات مطروحة في جوانب الميدان، ورأيت الدم البشري يلطخ الملابس وأديم الأرض، وسمعت الحناجر وهي تهتف من الأعماق «يحيا الوطن»، و«نموت ويحيا سعد».
بدر الزيادي
كان زميلا بالمدرسة الثانوية، وكان بدينا خفيف الروح، يحب الطعام واللعب والبنات ويحب الوطن، وكان أبوه ضابط المدرسة، عاصرناه عامين، ثم اتهم في ظروف لا أذكرها بالعيب في الذات الملكية فقدم إلى المحاكمة التي أدانته وحكمت عليه بالحبس ستة أشهر مع وقف التنفيذ، ولكنه فصل من وظيفته، وكان بدر يفاخر بشجاعة أبيه ووطنيته فجاريناه في ذلك؛ إذ كان العيب في الذات الملكية يعد درجة لا بأس بها من درجات الجهاد يضمن لصاحبه موضعا في صفحة المجاهدين، وكان بدر تلميذا عاديا في الفصل، بل خاملا، أما مجده الحقيقي فكان يتألق في فناء المدرسة. في فناء المدرسة كان قطبا ينجذب إليه بعض تلاميذ فصله، وتلاميذ من الفصول الأخرى، وعندما يجد نفسه محورا تتحرك مواهبه ويجيش صدره بالعطاء، فيلقي بعض الأزجال الوطنية، ويحكي النوادر اللطيفة، أو يتصدى لتحديات غريبة، سألنا مرة عن أوفق الأماكن لممارسة الحب، فأجاب كل بما خطر له، ولكنه جعل يهز رأسه ساخرا حتى نضب معين خواطرنا، ثم أجاب هو قائلا: القرافة!
ودهشنا، وضحكنا مما ظنناه مزاحا فعاد يقول: في المواسم يبيت الناس في أحواش المقابر، نساء ورجالا، والنساء يكن عادة أضعاف أضعاف الرجال، وفي ظلام الليل تسنح فرص لا تخطر على بال.
فقال بعضنا: ولكنها مناسبة لا تفتح النفس للحب!
فقال بيقين: الحب لا يتخير مناسبة فهو صالح لكل مناسبة!
وقص علينا كيف انقض على خادمة في مكان خال من البيت، وجثة عمته مسجاة تنتظر من يكفنها، والنائحات ينحن في ساحة البيت، وفي ذاك المجال كانت له حكايات غريبة لا تنفد، أما امتيازه الحق فقد ناله بكل جدارة في كرة القدم، كان قلب الهجوم في فريق المدرسة، ورغم بدانته اشتهر بالسرعة وخفة الحركة غير أن اندفاعه المتناقض مع وزنه كان يثير في الملعب عاصفة من الضحك، وعرف بقدرته الخارقة في المحاورة والمداورة، والسيطرة على الكرة كأنما يشدها إلى مجال قدميه بقوة مغناطيسية، والمكر الأريب الذي يفقد أعداءه توازنهم ويطرحهم أرضا، كما امتاز بقوة ضرباته للكرة.
وكان يعد نفسه للعب في النوادي، ويحلم بالاشتراك في الأوليمبيات العالمية، وكان مستر سمبسون المدرب العام بوزارة المعارف يعجب به، فنصحه في ختام إحدى المباريات العامة بين المدارس بتخفيف وزنه، فكانت استجابته للنصيحة أن التهم - في حفل الشاي الذي أعقب المباراة - طورطة كاملة وحده مع عديد من السندوتشات والفطائر!
وذات صباح وقف بدر الزيادي يهتف - مع الهاتفين - بحياة دستور 1923 وسقوط الدكتاتورية.
كان الملك فؤاد قد أقال مصطفى النحاس، وعهد بالوزارة إلى محمد محمود، فأعلن هذا تأجيل العمل بالدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وأضربت المدارس جميعا، ومنها مدرستنا، غير أن قوات الشرطة حاصرتنا فلم نتمكن من الخروج، ولكي نتسلح بما يلزمنا في المعركة اقتلعنا الأشجار، والنوافذ، والأبواب، واقتحمنا المطعم فاستولينا على الأطباق والحلل والمغارف والشوك والسكاكين. وتصاعدت هتافاتنا العدائية مقتحمة كل مقام حتى مقام الملك. وعند ذاك هجم الجنود فجأة ومن جميع الأبواب وانهالوا علينا بالعصي الطويلة على حين أطلق الكونستبلات الإنجليز الرصاص في الهواء على سبيل الإرهاب. ودارت معركة غير متكافئة، ولم ينج واحد منا من ضربة أو أكثر، وسقط جرحى كثيرون، واستشهد فراش وتلميذ. كان بدر الزيادي هو التلميذ الشهيد إذ قضت عليه ضربة أصابت مؤخر رأسه. وصممت المدرسة على تشييع جنازته في اليوم التالي، ولكن الشرطة ضربت حصارا حول قصر العيني الذي كان عامرا بالشهداء من جميع المدارس. وحملت الجثث رأسا من المستشفى إلى المدافن تحت حراسة الشرطة، ولكننا ذهبنا فرادى إلى بيت ضابط مدرستنا القديم لنقدم له واجب العزاء. وما زال الرجل حيا حتى اليوم ولعله في الخامسة والسبعين من عمره. أراه نادرا في بعض زياراتي للعباسية، وهو جالس في مقهى صغير قريب من مسكنه، مهدما بالكبر وضيق ذات اليد فيما يبدو ، لا يتصور من يراه أنه كان من ذوي العقائد الحرة أو أنه جابه الحياة بشجاعة، وأنه فقد في سبيل ذلك وظيفته وابنه. ومن مكانه المنزوي يراقب السيارات المنطلقة حاملة الناجحين من رجال المجتمع المعتزين بإقبال الحياة الذين لم يكتووا بنار تضحياتها وقيمها السامية. ترى ماذا يدور بخلده وهو يتابع هذا التيار الغريب المتدفق؟ أم إن الكبر والزمن قد أعفياه من كل شيء إلا ما يعانيه في لحظته العابرة!
أما بدر فما زالت الصورة التذكارية لفريق كرة القدم تجمعنا، وهو يتوسط الفريق، الكرة بين قدميه، يطالع الكاميرا بنبرة مرحة مترعة بالثقة بالنفس.
بلال عبده البسيوني
التقيت به مصادفة في فيلا جاد أبو العلا في أوائل عام 1970، ورغم أننا لم نتصادق، بل ولم نلتق مرة أخرى إلا أنه ترك في نفسي أثرا يستحق أن يذكر، ولما ذهبت إلى الفيلا ذلك المساء لم يكن ببهو الاستقبال إلا الأستاذ جاد أبو العلا، وزميلي القديم عبده البسيوني، وشاب وسيم به شبه منه سرعان ما قدمه لي قائلا: ابني .. الدكتور بلال.
وفي الحال تذكرت قصة الابن والابنة اللذين كانا محور حديث ذي شجون بين عبده وبيني، ثم بيني وبين أماني محمد منذ سنوات خمس، واشتركت في حديث مما يجري بلا هدف وقد عاودني شعور بالذنب القديم، وإذا بعبده البسيوني يقول مشيرا إلى ابنه: الدكتور يفكر في الهجرة!
واسترعى قوله اهتمامي فنظرت إلى الشاب من جديد بحب استطلاع آسر، إن كلمة «الهجرة» من الكلمات الجديدة التي غزت قاموس حياتنا، وأثارت في جيلنا القديم العجب، ها هو واحد من فرسانها فما أطيب الفرصة!
وعاد عبده يقول: إنه مرشح لبعثة دراسية قصيرة بالولايات المتحدة، ولكنه يضمر الهجرة.
فسأله جاد أبو العلا: وما رأيك أنت؟
فأجاب عبده ضاحكا: وما قيمة رأيي أو رغبتي؟ - على سبيل العلم بالشيء؟ - لا أوافق. - وأماني هانم؟
ضاعف من ارتباكي الخفي ذكر الاسم، ولكني عرفت لأول مرة أنها رجعت إلى أسرتها، كما أدهشني أن يتحدث جاد عنها بتلك الألفة، أما عبده فأجاب: إنها ترحب بالفكرة وتتخيل أنه سيكون بوسعها أن تسافر إلى الولايات المتحدة كلما شاءت.
فضحك مضيفنا وجاريته في ضحكه، ثم قال مخاطبا الشاب: ينتظرك هنا مستقبل باهر.
فقال الدكتور بلال: إني أتطلع إلى بيئة علمية صحية.
فقال عبده البسيوني: إن هجرة صديق له يدعى الدكتور يسري أدارت عقله، ولكنه في اعتقادي شخص شاذ لا يصلح مثلا طيبا، كان طبيبا ناجحا سواء في المستشفى أم في العيادة، ولكن غضبه على كل شيء لم يكن يهدأ لحظة واحدة، ولم يكن يكف عن النقد المر، كان يفور بكراهية غريبة نحو البلد ومن فيه، فانتهز فرصة وجوده في إجازة دراسية ثم قرر البقاء هناك.
فقال دكتور بلال: ونجح هناك نجاحا فريدا، في العمل والبحوث على السواء. - وكان هنا ناجحا أيضا فما معنى الهجرة؟! - البيئة العلمية يا أبي! وإليك قصة وكيل قسم بالمستشفى الذي أعمل به، درس حتى حصل على درجة الدكتوراه بامتياز رائع، انتظر أي تقدير فلم يظفر منه بشيء، بل حورب حتى لا يحتل المكان العلمي اللائق به، فما كان منه إلا أن هاجر، ولدى عرض بحثه في الولايات المتحدة تلقى أكثر من عرض للعمل في الجامعات والمستشفيات.
لاحظت أنه كان يتكلم بحدة تقارب الغضب، فقلت: قد يوجد خلل، ولكن ليس للحد الذي يدفع الناجحين إلى الهجرة.
فقال لي دون أن يخفف من حدته: بل الشأن في كل شيء يدعو للرثاء! - حسن أن تشعر بذلك وأن تؤمن به، ولكن من ذا الذي ينبري للإصلاح سواكم؟ - لن أشغل نفسي بهذه الأفكار. - ولكن وطنك قيمة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها؟
فقال بهدوء نسبي: وطني الأول هو العلم!
ثم بعد تردد كأنما حاسب فيه نفسه: الوطن ... الاشتراكية ... القومية العربية ... ماذا أقول؟ لا تتصورني عابثا ... كلا ... ولكن ماذا بقي لنا بعد 5 يونيو؟!
فقلت: مضت على النكسة أعوام خليقة بأن تجعل منها درسا لا نكسة.
فقال لي عبده البسيوني: لا فائدة، إنه جيل لا يقتنع إلا بما في رأسه.
فقال جاد أبو العلا: لا بأس من ذلك ولكن لا يجوز أن ينسى وطنه.
فقال الدكتور بلال: لا منقذ لنا سوى العلم، لا الوطنية ولا الاشتراكية، العلم والعلم وحده، وهو يواجه المشكلات الحقيقية التي تعترض مسير الإنسانية، أما الوطنية والاشتراكية والرأسمالية فتخلق كل يوم مشكلات نابعة من أنانيتها، وضيق نظرها، وتبتكر لها من الحلول ما يضاعف في النهاية من حصيلة المشكلات الحقيقية.
فسألته: وماذا يمنعك من أن تكون باحثا وعالما في وطنك؟ - توجد موانع وموانع، استعداد بدائي للبحث وجو خانق للفكر والعدالة والتقدير، لذلك أفكر في الهجرة، وسأكون في أمريكا أعظم فائدة لوطني مما لو بقيت فيه، فالعلم لجميع البشر، باستثناء علم الحرب والهلاك فالعلم لجميع البشر.
وسأل جاد أبو العلا عبده البسيوني: وماذا عن شقيقته؟ - ستحصل على بكالوريوس في الصيدلة في نهاية العام الدراسي وهي متحمسة أكثر منه للهجرة.
فضحك الرجل عاليا وقال: وفتى الأحلام؟ ألم تفكر في هذه المشكلة؟ - إن ما نعده مشكلة يعدونه لعبا.
فقال جاد أبو العلا: من المؤسف أن الفن لم يقدم لنا بعد نموذجا من هذا الجيل، كم أود أن أسبق إلى ذلك!
فقلت له: إنه يتقدم بلحمه ودمه فوق مسرح حياتنا المسكينة!
فقال عبده البسيوني مخاطبا ابنه: إنكم تحلمون بالهروب والسفينة تواجه العاصفة!
شعرت بأن عبده غير جاد في معارضته، وأنه لا يحسن إخفاء إعجابه بابنه، وهز الدكتور بلال منكبيه استهانة، فأيقنت أنه يمثل موقفا جديدا من «الوطنية»، تلك الأمانة القديمة التي أرهق جيلنا حملها. وقال بلال ضاحكا وقد ذكرتني ضحكته بأمه: الحق أني أحلم بهيئة علمية تحكم العالم لخير العالم.
فسألته: وماذا عن القيم؟ .. العلم لا يتعامل معها، وحاجة الإنسان إليها لا تقل عن حاجته إلى الحقائق.
فنظر إلي فيما يشبه العجز ثم قال: يجب ألا يعني ذلك التمسك البائس عديم الجدوى بقيم بالية، إنكم لا تتمسكون بها إلا خوف المغامرة بالبحث عن غيرها، والعلم لا يعطي قيما، ولكنه يضرب مثالا حسنا في الشجاعة، فعندما تهاوت الحتمية الكلاسيكية كيف نفسه برشاقة فوق أرض الاحتمال، وتقدم لا ينظر إلى الوراء.
فقال جاد أبو العلا: من العبث أن تناقش قوما ليس بينك وبينهم لغة مشتركة.
فقلت وقد أخذ رأسي يحمي بالحدة: إنكم تودون الهجرة إلى الحضارة بدل أن تنموها في أرضكم.
فقال محتدا: الإنسان في الأصل كائن مهاجر، وما الوطن إلا المكان الذي يوفر لك السعادة والازدهار، لذلك لا تقبل على الهجرة إلا الصفوة، أما المتخلفون ...
وتوقف كالمتردد فقلت: أما المتخلفون فيحسن التخلص منهم!
فباخت حدته وقال ضاحكا: لو سار الازدياد السكاني على معدله الحالي، وعجزت الوسائل عن تغذيته فربما تقضي المصلحة العامة للحضارة بإفناء أجناس برمتها!
فهتف به أبوه: حسبك!
وقال جاد أبو العلا: ما أسعد إسرائيل بكم! - فعاودت الشاب حدته وهو يقول: أتحدى إسرائيل أن تفعل بنا مثلما فعلناه بأنفسنا!
وقد بت ليلتي متفكرا في حديث الدكتور بلال، مستعيدا جمله وعباراته، متأملا الموضوع من شتى جوانبه، حتى اقتنعت في النهاية بأنه لا نجاة للجنس البشري إلا بالقضاء على قوى الاستغلال التي تستخدم أسمى ما وصل إليه فكر الإنسان في استعباد الإنسان، وخلق صراعات مفتعلة سخيفة تستنفد خير ما فيه من إمكانيات رائعة، وذلك كخطوة أولى لجمع العالم في وحدة بشرية، تستهدف خيرها معتمدة على الحكمة والعلم، فتعيد تربية الإنسان باعتباره مواطنا في كون واحد، وتهيئ لجسمه السلامة ولقواه الخلاقة الانطلاق ليحقق ذاته ويبدع قيمه ويمضي بكل شجاعة نحو قلب الحقيقة الكامنة في ذلك الكون الباهر الغامض. إما ذلك وإما مستقبل جعلني أشعر بالامتنان لكوني من جيل يوشك أن يختم رحلته في هذه الحياة العجيبة التي تدور بخيرها وشرها فوق فوهة بركان.
وقد التقيت بعبده البسيوني بعد مرور أشهر في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم فبادرته بالسؤال عن ابنه فأخبرني بأنه سافر، ثم قال: وستلحق به أخته في القريب!
ثم قال بنبرة اعترافية: أجد كثيرا غمزا أليما في قلبي، ولكن زماني علمني التسليم للمقادر.
وبعد قليل من الصمت عاد يقول: لا أخفي عنك أني مقتنع بقرارهما، لم لم تؤهلنا دراستنا العقيمة للهجرة؟!
فقلت: العلم لغة عالمية أما مهنتنا فألغاز محلية.
وأفضيت إليه بالخواطر التي اجتاحتني عقب استماعي لحديث ابنه فضحك طويلا ثم قال: نحن الكهول مطالبنا يسيرة، سعادتي اليومية تتحقق لدى شرب قدح من القهوة باللبن مع قطعتين من البسكوت.
ثريا رأفت
رأيتها أول عهدي بالوظيفة عام 1935، كانت تتردد على الوزارة لزيارة عمها فقدمني إليها فتعارفنا، وكانت طالبة بالمعهد العالي للتربية، وعلى وشك أن تعمل مدرسة، وكانت متوسطة الجمال، ولكن بارعة القد والقامة، تنم عيناها عن ذكاء وشخصية، ولاحظ الأستاذ عباس فوزي، وكيل السكرتارية إعجابي بها؛ فقال لي يوما - عقب ذهابها مباشرة - وهو يوقع لي على بعض الأوراق: آن لك أن تفتح بيتا وتستقر.
فأدركت أنني ضبطت متلبسا وقلت: أترى ذلك؟ - إن صافي مرتبك ثمانية جنيهات وهي تكفي للزواج من اثنتين!
فضحكت وقلت مرددا مشاعر جيلنا: ولكن هل تحبذ الزواج من موظفة؟
فقال بتهكمه المعهود: كما قد توجد منحرفة بين ستات البيوت فقد توجد مستقيمة بين الموظفات!
فعلمت أنه يحذرني بأسلوبه الملتوي، ولكن سيطرة الفتاة الجنسية علي كانت فوق أي تحذير فسعيت إلى توثيق علاقتي بها. وكانت - كطالبة - تتمتع بقدر من الحرية خليق بأن يثير في سوء الظن، فضلا عن نظرة عينيها الساخنتين الجريئة، واستجابتهما المثيرة للقلق. كان كل أولئك جديرا بأن يصدني عنها، ولكنه أغراني بها فانتظرتها في الخارج بدافع هو خليط من حسن النية والجري وراء مغامرة. صافحتها وسرت إلى جانبها، وأنا أقول: أود أن نجلس معا قليلا من الوقت.
فسألتني متظاهرة بالدهشة: لم؟
فقلت: رغبة في مزيد من التعارف. - ليس اليوم.
وأرادت أن تودعني فقلت: ولكنك لم تحددي يوما آخر؟
فأبطأت قليلا كأنما غلبت على أمرها وقالت: ليكن يوم الاثنين، العاشرة صباحا، بحديقة الحيوان.
ومع أن استجابتها لبت صميم أمنية القلب إلا أنها في الوقت نفسه ثبتت سوء ظني بحريتها، وغلبت في نفسي جانب المغامرة على حسن النية، والتقينا أمام باب الحديقة، ورحنا نتمشى في أرجائها ونتكلم، أعلنت عن إعجابي بها، ثم جرنا الحديث إلى تفاصيل حياتينا، ومستقبلنا، وكانت عواطفي المكبوتة تعذبني، وكنت شديد الثقة في أنها ستستجيب لها كما استجابت إلى الميعاد . وحاولت لدى أول فرصة لخلو المكان أن أقبلها، وتجنبتني، ونظرت إلي، والظاهر أنها قرأت في عيني معاني لم ترتح لها فتساءلت في استياء: ماذا بك؟
فأشرت إلى خميلة وقلت: لنجلس هناك.
فقالت بحزم تغيرت به صورتها: يخيل إلي أنك أسأت بي الظن.
فقلت وموجة باردة تجتاحني: كلا. - أو أنني أحسنت بك الظن خطأ.
فقلت بحرارة مصدرها الندم: لا هذا ولا ذاك من فضلك!
أجهضت العاصفة؛ فجلسنا جلسة بريئة، وواصلنا حديثنا الجاد السعيد، ثم افترقنا على ميعاد جديد، وانجذبت إليها بقوة فحتى الزواج منها فكرت فيه جادا وراغبا. وفي اللقاء الثاني أهدتني قلم أبنوس فأثرت في الهدية تأثيرا نافذا وساحرا، وقالت لي: ترددت طويلا، فكرت في الانقطاع عنك.
فسألتها بجزع: لم؟ - أخاف من خيبة الأمل.
فضغطت على يدها بحنو وقلت: أنت تدركين تماما أنني أحبك.
وفي المقابلات التالية تبلور الاتفاق بيننا، وفكرنا في الخطوات العملية التي تسبق عادة إعلان الخطوبة، وجاءت معها مرة شقيقتها الكبرى المتزوجة، وتركز الحديث في الوظيفة، وهل تبقى بها أم تتفرغ للبيت، وقلت ببراءة: لا أتصور كيف يستقيم أمر البيت إذا تمسكت بالوظيفة.
فتساءلت شقيقتها: وعلام كان الجهد والتعب؟
فقلت: إن مرتبي يغنينا عن توظيفها، ويوفر جهدها للبيت.
فقالت الأخت ضاحكة: رغم ثقافتك فأنت دقة قديمة.
وقالت ثريا: لم يسألني أحد عن رأيي بعد؟
فقلت: ولكنك تشتركين معنا بصمتك. - كلا! - إذن فما رأيك يا عزيزتي؟ - سأعمل فيما أهلت نفسي له حتى النهاية.
ثم كان آخر لقاء قبل الميعاد الذي حددنا لإشراك الأسرتين، وجدتها على غير عادتها قلقة، مشتتة الفكر، فقلت: يوجد شيء يشغلك.
فقالت ببساطة: نعم! - ما هو؟ - لا يجوز تأجيله أكثر من ذلك.
وبسرعة استطردت: وأعترف أني أخطأت في تأجيله حتى هذه اللحظة. - شيء خطير؟ - يجب أن نتكاشف! - ألم نتكاشف بما فيه الكفاية؟ - كلا .. الحب يطالبنا بالصدق.
فقلت بقلق: طبعا.
فقالت وهي تغمض عينيها: يجب أن أصارحك.
اعترفت بأن شخصا ما «خدعها» وهي في سن البراءة! وفي أثناء الاعتراف القصير اغرورقت عيناها، لم أفهم شيئا بادئ الأمر، ثم أدركت كل شيء ببلاهة كأنه دعابة، ثم اجتاحني شعور قدري بأن كل شيء محتمل، وأنني لا شيء، ثم هبطت في هاوية من الخمود والفتور والاستسلام المشلول، كأنها حفرة في قلب الشتاء ردمت بطبقات من الرماد. وجعلت ترنو إلي من خلال رموشها المبتلة ثم همست بيأس: ألم أقل لك؟
فتساءلت ببلاهة: هه؟ - أنت لا تحبني. - أنا! .. لا تقولي ذلك. - لن تغفر لي.
فسألتها جاذبا نفسي من تيار أفكارها: من هو؟ - لا يهم.
فسألت مصرا: من هو؟ - وغد من الأوغاد! - ولكن من هو؟ - لا تعذبني.
وتناولت حقيبتها وهي تقول: أستودعك الله.
فقلت بآلية: لا تذهبي.
فنهضت وهي تقول: أعطيتني الجواب بلا كلام. - ولكني لم أتكلم. - إني أرفض ما دون الثقة الكاملة.
فقلت وأنا أجد ارتياحا في الأعماق لنهوضها: تلزمني دقائق للتفكير.
فقالت وهي تمضي في كبرياء: أستودعك الله.
بدت لي المشكلة عقدة غير قابلة للحل. تكشف حبي عن ولع عنيف ليس إلا، وكأن حبي القديم لصفاء قد استنفد طاقتي للحب الحقيقي. وكانت تلك الهفوة مما لا يغتفر على أيامنا. كنا نحارب طبقات كثيفة من الماضي العتيق كلما تلاشت طبقة برزت تحتها طبقة راسخة تتطلب المعاناة والعناء لقهرها، كان علينا أن نقطع خمسة قرون وستة في ربع قرن. حزنت وخاب أملي ولكني لم أشك لحظة في أن ثريا قد خرجت من حياتي إلى الأبد، وامتنعت عن الحضور إلى الوزارة لزيارة عمها فلم تقع عيني عليها حتى كان المعرض الزراعي الصناعي الذي أقيم قبيل نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939. كنت أمضي وقتا في لونابارك الملحقة بالمعرض، ومعي صديق صباي عيد منصور، فمرت بنا ثريا بصحبة شقيقتها الكبرى وأبنائها، لم ترني ولكني رأيتها، ولما رآها صديقي مال على أذني هامسا: انظر إلى تلك الفتاة!
فسألته: ما لها؟ - من حي السكاكيني وجارة لخالتي.
وضحك ضحكة خبيثة، ورسم بيده حركة وقحة أدركت منها أنه الوغد المعتدي، فقلت بامتعاض لم يدرك مداه: أنت وغد!
فضحك باستهتار كعادته وقال: ورغم ذلك سمعت أنها مخطوبة وستتزوج في هذا العام!
ومرت أعوام كثيرة لم أر فيها ثريا، ولم أسمع عنها حتى ذهبت لزيارة الأستاذ سالم جبر عقب النكسة، فوجدت ثريا ضمن آخرين مجتمعين به في مكتبه، كنت في تلك الأيام ألتمس مجامع الزملاء والأصدقاء كما يلتمس المحترق مادة - غطاء أو ترابا أو ماء - ليطفئ به النار المشتعلة في ملابسه. وجدت عند الأستاذ سالم جبر نفرا من الزملاء مثل جاد أبو العلا، ورضا حمادة، وعزمي شاكر، وكامل رمزي، وسيدة وقورا فوق الخمسين عرفت فيها ثريا رأفت، ألقيت تحية عامة وجلست فلم تلمس يدي يدها ولكني شعرت بأنها تذكرتني كما تذكرتها، وكان الحديث يدور حول النكسة، تحديد أبعادها، تحليل أسبابها، واستقراء الغيب عنها، ومضى الزملاء في الانصراف ثم قامت ثريا فصافحت الأستاذ سالم وهي تقول: موعدنا يوم الاثنين.
فأكد لها الموعد، وهو يوصلها حتى الباب، ثم رجع إلى مكتبه وهو يقول: جاءت تدعوني إلى مناقشة وطنية بنقابة المعلمين.
فسألته متجاهلا: من هي؟ - الدكتورة ثريا رأفت، مفتشة كبيرة بالتربية.
ثم استطرد بعد قليل: زوجها من رجال العلم النادرين المكرسين حياتهم للبحث، أما هي فمن وجوه نهضتنا النسائية؛ امرأة تستحق أن يفخر بها جنسها، وأن يفخر بها الوطن.
ثم قال: يندر أن تجد امرأة في قوة شخصيتها وعلمها وخلقها.
تذكرت عيد منصور، تذكرت ضعفي وانهزامي، تذكرت نفرا من أصدقاء الصبا مثل خليل زكي، وسيد شعير، تذكرت أحمد قدري قريبي الذي لم أره منذ دهور، تذكرت عشرات وعشرات ممن تلاطمت معهم في مجرى الحياة، برزت وجوههم وسط هالة من غبار متعفن كما تبرز الحشرات في أعقاب انهيار بيت آيل للسقوط.
جاد أبو العلا
هو موجود وهو غير موجود.
ويرجع تاريخ معرفتي الشخصية به إلى عام 1960. تلفن لي في مكتبي طالبا مقابلتي؛ فرحبت به متأثرا بما يتمتع به اسمه من شهرة في دنيا الأدب، كان قد أصدر خمس روايات وربما أكثر، وكانت الإعلانات عن رواياته تلفت النظر لكبر المساحة التي تشغلها في الصفحات الأولى من الصحف، ويتبع نشر الرواية سلسلة من المقالات النقدية في الصحف والمجلات الأدبية، مغرقة في التقدير والثناء، وقد ترجمت رواياته جميعا إلى الإنجليزية والفرنسية، كما ترجم ما كتب عنها في الخارج إلى صحفنا، وهي تشيد بأعماله إشادة لا تتحقق إلا لكاتب ذي خطر وشأن. وتبعا لذلك قرأت له أكثر من رواية، ولكنني لم أستطع أن أتم واحدة، ولم أجد ضرورة لقراءة ما قرأت منها بعناية أو اهتمام، وأدهشني أنني لم أجد عنده موهبة تذكر، ولا على المستوى المحلي، وجميع أعماله تحولت إلى مسلسلات إذاعية وأفلام سينمائية، فلم تحقق أي نجاح، ولكنها كانت تشق طريقها بكبرياء كأنها درر.
ولما جاء لزيارتي، وجدته لطيفا مهذبا، لبق الحديث، سرعان ما تشعر بأنه صاحب قديم، وألا مكان للكلفة بينك وبينه، صارحني بأنه يود أن يتخذني صديقا ودعاني إلى صالونه الأدبي ببيته الجميل في الدقي، ومن يومها وأنا أتردد على صالونه من حين لآخر؛ فأجتمع به منفردا أو ضمن مجموعة من الزملاء، ولعل عبده البسيوني كان آخر من انضم إلينا بعد عامين أو أكثر من مقابلته التي لا تنسى معي، ولم يتوان عن عرض تاريخه علي منذ أول لقاء، أشار إلى صورة كبيرة مموه إطارها بالذهب وقال: كان أبي رحمه الله من تجار التحف بخان الخليلي.
وضحك عاليا وقال: لو سارت الأمور في مجراها الطبيعي لسجلت تاجرا فحسب ونجوت من انقسام الشخصية!
فسألته عما يعني بانقسام الشخصية فقال: شعرت منذ عهد مبكر بالموهبة؛ فألححت على أبي حتى وافق على إرسالي في بعثة خصوصية - عقب حصولي على الثانوية العامة - إلى فرنسا.
وهز رأسه وهو يبتسم إلي ثم قال: لم أكن أومن بالدراسة النظامية، ولا كانت هدفي؛ فالتحقت بمعهد لتعليم الفرنسية، ثم اتجهت بكل قواي نحو منابع الفن الحقيقية في المتاحف والمسارح وصالات الاستماع والكتب.
وأسهب في وصف تلك المنابع وتجربته التذوقية معها. - ولكني اضطررت إلى قطع دراستي بعد مرور ثلاثة أعوام؛ لوفاة والدي فعدت لإدارة معرضه بصفتي أكبر إخوتي وأرشدهم.
وحكى لي كيف انقسم - وما زال - بين التجارة وبين الأدب، وكيف استطاع أن يشق طريقه العسير، ويحقق موهبته باستغلال كل دقيقة من وقت فراغه القليل. وترك حديثه - والأحاديث التالية على مر الأعوام - انطباعا في نفسي لا يمكن أن يوصف بالثقة، كان كثير المرح عادي الذكاء أقرب إلى السطحية ذا طلاء ثقافي بلا أعماق، ومن هذا ومن قراءاتي السابقة لبعض رواياته ملت إلى تصديق ما يقال عنه في مجالس الفكر؛ مثل صالون الدكتور ماهر عبد الكريم، ومجلس الأستاذ سالم جبر وغيرهما. قالوا إنه أنفق أعوامه الثلاثة في فرنسا في مجالي اللهو والعبث باسم اكتساب التجارب الحية ومعرفة الإنسان. وشهدوا له بالمهارة في تجارته، مما عاد عليه بثروة طائلة، تزداد مع الأيام ضخامة. وهو في نظر الجميع محب للفن وربما للشهرة أكثر، ولكن بلا موهبة يعتد بها؛ مما دفع به إلى طريق مليء بالمتاعب، فقد صمم على أن يكون أديبا، وأن يكمل ما ينقصه من موهبة بماله، وكان يكتب تجاربه، ثم يعرضها على المقربين من الأدباء والنقاد، ويجري تعديلات جوهرية مستوحاة من إرشاداتهم، بل يقبل أن يكتب له بعضهم فصولا كاملة، ثم يدفع بالعمل إلى أهل الثقة منهم في اللغة لتهذيب الأسلوب وتصحيحه، غامرا كل صاحب فضل بالهدايا والنقود تبعا للظروف والأحوال. ويطبع الرواية على حسابه طبعة أنيقة فتخرج من المطبعة - على حد قول بعضهم - كالعروس، ومن ثم يوجه عنايته إلى بعض النقاد فيملأ نقدها أنهار الصفحات الأدبية، وينفق أضعاف ذلك على ترجمتها حتى فرض نفسه على الحياة الأدبية. وبنفس الأسلوب شق سبيله إلى الإذاعة والتلفزيون والسينما، دون اهتمام بربح مليم واحد، بل ويضيف إلى ذلك من ماله إذا لزم الأمر. كان يحتقر بيئة التجار وهي مصدر جاهه وثرائه وهو فيها كوكب محترم، ويغرس نفسه غرسا شيطانيا في بيئة الفن، وهي تأباه وهو فيها غريب محتقر. وقد سألت مرة الدكتور زهير كامل وكان الحديث يدور حول جاد أبو العلا: أي لذة حقيقية يجنيها من جهده الضائع، وهو أول من يعلم بزيفه؟
فأجابني الرجل: أنت مخطئ، لعله انتهى بتصديق نفسه. - أشك في ذلك. - ولعله بات يعتقد أن التجربة التي يقترحها أساسا لعمله هي كل شيء، أما الشكل .. أما الأسلوب .. أما الصناعة فأمور ثانوية لا وزن لها يقوم بها عبيد مأجورون!
فقال الأستاذ رضا حمادة مصدقا: لا نهاية ولا حد للغرور البشري.
فعاد زهير كامل يقول: الزيف في الحياة منتشر كالماء والهواء، وهو السر الذي يجعل من باطن الإنسان حقيقة نادرة، قد تخفى عن بصيرته في الوقت الذي تتجلى فيه لأعين الجميع.
وضحك زهير كامل، ثم قال بنبرة تسليم يائسة: بت أعتقد أن الناس أوغاد لا أخلاق لهم، وأنه من الخير لهم أن يعترفوا بذلك، وأن يقيموا حياتهم المشتركة على دعامة من ذلك الاعتراف، وعلى ذلك تصبح المشكلة الأخلاقية الجديدة هي: كيف نكفل الصالح العام والسعادة البشرية في مجتمع من الأوغاد والسفلة؟!
وظهر عبده البسيوني في صالون جاد أبو العلا متأخرا، عام 1968 أو بعد ذلك. وقلت لنفسي ساعة رؤيته - ولم أكن رأيته منذ لقائنا الرهيب بمكتبي - ها هو جاد أبو العلا يظفر بصيد ثمين حقا! وتصافحنا بحرارة كالأيام الخالية على عهد الدراسة، وكأن الخطيئة لم تكن. وكبحت رغبة شديدة كادت تدفعني إلى سؤاله عن زوجه وهل رجعت إليه، ومن ناحيته لم يشر بكلمة إلى ذلك. وقال لي: القافلة تسير والصعاب تذلل، وابني بلال في السنة النهائية بكلية طب القاهرة، وهو شاب نابغة، وسيكون له شأن، وأخته لا تقل نباهة عنه، وهي في كلية الصيدلة، وعما قريب سأستقبل عهدا من الاستقرار المالي والنفسي.
فهنأته بذلك وتمنيت له أصدق التمنيات، وقلت له: الظاهر أنك عرفت الأستاذ جاد أبو العلا حديثا؟
فقال لي همسا: منذ عامين، ولكني لم أتردد على هذا الصالون إلا مرات معدودات لم يتصادف وجودك بها.
ثم وهو يتبسم: إن أغلب مسلسلاته الإذاعية والتلفزيونية بقلمي!
وضحكنا معا ثم عاد يقول: وحتى الآن لم أوفق إلى بيع مسلسلة باسمي!
ولما فاز الأستاذ جاد أبو العلا بجائزة الدولة التشجيعية زارني الأستاذ عجلان ثابت، ومضى يضحك ساخرا وهو يقول: ألا يتقون الله؟!
وتحادثنا طويلا حتى جاء ذكر عبده البسيوني؛ فقال عجلان: لعلك لا تعرف أن زوجه كانت خليلة للأستاذ جاد أبو العلا؟
فجرى في باطني تيار مضطرب لم يدر به عجلان، ولا بأسبابه الحقيقية .. وقلت: اتق الله بدورك. - صدقني فأنا أخصائي في هذا النوع من الأخبار.
فسكت فعاد يقول: وعبده البسيوني يعرف ذلك أيضا، وقد ضبطهما في فيلا بالهرم، واكتفى بقطع العلاقة وتسلم حرمه، ثم أعقب ذلك صداقة وطيدة بين الزوج والعشيق السابق.
قلت باذلا جهدا غير قليل لتمالك أعصابي: متى كان ذلك؟ - منذ سنوات لعلها ثلاث أو أربع أو خمس! - ليكن. - يا له من رجل زائف! - عبده البسيوني؟! - هذا حمار بائس، إني أعني صاحب الجائزة الكبيرة. - نعم. - ومن عجب أن أبطال رواياته مثل للصدق والكرامة والفضيلة! - نعم.
فهتف ضاحكا: علينا اللعنة جميعا حتى يوم الدين.
جعفر خليل
بذكره يذكر حينا «العباسية» في العشرينيات من هذا القرن، حي الهدوء الشامل والحقوق المترامية، والحدائق الغناء. شرقيه قصور كالقلاع، وشوارع شبه خالية يجللها صمت وقور، وغربيه بيوت مستقلة ذوات حدائق خلفية صغيرة تزدان بكرمة وشجرة جوافة وأرض مغروسة بالشيح والورد والقرنفل، تحدق بها الحقول، في طرفها ساقية تدور بين خمائل من أشجار الحناء، وتزكو رقعتها بالجرجير والطماطم، وتنتثر فوق أديمها نخلات معدودات، أما فيما يلي أسوار البيوت فتمتد غابة من أشجار التين الشوكي. في النهار لا يخرق صمتها إلا جلجلة الترام وفي الليل لا يتردد في جنباتها إلا صيحة الخفير، وإذا هبط الليل لفها بظلامه فلا يخفف من غلظته إلا إشعاعات الفوانيس المدلاة من أعالي أبواب بيوتها. ويوم انتقلنا من الحي القديم إليها، ومضى الحمالون بالأثاث إلى داخل البيت الجديد تجمع في الطريق صغار متقاربو الأسنان يستطلعون، فعندما خرجت مستطلعا كذلك وجدت أمامي جعفر خليل، سرور عبد الباقي، سيد شعير، عيد منصور، رضا حمادة، خليل زكي، شعراوي الفحام. وقفنا نتبادل النظرات حتى سألني خليل زكي: تلعب معنا؟
ترددت بلا جواب فسألني سرور عبد الباقي: من أي حي؟
فأجبت متشجعا بأدب اختص به: حي الحسين.
فسألني جعفر خليل: تلعب الكرة؟ - كلا. - تعلمها، متى تدخل المدرسة الابتدائية؟ - عقب الإجازة. - سندخلها جميعا في وقت واحد.
وسأل رضا حمادة: هل قابلتكم مظاهرات وأنتم قادمون؟ - جئنا عن طريق الحسينية، المحال والمقاهي مغلقة في إضراب شامل. - هل صادفكم إنجليز؟ - دورية واحدة، هل ترونهم هنا؟
فضحك جعفر خليل، وقال وهو يشير إلى ناحية ما: ثكناتهم هناك في قلب العباسية، ستراهم عند كل خطوة تخطوها.
وسأل سرور عبد الباقي: أتممت المدرسة الأولية؟ - مكثت بها عامين وعامين قبل ذلك في الكتاب. - لا توجد هنا كتاتيب!
فسكت وأنا أرمقهم في عدم ارتياح، غير أن صداقتنا كانت قد بدأت، وهي لم تنقطع بعد ذلك إلا بالموت في حال شخصين منهم. وفضلا عن ذلك كان جعفر خليل الوحيد الذي زاملني أيضا في مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية والجامعية، وكان يمتاز بخفة الروح، وحلاوة النكتة، والتفوق في اللعب والجد معا. وقد دعاني إلى مصاحبتهم لمشاهدة مباراة كرة القدم بالنادي الأهلي، ولما سألته عن التكاليف أجاب بكل بساطة: ولا مليم.
ذهبنا بجلابيبنا وصنادلنا مشيا على الأقدام، مخترقين شوارع الظاهر، الفجالة، ميدان المحطة، عباس، ميدان الخديو إسماعيل، جسر قصر النيل، حتى بلغنا النادي، وإذا بالمجموعة تتسلق شجرة كبيرة وتتخذ أماكنها فوق الغصون فلم يسعني إلا أن أفعل مثلهم، في ذلك اليوم شاهدت مباراة كرة قدم لأول مرة في حياتي، وعرفت لاعبين لم يمح أثرهم من نفسي حتى اليوم مثل حسين حجازي ومرعي، ورأيت الإنجليز وهم يلعبون وكنت أعتقد أنهم يقتلون فقط، وهالني أن أرى علي الحسني وهو يكاتفهم فيطرحهم أرضا فلا يعقب ذلك معركة دامية. سررت وسعدت، وبدأت أعشق هواية جديدة، وآمنت بأنه يمكن الانتصار على الإنجليز ولو في ملعب النادي الأهلي، ولكننا تأخرنا طبعا في العودة إلى بيوتنا، وتعرضت هناك إلى حساب شديد. وانضممت إلى ناديهم «قلب الأسد» واشتركت في اللعب الذي كان يجري وسط غابة التين الشوكي، وقدر لي أن أنافس في المهارة جعفر خليل نفسه، بل وعيد منصور الذي توهم في ذلك الوقت أنه يعد نفسه لاحتراف اللعبة. وكان جعفر خليل حسن الصوت فكان يغني لنا بعض أغاني سيد درويش ومنيرة المهدية وعبد اللطيف البنا، وبتقدم السنين راح يؤلف الزجل، بل كان يحول بعض مناظر الأفلام إلى مواقف زجلية ويخرجها ويشترك في تمثيلها في غابة التين الشوكي أيضا، ولم أعرف له قصة حب واحدة، وإن ضبطته مرة وهو يعلم بنتا يهودية من جاراته كيف تركب الدراجة، وبتوثق علاقتي به عرفت أنه فقير بحق، بل لعله كان أفقر المجموعة، إذ كان أبوه موظفا صغيرا رغم تقدمه في السن، ورغم طول مدة خدمته، ولكنه كان برغم ذلك أكثر مرحا وسيطرة. ورغم تعدد ميوله في اللعب والفن لم يبد اهتماما بالسياسة أو الوطنية كما كانت تعرف في تلك الأيام، وظل على سلبيته تلك حتى الجامعة وبعد التخرج. وقلت له يوما: عجيب ألا تهتم بما يصهرنا حتى الذوبان.
فقال ضاحكا: للوطنية رجالها، لست منهم وإن تمنيت لهم النجاح. - ولكن كل مواطن فهو من رجالها. - إني أجد سعادتي بين أهل الفن.
فحتى وهو تلميذ بالثانوية كان يتردد على نقابة الموسيقيين الأهلية ويشهد حفلاتهم المجانية، ويحضر مجالس الزجالين بالقهوة الخديوية، وكان يتمتع في ذلك بجرأة انفرد بها وحده. وعن طريق المرحوم كمال سليم عرف الطريق إلى الوسط السينمائي، فقام بدور ضمن الكومبارس في بعض الأفلام، وقدم قصصا سينمائية وهو طالب بالجامعة، حتى وفق إلى المشاركة في كتابة سيناريو عقب تخرجه عام 1934. وعين مدرسا للغة الإنجليزية، وعرف في المدرسة بنشاطه الرياضي وإشرافه على فريق التمثيل، وسحر بشخصيته الخلابة الألباب، وقال لي: الوظيفة خطوة ليس إلا ولكني عرفت هدفي.
وكان من الشاق أن تعرف له هدفا محددا، أزجال هو أم ممثل أم مطرب أم سينارست؟ فسألته: وما هدفك يا صاحب الأهداف؟ - السينما! - السينما؟ - أجل، هي مجمع الفنون، هي دنيا السحر والرفاهية والجمال، ولي فيها مجال وأي مجال في التمثيل والكتابة والغناء.
ثم وهو يضحك: وشكلي مقبول، لا تحكم علي بماضي، الفقر لم يوفر لي الغذاء الكافي، لكنك سوف تحكم بعينيك عندما يستفيد جسمي من اللحوم التي طالما حرمت منها ظلما وعدوانا!
وفيما بين تخرجه ونهاية الحرب العظمى الثانية تقدم في نشاطه السينمائي بخطى ثابتة وملموسة، اقتبس أربع قصص، وكتب ستة سيناريوهات، ومثل أدوارا ثانوية في عشرة أفلام، وألف عشرات الأغاني، وتحسنت أحواله المالية بدرجة طيبة جدا، وكان بارا بأسرته الفقيرة؛ فنقلها إلى عمارة جديدة بالشارع العام الذي تغير مع الزمن شكله ومضمونه، وأقام معها وإن استأجر شقة خاصة في شارع شامبليون لعمله - أو قل لعمله ومزاحه - وحافظ بالمثل على علاقاته القديمة بحيه وأصدقائه. وإذا به يختار عضوا ببعثة إلى الولايات المتحدة في العام الذي أعقب انتهاء الحرب. ولم تكن البعثة في حسبانه، ولكنه وجدها ممكنة بوساطة صديق من الوسط الفني ذي صلة طيبة بوزير المعارف. ولم تنقطع عني رسائله طوال مدة بعثته، ومنها علمت أنه يعد رسالة للدكتوراه عن الفن في المجتمع العربي، ومنها علمت أيضا أنه ينوي دراسة السيناريو في لوس أنجلوس. وفي رسائل تالية علمت أنه يراسل بعض المجلات بأجر طيب وأنه سيجرب حظه في الكتابة للإذاعة، وأنه سيعود بمقدار طيب من الدولارات الأمريكية.
وعاد إلى مصر عام 1950، وزرته في اليوم التالي مباشرة لعودته في مسكن الأسرة، ولم يكن بقي فيه سوى أمه. تعانقنا بحرارة. ووجدت في زيارته كثيرين من أهل الفن، كما وجدت أصدقاء الطفولة جميعا عدا شعراوي الفحام، الذي قتل في غارة في أثناء الحرب، وسئل أيبقى في الوظيفة أم يستقيل للتفرغ للفن فأجاب: سأبقى حتى أستوفي المدة الإلزامية بمقتضى البعثة وهي خمس سنوات!
وقال: الحياة الأمريكية حياة غريبة وعظيمة، والأمريكي ذو مزايا لا يستهان بها، ولكنني لم أستطع التخلص من إحساس عام بالنفور والكآبة بسبب قنبلة هيروشيما.
وقال أيضا: يخيل إلي أن الأمريكيين يتجهون الآن نحو الاهتمام بالشرق اهتماما غير عادي، وأن علينا أن نعمل لذلك ألف حساب!
وقال بحماس: لدي أفكار قيمة سيكون لها شأنها في تطوير فن السينما في مصر.
ثم غلب المرح على الجلسة، وضجت الحجرة بالقهقهات وبخاصة عندما انضم إلينا المرحوم الشيخ زكريا أحمد.
وغادرت البيت مساء بعد أن دعاني إلى الاجتماع به صباح الجمعة بمسكنه الخاص بشامبليون .
وفي صباح اليوم التالي قرأت في الأهرام نعيه.
نعيه؟!
أجل نعيه.
فقد غادر مسكنه في الثامنة مساء، فزلت قدمه فوق قشرة موز ففقد توازنه وسقط فارتطم رأسه بحافة الطوار وسرعان ما فاضت روحه في ثوان معدودات أمام باب العمارة.
حنان مصطفى
سمعت صوتا يناديني فتوقفت عن السير متلفتا إلى الوراء؛ فرأيت سيدة في الحلقة السادسة تنظر نحوي بعينين زرقاوين باسمتين، تطلعت إليها لحظات متسائلا ثم اقتحمني التذكر، والعرفان كنفحة من عبير الأزهار، فهتفت: حنان!
فقالت فيما يشبه الامتنان: نعم .. حنان .. كيف حالك؟
وتصافحنا بحرارة ونحن نميل إلى جانب من الطوار، وراحت تقول: تذكرتك بسهولة، لم تتغير تغيرا يذكر، وخفت ألا تتذكرني، ولكن الظاهر أنني لم أتغير بصورة تدعو لليأس، ماذا جاء بك إلى جليم في مايو أم إنك مقيم هنا في الإسكندرية؟ - بل جئت لاستئجار شقة للصيف، وأنت؟ - نفس السبب، وحدك؟ - نعم. - وأنا كذلك.
وتبادلنا السؤال عن الأهل فعلمنا بمن ذهب وبمن بقي، وأخبرتها عن حالي الاجتماعية، فقالت: لي أربع بنات متزوجات، وأنا جدة من زمن، أما زوجي فقد توفي منذ عامين.
ومشينا على مهل على الكورنيش حتى سألتني: متى رأيتني آخر مرة؟
فتفكرت مليا ثم قلت: منذ أربعة وأربعين عاما؟
فهتفت ضاحكة: يا للفضيحة، وبرغم ذلك عرفتك من أول نظرة! - كما عرفتك! - بل ترددت قليلا. - من المفاجأة.
فضحكت ثم تساءلت: أتذكر حب زمان؟
وجعلت تتكلم بتدفق وتضحك بين ذلك بصوت عال، حتى ذكرتني بما كان يقال عن جنون أمها. ولبثنا معا دقائق ثم ذهب كل إلى طريقه، ورجعت إلى عباسية الحقول والحدائق والهدوء الشامل. وعاود ذاكرتي بيت آل مصطفى، الأب والأم والابن وحنان، بيت بهر أخيلتنا بسحره الخاص، فعند الأصيل يجلس الأب في السلاملك المطل على الطريق، يجلس على كرسي هزاز وبين يديه منضدة عليها زجاجة ووعاء ثلج، وكأس وطبق مزة. رجل بدين متوسط القامة أحمر الوجه أصلع يتحدى بكل استهانة تقاليد الزمان والمكان. في أول الجلسة يبدو صامتا رزينا بل متعاليا منطويا. ثم ينشرح صدره بالانتشاء فيجود بنظرات إنسانية على الطريق والعابرين، وبعد ذلك لا يستنكف من مخاطبة بياعي الملانة، والبطاطة، والسحلب، والدندرمة تبعا للفصول، وربما مازحهم واستعادهم الإنشاد المطرب الذي يعلنون به عن بضاعتهم على عادة ذلك الزمان. وكنا نقف غير بعيدين لنسمع ونشاهد ونشارك في السرور. ونتابع تعليقاتنا مرة مستنكرة في الغالب إلا ما يصدر عن جعفر خليل الذي كان يحبه، ويعجب به، ويعتبره فرجة لا تقل في بهجتها عن السينما والسيرك، وتظهر خلال تلك الجلسة اليومية ربة البيت، طويلة نحيلة تتوكأ على عصا لعرج خفيف بها، فتلقي على ما حولها نظرة مستكبرة متأففة، والويل لنا إذا رأتنا نتفرج ونضحك فتنهال علينا قدحا وتقريعا، ولعنا لآلنا الذين لم يحسنوا تربيتنا، ثم تختفي من السلاملك وهي تسب الناس والبلد. كانت تعد - مثل زوجها - غير طبيعية، وكثيرا ما كانت ترى وهي تتشاجر مع الباعة والخدم، وقيل إنها كانت تكبر زوجها بعشرة أعوام، وإنها غنية تملك أرضا ونقودا على حين لا يملك زوجها إلا حصة في وقف، وقد تزوجت منه - رغم أنه لا علم ولا عمل - لعراقة أصله، وكان ضمن المترددين على الطريق غجرية ترعى الأغنام، حافية في جلباب أسود مشدود عند الوسط بحزام، متلفعة بخمار أسود ينسدل من تحته على وجهها برقع أسود أيضا يخفي الوجه ما عدا العينين. وكان بيننا وبينها معركة لا تهدأ فكلما أقبلت وراء الأغنام نصيح بصوت واحد:
يا غجرية
حلي حزامك
من قدامك
فتقذفنا بما في مجال يديها من طوب، ومضى مصطفى بك يهتم بها، ويزجرنا مدافعا عنها، ويوما قال لنا سيد شعير، وكان أسرعنا إلى التطلعات الجنسية: ألا ترون ما بين الخروف والماعزة؟!
وأعقب ذلك مشاجرة عنيفة بين البك وحرمه، تصدعت لها جدران البيت، وعصفت بالشارع الهادئ حتى ازدحمت خصاص النوافذ بأشباح الحريم، وغادر الرجل البيت فلم ير بعد ذلك، ولكن شاع في الحي أنه تزوج من الغجرية، وأقام معها في الدرب الأحمر، ووجدت الزوجة نفسها بلا رجل فلعبت دوري الرجل والمرأة معا.
كانت غريبة الأطوار حقا، ومن آي ذلك أنها سمحت لحنان باللعب مع أترابها على حين منعت أخاها الأكبر سليمان من مغادرة البيت إلا بصحبتها! كان صبيا جميلا رشيقا، كنا نراه وهو يلعب في الحديقة منفردا أو مع خادمة، وكان وديعا مهذبا أرق من أخته نفسها، وكنا نبادله النظرات فنود لو يلعب معنا، ويود لو نلعب معه، ولكننا ظللنا غرباء حتى غادر مع أسرته الحي، وتعلق قلبي بحنان قبل أن أناهز البلوغ، كانت بيضاء، زرقاء العينين ناعمة الصوت، وكانت ليالي رمضان فرصة هنية للصغار من الجنسين، يجتمعون في الشارع بلا اختلاط، ويتراءون على ضوء الفوانيس وهم يلوحون بها في أيديهم، وكنا نترنم بأناشيد رمضان ونتبادل مشاعر الحب وهو كامن في براعمه المغلقة، وقنعت عواطفنا الساذجة بتبادل النظرات، وإظهار الرشاقة في الجري والغناء، أو المخاطبة بالابتسام في خفاء. ولما بلغت الثانية عشرة من عمرها منعت عن الطريق والمدرسة معا. لم يكن بيتها يؤمن بالتعلم أو العمل ويعتبرهما من ضروريات الفقراء فحتى سليمان هجر المدرسة قبل أن يحصل على الابتدائية. وباختفاء حبيبتي من الطريق اشتد ولعي بها، وصارت شغلي الشاغل. وكانت تريني نفسها خطفا من النافذة، أو نتبادل المشاعر بإشعال أعواد الثقاب في الظلام فوق الأسطح، وخطونا خطوة جديدة بفضل خادمتها التي ترددت بيننا خفية حاملة التحيات والورود، وسعدت بذلك سعادة لا توصف، فطمعت في المزيد منها، ولكني لم أدر كيف، وتسلل إلى روحي قلق نشيط غامض تتجاذبه قوى خفية من البهجة والكآبة، وإذا بأمها تزورنا ونادرا ما كانت تزور أو تزار، وبصراحة لا يمكن أن تصدر إلا عن امرأة مثلها اقترحت أن نتزوج!
وأحدث اقتراحها ذهولا، وقالوا لها: إنه شرف كبير ولكنهما لم يبلغا الثالثة عشرة من عمرهما.
فضربت بعصاها الأرض وقالت باستهانة: الزواج يعقد أحيانا بين أطفال في الأقمطة.
فقالوا: ولكنه لم يتم دراسته الابتدائية بعد وما زال أمامه مشوار طويل.
فقالت بعجرفة: بنتي غنية، ولن يجد حاجة إلى شهادة أو وظيفة. - ولكن التعليم ضروري والوظيفة ضرورية. - كلام فارغ. - إنه لا يملك ولن يملك شيئا، ولن يقبل أن يكون مجرد زوج لزوجة غنية.
فتساءلت بحدة: والعمل؟ - لا سبيل إلا الانتظار حتى يتم تعليمه ثم له أن يتزوج بعد ذلك. - وما مدى هذا الانتظار؟ - عشرة أعوام على الأقل.
فصرخت المرأة: إنكم تركلون النعمة.
ووقفت غاضبة ثم رددت بنبرة أقوى: إنكم تركلون النعمة!
وغادرت البيت عابسة متعجرفة، ودار تحقيق معي لمعرفة الأسباب المجهولة التي تقف وراء تلك الزيارة الغريبة، ولم أكن أتخيل إمكان وقوع ذلك. ولم أشك في أن الأم المجنونة اطلعت على سر ابنتها، فتنازلت لاقتراح الحل السعيد كما تتصوره وهي واثقة من قبوله، وتأثرت لذلك غاية التأثر، ورغبت رغبة صادقة في الاعتذار إلى حنان، ولكن هالني أنها لم تعد تلوح في نافذتها، كما كفت خادمتها عن المجيء إلي، ورجعت عصر يوم من المدرسة لأعلم أن آل مصطفى قد غادروا البيت والحي إلى مكان مجهول. وعانيت لأول مرة في حياتي عذاب الحرمان والهجر، ولكن حدته لم تقتلني بل ولم تبطش بي، أطبقت علي حينا، ثم مضت تخف وتبهت حتى استحالت ذكرى مجردة من أي انفعال.
ولم تقع على حنان عيناي مذ غادرت حينا حتى التقيت بها في جليم في مايو 1969 وهي تقترب من الستين من عمرها، أما شقيقها سليمان فقد ترامت إلي بعض أنبائه عن طريق المرحوم جعفر خليل عقب انعطافه إلى الوسط السينمائي؛ إذ صادفه ليلة في استديو مصر وهو يعمل راقصا ضمن فرقة جيء بها للتصوير في بعض مناظر فيلم استعراضي، قال: سلمت عليه وذكرته بنفسي فتذكرني، وأخبرني بأنه هوى الرقص وكرس له حياته.
ودهشت يومذاك لتلك النهاية غير المتوقعة؛ فقال لي جعفر وهو يضحك ضحكته الكبيرة: يبدو لي أنه يمارس هوايته وحياته في حرية مطلقة!
وفي لقاء جليم أخبرتني حنان أن أباها توفي في ختام عام انتقالها من العباسية إثر جراحة لاستئصال الزائدة الدودية، وأن أمها توفيت منذ عامين فقط، أما سليمان فقد انقطع عنها انقطاعا كليا فهي لا تعلم أخباره إلا من المجلات الفنية.
خليل زكي
كان اسمه يطلق على الشر والعدوان بين أصدقاء العباسية. فرضته الجيرة فرضا لا حيلة لنا فيه ولا اختيار، وأي اختلاف معه يعني معركة فلم يفلت أحدنا من عدوانه. حتى اليوم في جبيني أثر من ضربة قبقابه، اختلف رأيانا في حسين حجازي ومحمود مختار، أيهما أمهر في اللعب فقلت إنه حسين حجازي، وقال إنه محمود مختار، ثم كانت ضربة القبقاب فسال الدم على وجهي وجلبابي، وتشاجر مع جعفر خليل لاختلاف حول شارلي شابلن، وماكس لندر. وتضارب مع عيد منصور لاقتراضه منه قرشا ومماطلته في رده، ولم يكن له كفء في مجموعتنا سوى سيد شعير، ولما نشب بينهما القتال شهدنا معركة عادلة لأول مرة، فسال الدم من أنفيهما معا وتمزق جلبابهما، وتخيلنا ما ينتظره في البيت بسبب تمزق جلبابه فتضاعف سرورنا، ولم تجد معه المقاطعة فسرعان ما يتناسى الخصام، ويقبل علينا هاتفا «صافية يا لبن» فإما نقبله وإما يتجدد القتال. على أنه من الحق أن أعترف بأنه لم يخل من فائدة لنا، فقد كان قائدنا في المعارك التي تنشب بيننا وبين غلمان الأحياء القريبة خاصة في أعقاب مباراة الكرة. وكان أبوه عطارا في بين الجناين، وكان يعامله بفظاظة ضرب بها المثل، وكثيرا ما كان ينهال عليه ضربا في الطريق على مرأى من أصحابه، كان يضربه بقسوة وحشية وبلا رحمة، وكان خليل يمقته مقتا ويحلم ليل نهار بموته، وكان الأب مدمن أفيون، وكان خليل من أفشى سره وشهر به في كل مكان، وكان أسوأ مثال لرب الأسرة، ولكنه خص خليل بلب كراهيته وشراسته، وكنا نتابع تلك العلاقة باستغراب وفزع، وفسرها سرور عبد الباقي تفسيرا دينيا فقال: إن الله سلط عليه أباه كما سلط الطوفان على آل نوح!
ولم يفلح خليل في دراسته الابتدائية، ولما تكرر سقوطه شغله أبوه في دكانه وتنفسنا الصعداء كما يقولون، وخيل إلينا أننا تخلصنا من شره، ولكنه لم يغب عنا أكثر من شهر واحد، وأقبل علينا ضاحكا وهو يقول: عادت ريمة لعادتها القديمة.
فقلنا ونحن نداري خيبتنا: خير إن شاء الله. - طردني ابن المجنونة! - من الدكان؟ - ومن البيت!
وجاءنا سيد شعير بالأخبار - كان أبوه تاجرا ومن أصدقاء والد خليل - فأخبرنا بأن خليل اعتدى على زبون بالضرب، وتكررت سرقاته لنقود الدكان حتى اضطر الرجل إلى طرده، وجمنا للأخبار، وأدركنا أنه سيتفرغ لنا بثقله وعناده، وبالفعل تحملنا نفقاته في المقهى والرحلات، وعدا ذلك فلم ندر شيئا عن أين يذهب بقية الأوقات ولا أين ينام ولا كيف يأكل. وفي تلك المرحلة من دراستنا الثانوية اتصل جعفر خليل بدنيا السينما فجره معه ليعمل ضمن الكومبارس فدرت عليه قليلا من النقود، وهناك التقى بسليمان مصطفى الراقص فحام حوله بغريزته النفعية. وما لبثت أن نشأت بينهما صداقة غريبة فسار في ركابه وانتفع إلى أقصى حد بماله. وكان جعفر خليل يحكي لنا مغامراته السينمائية تلك وهو يضحك من أعماق قلبه، حتى قال لنا يوما: صاحبنا تمادى كعادته حتى ضاق به سليمان فطرده!
فهتفنا ونحن نتوقع شرا: طرده؟! - وانقلب عليه يهدده ويتحرش به. - وقع المسكين في شر أعماله! - ولكن سليمان صديق لقوم من الكبراء فما يدري صديقنا خليل إلا وهو يساق إلى نقطة الشرطة، وهناك جلد حتى بح صوته من الصراخ، ثم أفرج عنه بعد ما أخذ عليه تعهد بألا يتعرض للشاب.
وعاد خليل يتسكع هنا وهناك، ثم اختفى زمنا فلم نعد نسمع عنه خبرا، وكان عيد منصور أول من جاءنا عنه بنبأ إذ تسلل ذات ليلة إلى بيت دعارة سرية بالسكاكيني. - فلمحته هناك يجلس مع المعلمة كأنه شريك!
ولكن جعفر خليل هو الذي جاءنا بالخبر اليقين، كان أحب مجموعتنا إليه مذ فتح له بابا للزرق فأفضى إليه بسره. كان يذهب إلى أي بيت دعارة كأنه زبون، ولما يقضي وطره ويطالب بالنقود يهدد بإبلاغ الشرطة، فإذا استعانوا عليه بحامي البيت جندله، وما يلبث أن يفرض نفسه «حاميا» للبيت، ولم تمر فترة طويلة حتى شمل بحمايته جميع بيوت الدعارة في منطقة السكاكيني، بذلك تحسنت أحواله واستقرت ميزانيته وعرف النعيم، وكانت حياة خطرة مهددة، ولكنها كانت تناسبه كما كان يناسبها، وتدرج فيها في مدارج الرقي حتى وثب به نشاطه إلى بيوت الدعارة الفاخرة في وسط المدينة، وابتسم له الحظ فقدم خدمة (غرامية) لطبيب كبير، وابتسم له الحظ مرة أخرى عندما عين الطبيب عميدا لكلية الطب فكافأه بإلحاقه بوظيفة إدارية بمستشفى قصر العيني. هكذا وجد خليل زكي نفسه موظفا في مستشفى كبير، موظفا يخطر تحت رعاية العميد، مرتبه بسيط حقا ولكن أرباحه خيالية. ورجع يزورنا في المقهى وهو بادي النعمة فيطلب النارجيلة والشاي الأخضر وينظر إلينا من فوق كما يجدر بموظف يجالس تلاميذ. وقد سألت جعفر خليل مرة: وماذا عن المهنة الأخرى؟
فقال ضاحكا: الظاهر أنه لا فكرة لك عن أرباح المستشفى؟! - إذن قطع علاقته بالبيوت؟ - طبعا ... عدا المختار من البيوت الرفيعة ... الممتازة جدا ... ومن بعيد لبعيد ... وليؤدي خدمات نادرة للصفوة.
وكان على علاقة بقصاب غني من مدمني المخدرات فخطب منه كريمته. وكانت الوحيدة التي بقيت من ذرية الرجل بعد أن قتل أخواها في المظاهرات التي اجتاحت البلاد في أول عهد إسماعيل صدقي. وتزوج خليل من فتاة موعودة بميراث كبير عبارة عن أربع عمارات في شارع فاروق غير النقود السائلة، وعقب الزواج بعام واحد ضبط القصاب الغني متلبسا بتعاطي المخدر فقبض عليه وحكم عليه بالحبس عاما، ولكن صحته لم تحتمل ذلك فمات في مستشفى السجن، وانتقلت إدارة الأملاك إلى يد خليل زكي، وعندما ترامت إلينا تلك الأخبار لم يشك أحد منا في أن خليل هو الذي أوقع بحميه ليستولي على ثروته، وتسلطت علينا تلك الفكرة لحد الإيمان. قال عيد منصور فيما يشبه الحسد: صفقة تاريخية.
وقال جعفر خليل ضاحكا: عليه العوض في العمارات الأربع.
وقال رضا حمادة: مسكينة، سنراها متسولة في الطريق عما قريب!
وجاءت الحرب وذهبت ولم أكن ألقاه إلا في النادر، ومنذ اجتمعنا في مأتم المرحوم جعفر خليل عام 1950 لم أره، ولم يخطر ببالي حتى عام 1970، كنت جالسا بالتريانون في أوائل الخريف حين وقفت أمامي سيارة بويك سوداء، ورأيت وجها ينظر نحوي من نافذتها، وأقبل نحوي ضاحكا فسلمنا وجلس، رغم كبره بدا بجسمه القصير مدمج التكوين قوي البنيان، كما بدا شرس السحنة همجي المنظر فلم ترفعه بذلته الشركسكين إلا قليلا، وظل محتفظا بطربوشه ليخفي صلعة مشوهة بآثار خياطات جراح قديمة من مخلفات معاركه، تذاكرنا أخبار الصحاب ثم قال: لعلك لا تعلم بأنني أصبحت من أهل الإسكندرية؟ - حقا؟ - آخرة العنقود طالبة بالآداب لم تجد في القاهرة متسعا فقررت الإقامة في الإسكندرية، وابتعت فيلا في لوران، ستراها بنفسك!
فشكرته وسألته: ووظيفتك؟ - أصبت منذ عامين بذبحة صدرية فاعتزلت الخدمة. - سلامتك. - صحتي عال ولكني لا أحترم كثيرا الإرشادات الطبية.
وضحك حتى كشف عن أسنانه الملونة ثم قال: لي غير البنت التي حدثتك عنها ثلاثة مهندسين وطبيب!
فأبديت الإعجاب والاستحسان، فقال وهو يغرق في الضحك: عرفت كيف أكون أبا!
ثم بنبرة أسف: وددت لو جاءوا مثلي لا يهتمون إلا بأنفسهم ومستقبلهم، ولكنهم دوخوني بمناقشاتهم السياسية.
وجعلت أختلس إليه النظرات متسائلا، ترى هل يثب إلى العدوان إذا تهيأت أسبابه؟ إلى أي مدى تغير حقا؟ وكيف ينظر اليوم إلى ماضيه؟ وبأي صورة يتصور أمام أبنائه؟ وهل يطيق أن يعيد أحد أبنائه سيرته؟ وألا يعتبر ثلاثة مهندسين وطبيب كفارة عن أي ماض أسود؟ وأي الحلين كان أفضل، أينجو من القانون رغم جرائمه ليهدي للوطن أربعة من العلماء أم كان يقبض عليه لتستقر العدالة فوق عرشها؟! وتذكرت قول الأستاذ زهير كامل: «بت أعتقد أن الناس أوغاد لا أخلاق لهم، وأنه من الخير لهم أن يعترفوا بذلك، وأن يقيموا حياتهم المشتركة على دعامة من ذلك الاعتراف، وعلى ذلك تصبح المشكلة الأخلاقية الجديدة هي: كيف نكفل الصالح العام والسعادة البشرية في مجتمع من الأوغاد؟»
درية سالم
- اسمحي لي أن أحييك.
فارتسم ظل ابتسامة على شفتيها فقلت متشجعا: غير معقول ألا نتبادل تحية بعد ما كان.
فخرجت عن صمتها قائلة: بعد ما كان؟ - بعد ما كان من عشرة طويلة بين أعيننا.
فضحكت ببراءة وقالت: نقبل التحية. - هذه هي الخطوة الأولى. - هل توجد خطوات أخرى؟
كانت تجيء بأبناء ثلاثة إلى المنتزه، فيستحم ثلاثتهم في البحر على حين تجلس هي منفردة في الكازينو تراقبهم من النافذة، لفت نظري إليها وجه بشوش، وجسم فوار بالنضج الأنثوي. وعشقت في عينيها نظرة ودودا كأنما خلقت للاستقبال والترحيب. وسرعان ما شعرت بأن ثمة دعوة رقيقة تطالعني كالزهرة الناعمة وأن تجاهلها فوق طاقة البشر. وتبادلنا كلمات عابرة فاتفقنا على موعد في حديقة البجعة.
وآمنت وأنا في الطريق إليها بأنها امرأة من نوع خاص، فلعلها أرملة أو مطلقة. ولكنها قالت لي ببساطة: أنا متزوجة!
فقلت مأخوذا: ولكنني أراك دائما منفردة. - هو في بعثة قصيرة تنتهي هذا العام 1960.
فوجمت فسألتني ضاحكة: أتخاف من النساء المتزوجات؟ - إني أفكر ...
فقاطعتي قائلة: فكر في إعداد مكان آمن نلتقي فيه في القاهرة!
فقلت بحماس ظاهري: اتفقنا. - ولا تسئ بي الظن! - وكيف ولم؟ - لعلك تتساءل عما وراء امرأة لبت لك أول إشارة؟
وكان ذلك ما يبدو ببالي ولكنني قلت: لم أكن دونك استجابة وكنت البادئ!
فقالت برقة: من حقنا أن ننعم ببركة الصراحة.
تأملت كل شيء بوعي شأن من لم يقع تحت سيطرة مجنونة، وقلت لنفسي إني أعجب بهذه المرأة وأرغب فيها ولكنني لن أحبها، وتهيأ لنا المكان في طريق سقارة، وتخيلت خلوة حمراء مشتعلة، ولكن ما إن أغلقت الباب وراءنا حتى وجدتني بحضرة امرأة جديدة، جلست مسترخية على كنبة، حتى التلفيعة الحريرية لم تنزعها من حول عنقها، تبدت هادئة مستسلمة تطالعني بعينين ملؤهما الحنان، ورحت أداعب أطرافها وألثم فاها فتبادلني عواطفي بابتسامة محبة قانعة، ولما قدمت لها كأسا اعتذرت فلما دعوتها إلى الفراش همست في أذني: ليتنا نمضي وقتنا في سعادة بريئة هادئة.
فقلت محتجا: لا أصدق.
فنهضت وهي تقول: ولكن لا تعتبره غاية في ذاته.
وبالرغم من أن التلاقي كان جذابا إلا أني آمنت بأنه كان من الممكن لها حقا أن تمضي الوقت في سعادة بريئة هادئة. ثمة تناقض كبير بين المرأة اليسيرة المستجيبة لدى أول إشارة، وبين هذه المرأة الرقيقة الزاهدة، وقلت لها: أنت شخصية غريبة! - حقا! .. لم؟
ولما تلكأت في الإجابة سألتني: هل تجد صحبتي عزيزة محببة؟ - بكل جدارة. - هذا ما يهمني حقا.
وتتابعت اللقاءات أسبوعيا، بلا حب حقيقي من ناحيتي، وبلا دافع يبرر الخيانة من ناحيتها، ولما رفعت الكلفة بيننا قلت: أعترف لك بأنني - في كازينو المنتزه - توهمت أنك امرأة لعوب!
فسألتني باهتمام: ماذا تعني؟ - أعني معنى بريئا! - سامحك الله!
فتناولت يدها بين يدي وقلت: إني أتساءل عما يدفعك إلى حضن رجل آخر؟ - آخر؟! - أعني غير زوجك؟
فقالت وهي تسبل جفنيها في استياء: لذلك يضيق الناس بالمحققين!
ولكن باطراد اللقاءات استأنستها العادة فاستسلمت بحرية إلى تيار الذكريات الحميمة، وفي مناسبة ما قالت بصدق: تزوجت بعد قصة حب، حب عميق.
وكانت تعمل ممرضة وكان هو طبيب امتياز. - تبادلنا حبا جميلا كاملا، وأصارحك بأنني استسلمت في أول لقاء. - وتزوج منك؟ - كان شهما، كان محبا صادقا. - ما أجمل ذلك! - وعشنا طويلا كأسعد ما نكون فأنجبت له ثلاثة أولاد.
وسكتت فسألت: ثم ماذا؟
فأجابت كمن تفيق من حلم: لا شيء. - كيف حالكما اليوم؟ - حال عادية! - ماذا تعنين؟
فقالت ضاحكة: كل ذلك الوقت الضائع على حساب حبنا! - ممكن نواصل لقاءاتنا بعد عودته؟ - لم لا؟!
لم يعد يربطني بها إلا المجاملة ثم العادة. وازدادت هي رقة ومودة وحنانا حتى قالت لي يوما: لا أتصور حياتي بدونك.
فوجدت أن أسلم سبيل أن أجيبها بقبلة طويلة، ولكنها تساءلت في عناد: وأنت؟ - مثلك وأكثر. - لم تقل لي صراحة إنك تحبني.
فقلت: لكني أحبك بالفعل وهو الأهم.
ورجع الدكتور صادق عبد الحميد من بعثته القصيرة. تحدثت عنه بموضوعية كأنه ظاهرة لا تربطها بها علاقة حميمة، ولكن باحترام لا مزيد عليه. وفي ذلك التاريخ كنت بدأت أتردد على صالون الأستاذ جاد أبو العلا، وهناك التقيت بالدكتور صادق عبد الحميد! وقص علينا جاد أبو العلا كيف زار الدكتور في استشارة طبية، وكيف توثقت العلاقة بينه وبين الدكتور، وبدأت بيننا صداقة روحية نادرة، فقدمته بدوري إلى مجلس سالم جبر، وزهير كامل، وصالون الدكتور ماهر عبد الكريم، وأدهشني أن أرى فيه رجلا يماثل درية في السن، أو لعله يصغرها ببضع سنوات، وسيما ذكيا ذا طموح روحي لا حد له. هكذا بدأت صداقتنا بعد توطد علاقتي بزوجته بأربعة أشهر! وضايقني ذلك وأزعجني لحد العذاب، ولم تتوقع درية ذلك فذهلت له، ولاحظت دون جهد ارتباكي وقلقي، وجو الكآبة الذي خيم بثقله فوق لقاءاتنا فخنقها. وبدا أن تيار الحياة يمضي إلى زاوية مسدودة ليشهد موته، قالت لي بتوسل: انس تماما أنه زوجي، ألم يكن من المحتمل ألا أشير بكلمة إلى هويته أو اسمه؟
فقلت بارتباك: لا فائدة من افتراض احتمالات لا أصل لها. - يجب أن نحافظ على علاقاتنا فهي أهم من كل شيء.
فقلت بحزن صادق: إني أتعذب.
فقالت بانفعال غير معهود: لعله لو علم بعلاقتنا ما اكترث لها!
فنظرت إليها بذهول غير مصدق فقالت: إنه لا يحبني، لم يعد يحبني منذ ثلاثة أعوام أو أكثر، صدقني. - إني أصدقك وأنا آسف. - وهو يعاشر امرأة أخرى، ولولا تفانيه في حب أولاده لهجرنا ليتزوج منها! - إني آسف يا درية. - ماذا تعني بقولك آسف؟ - آسف لحالك، ولحالي التي لا أحسد عليها. - لو كنت تحبني لما شعرت بأسف على الإطلاق! - الواقع أني لا أطيق ذلك الموقف بحال.
أشاحت بوجهها عني محمرة العينين وتمتمت: أنت لم تكد تعرفه، هل تنشأ الصداقة من العدم؟
ثم بحزن شديد: والحب أقوى من الصداقة، ولكن الحقيقة أنك لا تحبني!
لم أجد ما أقوله فصمت، وبالصمت أسدل الستار على علاقتنا الحزينة المفتعلة. وعندما غادرنا عشنا تأملت شخصها الناضج الذي يعاني أحرج فترة من العمر تحت وطأة الهجران والخيبة، فتقلص قلبي ألما وحزنا، ولفحنا في الخارج هواء بارد كلسع السياط، في ظلمة الليل.
رضا حمادة
يرتبط في الخيال بالعباسية، عباسية الحقول والحدائق، مثل جعفر خليل، وخليل زكي، وحنان مصطفى، ولكنه يرتبط أيضا بقيم ومبادئ لا يستهان بها، وبعنف تيار الحياة في صعوده وهبوطه، وبإرادة الإنسان حيث تتوثب للصراع والتحدي وتجاوز اليأس والأحزان، وهو عملاق كصديقنا سرور عبد الباقي، امتاز بالعملقة حتى ونحن غلمان نلعب في غابة التين الشوكي، ولعله من القلة التي واجهت عنف خليل زكي برباطة جأش . وعرف منذ عهد المدرسة الابتدائية بالاهتمام الشديد بالوطنية. كان يتكلم عن سعد زغلول أكثر مما يتكلم عن حسين حجازي، أو شارلي شابلن، أو المصارع عبد الحليم المصري، ولعله ورث ذلك عن أسرته التي اشتهرت في شارعنا بالوطنية والعلم فكان أبوه مدير عام مستشفى الحميات بالعباسية، وكانت أمه مدرسة من السابقات إلى التعلم، ومن طلائع النهضة النسائية، ونبغت أخته في العلوم فأرسلت في بعثة إلى إنجلترا. كما تفوق أخوه في مدرسة الحقوق، ولكن أسرته اشتهرت أيضا بالكوارث التي حلت بها، فماتت أمه وهو طفل، وفصل أبوه من الخدمة لفرط نشاطه في خدمة الوفد المصري في إبان تكوينه، وماتت أخته في إنجلترا، واستشهد أخوه في ثورة 1919. وكان يفاخر بأخيه واستشهاده وينوه بذكائه واجتهاده حتى ضاق خليل زكي بذلك فقال لي مرة: لم قتل هذا المجنون نفسه؟
فقلت ببراءة: في سبيل الاستقلال.
فتساءل ساخرا: وهل كان الإنجليز يقيمون فوق صدره؟!
ولما عرفت رضا كان يعيش مع والده، وخادم عجوز، ولا رابع لهم في البيت، وكان يضيق بالبيت ويعتده سجنا بلا قضبان، ويرهب جانب أبيه ويعمل له ألف حساب. اعتكف الوالد في البيت عقب فصله من الخدمة، لا يغادره إلا إذا استدعي لاستشارة خاصة في أحد البيوت، والظاهر أنه كان يريد أن يخلق من رضا شخصا يعوضه عن جميع خسائره، فاشتد في معاملته، وحمله ما يطيق وما لا يطيق، وطالبه بالعلم والأخلاق والوطنية والتفوق، وراقبه مراقبة بلا هوادة ولا تسامح؛ لذلك نشأ رضا متطهرا متقشفا مجتهدا مطلعا طموحا، ولكنه افتقد دائما الحنان والعذوبة، وكثيرا ما كان يقول: حدثني عن أمك، كيف تحبها وكيف تحبك!
ويتغنى بالنشيد المعروف:
أيها الطائر أهلا
بمحياك وسهلا
ويتهدج صوته وهو ينشد:
أمكن استودعتني
شوقها إذ ودعتني
وخطابا حملتني
لفظه يشفي العليل
ومرة أهانه أبوه في الطريق لإهمال تورط فيه، فتأثر تأثرا بالغا. وسرنا وهو صامت حتى وقفنا عند السبيل كعادتنا كل أصيل في العطلة، وغاب عنا بعض الوقت، ثم رجع فلم يكد يلحظ أحدنا شيئا، وبغتة تكور وهو يقبض على بطنه بيدين متشنجتين ويصرخ من الأعماق، وانطرح على الأرض تحت شجرة، وراح يتمرغ في التراب، ومن شدة الألم يعض أصول الشجرة الضاربة في الأرض، واجتمعنا حوله فزعين واجتمع الناس، وما لبث أن جاءت الشرطة والإسعاف فحمل إلى قصر العيني؛ حيث أسعف من حمض الفنيك الذي شربه بقصد الانتحار. شد ما هزني الحدث والمنظر، وسألته فيما بعد: كيف هانت عليك نفسك؟
فابتسم في حزن وتمتم: ألم تر كيف أهانني أمامكم؟
وأعتقد أن تلك المحاولة المشئومة غيرت من سياسة أبيه نحوه كما أن تفوقه النادر وفر له المزيد من التقدير والاحترام. ولم يمنعه تفوقه الدراسي من الإسهام في النشاط السياسي الذي خفت حدته، وتغير لونه بعد انحسار موجة الثورة العارمة. فقد بلغنا أولى درجات الوعي بعد أن انقلبت الثورة الدامية أسطورة مقدسة من أساطير الغيب، وكان كل منا يحتفظ من ذكرياتها بمشهد عابر عجيب أو ذكرى شهيد أو هتاف مثير ولا شيء أكثر من ذلك، وقد اشتركنا معا في المظاهرة التي قادها نادر برهان تأييدا لسعد زغلول - وهو رئيس وزارة - في اختلافه الدستوري مع الملك فؤاد. وتوطدت علاقته في الثانوية مع بدر الزيادي لتقارب مشاربهما، ولما تولى محمد محمود الحكم قال بدر: لم يكن لنا من عدو في الماضي إلا الإنجليز.
فقال رضا حمادة: والملك. - هما شيء واحد. - موافق.
فقال بدر: وها هو عدو جديد ينضم إلى الميدان.
ولما قتل بدر الزيادي في فناء المدرسة حزن رضا حزنا شديدا، وقال لي: مات بدر على حين يحيا خليل زكي!
فقلت له بحزن: ومحمد محمود يحيا أيضا!
وتقدم رضا في نشاطه السياسي فجالس مصطفى النحاس في بيت الأمة ضمن وفود الطلبة، وقبض عليه في حكم محمد محمود، وكاد يقتل في عهد صدقي، وفي كلية الحقوق صار من زعماء الطلبة، فاستمعت مرات إلى خطبه الحماسية في الحرم الجامعي، كان مثالا للوفدي الصادق في إيمانه بالاستقلال والدستور والحياة الديمقراطية، وكان ينظر بامتعاض شديد إلى مجرى السياسة في مصر حتى آمن بفكرة نبتت في يقينه، قال : لقد فقد الوفد أو قل الشعب قوته الضاربة يوم قبض على زعماء جمعية الكف السوداء.
فقلت ببراءة: ولكن الوفد يدعو إلى الجهاد المشروع!
فضحك وقال: دعك مما يقولون.
ثم قال بحنق: لا نجاة لنا إلا بإبادة السراي وأحزاب الأقلية، ثم نواجه الإنجليز كتلة واحدة!
وقد أحب ثريا رأفت وأراد أن يخطبها وهو طالب بكلية الحقوق. لم يصارحني بذلك في حينه كما لم أبح له بعلاقتي بها في حينها، ولكني عرفت الحكاية عقب النكسة! كان رضا ضمن المجتمعين في مكتب سالم جبر، الذي تراءت فيه ثريا رأفت، وتقابلنا بعد ذلك في بيته بمصر الجديدة فسألني: أتذكر السيدة التي كانت في مكتب سالم جبر؟
فقلت باهتمام: ثريا رأفت.
فضحك قائلا: كانت من أهل السكاكيني وقد أحببتها وأنا طالب في الحقوق حتى عزمت على خطبتها لولا ... - لولا؟ - لولا أن رأيتها بصحبة صديقنا عيد منصور!
وعند ذاك قصصت عليه قصتي معها!
وتخرج رضا في الحقوق عام 1934 فاشتغل بالمحاماة. ومات أبوه تاركا له ثروة لا بأس بها، وبزغ نجمه ككاتب سياسي، كما رسخت قدمه في المحاماة. وانتخب نائبا عن دائرتنا في انتخابات 1942، وكانت موقعة 4 فبراير قد هزتني من الأعماق، ورمت بوفديتي في أزمة خانقة. وصارحته بذلك فقال لي: إني أعتقد أن مصطفى النحاس قد أنقذ الوطن والعرش!
فقلت بأسى: تصور أن الدبابات البريطانية تجيء بزعيم البلاد رئيسا للوزارة!
فقال بإصرار: لقد كان الإنجليز أعداءنا، ولكنهم اليوم يقاتلون في الجانب الذي نرغب في أن ينتصر. - ثمة خطأ يفري روحي كالسم!
فسألني: أتود للفاشستية أن تنتصر كما يود الملتفون حول الملك؟ - كلا طبعا. - فانظر إلى 4 فبراير إذن على ضوء ذلك الضوء.
وانتخب مرة أخرى عام 1950 عن نفس الدائرة، وكانت تعتريه نوبات حزن شديد، كلما شعر بأن الوفد لم يعد على المستوى الرفيع الذي طالما تربع عليه بجدارة، أو أنه تسلل إليه خور في الإرادة والاستقامة، وفتر حماس الشعب له. وكم اهتز طربا يوم ألغى مصطفى النحاس المعاهدة ثم أعلن الجهاد، يوم سرت في الوادي نفحة من روح 1919، ثم تتابعت الخيبات كالمطارق حتى قامت ثورة يوليو 1952، وتحمس لها فقال لي: سيعود الوفد بلا منازع!
ولما سارت الثورة في طريقها المرسوم أمل أن تتخذ من جماهير الوفد قاعدة لها، حتى إذا صدر قرار حل الأحزاب تقوضت آماله وقال لي: نحن مقبلون على حكم عسكري لن يعرف مداه إلا الله.
فقلت له بإخلاص: اعتزل السياسة وتركز في مهنتك!
فقال ضاحكا: لا خيار!
ولكن وفاءه لزعيمه وزملائه رمى به في موضع الشبهات؛ فاعتقل أكثر من مرة، وكان قد تزوج عام 1940 فأنجب ابنا وحيدا قبل أن تصاب زوجه بما منعها من الإنجاب. وطالما أعجبت بابنه لذكائه وحيويته، ولما اعتقل رضا تعرض لحملة تشهير كبقية زملائه فعانى ابنه - وكان طالبا في المدرسة الثانوية - تجربة مريرة بين أقرانه، وكان شديد الحساسية فامتحن بأزمة نفسية عنيفة أتلفت أعصابه. وسرعان ما كره المدرسة، واعتكف في بيته، ومضت حياته من سيئ إلى أسوأ، حتى اضطر أبوه إلى إيداعه مستشفى الأمراض العقلية، ولم تحتمل أمه الصدمة فشلت وماتت في نفس العام. هكذا وجد رضا نفسه كهلا وحيدا غارقا في الأحزان، وهكذا أدركته لعنة أسرته، قلت لنفسي: انتهى رضا حمادة.
ولكنه لم ينته في الواقع. غادر حيه القديم إلى مصر الجديدة، وكرس حيويته لمهنته ولمكتبه. ولعل العشرة الأعوام الأخيرة كانت أنجح سني حياته. إنه اليوم من أبرز المحامين. وهو عاكف على تأليف ما سماه بدائرة معارف العلوم الجنائية. وقد ضمن مقدمتها من الآراء الفلسفية والنظرات النفسية ما يشهد له بالموسوعية في المعرفة والمقدرة الفائقة في التفكير، وليس هذا بالجديد علي فقد سمعته يناقش الأساتذة ماهر عبد الكريم، وسالم جبر، وزهير كامل، وغيرهم فكأنه موسوعة في الفلسفة والسياسة والأدب، أما عن القانون فهو حجة من حججه المعاصرة بلا جدال، غير أن إعجابي الأول به إنما يرجع إلى شخصيته الأخلاقية قبل كل شيء، وقليلون جدا من عرفتهم يماثلونه في ذلك مثل: كامل رمزي، وسرور عبد الباقي. ولا غرابة في أن تبهرني الأخلاق البناءة كرجل عاصر فترة انهيار في الأخلاق والقيم لا نظير لها، حتى خيل إلي في أحيان كثيرة أنني أعيش في بيت كبير للدعارة لا في مجتمع. ففي رضا حمادة عرفت رجلا نقي النوايا والسلوك، نزيها مخلصا، آمن طيلة حياته بمبادئ لا يحيد عنها كالحرية والديمقراطية والثقافة إلى عقيدة دينية مستنيرة متطهرة من شوائب التعصب والخرافة.
أجل وقف موقف الرفض من أي رأي يساري، وعجز عن التطور مع الزمان، فعاصرته أول العهد بصداقته وهو مثال للشاب الثوري، ثم عاصرته في شيخوخته وهو محافظ عنيد، وإن لم يعترف بذلك، فما برح يردد أن الليبرالية هي آخر كلمة مقدسة في تاريخ الإنسان السياسي. ولعل شخصيته الأخلاقية هي التي سندته حيال الكوارث التي عصفت بحياته، وأيدته بسحرها، وهو يشهد اختفاء القيم والأشخاص الذين عبدهم مثل الحرية، والديمقراطية، ومصطفى النحاس، وزوجته وابنه، توارى كل جميل من دنياه فلم يتهدم، ولكن ثابر على العمل بقوة مضاعفة، وجابه الحياة بإرادة من فولاذ، وظل على علاقاته الطيبة بالأصدقاء والصالونات والمجالس. وكلما أقبل علي بقامته المديدة ورأسه الأبيض، أو أمتعني بأحاديثه المتنوعة، انبعث في أعماق روحي نشاط متألق بالأفراح فأجدد إعجابي به وبالحياة المباركة التي خلقته.
زهران حسونة
ثمة أصحاب من نوع خاص، أصحاب يرتبطون بمكان ما لا يتجاوزونه، حلا لي يوما أن أدعوهم أصحاب المقاهي. في المقهى نتصافح بحرارة ونتجالس ونتسامر ثم يذهب كل إلى سبيله. ومنهم من يختص بصفة تستحق التأمل فيترك أثرا قبل أن يذوب في النسيان. من أولئك زهران حسونة. عرفته في مقهى ركس في أيام الحرب العظمى الثانية، وكنت أتردد عليه من حين لآخر بصحبة جعفر خليل ورضا حمادة، وشعراوي الفحام، وعيد منصور، كان يزور المقهى مع آخرين من صحبه في يوم الأحد، وكان بدينا متوسط القامة كبير الرأس جدا كأن به عاهة، وعن طريق النرد تعرفنا بهم ثم صاحبناهم، قال يعرفنا بنفسه: كنت موظفا بوزارة التجارة والصناعة، ثم سويت معاشي لأشتغل في الأعمال التجارية.
وكان إذا حضر وقت الصلاة قام هو وصحبه فانتحوا جانبا فيما وراء البار، وأدوا الصلاة جماعة وهو يؤمهم . وهو يؤمهم لأنه الوحيد بينهم الذي أدى فريضة الحج. والحق أن الدين كان يشغل حيزا من أحاديثهم لا يستهان به، وهي تفصح عادة عن إيمان بسيط صادق، تختلط فيه العقيدة بالخرافة بالأساطير الشعبية، ولكن لا شك في صدقه، وكانت صحبتهم ممتعة، وكانوا كرماء، وفيهم شهامة أولاد البلد، غير أن عيد منصور قال لنا يوما: جئت لكم بمعلومات طريفة عن الحاج زهران حسونة.
فسألناه عنها فقال: لم يستقل ولكنه اضطر إلى الاستقالة لسوء سمعته. - أي نوع من سوء السمعة؟ - الرشوة!
وعيد منصور يسره دائما أن يثبت أن جميع الناس لا خلاق لهم مثله! قال وهو يضحك: إني أشك في جميع الناس، ولكني أشك بصفة خاصة في المتدينين!
فقال رضا حمادة: ولكن ليس كل متدين منافقا!
فقال عيد منصور وهو يضحك أكثر: النفاق درجة لا يرتقي إليها عم زهران حسونة!
فضحكنا فراح يفسر قوله: النفاق أن تبطن الكفر، وتعلن الإيمان، ولكنه أغبى من أن يكون كافرا، أنا لا أشك في إيمانه. - إذن لعله تورط في الرشوة تحت ظروف ضاغطة! - لعله.
ولاحظنا أن زهران حسونة يعمل بهمة في السوق السوداء، في تجارة الثقاب والويسكي، ثم اشتغل في المواد التموينية، ولم يكن يخفي ذلك بل كان يبدي استعداده لتقديم الخدمات لنا، فلم أملك أن أسأله: ألا ترى يا حاج في العمل في السوق السوداء ما يناقض ورعك؟
فأجابني بثقة: للدنيا أسلوب في المعاملة وللآخرة أسلوب آخر! - ولكن الله لا يمكن أن يرضى عن تجويع الفقراء.
فقال باطمئنان: إني أكفر بالصلاة والصوم والزكاة فماذا تريد؟
فقلت لأصحابي بعد انصرافه: الرجل يرتكب الإثم عن علم لا عن جهل أو نفاق!
فقال عيد منصور: ويثرى ثم يلجأ إلى الدين ليكفر، فتتحول سرقاته بقدرة قادرة إلى ربح حلال، الدين عند عم زهران هو المشجع الحقيقي على ارتكاب كافة الآثام!
ثم وهو يضحك عاليا: ولذلك فهو يسرق قوت الفقراء ويمضي ووجهه ينور بالإيمان والطمأنينة!
وكنت أتابعهم وهم يصلون في المقهى بعين متأملة ساخرة، يركعون ويسجدون ويسدلون جفونهم خشوعا وامتثالا ، وأتذكر كم أنهم أوغاد لصوص لا يحق لهم أن يبقوا ساعة واحدة فوق سطح الأرض، ولم أجد جدوى في مناقشاته، فدائما أراه مطمئنا واثقا من نفسه، يؤمن بالشر كما يؤمن بالخير، ويطيع الشيطان كما يطيع الله، ويتردد بينهما تردد التاجر الماهر في السوق الحرة الذي يحرص في النهاية على أن يزيد دخله على منصرفه. وجعلني ذلك أتلمس وجوه الأعذار لأوغاد مثل خليل زكي، وسيد شعير، بل وعيد منصور، ممن لم يتعاملوا معاملة جادة مع دين فانطلقوا في الحياة بوحي غرائزهم وعقولهم العملية الجافة، خلال أجواء من الصراع العنيف القاسي. ولذلك أيضا ترديت كثيرا فريسة لكآبة روحية معتمة كدت أرفض تحت وطأتها التجربة الإنسانية كلها، وكانت تلك المشكلة مدار أحاديث لا تنتهي بيننا، قال رضا حمادة: الظاهر أنه لا يوجد تاجر شريف!
فقال عيد منصور: لا يوجد إنسان شريف.
فتساءلت: ماذا عن دور الدين؟
وتساءل عيد منصور: لم نتمسك بالأخلاق ما دامت تقود إلى الفشل؟
وعاشت تلك المشكلة معي أعواما، وأعواما؛ حتى ناقشتها في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم، بدءا من نقد الواقع المصري، وانتهاء إلى دراسة الخير والشر في ذروتها الفلسفية، ويدعونا ذلك إلى تذكر الدكتور إبراهيم عقل وفلسفته في المثل الأعلى، وسلوكه المناقض لفلسفته! وأذكر بالمثل قول الأستاذ سالم جبر: مهما يكن من أمر فلا يمكن تجاهل المرحلة التي قطعها الإنسان من الغابة إلى القمر!
أو قول رضا حمادة: توجد سجايا قيمة جديرة باسترداد الثقة، مثل تفاني الرجل في خدمة أسرته، مثل الذكاء الوقاد المولع بالحقيقة، مثل بعض مواقف البطولة النادرة.
وقوله أيضا: لا تغال في المثالية وإلا مت تقززا!
وأثرى زهران حسونة في أثناء الحرب ثراء فاحشا فارتفع إلى مرتبة أصحاب الملايين. وأسس شركة للمقاولات عام 1945 ولكني أغضيت عن التشهير به مذ قتل ابنه الطالب بكلية الهندسة في معركة القنال عقب إلغاء معاهدة 1936. سار الرجل وراء النعش معتمدا على ذراعي صديقين محمر العينين شارد اللب، واقتصرت علاقتنا وقتذاك على تبادل المجاملات في المناسبات، ولكن عيد منصور وكد لي أنه ما زال يجمع النقود ويؤدي الصلاة، وكان أوثقنا صلة به بحكم أعماله التجارية. واستمر ازدهاره المالي في صعود، وأقام في قصر المعادي، وتزوج في الخمسين من فتاة في العشرين بحجة زهد زوجته الأولى في المسرات الزوجية عقب وفاة بكريها، ولكن ظل الحج نزهته الروحية كل عام، وازداد نشاطه بعد الثورة. لم يكن من الملاك الزراعيين، ولكن شركته أممت فيما أمم من شركات عام 1961، وهكذا تقوض ذلك البناء الشامخ الذي نحتت أحجاره من الذكاء والغش والإرادة والانتهازية والإيمان والفجور، وكان رضا حمادة يعلق على الأحداث بامتعاض شديد، مؤكدا موقفه الثابت من الثورة، فقلت له: ولكنك عرفت الرجل تماما.
فقال: ولو، إنها مسألة مبدأ.
فقلت: ليست مسألة مبدأ ولا رجل ولكنه نظام بارك ذلك كله.
فقال بمرارة: انتظر حتى يتبين لك النظام الجديد، لقد كان زهران حسونة في البدء موظفا كهؤلاء الموظفين الذين انقضوا على شركته ليديروها!
ولما أفاق الحاج زهران من الصدمة باع قصره، ففتح مقهى في مصر الجديدة، وضمن لنفسه مستوى من المعيشة لا بأس به، وهو يتظاهر دائما أمامنا بالشجاعة ورباطة الجأش، ويعلق على الأحوال بعبارات ذات مغزى ديني مثل الحمد لله، والأمر لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، له في ذلك حكمة، ويذهب به الحذر أحيانا إلى الثناء على القرار الذي جرده من ثروته فيقول: عدالة علينا أن نقبلها على العين والرأس.
ولكن تفضحه أحيانا ومضات فرح للكوارث لا يحسن مداراتها، مثل الأزمة الاقتصادية وورطة اليمن، وأخيرا 5 يونيو الذي دار رأسه فيه بنشوة النصر! لقد لاطمتني في ذلك اليوم المشئوم تيارات متناقضة كاد يختل لها عقلي، ولعله مما زاد إكباري لرضا حمادة أن المأساة قصمت ظهره، كما قصمت ظهرنا، وأنه نسي في ذلك اليوم كل شيء إلا حبه العنيد لوطنه.
زهير كامل
عندما التحقنا بالجامعة كان معيدا بقسم اللغة العربية تمهيدا لإرساله في بعثة إلى فرنسا. وسمعنا عنه ثناء طيبا من الدكتورين ماهر عبد الكريم وإبراهيم عقل، فقال الأخير عنه مرة: إنه مثال للفلاح إذا نبغ .
وحدثني رضا حمادة عنه فقال: عرفته في بيت الأمة خلال اجتماعات الطلبة، وهو من سمنود، ويعرف مصطفى النحاس معرفة شخصية.
وسافر في البعثة عام 1932 ثم رجع دكتورا عام 1938 أو 1939 فعين مدرس (ب) بهيئة التدريس الجامعية. وفيما بين تاريخ تعيينه وعام 1950 تركز نشاطه الفكري في الجامعة والتأليف، فأصدر كتبه المعروفة عن نظريات النقد العامة، ونقاد من الشرق والغرب، ودراساته عن شكسبير، وراسين، وبودلير، وإليوت، والشعراء الأندلسيين، وكان يتردد على صالون الدكتور ماهر عبد الكريم؛ فتوطدت بيننا صداقة متينة. وتزوج في أثناء الحرب من فتاة يونانية كانت تعمل في محل فينوس فأنجب منها ولدين وبنتا، وكان أستاذا جامعيا بالمعنى الدقيق، يكرس حياته للبحوث الأكاديمية، ولا حديث له خارج مضامينها، فلم أعرف له اهتماما عاما آخر. وحاولت أحيانا أن أستشف فيه الطالب الوفدي القديم فلم أفلح، ولكنه بخلاف الكثيرين كان يتمنى النصر للحلفاء، ربما حبا في الديمقراطية كما قال، أو ميلا مع عواطف زوجته، أو تعصبا لفرنسا التي عشقها من أعماق قلبه، وفي عام 1950 فاجأنا بما لم نتوقع أبدا، فرشح نفسه على مبادئ الوفد في إحدى دوائر القاهرة، وفاز بأغلبية ساحقة، وأثار سلوكه تساؤلات كثيرة، ولكن الدكتور ماهر عبد الكريم قال رغم تحفظه الشديد: إنه قرار يستحق الأسف.
وقال لي رضا حمادة: لعله يحلم بوزارة المعارف.
ولقد قد يطول الزمن حتى يتحقق الحلم، فكيف يواجه أعباء الحياة بمعاش صغير ومكافأة النيابة التي لا تتجاوز الخمسين الجنيه؟ قال رضا حمادة: ستخبرنا الأيام!
وأخبرتنا الأيام بأسرع مما تصورنا، فظهرت مقالاته السياسية في الجرائد الوفدية، بل برز ككاتب سياسي من الدرجة الأولى، إلى مقالات في النقد في المجلات الأسبوعية. وحدث أن كان لزهران حسونة أعمال في الحكومة تحتاج في إنجازها إلى واسطة فطلب منا أن نقدمه إلى صديقنا النائب ففعلنا، ومن يومها توطدت بين الاثنين علاقة متينة. ثم مضت تترامى إلينا همسات عن تصرفات الدكتور زهير كامل غريبة بل مريبة، وقد سألت رضا حمادة يوما: ما رأيك فيما يقال عن زهير كامل؟
فأجابني بامتعاض شديد: يقال إنه أصبح سمسار وظائف.
ثم وهو يهز رأسه في أسف: ويقال إنه يقدم خدمات لزهران حسونة وإنه ينال عن خدماته مكافآت سخية. - وهل صحيح ما يقال؟ - نعم للأسف الشديد، وإني أتساءل أحيانا والحزن يمرر ريقي أي فارق هناك بين الوفد وبين غيره من الأحزاب؟! - ولكن هل تتصور أن زهير كامل نبذ الأستاذية في الجامعة ليمارس النهب والفساد؟ - إني أتصوره وغدا من البدء غير أنه كان يتحين فرصة لاستغلال مواهبه حتى وجدها في السياسة.
وجلسنا يوما نتبادل الأحزان على صديقنا النابغة وحزبنا العتيد، ولما أقيلت حكومة الوفد عقب حريق القاهرة حاول الدكتور زهير الرجوع إلى الجامعة، ولكنه لم يفلح، وواصل حياته ككاتب سياسي، وناقد، ولكنه بات ينظر إلى المستقبل بقلق، وبخاصة وأنه كان اعتاد مستوى من المعيشة الرفيعة، واجتمعنا يوما عند الأستاذ سالم جبر، وكان منفعلا ويقول: ما هذا الذي يحدث بالوطن؟ .. الملك جن، وكل شيء ينهار!
فقال الدكتور زهير كامل: ما أشبه حالنا السياسي بالدكتور إبراهيم عقل الذي بدأ باحثا نابها، وانتهى بالدروشة!
وقال رضا حمادة: أصبح الوفد كزعيمه فهو شيخ هرم طيب يزحف عليه العجز والتدهور.
فقال سالم جبر: لا يمكن أن تدوم الحال على هذا المنوال فماذا عن الغد؟
فقال زهير كامل: ما زال الوفد أفضل الجميع وسيضطر الملك إلى استدعائه عاجلا اتقاء لانفجار ثورة شاملة!
فقال سالم جبر: الثورة أفضل من الوفد.
فقال رضا حمادة: وفي الانتظار الإخوان والشيوعيون.
فقال زهير كامل بحدة: لا أغلبية لهؤلاء أو أولئك.
فقال سالم جبر: الوطن غير مؤهل للشيوعية ولا عقيدة هناك جديرة باستيعاب الشباب المتفتت بين الثورة والانحلال!
وقامت ثورة يوليو متحدية كل تخمين. وسرعان ما وجد زهير كامل نفسه في مأزق لم يعمل له حسابا، أغلقت دونه أبواب السياسة والجامعة، وتحير ماذا يفعل وماذا يكتب. ولما اتجهت السياسة العامة نحو تصفية الأحزاب، وتركز الهجوم عليها بصفة عامة، وعلى الوفد منها بصفة خاصة، باعتباره القاعدة الشعبية القديمة؛ إذ بالدكتور يرمينا بالمفاجأة الثانية في حياته، فانقض بمقالات من نار على الوفد مرجعا إلى فساده كل فساد نخر في عظام الوطن. وأثارت المقالات عاصفة من الغضب المكتوم في صدور الوفديين، ولكن أحدا لم يستطع أن يقلل من خطورتها لصدورها من رجل له تاريخه الجامعي الوقور، فضلا عن اشتراكه في برلمان الوفد الأخير، وتعين صحفيا في إحدى الجرائد الكبرى، وسرعان ما اعتبر قلمه من أقلام الثورة، كما عهد إليه بتحرير صفحتها الأدبية فقاد نقد الأدب المعاصر. وبسبب مسئولياته الجديدة، وربما خجلا من انقلابه المفاجئ تجنب إلى حين التردد على صالون الدكتور ماهر عبد الكريم. وتساءل الدكتور ماهر: ألم يكن الأفضل له أن يبقى في الجامعة؟
وتساءل الأستاذ رضا حمادة: أرأيت ماذا فعل الوغد بنفسه؟
فقلت: لعل عذره أنه فعل ما فعل لحساب قوة وطنية لا شك في وطنيتها.
وعاد زهير كامل للظهور في مجالسه المفضلة؛ كصالون الدكتور ماهر عبد الكريم، ومكتب سالم جبر، فعدنا للتلاقي المنتظم كما كنا، وعاودت الاطلاع على فؤاده. قال: لم تكن ثمة جدوى من المقاومة، ولم أقاوم؟
وقال أيضا: كنت على وشك الإفلاس، ولكن لم يكن المال وحده هو الدافع فأنا مطمئن الضمير!
فقلت: إذن فأنت تؤمن بثورة يوليو؟
فقال وهو يتفحصني بعينيه الذكيتين: إنها حركة مباركة منعت بقوتها الذاتية اشتعال ثورة لاحت مخالبها في الأفق! - يا لها من فكرة! - وأعترف لك بأنني لست ثوريا، فكما لا أوافق على رجعية الإخوان؛ فإني لا أوافق أيضا على ثورية الشيوعيين، وأومن بالإصلاح الرزين الذي نتأثر خطاه، وهو طريق الوفد أيضا لو قيض لجناح شبابه أن ينتصر.
ولكني لاحظت بدقة المراقبة أن عواطفه لم تنسجم تماما مع أفكاره، وأن تحمسه الظاهر كان لتبرير انقلابه قبل كل شيء، وعلى مدى الأيام اضطر إلى أن يعترف لي قليلا: ألم يكن الأفضل أن يتم ما تم بيد انتفاضة شعبية بقيادة شباب الوفد!
فقلت: المهم أن يتم ما تم.
فقال بعد تأمل: ولكن الإنسان لا يستطيع التخلص من عقليته الخاصة، ولذلك فقل على الحرية السلام!
وكان الأستاذ رضا حمادة معتقلا في ذلك الوقت، فجاء ذكره فقال زهير: ربنا معه.
فقلت بثقة: إني أعتقد ببراءته. - لم؟ - إني من أعلم الناس بنقاء أخلاقه.
ترى أضايقه قولي؟ .. على أي حال قال: على ذلك الجيل من السياسيين أن يتخذ من أستاذنا القديم إبراهيم عقل مثلا يحتذى.
فدهشت لقوله وقلت: الدكتور إبراهيم عقل يعاني حال دروشة كاملة، وقد لمست ذلك بنفسي في لقاء عابر معه بحي سيدنا الحسين! - هذا ما أعنيه تماما، فالدروشة هنا أسلوب لمواجهة الكوليرا التي قضت على ابنيه. - ماذا تعني؟ - أعني إذا صادفتك كارثة يستحيل التغلب عليها فعليك بالدروشة، أي نوع من الدروشة، أما المقاومة غير المجدية فترمي بك إلى المعتقل!
وزهير كامل الناقد عانى انقلابا من نوع آخر في نفس الوقت، فبكل استهانة مضى يتاجر بالنقد. مضى يتقبل الهدايا والنقود، ويقيم الفن والفنانين تبعا لذلك، وبازدهار الحركة المسرحية والإنتاج السينمائي تضاعفت أرباحه فشيد فيلته الأنيقة بالدقي واقتنى المارسيدس، وبخلاف اعتداله القديم أفرط في الطعام والشراب، فزاد وزنه لدرجة أصبح من المتعذر معها التعرف عليه من أول نظرة. لم يبق من مزاياه القديمة إلا ثقافته الواسعة، وذوقه المدرب في شتى ألوان الفن، ورغم الثورية التي اتخذها مهنة كان إذا ذكر الوفد تجلى الحنين في عينيه، بل علمت أنه حمل صديقا رسالة خاصة إلى مصطفى النحاس يعتذر له فيها عما بدر منه في حقه، ويشرح له الظروف القاسية التي اكتنفت قراره. ولما أعلنت ثورة يوليو عن سياستها الاشتراكية توثب بهمته المعروفة لدراسة الاشتراكية ليؤيدها عن علم، ويحتفظ لنفسه بمستواه ككاتب من كتابها الأول. وفي أعوام قلائل متتابعة ترجم أربعة كتب عن الاشتراكية، ثم أصدر في النهاية مؤلفه المعروف «اشتراكية هذا الوطن». وفي هذه الناحية بالذات يئس من إقناعي بإخلاصه لسابق علمي بديمقراطيته الليبرالية، وقد سألته مرة ضاحكا: كيف انقلبت اشتراكيا بهذه السرعة الجنونية؟
أجابني ضاحكا أيضا: الناس على دين أوطانهم! - أتعتقد أنهم يصدقونك؟ - لم يعد أحد يصدق أحدا.
ثم قال والضحك يعاوده: المهم هو ما تقول وما تفعل!
واجتاحته موجة من الضحك ثم قال: يتساءلون كثيرا عن سر ازدهار المسرح، أتدري ما هو سر ذلك؟ السر أننا صرنا جميعا ممثلين!
فقلت: وبالرغم من ذلك فقد حقق هذا العهد من الخير ما لم يحققه عهد سابق بلا استثناء!
فقال وهو يتنهد: وأصبح لكل شيء قيمة إلا الإنسان!
فتساءلت بمرارة شديدة: متى كان للإنسان قيمة في بلادنا؟! على الأقل فهو يحرر اليوم من عبوديته الاقتصادية، والطبقية، والعنصرية، وستجيء الخطوة الذاتية عندما يستحقها بجدارة!
وقد بلغ قمة سقوطه الأدبي عندما ألف رسالة صغيرة عن أدب «جاد أبو العلا»! وكان جاد أبو العلا سعى إلى التعرف به حوالي عام 1960 نفس العام الذي تعرف بي فيه. ورغم ذلك كانت الرسالة مفاجأة لي لم أتوقعها بحال. ومهما يكن الثمن الذي قبضه - قيل إنه طاقم تحف عربية وألف جنيه - فقد دل على أن صاحبي تمرغ في السقوط حتى فقد إحساس الحياء الذي يصاحبه، وصدق عبده البسيوني عندما قال لي يوما في حديث جرى لمناسبة الرسالة المذكورة: هذا كتاب لا يجرؤ على تأليفه إلا مومس!
وأوشك زهير كامل أن يعلن ارتداده في ظرفين لولا حسن حظه، أولهما الاعتداء الثلاثي عام 1956 والآخر النكسة عام 1967، ففي كل مرة خيل إليه أن الثورة صفيت وانتهت فتوثب للعمل لمستقبله من جديد، ووضح لي في المرتين مدى ما ينطوي عليه من انتهازية وزيف، بالرغم من أنه يدين للثورة بجاهه وماله، وقارنت بينه وبين رضا حمادة، فكلاهما يتمتع بثقافة إنسانية عميقة وشاملة، وكلاهما من الجيل السياسي السابق الذي أجهضته الثورة، وكلاهما ينتمي إلى عقيدة معادية للاشتراكية، ولكن أحدهما يحتوي على طوية عفنة تتقزز منها الحشرات، والآخر تستقر في أعماقه روح نبيل يستحق الفرد من أجله أن يقدس ويعبد. وفي العام التالي للنكسة دهمته أحداث في صميم أسرته لم تخطر له ببال؛ إذ صمم ابناه المهندسان على الهجرة إلى كندا! ولم يستطع أن يثنيهما عن عزمهما، أما أمهما فمالت إلى تشجيعهما، وما لبث الشابان أن حققا رغبتهما بالفعل، وحزن زهير لذلك حزنا شديدا وراح يقول لي: أنا فلاح، ومن طبيعة الفلاح حبه لالتصاق أبنائه به.
فسألته عما دعاهما للهجرة فقال: الأمل في مستقبل أفضل.
وهز منكبيه في أسف وقال: لم يعد للوطن قيمة، تركاه في محنة قاسية، عن عدم اكتراث أو يأس، وجريا وراء الأمل الخلاب.
واجتاحه غضب مفاجئ فقال: عقلي معهما، ولكن قلبي يتوجع.
وأما كريمته فقد أحبت شابا يونانيا، وهي في رحلة إلى اليونان بصحبة أمها. وبكل بساطة تزوجت منه هازئة بكافة التقاليد، وجعلت زوجته تتردد بين القاهرة وأثينا حتى استقرت بصفة نهائية في موطنها الأصلي قبيل انقضاء العام. ووجد الدكتور زهير كامل نفسه وحيدا في الستين، مريضا بالسكر والضغط .. وهو في ذلك يشبه رضا حمادة غير أن هذا خلق نهايته بنفسه متجاوزا كافة أحزانه، أما زهير فعانى مرارة الوحدة والسأم والهجر، ويوما سألني عبده البسيوني في صالون جاد أبو العلا: هل تعرف نعمات عارف؟
فأجبت بالنفي فقال: هي صحفية تحت التمرين. - وماذا يعنيني من ذلك؟
فقال ضاحكا: إنها عشيقة الدكتور زهير كامل! - زهير كامل! إنه شيخ في الستين أو أكثر. - ستسمع عن زواجهما في القريب.
وسمعت، وعرفت العروس وهي جميلة في العشرين، وركن الأستاذ معها إلى اللهو والراحة فلم يمسك بالقلم إلا لكتابة يومياته الأسبوعية في الموضوعات اليومية العامة، مقلعا عن مراجعة الكتب والمراجع، ولكن مرضه استفحل حتى أقعده بصفة نهائية في الفراش، فأطفأ الشعلة المضيئة الوحيدة في حياته المعتمة، شعلة العقل. وما زلنا نزوره من حين لآخر، فتدور المناقشات في حجرة نومه، ويشارك هو فيها بسمعه أو ببضع عبارات موجزة فقدت إشاراتها الذكية وأفكارها الموحية، لتذكرنا بأن لكل شيء نهاية.
سابا رمزي
زاملنا في المدرسة الثانوية. زاملنا عامين ثم اختفى، وبالرغم من أن زمالته ترجع إلى عام 1925 فما زلت أتذكر بوضوح عينيه اللوزيتين الحادتين، وقامته القصيرة لحد الرثاء، وكان رياضيا متفوقا في القسم المخصوص والكرة. كان الجناح الأيمن لبدر الزيادي، وكان تبادل الكرة بينهما يشكل خطرا على أي فريق نلاعبه؛ لذلك اكتسب في المدرسة شهرة واحتراما رغم قصر قامته، وكنا في أوقات الفراغ نقرأ المنفلوطي معا ونستظهر ما نختاره من جمله الموسيقية، وحدثته مرة عن روايات ميشيل زيفاكو فتجهم وجهه وسألني: أصدقت ما جاء في رواياته عن البابوات؟
فقلت ببراءة: ولم لا أصدقها؟
فقال بنبرة تحذير: إنه عدو للكاثوليكية، ولذلك فهو يتعمد تشويه سمعة البابا.
عرفت لأول مرة أسماء جديدة كالكاثوليكية، والبروتستنتية، والأرثوذكسية. وتحيرت بينها حتى أخبرني زميلنا ناجي مرقس أن المذهب المسيحي المصري هو الأرثوذكسية، وأن المبشرين أفسدوا بعض الأقباط فجروهم إلى اعتناق الكاثوليكية أو البروتستنتية. وراح جعفر خليل يداعب سابا رمزي قائلا: الآن عرفنا أنك قبطي فاسد!
وجعفر خليل هو الذي أفشى سره فقال لنا يوما: فيكم من يحفظ السر؟
فتساءلت أعيننا باهتمام فعاد يقول: الجناح الأيمن سابا رمزي يحب مدرسة بمدرسة العباسية للبنات!
وراقبناه عقب انصراف المدرسة فرأيناه وهو يتبعها في طريقها حتى مشارف باب الشعرية. وكنا يوما نقرأ بالتبادل في مجدولين فلاحظت تهدج صوته حتى كف عن القراءة من شدة التأثر. وشعر بعيني فوق جفنيه المسدلين فتمتم: رأيتكم وأنتم تتبعوني!
ثم بمزيد من التأثر: أنا أحب مثل ستيفن وأكثر!
ووجد مني مشاركة وجدانية إذ كنت عاشقا مثله فقال: سأحبها مهما يكن الثمن!
فقلت له بعطف: ولكنها مدرسة وما زلت تلميذا صغيرا.
فقال بإصرار: الحب أقوى من كل شيء.
وقال: إني أحاول محادثتها ولكنها تتجاهلني، يقال إن ذلك أسلوب من الدلال، ما رأيك؟ - لا أدري. - كيف أعرف إن كانت تحبني أو لا تحبني؟ - لا أدري. - هل نسأل جعفر خليل وبدر الزيادي؟
فقلت محذرا: كلا .. إنهما يحبان المزاح وسيجعلان منك نادرة!
واستمرت مطاردته اليومية للمدرسة بلا نتيجة، وأخذت ثقته بنفسه تضعف ويغلبه الحزن. وشهدنا عصر يوم منظرا ليس من السهل أن يمحى من الذاكرة. رأيناه يعترض سبيل المدرسة بجرأة ويقول لها: من فضلك.
فمالت عنه ناحية وسارت في طريقها فتبعها وهو يقول: لا بد من كلمة.
فهتفت به غاضبة: لا يمكن أن أحتملك إلى الأبد.
فقال بتوسل: اسمعي كلمة بكل أدب. - دعني وإلا ناديت الشرطي.
وابتعدت تسير بخطوات غاضبة سريعة. وقف ينظر إليها بذهول، وبحركة سريعة غير متوقعة دس يده في جيبه فاستخرج مسدسا فسدده نحوها وأطلق النار! صرخت الفتاة صرخة فظيعة وارتفع وجهها إلى السماء في حركة متشنجة ثم تهاوت على ظهرها. وجعل سابا ينظر إليها، ذراعه مدلاة، ويده ما تزال قابضة على المسدس، وظل كذلك حتى قبض عليه. وفاضت روح الفتاة قبل مجيء الإسعاف. وعرفنا فيما بعد أن سابا سرق مسدس أخيه الضابط في الجيش ليرتكب جريمته عند اليأس. ولم ندر عنه شيئا بعد ذلك، ولم نره مرة أخرى. لقد طبع في خيالنا صورة لا تنسى ثم ذهب.
سالم جبر
عرفت اسم سالم جبر ككاتب مقال بجريدة كوكب الشرق عام 1926، كان بدر الزيادي أول من نوه به أمامي فوصف كتابته بالبلاغة والفائدة، ووجدته داعيا متحمسا للحضارة، والاستقلال الاقتصادي وتحرير المرأة، كما دعا إلى اتخاذ القبعة غطاء للرأس بدلا من الطربوش. وكان حقوقيا ولكنه لم يشتغل بالقانون، وكان يقوم بجولة ثقافية في إنجلترا وفرنسا كل عام تقريبا، ولما قامت ثورة 1919 اشترك فيها ضمن طلبة مدرسة الحقوق، وأصيب برصاصة في كتفه يوم الهجوم على الأزهر، ثم عمل في الصحافة الوفدية، وظل يعمل في الصحافة حتى اليوم. وتغير موقفه السياسي بعض الشيء منذ تولي سعد زغلول الوزارة عام 1924، وقد قال لي يوما بعد أن جمعتنا صداقة متينة ملقيا ضوءا على تلك الفترة من حياته: كان من رأيي ألا يتولى سعد زغلول الوزارة، وأن يظل الوفد وراءه في الميدان الشعبي حتى تتحقق رسالة الوفد الوطنية.
فسألته: خرجت وقتذاك على الوفد؟ - كلا، ولكن تحول اهتمامي الحقيقي إلى ناحية أخرى.
أجل، تحول إلى اعتناق الشيوعية، وعرف بذلك منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، ولم ينس أنه صحفي في جريدة الوفد، فتجنب مناقشة الموضوعات الجديرة بإحراج الزعيم، واختط لنفسه منهجا خاصا في الكتابة ينفس به عن عقيدته الجديدة بطريق غير مباشر، ولا يتنافى في مظهره مع سياسة الوفد، فراح يدعو إلى حرية المرأة والعلم والصناعة. وتقدم خطوة أخرى فألف رسالة في المذاهب الاقتصادية مؤرخا ضمنا للاشتراكية! وحوالي عام 1930 أصدر رسالته الثانية عن «كارل ماركس ورسالته» وسرعان ما صادرتها السلطة، وتعرض بسببها لحملة عاتية من الجهات المحافظة التي اتهمته بالإلحاد والفوضوية. تعرفت به وأنا طالب بالجامعة في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم بالمنيرة، وكنا نلتقي كثيرا بالصالون أو في مكتبه بالجريدة.
وقدمت إليه من زملائي رضا حمادة، وجعفر خليل، وكنا نتحادث في السياسة والاشتراكية، ولم نفتح صدورنا لما قال عن صراع الطبقات ودكتاتورية الطبقة العاملة، وقلت له: اشتراكية تجيء عن طريق البرلمان، هذا ما أحلم به!
فقال متحديا أفكاري: أنا عدو للوفد! - أنت تقول ذلك؟ - ونصير للملك وأحزاب الأقلية.
فضحكت غير مصدق فقال: الوفد أفيون الشعب!
ثم وهو يضرب مكتبه بقبضة يده: الوفد هو المسئول عن استسلام الشعب لأحلام لن تتحقق أبدا، وسيعجز دائما عن تقديم أي خدمة حقيقية للشعب، أما إذا سيطر الملك وأحزابه، واستشرى الفساد واستوطن، يئس الشعب وتوثب لثورة حقيقية!
فسألته: وما جدوى ذلك والإنجليز يكتمون أنفاسنا؟ - توقع المعجزات عند اليأس.
وآنس الدكتور إبراهيم عقل مني ميلا لترديد بعض آراء سالم جبر فقال لي: احذر فلسفة سالم جبر الكاذبة!
فأخذت بموقفه وقلت له: الحق أني أول ما سمعت عنكم كان لدى قراءة مقال له يدافع فيه عنكم!
فقال ساخرا: لم يكن دفاعا، ولكن كان إحراجا فهو لا يرضى عن مفكر إلا إذا أشهر إلحاده أو فوضويته.
وكان ذلك بحضور الأستاذ عباس فوزي بصالون المنير.
فقال عباس منضما للأقوى كعادته: إنه رجل فاجر ومن آي ذلك أنه لا يؤمن بالزواج!
فقلت بدهشة: ولكنه متزوج، وقدمني للمدام في حديقة الأورمان!
فقال عباس فوزي ضاحكا: إنها عشيقته، وهي أرملة فرنسية، فكيف تجهل ذلك؟
وتوكد لي أنها عشيقته بعد ذلك، وظل مخلصا لها حتى توفيت عام 1960. وروى لي حكاية غرامهما الأستاذ عبد الرحمن شعبان المترجم فقال: إن المرأة كانت زوجة لمهندس في شركة الكهرباء، وإنها أحبت سالم جبر في حياة زوجها، فلما توفي اتفقا على المعاشرة دون زواج. وكانت امرأة حرة وشيوعية مثله، أملاكها في مصر ولكنها تحب السفر كثيرا إلى فرنسا، وتكره فكرة الإنجاب.
وألف سالم جبر كتابا عن الدين المقارن قبيل الحرب العظمى الثانية، عرض فيه الأديان بأسلوب علمي موضوعي، فأثار الكتاب ضجة، واتهم صاحبه بالافتراء على الدين الإسلامي، ومن أجل ذلك قدم الأستاذ إلى المحاكمة، ولكن المحكمة برأته وصادرت الكتاب. وفي أثناء الحرب شن حملات صادقة على النازية والفاشستية كان لها صدى حسن في دار السفير البريطاني.
ودعي لإلقاء محاضرات أسبوعية في الإذاعة، وقلت له بمكتبه بجريدة المصري: يقولون إنك أصبحت من أصدقاء السفارة البريطانية.
فقال ساخرا: لا عداوة تدوم ولا صداقة، أعترف بأنني في هذه الحرب حليف للإنجليز!
فقلت له: يبدو أن نجمهم آخذ في الأفول!
فقال بحدة: لا خوف من انتصار النازية حتى إذا انتصرت، فإن للتاريخ قوانينه وهي أقوى من الحرب والنصر.
ولما جاءت حكومة الوفد عمل معها بإخلاص كشأنه قبل أن يتولى سعد زغلول وزارته، ولما زحفت جيوش رومل نحو الحدود المصرية هرب مع الهاربين إلى السودان. ثم رجع عقب انقلاب الميزان ليواصل جهاده الصحفي. وأذكر أنه جلس بيني وبين رضا حمادة في مأتم المرحوم جعفر خليل عام 1950 فحدثنا عن أفراح الوطن بعودة الوفد ولكنه قال: لم يعد بوسع حزب من الأحزاب مهما تكن شعبيته أن يواجه الموقف.
وتكلم عن الولايات المتحدة باعتبارها روح الشر في العالم، قال: لا نجاة للعالم إلا بالشيوعية العالمية.
ولما انصرف قال لي رضا حمادة: لا يوجد إنسان كهذا الرجل يجمع الكل على بغضه!
فقلت بصدق: ولكنه رجل ذو عقيدة ومنزه عن الأغراض.
ولما قامت ثورة يوليو 1952 تكشف ذلك البناء المنطقي المنسجم مع ذاته عن تناقضات كالخيال في غرابتها، وهو في الظاهر لعب الدور المنتظر منه. كان حقيقة فكرية واضحة للصديق والعدو، عمل في جريدة الثورة واضعا قلمه في خدمتها، ولكنه تكشف لخاصته المقربين عن حزمة من المتناقضات جعلت منه في النهاية شخصا مجهول الهوية، تحمس لإلغاء النظام الملكي تحمسا لا مزيد عليه واعتبره معجزة من المعجزات، ولكنه همس في فتور: ذهب الملك وحل محله عدد غير محدود من الملوك!
وفرح بالقضاء على الإقطاع وتحديد الملكية الزراعية ولكنه قال: المسألة هي ملكية أو لا ملكية، أما توزيع الأرض على الفلاحين فمن شأنه أن يقوي غريزة الملكية المتوارثة من عصور الظلام!
ولما حلت الأحزاب التي طالما حمل عليها، حزن على الوفد حزنا غير مفهوم وقال: وكيف تمضي البلاد بلا قاعدة شعبية؟!
وقال أيضا: التضحية بالحرية فعل مؤقت معقول من أجل الشيوعية، ولكننا نسير بلا حرية ولا شيوعية!
ولما حاربت الحكومة الشيوعيين والإخوان المسلمين قال: ها هم يقضون على القوى الإيجابية في الأمة؛ فلا شيوعية، ولا إخوانية، ولا أحزاب، فعلى من يعتمدون في تحقيق سياستهم؟ ولم يبق إلا الموظفون المأجورون، وسيقيمون بنيانهم على قوائم من قش.
حتى الشيوعيون أنفسهم لم يكونوا بأحظى عنده من غيرهم، وما نالوا عطفه إلا في فترات الاعتقال أو السجن، وسرعان ما يرميهم بالتفسخ والانحلال والسقوط، واقتنعت أخيرا بأنه شخص غريب خلق ليكون معارضا، حبا في المعارضة قبل كل شيء، فإذا كانت الدولة إقطاعية فهو شيوعي، وإن تكن يسارية فهو محافظ، أجل محافظ! فعندما ساند الاتحاد السوفييتي الثورة، وعاونها في الحرب والسلام، سمعت منه ما لم يجر على بال، قال مرة والحنق يلتهم قلبه: الشيوعية نظام عظيم حقا ولكن ما هو الإنسان الشيوعي؟ .. هو شيء ميكانيكي لا إنسان حي!
وبغير حياء سألني مرة: لم يود الناس أن يهاجروا إلى الولايات المتحدة؟
فأجبت بسخرية واضحة: لأنهم يجدون هناك الخبز والحرية!
فقال بامتعاض: لا قيمة للحياة بلا حرية فلا تكن متعصبا.
فقلت وأنا أضحك: أنت الذي علمتني ذلك!
فقال بمزيد من الامتعاض: متنا .. متنا .. فمتى نبعث؟
وقلت له بشيء من الصراحة: أحيانا يتعذر فهمك.
فقال بحدة: أنا واضح كالشمس ولكنكم اعتدتم الشروح المطولة والهوامش وهوامش الهوامش!
وقد علمت بوفاة صديقته الفرنسية عرضا في بار الأنجلو، بعد مرور أيام على وفاتها، فبادرت إلى زيارة مسكنه بشارع قصر النيل، ولكني وجدته مغلقا لا يرد، ولم أجده بمكتبه بالجريدة كذلك، ثم تبين أنه سافر عقب دفنها إلى أسوان، فخلا إلى نفسه شهرا كاملا. ولما قابلته بعد ذلك وجدته يمارس حياته بنشاطه المعهود، ولكن مسحة من الكآبة طبعت وجهه بطابعها، فلم تفارقه دهرا طويلا، ولم يكن يحب الخوض في شئونه الخاصة، فلم يحدثني بكلمة واحدة عن حبه أو أسرته أو طفولته، وكأنه إنسان عام فحسب، عام في الظاهر والباطن، في الحضور والغياب، وسألته مرة: ألم تأسف مرة على أنك لم تتزوج ولم تنجب؟
فأجاب بسخرية: الندم عادة دينية سخيفة.
ولكني شعرت - إن صدقا وإن وهما - بأنه يعاني مرارة الوحدة في الشيخوخة، وحفلت تلك الفترة من حياته بالمناقشات الحادة التي بلغت في أحايين كثيرة حد المصارحة الجارحة في مخاطبة أصدقائه. قال مرة لرضا حمادة: عليك أن تعترف بأنك رجعي ترسب في مجرى الزمن.
وقال مرة أخرى للدكتور زهير كامل: أنت لا تنقد ولكنك تقتل القيم.
وسأله جاد أبو العلا عن رأيه في أدبه فأجابه على مسمع منا: من الخير لك أن توفر وقتك لتجارة التحف!
وكان من بين الذين سروا في أعماقهم بالكارثة التي حلت بالوطن في 5 يونيو 1967! وهو موقف غريب، ولكن تبناه جميع أعداء الثورة، وشاركهم فيه ذلك الرجل الشاذ الذي خلق ليعارض الدولة، وليقف منها موقف النقيض دائما وأبدا. قال منفسا عن حقده: ما جدوى أن نتحرر من طبقة لنقع في قبضة الدولة الفولاذية؟ السلطة الحاكمة أثقل من الطبقة، أثقل من الشيطان نفسه!
ولكن الثورة لم تتلاش، بل مضت تضمد جراحها، وتجدد حيويتها وتتأهب لمعركة جديدة. ومضى هو يحنق من جديد ويتمزق بين المتناقضات، وإن حافظ في الظاهر على شخصيته التي عرف بها منذ عام 1924 وإن ظل قلما أمينا من أقلام الثورة. ورغم بلوغه السبعين من عمره، ورغم وحدته وخلوه من روح الدعابة، فهو يتمتع بصحة جيدة ونشاط موفور، ولعله المصري الوحيد من معارفي الذي لم أسمعه يمزح أو ينكت أبدا، ولا عرفت له هواية فنية، حتى الغناء لا يتذوقه، والأدب النادر الذي يطلع عليه يقرؤه قراءة سياسية خاصة كأنه خلق شاذ مقطوع الصلة بالإمتاع والجمال. وركز في الأيام الأخيرة على الإيمان بالعلم، إيمانا نسخ إيمانه القديم بالأيديولوجية، ويتساءل مرارا: متى يحكم العلم؟ .. متى يحكم العلماء؟!
هذه هي آخر هتافاته، وهي خليقة بإشباع معارضته الأزلية لجميع أنواع الدول، حتى قال رضا حمادة: إنه رجل مجنون، هذه هي الحقيقة!
فقلت: وثمة حقيقة أخرى وهي أن أقواله التي تنكر لها خلقت في أجيال أثرا لا يمحى!
سرور عبد الباقي
من أصدقاء العباسية، وكان أبوه محاميا ذا شهرة ومال، وكانت أمه قوية الشخصية تحكم بيتها بسيطرة لا تقاوم، فخضع لها الأب والابن والبنتان، وكانت بخيلة فيما بدا، تساوم الباعة المتجولين بلا رحمة، ومن أجل مليم واحد تلغي صفقة، وتزن مشترياتها في ميزان خاص ابتاعته لذلك، وظهر أثر ذلك كله في سلوك سرور بيننا بالتهذيب والأدب والاقتصاد، وكانت علاقته بنا ذات نوع خاص، فهو لا يفارقنا، وهو لا يندمج فينا، ويتجنب مشاركتنا في مزاحنا الطليق ونكاتنا اللاأخلاقية. وتذاكرنا يوما مطربة جديدة هي أم كلثوم فقال سرور عبد الباقي: سمعتها في فرح وأعتقد أن صوتها أحلى من صوت منيرة المهدية!
فكبر علينا ذلك وقال جعفر خليل: صوت منيرة يعلو ولا يعلى عليه.
وانتهره خليل زكي، رغم عدم اهتمامه بالغناء، قائلا بوقاحته المعهودة: لا تردد آراء أمك بيننا!
وغضب سرور عبد الباقي وصاح به: لا شأن لك بأمي يا قليل الأدب.
وجاء الرد في صورة لطمة، ثم اشتبكا في معركة حتى فصلنا بينهما، وكان تلميذا مجتهدا، ولكن نجاحه كان دائما دون اجتهاده، والحق لم نكن نؤمن بذكائه! وأوشك يوما أن يقسمنا فريقين؛ إذ طالب بشدة بالتزام الأدب في السلوك والكلام، قال: يا جماعة .. يجب ألا تتردد بيننا كلمة بذيئة وأن نتعامل باحترام.
وفي الحال شخر خليل زكي وسيد شعير في وقت واحد تقريبا، فعاد سرور يقول: وإلا فسأضطر إلى مقاطعتكم!
فقلت بجزع لحبي له: اقترح ما تشاء ولكن لا تفكر في المقاطعة.
وقال رضا حمادة: كلامه يستحق التقدير!
فقال جعفر خليل: البذاءة في الكلام كالملح في الطعام.
وقال عيد منصور: يا جماعة أنا لا أستطيع أن أذكر والد أحدكم أو أمه إلا إذا قرنته بالسب المناسب.
وقال شعراوي الفحام محذرا: يا جماعة إذا خلت اجتماعاتنا من قلة الأدب فقل عليها السلام!
وتداولنا في الأمر باهتمام جدي ثم تم الاتفاق على مواصلة المعاملة الحرة فيما بيننا، مع استثناء سرور عبد الباقي فيعامل معاملة مؤدبة خاصة.
وكان يتخذ من السياسة موقفا مماثلا فلا يتعامل معها على الإطلاق ولا يهتم بها، حتى المظاهرة السلمية التي زحفت على ميدان عابدين تأييدا لسعد زغلول رئيس الوزراء لم يشترك فيها، ويوم الإضراب الذي قتل فيه بدر الزيادي تخلف سرور في بيته. ورغم رشاقته ووسامة وجهه الأسمر تجنب البنات، ولم يلعب بعينيه هنا أو هناك، وكان يشعر دائما بأن عيني أمه تراقبانه وتتبعانه حيث ذهب. والأوقات التي كنا نخصصها للقراءة كان يقضيها في حديقة بيته ممارسا هوايته في رعاية الزهور أو رفع الأثقال. ومن فترة مبكرة وضح ميله لدراسة الطب ولكن نجاحه في البكالوريا لم يحقق له المجموع المطلوب، ولذلك أقنع والديه بوجوب الالتحاق بكلية الطب في لندن، وكان المتبع أن تقبل الكلية المصرية الطالب إذا نجح عامين في إنجلترا. وسافر إلى إنجلترا فدرس الطب عامين بنجاح ثم رجع إلى مصر فالتحق بكلية الطب، وناقشنا تلك الواقعة يوما فقال رضا حمادة: ليس سرور غبيا كما توهمنا وإلا ما نجح في إنجلترا!
فقال عيد منصور: وليس نظام القبول بكلية الطب المصرية سليما كما يظن.
فقال جعفر خليل: وليست الفرصة متكافئة بين الأغنياء والفقراء!
وتخرج سرور عبد الباقي في الكلية عام 1936، وتزوج بعد أربعة أعوام من فتاة من أسرة كبيرة، وتقدم في عمله عاما بعد عام حتى عد من كبار الجراحين في مصر، وربح من ذلك أموالا طائلة فشيد عمارة كبيرة في وسط المدينة، وبنى لنفسه فيلا غاية في الجمال بالمعادي، ولم يتخل يوما عن مبادئه الأخلاقية حتى عرف بأخلاقه وإنسانيته كما عرف ببراعته. وهو طبيب مثالي، مهارة في العمل، وغزارة في العلم، ورحمة بالمرضى، وبعدا عن الجشع والاستغلال. وهو محبوب جدا من طلابه. وكثيرا ما خاض معارك حادة في مجلس الكلية بسبب مثاليته التي لا تعرف المهادنة، وبالرغم من علمه الواسع وتجربته الفذة ظل طفلا ساذجا بالنسبة للثقافة والعقائد والسياسة، ولم ينعم بأي نظرة شمولية للمجتمع الذي يتألق فيه كنجم من نجومه. ومرت به الأحداث الكبرى وهو منها بمأمن، لا تعنيه في شيء حتى قامت ثورة يوليو بثقلها الاجتماعي فشدته من مأمنه لأول مرة، بدأ يهتم بهذه الثورة التي تتعرض للأرزاق وتغير الأوضاع، وتسلل إليه قلق لم يعرفه من قبل. وطبق نظام الإصلاح الزراعي على زوجته فطارت من ملكية أسرته خمسمائة فدان بجرة قلم، وذهل الرجل الذي تعود على تقديس المال والملكية، ونبض قلب أسرته بالعداوة، وعد هو ضمنا من الأعداء، ولذلك لم يتعين عميدا للكلية رغم استحقاقه العلمي لها فامتلأت نفسه بالمرارة والحزن. قال لي: فكرت طويلا في الاستقالة للتفرغ لعيادتي الخاصة.
ثم قال بإخلاص أنا أول من يقدره: ولكني لا أحب أن أتخلى عن واجبي العلمي!
وبدءا من ذلك التاريخ مضى يهتم بالحياة العامة، والسياسة بصفة خاصة - التي تجنبها طوال حياته - بعد أن غزته في صميم داره. وكنا نقابله في نادي المعادي على فترات متباعدة كلما سمح وقته المشحون بالعمل، وكنت أنا ورضا حمادة الصديقين اللذين استمرت علاقتهما به، وثمة آخر هو خليل زكي اتصل به دون صداقة حقيقية بحكم عمله في قصر العيني، ولكنه كان يذكر الجميع بقدر من الحنان، وقد حزن لمصرع شعراوي الفحام، ووفاة جعفر خليل، وضياع سيد شعير، فإذا ذكر عيد منصور ضحك قائلا: شيلوك! .. عليه اللعنة!
وفي تلك الأثناء ساء حظ رضا حمادة فأصيب في وحيده وزوجته، فوثق بينهما سوء مصير واحد على تفاوته بينهما. وبعد صفقة السلاح المشهورة مع تشيكوسلوفاكيا جزع الدكتور سرور عبد الباقي وقال: هذه هي الخطوة الأولى نحو الشيوعية!
فلما كان الاعتداء الثلاثي، وما أعقبه من انسحاب القوات المعتدية، جعل يلتمس العزاء في طوايا الموقف، قال: لولا الولايات المتحدة لقضي علينا.
فقلت: بل الإنذار الروسي.
ولكنه رفض ذلك بشدة وقال: يحسن بنا ألا نفرط في الصداقة الأمريكية بعد اليوم.
ولما أعلنت القوانين الاشتراكية اجتاحه الرعب، وغشيته كآبة ثقيلة ثابتة، قلت له: إنك صاحب مهنة، ولن تعرف الفقر.
فقال: لم يعد لشيء قيمة.
ثم قال: زوجتي تنصحني بالهجرة.
فقال له رضا حمادة: لا داعي لذلك على الإطلاق.
فقال: الاشتراكية تعبير عن الحقد على المتفوقين، وقد استولى حكامنا على السلطة بقوة السلاح لا العلم.
فسأله: وما رأيك في مشكلة الفقر في مصر؟
فأجاب بسذاجة: كل يتقرر موضعه على قدر طاقته، وتلك هي حكمة الله سبحانه!
فأدركت أنه مهما يكن من علم الإنسان أو أخلاقه فلا غنى له عن الوعي الثقافي المتضمن طبعا الوعي السياسي، وأنه مهما يكن من تفوقه وبراعته وفائدته؛ فلن يعتصر من ذاته إمكاناتها الإنسانية حتى ينظر إلى نفسه لا باعتباره جوهرا فردا مستقلا، ولكن باعتباره خلية لا تتحقق لها الحياة إلا بوجودها التعاوني في جسد البشرية الحي، لذلك بدا الدكتور سرور بجسمه القوي ووجهه الوسيم ومهارته العلمية الخارقة، بدا متدهورا مترنحا، لا لشيء إلا لأن يدا أخذت من فائض الذين يملكون كل شيء لتضميد جراح الملايين الجائعة، وشد ما جزعت عندما آنست في نبرته شماتة عقب هزيمة 5 يونيو 1967، عندما لم يحسن مداراة فرحته بما ظنه النجاة. وناقشت ذلك الموقف مع الصديق كامل رمزي فقال: لا تدهش ولا تجزع، الأفضل أن تعرف الحقيقة مهما تكن غريبة وقاسية، ثمة جانبان يتصارعان بلا هوادة يقف في أحدهما الروس والاشتراكيون العرب وطوائف الشعب التي وجدت في الاشتراكية جنتها الموعودة، ويقف في الآخر الأمريكان وإسرائيل والذين رأوا في الاشتراكية ردعا لطموحهم وجشعهم.
فسألته: والوطن والوطنية؟
فأجاب: تغير مفهوم الوطن ومضمونه، لم يعد أرضا ذات حدود معينة ولكنه بيئة روحية تحدها الآراء والمعتقدات!
سعاد وهبي
تلك الزميلة الجامعية التي عاشت في كليتنا عاما واحدا، ولكنها بهرت خيالنا عهدا طويلا، كانت الزميلات عام 1930 قلة لا يتجاوزن العشر عدا، وكان يغلب عليهن طابع الحريم، يحتشمن في الثياب، ويتجنبن الزينة، ويجلسن في الصف الأول من قاعة المحاضرات وحدهن كأنهن بحجرة الحريم بالترام. لا نتبادل تحية ولا كلمة وإذا دعت ضرورة إلى طرح سؤال أو استعارة كراسة، تم ذلك في حذر وحياء، ولا يمر بسلام فسرعان ما يجذب الأنظار، ويستثير القيل والقال، ويشن حملة من التعليقات. في ذلك الجو المتزمت المكبوت تألقت سعاد وهبي كأنها نجم هبط علينا من الفضاء. كانت أجمل الفتيات وأطولهن وأحظاهن بنضج الجسد الأنثوي، ولم تقنع بذلك فلونت بخفة الوجنتين والشفتين، وضيقت الفستان حتى نطق، وتبخترت في مشيتها إذا مشت، وكانت تتعمد أن تدخل القاعة متأخرة بعد أن نستقر في مجالسنا ويتهيأ الأستاذ لإلقاء محاضرته، ثم تهرول كالمعتذرة فيرتج ثدياها النافران فتشتعل الفتنة في الصفوف، وتند عنها همهمات كطنين النحل. وعرف اسمها وجرى على كل لسان، ونحتت له الأوصاف الأسماء فهي «أبلة سعاد» و«كلية سعاد» و«بانت سعاد». وكانت بخلاف زميلاتها غاية في الجرأة، تواجهنا بثقة لا حد لها، ولا تخفي إعجابها بنفسها، وتناقش الأساتذة بصوت يسمعه الجميع، وبالجملة تحدت الزمان والمكان، وقال محمود درويش: إنها غانية لا طالبة.
وقال لي مرة جعفر خليل: ترى كيف كانت وهي تلميذة مراهقة بالمدرسة الثانوية؟ فاتنا نصف عمرنا.
فقلت: لم تلتحق بالكلية إلا لاصطياد عريس! - أو عشيق!
وجرت عنها الأخبار لا أدري إن كان مصدرها الواقع أم الخيال. - إنها من حي اليهود بالظاهر، ولدت وترعرعت في جو من الحرية الجنسية المطلقة! - وأسرتها منحلة، الأب والأم والأخوات.
وهي امرأة لا عذراء مجربة للسهر والسكر والعربدة!
وتشجع جعفر خليل بذلك فحاول أن ينشئ معها علاقة، ولكنه صد ولم يفلح، وصد غيره ولم يفلح، ومع ذلك فلم تضن بصداقتها على طالب إذا التزم بحدود الأدب، وطبقت شهرتها الآفاق الجامعية، فجاء طلبة من كلية الحقوق للمشاهدة والمعاينة، وكانت في الأدب الإنجليزي تتلو أحيانا ما تيسر من مسرحية عطيل فتلقيه إلقاء مسرحيا ناعما يسحر الألباب، فحتى الأستاذ الإنجليزي أعجب بها، وعاملها معاملة ودية خاصة، وأخذ الطلبة الوقورون - الريفيون خاصة - يناقشون الظاهرة السعادية ويتساءلون عن عواقبها الوخيمة، وسرت عدوى اهتمامهم إلى الدكتور إبراهيم عقل الذي يفرض بقامته المديدة رعاية أبوية على الطلبة والمثل العليا معا. وانتهز فرصة اضطراب قاعة المحاضرات لارتجاج الثديين النافرين، وجعل يسلط سحر عينيه الزرقاوين على الجميع حتى ثابوا إلى الرشد والسكينة، ثم قال: يجب أن يوجد فرق هائل بين قاعة المحاضرات بجامعتنا وبين صالة بديعة!
فضجت القاعة بالضحك في غير موضعه.
ثم وهو يهز رأسه بطربوشه الطويل: تذكروا أننا جميعا - نساء ورجالا - هدف لمجهر الناقدين وأن جمهرة منهم لم تسلم بعد بمبدأ اختلاط الجنسين في الجامعة، بل بمبدأ تعليم الفتاة تعليما عاليا.
وفي نهاية المحاضرة استدعى سعاد وهبي لمقابلته في حجرته، وخمنا موضوع الحديث وتنبأنا بنتيجته المحتومة، وكثيرون شعروا مقدما بالأسف لحرمانهم الوشيك من الإثارة اليومية الفاتنة. وغادرت سعاد وهبي حجرة الدكتور متجهمة الوجه، ولما رأت جموع المنتظرين في الخارج قالت بحدة وبصوت مسموع متحد: لن أسمح لأحد بمصادرة حريتي الشخصية.
وأصرت على التمتع بحريتها، حتى فوجئنا بصدور أمر بفصلها من الكلية! وفرح البعض وأسف البعض أسفا عابرا بالرغم من اجتماع كلمة الجميع على مقاومة الحكم السياسي الرجعي الذي بطش بحرية الوطن. وجاء والد الفتاة لمقابلة العميد، وما زال به حتى حمله على سحب قرار الفصل بعد أن تعهد له بتحقيق مطالبه. وأعجب ما سمعت عن رجوع سعاد حدثني به جعفر خليل؛ إذ سألني باسما: أما سمعت بالسر وراء عودة سعاد؟
فسألته بدوري: أي سر؟ - يقال إن وزير المعارف أوصى العميد بها. - ولكن وزير المعارف رجل رجعي كثير التشدق باحترام التقاليد؟ - ويقال أيضا إنه على علاقة بالفتاة.
على أي حال عادت سعاد، وعندما هلت علينا بعد انقطاع استقبلناها بالتصفيق، رأينا وجهها الطبيعي لأول مرة وكان وسيما أيضا، ورأينا فستانها يحتشم طولا وعرضا لأول مرة أيضا، أما ثدياها فلم يستطع تعهد الوالد بتغيير موضعهما ولا فتنتهما، فظلا نافرين يتحديان العميد والتقاليد جميعا.
ويوما قال أحد الطلاب: أمس رأيتها مع الرجل الإنجليزي بالحديقة اليابانية بحلوان.
وانتشر الخبر في الكلية، وسألها صديق عنه فأجابت بأنها قابلته هناك مصادفة فسارا معا يتحادثان. توكد الخبر، وبلغ جميع المسئولين في الكلية، ولكن نجمت عن ذلك مشكلة تحدت الجميع بقحة لا مثيل لها. لم يكن من المستطاع اتخاذ إجراء مع المدرس خشية إغضاب دار المندوب السامي، ولا كان من المستطاع معاقبة الطالبة خشية إغضاب المدرس! وأدركنا الموقف بكافة أبعاده السياسية والنفسية، وقال جعفر خليل بروحه الساخرة: إنجلترا زادت من تحفظات 28 فبرار تحفظا جديدا خاصا بسعاد وهبي.
وقال آخر: الأسطول البريطاني يهدد باحتلال الجمارك إذا تعرضت سعاد لأي ضغط.
وقيل في الموقف أشعار كثيرة من أصحاب المواهب من الطلبة، وتبودلت السخريات على مسمع من العميد نفسه. ولكن في بداية العام الدراسي الجديد وجدنا الموقف مختلفا، فالمدرس الإنجليزي لم يرغب في تجديد عقده، وسعاد لم ترجع إلى الكلية، أين ذهبت سعاد؟ قيل إنها سافرت مع المدرس الإنجليزي، وقيل إنها تزوجت، وقيل إنها أصبحت غانية في شارع الألفي، ومع كثرة تقلبي في أنحاء القاهرة فلم تقع عليها عيناي منذ ذلك التاريخ البعيد.
سيد شعير
كان زعيم الجماعة من أصدقاء العباسية. أجل كان خليل زكي يماثله في القوة أو يفوقه ولكن الزعامة لا تقوم على القوة وحدها، لا بد لها من أساس مكين من الحب، وكان سيد شعير محبوبا كما كان كريما، وفي أوقات اللعب كان مهرجا، وفي ليالي رمضان كان نجما لامعا، ولا مفر من عقد المقارنات بينه وبين خليل زكي دائما، فكلاهما قوي سريع العدوان غير أن خليل ينطلق من شراسة إجرامية على حين ينطلق سيد من المجون والاستهتار، وكلاهما لم يوفق في الدراسة الابتدائية، وكلاهما وظفه أبوه في دكانه، وكلاهما طرد من رعاية أبيه، غير أن خليل طرد لشراسته على حين طرد سيد لسلوكه مع النساء من زبائن المحل. وبطرف عينه الماكرة اكتشف الهوى بيني وبين حنان، وراح يداعبني ساخرا من ترددي، حتى قال لي يوما: كلام فارغ، غرامك كلام فارغ.
ولم أحب أن يجعل من حبي سخرية من سخرياته، ولكنه قال: اسمع نصيحتي وواعدها في غابة التين الشوكي.
وفي مساء الأربعاء من كل أسبوع - في العطلة السنوية - كان يدعونا إلى بيته في آخر شارعنا من ناحية بين الجناين، حيث يقام ذكر في الفناء فنجلس على أريكتين متقاربتين نتابع الأناشيد الدينية، ونشاهد حركات الذاكرين، ونحتسي الشاي والقرفة، وكلما ابتعد أبوه عن مجالنا روى لنا ما يحفظ من النوادر الماجنة عن أهل الذكر! بقدر ما كانت أسرته متدينة بقدر ما كان مستهترا، وبقدر ما حيرني في فهمه. ولما يئس من مواصلة الدراسة في المدرسة الابتدائية عمل في دكان أبيه في الغورية، وفي العطلة السنوية كنا نذهب إليه في المغارب، ولما يغلق الدكان يمضي بنا في أنحاء الحي الحسيني، من عطفة إلى عطفة، ومن مقهى إلى مقهى، فعرفنا بإرشاده مجاذيب الباب الأخضر، والفيشاوي، والمدق، وخان الخليلي. واستمعنا إلى أذان علي محمود، ومواويل العربي، وعلمنا - ونحن في السنة الأولى من المدرسة الثانوية - تدخين الجوزة والبوري والنارجيلة ولعب النرد والدومينو. كانت تلك الأيام من أسعد أيام سيد شعير، كان يعيش في بيت والده، وينفق راتبه على مزاجه الخاص، ويتشبه بالرجال وهو في الرابعة عشرة من عمره، ونشأ الخلاف بينه وبين أبيه بسبب النساء من زبائن المحل، ومرة غازل امرأة وكان زوجها في الخارج فنشبت بينهما معركة وسرعان ما فصل أبوه بينهما، وانهال على ابنه ضربا أمام الناس، ففقد سيد عقله، وصب غضبه على البضائع من أوان زجاجية، ومعدنية وقوارير العطر وغيرها. وطرده الرجل، طرده من دكانه ومن بيته فانقطع ما بينهما إلى الأبد. اقترحنا أن نوسط آباءنا في الإصلاح بينهما ولكن سيد رفض ذلك بإباء وقال: سجن البيت لم يعد يناسبني ودنيا الله واسعة.
وكنا نظنها نزوة غضب، ولكن الأيام أثبتت لنا أنه بحق رجل الدنيا الواسعة، وأنه ذو قدرة غريبة على تمزيق الأواصر العائلية، ونبذها من حياته كأنها نفاية من النفايات. وقد حرت في تعليل ذلك في وقتها، ولكني أدركت فيما بعد أنه كان مراهقا منبوذا وسط ثلاثة إخوة ناجحين، عمل أحدهم مع والده بعد حصوله على التجارة المتوسطة، وواصل الآخران تعليمهما بتفوق ساحق، وقال لي بكبرياء: إن أي تاجر في الحي يتمنى أن يستخدمني!
فقلت له مخلصا: ولكن حكاية النسوان حكاية خطيرة.
فقال ساخرا: المرأة تتسكع بين دكان وآخر التماسا لغمزة عين، أو كلمة حلوة، أما البيع والشراء فلا يحدثان إلا في المواسم!
وعمل بالفعل في محال كثيرة، حتى خنقت الأزمة الاقتصادية التجارة، فاستغني عنه فيمن استغني عنهم، ووجد نفسه وحيدا بلا مورد ولا أهل ولا أمل. ولم يكن بوسعنا أن نقدم له - ونحن تلاميذ - أي مساعدة ناجعة، ولكنه كان صديقا لصاحب مقهى في مرجوش يعمل في الوقت نفسه تاجر مخدرات بالجملة، فعرض عليه أن يشتغل موزعا بالنسبة، وسرعان ما قبل. وأخبرنا بذلك في مباهاة طفولية فذعرنا، وقال له سرور عبد الباقي: أنت مجنون.
وقال له رضا حمادة: لن يكون ذلك أبدا.
ولكنه سخر من ذعرنا ورجانا في الوقت نفسه أن نخفي الأمر تماما عن خليل زكي الذي كان يمقته، واندفع في طريقه باستهتار غريب فانتشل نفسه من الجوع والكرب. وفي الخطوة التالية عرف السبيل إلى أحياء البغايا، لا كهاو، ولكن كمحترف، وعاشر امرأة وأقام معها في بيتها، ودعانا إلى الطواف بمملكته الجديدة. تخلف عن الدعوة سرور عبد الباقي، وذهبنا إليه مدفوعين بحب الاستطلاع والرغبات المكبوتة وسحر المغامرة. وذكرت في الحال تجربتي القديمة مع قريبي أحمد قدري، وعثرت على البيت، ودهشت للوجوه الجديدة التي طالعتني، ومضى سيد شعير بنا في تلك الدروب كما فعل من قبل في الحي الحسيني، ولقننا كافة تقاليدها وأسرارها، وسهرنا في مقاهي الأنس، ومجالس المعلمات والفتوات والبلطجية والبرمجية، حتى باتت أغانيها الخليعة وأناشيدها الساخرة ودعاباتها الفاضحة ورقصاتها العارية، باتت تعزف في رءوسنا كالسحر الأسود، وتسكب في قلوبنا عصير الأفراح والمآسي. وانضم بقدرة قادر إلى زمرة رجال الأعمال، فافتتح مقهى في وجه البركة امتاز بالأناقة والخمور الرخيصة وعازف أرغول يشنف آذان السكارى، ومدمني المخدرات من الزبائن، وكان يديره بحزم الفتوات، وابتسامة التجار المحترفين، مرتديا بدلة كالأفندية إشارة إلى أصله العريق المختلف عن أصول أصحاب المقاهي من أهل البلد البرمجية، ولما قامت الحرب العظمى الثانية تضاعفت أرباحه من المقهى غير أن رفيقته هجرته فيمن هاجر من حي البغايا من المومسات الجميلات اللاتي آثرن العمل في المشارب الليلية استغلالا للجنود البريطانيين، فلم يبق في الحي إلا النسوة الميئوس منهن ممن تقدم بهن العمر أو ذبل جمالهن. وتدهور الحي القديم، فلم يعد صالحا لارتياد الأفندية، ولم نعد نرى سيد شعير إلا كل حين ومين، وقد جمعنا مأتم شعراوي الفحام، ومرة أخرى اجتمع في ركن من السرادق جعفر خليل وخليل زكي ورضا حمادة والدكتور سرور عبد الباقي وعيد منصور وسيد شعير وأنا.
اجتمع أصدقاء العمر بعد أن نقصوا واحدا، وهم في ذروة الشباب ما بين الثلاثين والخامسة والثلاثين من العمر، وقد عرف كل سبيله، المدرس والموظف والمحامي والدكتور والتاجر والقواد والبرمجي وتاجر المخدرات. وجعلنا نرثي صديقنا الراحل فنقول: ترك فراغا لن يسد. - ما أجمل ذكرياته! - عاش ضاحكا، ومات ضاحكا. - راهن طيلة عمره على حلم لا يريد أن يتحقق.
وعاتبنا سيد شعير على انقطاعنا عن زيارته، فاعتذرنا له بأن الحي القديم لم يعد بالمكان المناسب.
فقال بازدراء: اخص على أصلكم.
ثم بأسف: رحم الله شعراوي، كان الوحيد المواظب على زيارتي.
وبعد انتهاء الحرب بأعوام تقرر إلغاء البغاء الرسمي، فاضطر سيد إلى الظهور فوق سطح الأرض مرة أخرى، رجلا في الأربعين، يملك بضعة آلاف من الجنيهات، وذخيرة كبيرة من التجارب الفاسدة. واجتمعنا في مقهى الفيشاوي، فقال له رضا حمادة: أمامك فرصة طيبة فابدأ حياة صحية جديدة!
فضحك سيد قائلا: ما أقبح الوعظ والإرشاد!
وقرر أن يستجم فترة من الزمن، أقام في فندق بالموسكي يدار بطريقة مريبة، وأسرف في تعاطي المخدرات والخمور، واصطياد بنات الهوى ممن هن في حكم المومسات، أما نهاره فيمضيه في لعب الكومي وتدخين النارجيلة. وظل خارج الزمن تماما فيما يتعلق بجميع الأحداث كحرب فلسطين وحريق القاهرة وثورة يوليو، وتزوج وهو في الخمسين من تاجرة مخدرات مات زوجها في السجن، وكانت في الأربعين من عمرها. وبالرغم من شدة العقوبات التي فرضتها الثورة على تجارة المخدرات فقد تاجر فيها بكل استهانة، وبغير تقدير للعواقب. وقد شيد لنفسه بيتا كبيرا في طرف الدراسة على حافة الخلاء المفضي إلى جبل المقطم، وسط حديقة مساحتها فدان زرعها بالنخيل، والأعناب، والجوافة، والليمون، والحناء، والياسمين، وأثثه بالأثاث الشرقي، وأقام فوق سطحه حظائر الدجاج والأوز والأرانب.
واجتمعنا بكامل هيئتنا مرة أخرى في مأتم زوجة رضا حمادة، وغادرنا المأتم معا - أنا وسيد - حوالي منتصف الليل فسرنا معا نتحادث، وسألته برجاء: ألم تجمع من الثروة ما يغنيك عن تجارة المخدرات؟
فأجاب باستهانة: إني أربح كثيرا وأنفق أكثر. - ولكنك لا تقدر العواقب.
فقال لي وهو يربت على كتفي: طظ في العواقب!
ثم قال بحسرة: هل تذكر رفيقتي القديمة التي هجرتني أيام الحرب؟ .. سمعت أنها أنجبت مني ولدا، ولكني لم أعثر لهما على أثر!
فسألته: أتحب أن يكون لك ولد؟
فضحك متجاهلا سؤالي، ثم قال: أنا سعيد بزوجتي، ولا أفكر في الزواج من أخرى!
ثم ضحك عاليا وقال: والزواج من أخرى يعني بالنسبة لي الخراب أو التأبيدة!
وتنهد وهو يقول: كل شيء يهون بالقياس إلى ما وقع لصديقنا الشهم رضا حمادة!
فقلت مستعيدا حزني كله: إنه أعظمنا شخصية، وأسوأنا حظا.
فقال بحنق: قارن بين حظه وحظ ابن القديمة خليل زكي. - أي نعم، يا لها من مقارنة ساخرة. - ذلك هو الحقير الشرير، أما أنا! .. ما عيب تجارة المخدرات؟! - المسألة أني أخاف عليك العواقب. - فلنذكر عاقبة رضا حمادة الذي لم يتاجر في المخدرات قط!
وأصر على اصطحابي إلى بيته العامر بالدراسة. ولكن ندر اللقاء بيننا، وربما مرت أعوام دون لقاء على الإطلاق، أو يقع لقاء مصادفة في مقهى الفيشاوي، ولا أنسى يوم أقبل علي في الأسبوع التالي للنكسة، كنت جالسا وحدي أجتر الهم الثقيل الذي لم أعرف له نظيرا من قبل، سلم وجلس ثم بادرني متسائلا: هل يقضي احتلال سيناء على التهريب حقا؟!
أحنقني سؤاله، اعتبرته غاية ما بعدها غاية في الاستلقاء خارج الزمن، وأدرك بذكائه استيائي فسكت، ومضى يدخن النارجيلة صامتا .. ثم تمتم: كعادتك دائما لا شيء يهمك مثل السياسة ووجع الدماغ.
فسألته بضيق: الظاهر أنك لم تسمع بما وقع؟
فقال وهو يشكم رغبته في السخرية: سمعنا وشفنا العجب!
ولقيته بعد ذلك بعامين في مكتب عيد منصور، رأيته في صورة جديدة، منتفخ الوجه والبطن، يشي منظره بحال مرضية لا شك فيها، ولا فكرة لي عنها، فسألته: كيف حالك؟
فأجاب ببساطة مذهلة: بخير كما ترى! - ولكنك لست كعادتك! - سبحان الذي لا يتغير!
فضحك عيد منصور قائلا: أخيرا عرف ربنا.
فسألته: ألم تستشر طبيبا؟
فتساءل بدوره: أتؤمن حقا بالأطباء؟! - لم أذهب ولا مرة واحدة إلى طبيب، ولم يدخل معدتي دواء!
ولما غادر المكتب ضحك عيد منصور، وقال: يبدو أن جنازة وشيكة ستجمع شملنا من جديد!
شرارة النحال
عرفت شرارة النحال أول عهدي بالوظيفة الحكومية. كان عامل التليفون، في العشرين من عمره، ومن حملة الابتدائية حديثا، وكان يلفت النظر بجمال وجهه ورشاقة قده ورقة شمائله، رأيت عم صقر الساعي يمازحه مرة فيقول له: اخلع بدلتك وارتد فستانا وأنا أضمن لك عريسا في ظرف أربع وعشرين ساعة!
وخلت درجة سابعة لوفاة شاغلها؛ فاشتعلت أفئدة كتبة الدرجة الثامنة تطلعا إليها، ولم يكن ثمة قانون ينظم الترقيات، كما كانت الشهادة العليا لعنة على حاملها لما تثيره من حنق في صدور الرؤساء من حملة شهادة الابتدائية القديمة، وفزع كل موظف من الفئة الثامنة إلى من يعرف من الكبراء والشيوخ والنواب، فانهالت بطاقات التوصية على وكيل الوزارة، ووجدت أنا شفيعا - في ذلك السباق - في شخص زميلي القديم عبده البسيوني عضو مجلس النواب، وقابلني الأستاذ طنطاوي إسماعيل في الممشى خارج السكرتارية فاستوقفني متجهما وسألني: أما علمت بالذي رقي إلى الدرجة السابعة؟
فقلت وقلبي يخفق: كلا. - أسرع بتهنئة شرارة النحال!
فهتفت: شرارة النحال؟! - نعم. - عامل التليفون؟! - نعم. - ولكنه بالابتدائية ووظيفته خارج الهيئة!
فرفع الرجل رأسه إلى فوق وقال: اللهم فاشهد، ما زال بمصر أناس يحتكمون إلى المنطق!
ثم مضى إلى حجرته، وذهبت إلى إدارة السكرتارية، فوجدت أن الترقية أصبحت خبر اليوم دون منازع. - هل سمعتم عن عامل تليفون في الدرجة السابعة؟ - من قال إنه عامل تليفون؟ ... لقد انتدب للعمل بمكتب وكيل الوزارة . - وكيل الوزارة على سن ورمح؟ - وكيل الوزارة على سن ورمح!
وتساءلت: كيف ... ولماذا؟
فقال لي الأستاذ عباس فوزي همسا: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا ...
وقال لي عم صقر الساعي وهو يقدم لي القهوة: لا تدهش يا بك، حضرتك موظف جديد نسبيا، هذا هو كل ما هنالك، والمسألة أنه كان تقرر ترقية موظف آخر، ولكن شرارة طلب مقابلة سعادة وكيل الوزارة، ولما طرد من سكرتاريته انتظر في الممشى حتى إذا خرج الوكيل في وقت الانصراف رمى بنفسه بين يديه، وقال بلهجة تمثيلية كأنه فاطمة رشدي إنه مسئول عن أسرة كبيرة، وإنه لا واسطة له بعد الله إلا سعادته، ونظر إليه الوكيل نظرة عابرة لا تخلو من ضيق وامتعاض، غير أن شيئا في وجه شرارة جعله يعيد إليه النظر باهتمام، ولبث ينظر إليه كأنما لا يريد أن يسترد بصره.
وسكت الساعي وهو يبتسم بخبث فساورني الشك. غير أني سألته: أي شيء تقصد؟
فانسحب الرجل من أمام مكتبي وهو يهمس باسما: في العشق يا ما كنت أنوح!
ونقل شرارة النحال إلى مكتب الوكيل بصفة نهائية للعمل في أرشيفه، وتغير منظره الخارجي ليناسب وظيفته الجديدة، فارتدى بدلة جديدة أنيقة بدلا من القديمة الرثة، ولبس حذاء أسود بدلا من النعل المطاط، وتزين عنقه بكرافتة حريرية عليها طابع الهبة، وأطل من طرف جاكتته الأعلى منديل مزركش. وصرنا إذا تقابلنا تبادلنا التحية تبادل الأنداد لا تبادلها القديم بين موظف وآخر في حكم السعاة. ولعله كان على وعي بما يدور عنه ولكنه لم يكترث له، إما لأنه كان مكشوف الوجه، أو لأنه آمن بأن مركز القوة خليق بمحق المعايب وإخراس الألسنة. وفي ظرف عامين عين شرارة سكرتيرا خاصا للوكيل مع ترقية إلى الدرجة السادسة. وتهامس الموظفون بشتى التعليقات كالعادة، وقال لي الأستاذ عباس فوزي: ستراه عما قريب ضمن الهيئة الحاكمة!
وسرعان ما عرف في الوزارة كأهم شخصية في مكتب الوكيل، أهم من مدير المكتب نفسه، فصار كعبة لطلاب الحاجات من الموظفين والأهالي، وانهالت عليه الهدايا أشكالا وألوانا ، وأصبحت ابتسامته أو تحيته هدية يفاخر بها المتلقي وهو يحمد الله المنان. وحدث أن تولى وزارتنا وزير من «أهل ذلك» فانفجرت أزمة لم تجر لأحد في خاطر، بالرغم من أن الوزير والوكيل كانا ينتميان إلى حزب واحد. ودبر المؤامرة موظف كبير من محاسيب الوزير، كان يتحين الفرص للانتقام من الوكيل؛ لإساءة سبقت منه إليه، فحدث الوزير حديثا مغريا عن سكرتير الوكيل «الجميل». ورتب لقاء بين الوزير والسكرتير لعرض أوراق طلب الوزير الاطلاع عليها، وقيل إن الوزير اقتنع بكفاءة السكرتير من النظرة الأولى، وإن السكرتير رحب بتقدير الوزير ترحيب شاب ليس لطموحه حد. وأبلغ الوكيل برغبة الوزير في نقل سكرتيره إلى مكتبه فثار غضبه، وصارح مبلغه بأنه لا يستغني عنه. وغضب الوزير بدوره، فأصدر أمرا بنقل شرارة إلى مكتبه فما كان من الوكيل إلا أن اعتكف في قصره، وقيل إن رئيس الحزب وبخ الرجلين، وإنه حذرهما من تسرب خلافهما إلى الصحف الوفدية، فرجع الوكيل إلى عمله كاظما غيظه. وتتابع صعود شرارة النحال فرقي إلى الخامسة - مع قيده على الرابعة - وترامى المستقبل أمامه فسيحا باهرا. غير أنه لم يشق طريقه معتمدا على جماله وحده، أو إن جماله لم يكن ميزته الوحيدة، فكان إلى ذلك ذكيا عالي الهمة مزودا بأكثر من سبب من أسباب النجاح، ففي أثناء عمله المرهق انقلب من جديد تلميذا مجتهدا، وحصل من «منازلهم» على شهادات الكفاءة فالبكالوريا وأخيرا ليسانس الحقوق. وعلق عباس فوزي على اجتهاده متهكما وجادا في آن فقال: ليس كغيره من أمثاله، فهم اعتمدوا على جمالهم وحده، وهو خاصية تفقد قيمتها سريعا بالتقدم في العمر؛ لذلك تجدهم الآن كهولا منسيين في الدرجة الرابعة أو الثالثة على الأكثر، أما صاحبنا فيعد نفسه للمناصب الرفيعة!
وكموظف يعتبر من أكفأ الموظفين الذين عرفتهم في حياتي، همة في العمل وجلدا عليه، وحسن تصرف فيه، فهو مرجع من المراجع الهامة في الإدارة، ومن ناحية أخرى اشتهر بالطموح والأنانية، والقسوة في معاملة مرءوسيه من زملائه القدامى، فلم يغفر لأحدهم هفوة أو زلة لسان ، وكان قدرا كبيرا من سعادته لا يتحقق إلا بإذلالهم والتمثيل بهم. واستقالت الوزارة وهو في الدرجة الثالثة مديرا لمكتب الوزير. وتولى الوفد الحكم، وأحيل الوكيل إلى المعاش قبل أن يتمكن من الانتقام من محبوبه القديم، وهرع الحاسدون إلى الوزير الجديد فاتهموا مدير المكتب بالحزبية المضادة والشذوذ الأخلاقي. ودافع شرارة عن نفسه باستماتة فقال إنه «موظف» وموظف فحسب، ولاؤه أولا وأخيرا للعمل، وإخلاصه لمن يعمل في خدمته. وتقرر نقله مديرا للمحفوظات، وهي وظيفة خلفية لا مجال فيها للطموح، ومع ذلك فقد عكف على دراسة نظام الأرشيف، وأعاد تنظيمه على أسس جديدة مما بث فيه حياة لم يحظ بها من قبل. ودعا الوزير لتفقده فأعجب الرجل باجتهاده وأثنى عليه، وإذا به ينشر مقاله في جريدة المقطم بعنوان «وزير وفدي يثني على خصم من خصوم الوفد»، نوه فيها بعدالة الوزير وإخلاصه وإيثاره للمصلحة العامة، وكيف أنه شجعه بدل أن يبطش به، وختمها بقوله: إن الإنسان ليحتاج إلى قوة خارقة لتمنعه من الارتماء في أحضان الوفد.
وحدثني الأستاذ عباس فوزي بأنه كان في حضرة الوزير عندما استدعى شرارة النحال لشكره، وأنه قال له: من أين لك بهذا الأسلوب البليغ؟
فما كان من شرارة إلا أن قال على الفور: إنه فضيلة يا صاحب المعالي اكتسبتها من حفظ خطب خالد الذكر سعد زغلول باشا!
ونقل شرارة النحال مديرا للمستخدمين، ثم رقي إلى الدرجة الثانية قبيل إقالة حكومة الوفد. وفرح الحاسدون وقالوا «الدب وقع»، فها هو الوزير السابق يعود ومعه الوكيل أيضا، فما عسى أن يصنع شرارة النحال؟ وتوقعنا أن نشهد خاتمة الرجل، ولكنا فوجئنا جميعا بترقيته إلى الدرجة الأولى مديرا عاما للإدارة! - ما معنى هذا؟ - ماذا جرى في الدنيا؟!
ومضت الأخبار تتسرب كنقط الماء، عرفنا ما خفي علينا، فطيلة عهد الوفد لم ينقطع شرارة عن زيارة وزيره السابق سرا، وكان ينفذ له رغائبه دون أن يدري أحد. وأكثر من ذلك سعى سعيه حتى صالح بين الوزير السابق والوكيل المحال إلى المعاش؟ فلما رجعا قال بكل ثقة : رجع عهدنا العتيد!
وقيل أيضا إنه راح يعطي دروسا خصوصية لابن الوزير الوفدي الطالب بكلية الحقوق. غير أنه بفطنته أدرك أن ميزان القوة الحقيقي مضى يتركز في السراي، وأن السراي خير وأبقى لمن أوتي بعد نظر حقيقي، وعليه ألف كتابه الوحيد «صانعو مصر الحديثة» أرخ فيه لمحمد علي وإسماعيل وفؤاد، وأهداه إلى السدة الملكية. وجاءه من الديوان الملكي جواب شكر نشر في جميع الصحف، وقال لزميله وغريمه عدلي المؤذن: الآن أصبحت من رجال السراي، ولن يفكر حزب في التنكيل بي.
وفي أواخر أيام الحرب تزوج من أسرة محترمة، فأنجب بنتا وولدا، كانا - مثله - آيتين في الجمال، وقد تزوجت الفتاة من سكرتيره، أما الشاب فعمل ضابطا في الجيش، وعقب انتهاء الحرب العظمى الثانية وقبيل إجراء انتخابات لمجلس الشيوخ استدعاني في مكتبه، وتعطف فسمح لي بالجلوس أمام مكتبه وقال لي: انتخابات الشيوخ غاية في الأهمية، ولو فاز الوفديون لحق لهم تغيير العهد كله.
فنظرت إليه متسائلا فواصل قائلا: إني أفكر في إرسال اسمك ضمن المرشحين لرئاسة اللجان الانتخابية.
فابتسمت ولم أنبس فقال: ستجد في الدائرة رجلا من رجال حزبنا.
فسألت بخبث: أي حزب؟
فضحك عاليا، حتى احتقن وجهه الوردي بالدم ثم قال: لا أهمية للحزب، المهم الولاء لصاحب العرش!
فقلت بقلق: لا خبرة لي بذلك العمل. - أغمض عينيك ودع المأمور يعمل، لن يطلب منك أكثر من ذلك.
فوجمت وهو ينظر لي ثم قال متأسفا: الحق أني رشحتك لما أعهده فيك من خلق طيب، ولكني لن أثقل عليك.
ونهض مادا يده فصافحته وغادرت الحجرة، وأسفرت نتيجة الانتخابات عن نجاح عشرة من الشيوخ الوفديين في أربع وأربعين دائرة، استعملت فيها جميع صنوف الضغط والإرهاب والتزوير كالعادة، فحمدت الله على أنني لم أشترك في تلك الجريمة التاريخية المدبرة.
وقد اختلفت الأقوال في نزاهته فمن قائل إنه كان نزيها بالرغم من عيوبه الكثيرة، ومن قائل بأنه لص أريب شديد الحذر، ومعروف أنه امتلك فيلا جميلة في حلوان وعمارة في الدقي، ولكنه كان يردد دائما بأنهما اشتريا بأموال زوجته، ولما قامت ثورة يوليو 1952 قدم إلى لجنة التطهير بناء على ما قدم فيه من عرائض، ولكن الظاهر أنه لم يثبت عليه ما يدينه، فاستمر في عمله. وقيل إنه استمر بفضل شفاعة ابنه الضابط والله أعلم. ورقي بعد ذلك وكيلا للوزارة، ثم عين رئيسا لمؤسسة عقب تطبيق القوانين الاشتراكية. وتسلل إليه الحزن مرتين، مرة عندما أصيب ابنه برصاصة غير قاتلة في حرب اليمن، ومرة عندما أصيب زوج كريمته إصابة عشواء - وهو جالس في مقهى - في مظاهرات الطلبة التي تفجرت عقب هزيمة 5 يونيو 1967. ولم أره منذ غادر الوزارة، وانقطعت عني أخباره إلا فيما تسوقه المصادفة بين الحين والحين، وآخر ما سمعت عنه من صديق رآه في مكة عام 1970 وهو يؤدي فريضة الحج.
شعراوي الفحام
لعله كان أطيب أصدقاء العباسية، طيبة تخالطها لا مبالاة، وبساطة بالغة في الذكاء والتفكير، وأتذكره كلما تذكرته ضاحكا لسبب ولغير ما سبب، وكان يكفيه أن يسمع شتمة أو ملاحظة عابرة ليغرق في الضحك، وكلما اشتد نقاشنا في السياسة ضحك، وكلما تجادلنا في الكرة أو السينما ضحك، وإذا شهدنا جنازة قريب لصديق تجنبنا النظر نحوه خشية إثارة فضيحة بين المعزين. حضرنا يوما جنازة شاب قريب لجعفر خليل، وخرجت أم الشاب تودع النعش أمام البيت في حال جنونية، حافية القدمين محلولة الشعر تلطم خديها بشبشب، ثم من شدة الحزن راحت ترقص كالمجنونة، منظر أثار حزننا جميعا وأجرى دموعنا، ولاحت مني التفاتة نحو شعراوي الفحام فرأيته يعض النواجذ على ضحكة تريد أن تفلت على حين راح جسمه النحيل يرتعش تحت ضغط الضحك المكتوم، ولم يكن قاسيا ولا بليدا ولا أبله ولكنه كان غريبا، كان نوعا قائما بذاته. وكان يقيم مع أمه في البيت المجاور لبيت سيد شعير، بلا أب ولا أخوة، مات أبوه وهو في المهد، تاركا له ولأمه البيت ومعاشا مقداره عشرة جنيهات، وكرست أمه حياتها لتربيته معتمدة على معاش زوجها وريع وقف يماثله في المقدار، لذلك اعتبرت أسرة ميسورة الحال، وستظل كذلك حتى يدخل شعراوي طور الشباب فتكثر مطالبه ويتغير الحال. ولم يوفق شعراوي في دراسته الابتدائية، لا بسبب الإهمال والشقاوة مثل خليل زكي وسيد شعير، ولكن بسبب الإهمال والشقاوة والغباء. وفصل من المدرسة لكثرة سقوطه، فلم يجد سوى البيت والمقهى والطريق. ونفر بطبعه المهذب من مصاحبة خليل زكي، ولكنه وجد ملاذه عند سيد شعير، فلازمه في سهرات الحي الحسيني ثم في أحياء البغايا بعد ذلك. وعن طريقه تعلم شرب الخمر، ثم لم يفارقه إدمانها حتى الموت. ويوما قال لي وكان ما زال تلميذا بالابتدائية: أنا عارف!
فسألته عما يعنيه فقال: أنت تحب حنان مصطفى.
فسكت ضيقا وحياء فقال: وأنا أحب حنان مصطفى!
فدهشت وتوقعت صراعا من نوع ما غير أنه ضحك وقال: يد الله مع الجماعة! - ماذا تعني؟ - نستدرجها معا إلى غابة التين الشوكي!
فصحت به: عليك اللعنة!
وكان ذلك قبيل رحيل آل مصطفى بأيام، فسرعان ما تلاشى سوء التفاهم، على أني لم أعرف له بعد ذلك قصة حب أو زواج، واقتصر نشاطه في ذلك المجال على مصادقة المومسات. ولما يئست أمه من تعليمه أرادت أن تجد له عملا، وكانت تردد دائما أن أي عمل خير من البطالة. وقصدت قريبا لها من الكبراء هو أحمد باشا ندا، فوظفه في وزارة الأوقاف، ولكنه لم يستطع المواظبة على العمل، وكان يمضي يومه في الفيشاوي منتظرا سيد شعير حتى يفرغ من عمله في دكان أبيه، وسرعان ما فصل من الوزارة، ولم يتخلف يوما عن سهراتنا الأسبوعية سواء كنا طلبة أم موظفين، وتمكن منه إدمان الخمر، فكان يشرب كل ليلة، يشرب أرخص الخمر وأردأها التي تتناسب مع دخله، ويمكن تخيل ما أحدثه ذلك في أمه من قلق وأسى، وهو نفسه قال لنا ذات ليلة ونحن نسمر في مقهى سيد شعير بوجه البركة: أمي لا تريح ولا تستريح، تريد أن تخلق لي عملا ولكن أي عمل؟ وتريد أن تزوجني ولكن أي زوجة؟
فقال له عيد منصور: دخلك الثابت عشرة جنيهات، وهو دخل طيب لو قنعت بسكرة واحدة في الأسبوع، وما عليك إلا أن تبحث عن زوجة ذات إيراد.
فضحك كالعادة وقال: إني أنتظر الفرج، وهو آت عما قريب!
وكان يقصد قريبه أحمد باشا ندا الذي تولى رئاسة الديوان الملكي فسأله عيد منصور وهو أشغفنا بالشئون المالية: ألك فكرة عن ثروته؟
فأجاب شعراوي وهو يملأ كأسه بالكونياك الجهنمي: عشرون ألفا من الأفدنة، أما أمواله السائلة فلا يعلمها إلا الله. - ولا ورثة له غيركم؟ - أمي هي قريبته الوحيدة الباقية.
وكان رضا حمادة يؤكد لنا تلك المعلومات نقلا عن أبيه. ومن الطريف أننا لم نعلم بقرابة شعراوي لأحمد باشا ندا إلا في وقت متأخر نسبيا؛ إذ إنه أخفاها على عهد المدرسة الابتدائية لسوء سمعة الباشا كرجل من رجال السلطان، وعدو من أعداء سعد زغلول. واسترسل شعراوي يقول: أمي هي الوريثة الوحيدة له، وأنا الوريث الوحيد لها، والباشا الآن في الخامسة والسبعين من عمره، وكل آت قريب!
وسأله جعفر خليل: حدثنا عما ستفعل بالتركة إذا آلت إليك؟
فضحك طويلا وقال: آه لو تتحقق الأحلام، سأبني قصرا في القاهرة، وآخر في الإسكندرية كالباشا نفسه، وسأملأ الخزائن بجميع صنوف الخمر المعتقة، وأما النسوان ...
فقاطعه سيد شعير: وماذا ستقدم لنا نحن الأصدقاء؟
فأجاب: ستكون سهرتكم في حديقة القصر، وسيقدم لكم أجود ألوان الطعام والخمور والنساء، عهد الله بيني وبينكم.
وهمس رضا حمادة في أذني: سوف يكون يوما تاريخيا يوم يرث صديقنا تركته الخيالية.
وظل يسكر ويحلم بالتركة، يسكر ويحلم، ومع الأيام رق عوده، وجف جلده، وبرغم شبابه جرى المشيب في شعره. وإذا بالباشا العجوز يفاجئ البلد بمغامرة لا تخطر بالبال، فعاد من رحلة بالنمسا بصحبة غادة شقراء فتنة في العشرين من عمرها، قيل إنه ينوي الزواج منها على سنة الله ورسوله. وثار الرأي العام، واضطربت جماعتنا، أما صديقنا فكاد يجن، وما ندري إلا وشعراوي يقيم على الباشا دعوى للحجر عليه باعتباره سفيها. وأدهشنا ذلك وبحثنا عما خفي علينا منه فوضح لنا أن خليل زكي هو الذي أشار عليه بذلك! غير أن قوى مجهولة تدخلت لتعيد إلى الأمر توازنه ، فسافرت الفتاة النمساوية فجأة، وقيل إنها لم توافق على السفر حتى استولت على عشرين ألفا من الجنيهات. وبتدخل السراي كفت الجرائد عن الخوض في الموضوع، وبتدخلها أيضا رفضت دعوى الحجر، واعتكف الباشا في قصره لا يزور ولا يزار، ثم أعلن وقفيته المشهورة التي أوقف أرضه بها للخيرات والمساجد. تذكرنا صديقنا فأحزننا مآله وخيبة آماله، وأقبل علينا في مقهى الفيشاوي سكران كالعادة محمر العينين ذاهل الطرف، نظر في وجوهنا مليا، ثم أغرق في الضحك! وخلع حذاءه فوثب إلى أريكة في صدر المقصورة فتربع عليها وراح يغني:
البخت لو مال حتعمل إيه بشطارتك
وأغرق في الضحك مرة أخرى حتى أعدانا فضحكنا كالمجانين. ولم يطرأ عليه من جديد بعد ذلك سوى الإفراط في الشراب، فكان يشرب في النهار كما يشرب في الليل، ولم يتيسر له من أنواع الخمور إلا الأنبذة الرخيصة الشيطانية، أنبذ السلسلة، ودرب المبلات، وخمارات شارع محمد علي، وخبت شهواته الأخرى كشهوة الطعام وشهوة النساء، وبدا أنه يعيش في منفى من صنعه، يتخاطب بلغته القائمة على الإشارة، ويضحك لخيالاته الراقصة أو يطرق في كآبة حيال أشباحه، وأنه يسير بقوة نحو الذوبان. وحاول جعفر خليل أن يجره إلى دنيا السينما كما فعل مع خليل زكي، ولكنه رفض الفكرة وضحك طويلا، وعرض عليه سيد شعير أن يعمل في المقهى بشرط أن يمتنع عن السكر فضحك أيضا. لم تكن لديه همة ولا رغبة ولا دافع. وقامت الحرب العظمى الثانية، وفي نفس العام توفيت والدته، فأجر البيت وأقام في حجرة مستقلة بمرافقها فوق السطح، وفي عام 1941 أغارت الطيارات الإيطالية على القاهرة في النصف الثاني من الليل، وكان جالسا فوق السطح في غيبوبة تامة من السكر. والظاهر أنه لم يغادر كرسيه إذ وجد مطروحا عليه قتيلا بشظية مستقرة في رأسه. وكان مصرعه أول تجربة من نوعها في حياتنا المشتركة، فهو أول من فقدنا من أصدقاء العمر، وكان جعفر خليل أشدنا حزنا؛ إذ عرف دائما بتعاطفه مع أصدقائنا المنحرفين كسيد شعير وخليل زكي، وجمعنا المأتم حتى الذين باعدت بيننا وبينهم الظروف الطارئة، وجعل سيد شعير يقول بأسف حقيقي: رحم الله شعراوي، كان الوحيد المواظب على زيارتي.
صادق عبد الحميد
قال الأستاذ جاد أبو العلا يقدمه لي في صالونه بالدقي: الدكتور صادق عبد الحميد.
سرت في روحي رعدة وأنا أصافحه، تذكرت الاسم بقوة مخيفة، تذكرت درية زوجته وهي تحدثني عنه، ترى أيكون آخر له نفس الاسم؟ ولكن هذا الأمل تلاشى عندما واصل جاد أبو العلا حديثه قائلا: كان في بعثة قصيرة أخيرا في إنجلترا، ولكنه حصل على الدكتوراه من إنجلترا على عهد طلب العلم، وهو باطني ممتاز ولكنه أديب وفنان وفيلسوف وسياسي أيضا.
إذن فهو زوج عشيقتي دون غيره! ذلك الرجل الذي بلغ الأربعين بالكاد، والذي يفيض حيوية ويتألق ذكاء، وأعجبني حديثه الذكي وجولاته المضيئة في الفن والفكر والسياسة، ووجدته يجذبني بطلاوة الحديث وعمقه وتنوعه، ووجدت في روحه سرا ينفث صداقة راسخة، وازدادت مع الأيام رسوخا، وصفا جوها بقطع العلاقة بيني وبين درية زوجته، وإن لم أخل من ضيق كلما تذكرتها. وبتحريض حار من ناحيته قدمته إلى صالون الدكتور ماهر عبد الكريم، ومجلس الأستاذ سالم جبر. كما قدمته إلى الأستاذ زهير كامل، وخيل إلي كثيرا أنه يضمر تجربة نفسه في الكتابة، ولكنه قنع - ولو إلى حين - بالاستماع والمناقشة، وكان يحظى منهما بسعادة لا توصف. وكان من المتحمسين لثورة يوليو عن إيمان وعقيدة. وكان يحلم بالاشتراكية منذ عهد طلب العلم، ولم تكن له جذور حزبية أو إقطاعية تمنعه من الارتماء في أحضان الثورة. سأله رضا حمادة يوما: أليس لك مأخذ ولو على بعض تصرفاتها؟
فأجاب بحماس، وهو دائما يتكلم بحماس: كلا، الحق أني أيدت موقفها من الأحزاب، من الإخوان، وحتى من الشيوعيين.
فسأله: وما لزوم «حتى» هذه؟ - لست شيوعيا، ولكني أرحب بالتعاون بين الثورة وبينهم، فالثورة والشيوعية تياران ينبعان من مصدر واحد، ويهدفان في النهاية إلى أغراض متقاربة.
وبعد صمت قصير استطرد: وأيدت موقفها من الوحدة مع سوريا، ومن حملة اليمن!
فقال رضا حمادة: إذن فليس في الإمكان خير مما كان.
فقال ضاحكا: لست غافلا عن السلبيات، ولكنها شر لا بد منه في فترات الانتقال والتطور، فأنت بضربة موفقة واحدة تستطيع أن تغير نظام الحكم، أما الطبائع فيلزمها وقت أطول بكثير!
وعمد إلى تفصيل رأيه فقال: قولوا في الجمعيات التعاونية ما شئتم، وقولكم حق، ولكنها كنظام فهو نظام مثالي، وسوف يختفي الفساد يوما وتبقى الجمعية لتؤدي رسالتها، ويمكن أن يقال ذلك بالحرف عن القطاع العام، ألا تذكرون بنك التسليف الزراعي؟ .. لقد استغله إسماعيل صدقي للتنكيل بخصومه، وتفتيت وحدة الأمة ولكن إسماعيل صدقي ذهب وبقي بنك التسليف!
ولما وقعت الواقعة يوم 5 يونيو 1967 ذهل واختل توازنه، ومضى يتخبط بين الصالونات والمقاهي وكأن القيامة قامت، ودار بيني وبينه حديث طويل في التليفون ختمه متسائلا: أكانت حياتنا وهما من الأوهام؟!
وقابلته بعد ذلك بأيام في بيت رضا حمادة بمصر الجديدة فوجدته ممتعضا غاية الامتعاض، وجعل يردد بتألم شديد: ما أكثر الشامتين، ما أكثر الهازئين، ما أكثر المازحين، لم يجن أحد، لم ينتحر أحد، لم يصب بجلطة أو ذبحة أحد، يجب أن أجن أو أن انتحر.
ولكنه أخذ يسترد الثقة يوما بعد يوم، وينظر إلى الهزيمة باعتبارها تجربة مريرة نزلت بنا لنعيد «تشخيص» أنفسنا، وكلما سمع عن رغبة الأعداء في تصفية الثورة ازداد إيمانا بها وحماسا لها، حتى اعتقد مخلصا أن استمرارها أهم من استرداد الأجزاء المحتلة من الوطن العربي؛ إذ ما فائدة أن نسترد أرضا ونخسر أنفسنا؟ ثم إن استمرارها هو الضمان الوحيد لاسترداد الأرض طال الزمان أو قصر، كما إنه الضمان الوحيد لبعث الشعب العربي. - إننا مطاردون، يطاردنا التخلف، وهو عدونا الحقيقي لا إسرائيل، وليست إسرائيل عدوا لنا إلا لأنها تهددنا بتجميد التخلف.
وانصرفنا ذات ليلة معا من صالون الدكتور ماهر عبد الكريم؛ فجلست إلى جانبه في سيارته نصر التي مضت بنا على مهل تخوض الظلام على ضوء فانوسها المطلي بالأزرق. ووجدتني أقول له: عبده البسيوني حدثني بحديث عجيب.
فتساءل عن الحديث فقلت: قال إن الدكتور زهير كامل عشق أخيرا صحفية تحت التمرين تدعى نعمات عارف. - وما وجه العجب في ذلك؟ - هو في الستين كما تعلم وهي في العشرين.
فضحك وقال: العشق هو العشق بصرف النظر!
فقلت: وقال أيضا إنه سيتزوج منها. - يا عزيزي إن حربا تنشب فجأة فتقتل آلافا أو ملايين، وإن زلزالا يقع فيدمر آلافا، أما زواج زهير كامل فربما مر بسلام، وربما تخلف عنه ضحية أو ضحيتان!
وسكتنا مليا، ثم قال لي: أعترف لك بأني عاشق!
فتذكرت ما قالته لي درية في آخر لقاء، ولكني تساءلت متظاهرا بالاهتمام: حقا؟ - راقصة إيطالية بالأوبرج. - لعلها نزوة! - حب عاش أكثر من عشرة أعوام. - يا له من حب عظيم! - أشعر أحيانا بأنه عاش أكثر مما ينبغي!
فترددت، وصمت، بعد أن كدت أطرح سؤالا عن الزوجة، ولكنه قال وكأنه قرأ أفكاري: كما أحببت يوما زوجتي.
وحدثني بفتور عن حبهما، حب طبيب الامتياز للممرضة، كما سبق أن سمعته: كانت فقيرة، وبالرغم من أننا لم نكن أغنياء إلا أن أحدا من أهلي لم يوافق على فكرة زواجي بها، أبدا أبدا أبدا. - ولكنك تزوجتها. - وغرقنا في الحب كالمجانين.
وتمرد اللسان على تحفظي فقلت: ثم جفت ينابيع الحب!
فارتفع صوته - كأنما ليستمد من ارتفاع النبرة دفاعا - وهو يقول: الحق أن نظرتها إلى الحب تغيرت تماما بمجرد أن صارت أما. - كيف تغيرت نظرتها؟ - لا أدري! - أنت تدري بلا شك. - لعلها أصبحت تكن حبا أعظم من الحب العادي، ولكني افتقدت الحب الأول .. وإذا بي. - وإذا بك؟ - إذا بي أزهد فيها نهائيا وبلا رجعة. - يا لها من سيدة تستحق الرثاء! - إني أوفر لها جميع أسباب الرعاية والراحة!
ثم بصراحة: أحيانا أتمنى لو توفق إلى حب رجل آخر فتذهب معه بسلام!
وخيل إلي أن قصة درية قد اكتملت، ولكن ساورتني - وما تزال - شكوك كثيرة. وشاءت الظروف أن نتعرف - أنا وصادق - إلى حرم الدكتور زهير كامل معا، ودعاهما الدكتور صادق عبد الحميد إلى رحلة في أوبرج الفيوم، ولم يصطحب زوجته معه بحجة انشغالها بالأولاد. وبعد مرور عام قال لي الأستاذ جاد أبو العلا في صالونه: إني رأيتهما معا!
فسألته عمن يعني فقال: نعمات عارف والدكتور صادق عبد الحميد في كنج مريوط.
فقلت وأنا أداري انزعاجي: لعلها ...
فقاطعني ساخرا:
وقالوا تراها يا جميل تبدلت
وغيرها الواشي فقلت لعلها
وقلت لنفسي إن الدكتور الممتاز يحتاج إلى مزيد من الدراسة عن جانبه العاطفي. وظل يتحدث في السياسة والفن ولكنه لم يشر بكلمة إلى حبه الجديد، وواصل زياراته للدكتور زهير كامل، وقام بتمثيل دور الصديق والمعجب كما كان يفعل من قبل، وهو ما ساءني منه وأثار اشمئزازي، وضاعف من إثارتي أني رأيت في نفس العام درية في سيارة جاد أبو العلا، وهو ينطلق بها في طريق الهرم، وللحال تذكرت فيلته بالهرم التي حدثني عنها عجلان ثابت عندما أخبرني بعلاقته - جاد أبو العلا - بأماني زوجة عبده البسيوني، ها هي درية تجرب حظها مرة أخرى مع رجل عابث لا يوفر الأمان لأحد. وضقت بهمومي الأخلاقية، وتذكرت الكثيرين ممن يصفونها بازدراء بقولهم «برجوازية»، وقلت لنفسي إنه لمن حسن الحظ أنه لم يبق لنا طويل عمر في هذه الحياة المتعبة الفاتنة.
صبري جاد
تعين بإدارة السكرتارية في أواخر عام النكسة. كان في الثانية والعشرين من عمره، ومن حملة ليسانس الفلسفة، ومن أول يوم جعلت أرمقه بحب استطلاع، وأنتظر على لهف اليوم الذي يكاشفني فيه بطويته فيصلني بهذا العالم الجديد الغريب. وكان من أصل ريفي ولكنه نشأ وتربى وتعلم في القاهرة، في أسرة متوسطة، ابنا وحيدا بين ثلاث بنات توظفن وتزوجن. ويوما سألني: حضرتك تعرف الأستاذ عباس فوزي؟
فأجبته بترحيب: طبعا، كان رئيسنا حتى أحيل إلى المعاش منذ أعوام. - أين يقيم الآن؟ - في عابدين، أتريد أن تقابله؟ - نعم، أريد منه حديثا لمجلة العلم. - أنت صحفي بها؟ - تحت التمرين. - ما رأيك أن نزوره معا؟ .. فإني لم أره من مدة غير قصيرة.
وذهبنا معا إلى فيلا عباس فوزي، وهي مقامة فوق سطح عمارة يملكها في عابدين، ورحب بنا بلطفه المعهود، وأجرى صبري جاد معه حديثه الذي دار حول مؤلفاته عن التراث، ولما انتهى استأذن في الانصراف ولكن الأستاذ عباس فوزي قال له: لن أسمح لك بالذهاب حتى تجيب عن أسئلتي.
فتساءل الشاب عما يريد فقال: ثمة أسئلة تلح علي بخصوص جيلكم فهل أنت على استعداد للإجابة بصراحة!
فأجاب الشاب باسما: طبعا. - بصراحة من فضلك، نحن غير رسميين، ونحن في خلوة، فلا تضن علي بالحقيقة. - تحت أمرك.
وقلت أنا: الأستاذ يريد أن يعرف أشياء عن الجيل ككل لا عن شخصك.
فقال عباس فوزي: هذا ما أقصده تماما.
فقال صبري جاد: تحت أمرك.
اعتدل الأستاذ عباس فوق الكنبة التركية ثم سأله: ما موقفكم من الدين؟
فأجاب صبري جاد ببساطة: لا أحد يهتم به! - لا أحد؟! - الأغلبية لا تهتم به! - لم؟ - لم يكن موضع بحث، ربما لأنه توجد به أشياء غير معقولة وتخالف ما ندرسه من العلم. - ولكني أعلم أن الدولة تهتم بتدريسه وتشترط النجاح فيه؟ - ونحن نحفظه وننجح فيه. - أتعني أن تعليمه غير مثمر من ناحية العقيدة؟ - أجل. - والبيت؟ .. ألم تلقنه في البيت؟ .. هل والداك مؤمنان؟ - نعم ولكنهما لا يصليان ولا يصومان ولا يتحدثان في الدين! - ألا يوجد بين الطلبة إخوان مسلمون؟ - كلا .. أو عدد لا وزن له. - ألا يوجد تلاميذ مؤمنون؟ - في رأيي أنهم قلة.
ثم مستدركا: بعد النكسة وجد نوع من الميل للدين، البعض يقولون إن هزيمتنا ترجع إلى إهمالنا لديننا. - إذن يوجد ميل للإيمان؟ - نعم يوجد.
فقال الأستاذ عباس باسما: إني أطمع في مزيد من الدقة. - أجبت بما أعرف، مستعيدا ذكريات الثانوية والجامعة. - دعني أساعدك، لعلك تقصد أن تقول إن الإيمان بصفة عامة لا يلعب دورا هاما بينكم، ولكن الوضع قد يتغير بعد النكسة؟ - نعم. - ما مدى هذا التغير المحتمل في نظرك؟ - لا أدري.
وتفكر الأستاذ عباس مليا وأنا أتابعه - أتابعهما - بحواس مرهفة واهتمام لا مزيد عليه، وعاد الأستاذ يسأل: ما هي القيم التي تقدسونها؟
فنظر إليه صبري جاد في حيرة وتمتم: القيم؟
وقلت من فوري مخاطبا الأستاذ: أرجو أن تتجنب التجريدات ما أمكن.
فعاد الأستاذ يسأل: لم تتلقون العلم في المدارس؟ - لعله خير من أن نتصعلك في الشوارع! - فقط؟! - ولكي نحصل على وظيفة توفر لنا الحياة السعيدة. - وما الحياة السعيدة؟ - هي المسكن الصحي، والمأكل اللذيذ، والملبس الأنيق، وغير ذلك من مسرات الحياة.
فتدخلت في الحديث بلا تدبير متسائلا: ألا تحبون العلم؟ .. ألا تسعون للتفوق فيه؟ - كلنا نطمح إلى دراسة العلم إلا من يقعده المجموع عن ذلك. - لماذا؟ - الشهادات العلمية هي التي توفر الوظائف الممتازة. - والتفوق في العلم والحلم بخلق إضافات فيه؟
فتردد قليلا ثم قال: أعتقد أن المتفوقين يحلمون بذلك.
فسأله الأستاذ عباس: ألا تقرءون الكتب في أوقات الفراغ؟ - نفضل السينما والإذاعة والتلفزيون وقليلون يقرءون. - وهل يقرءون التراث؟ - لا أظن! - ألم تقرأ التراث بصفتك طالب آداب؟ - لغته معقدة ومحصوله ضحل، وهو مقطوع الصلة بزماننا!
فتسللت نبرة حادة بعض الشيء إلى صوت الأستاذ وهو يسأل: والوطن أما زلتم تحبونه؟ - طبعا. - وإسرائيل هل تودون محاربتها؟ - نحن الذين سنحرر الوطن بدمائنا، الوطن الذي تسببتم في هزيمته. - نحن؟ - نعم. - ليس جيلنا الذي يحكم.
وأشرت إلى الأستاذ عباس إشارة خفية ليتجنب الحدة فثاب إلى الهدوء وجعل يبتسم في مودة، ثم سأله: وماذا تفضلون: الاشتراكية أم الرأسمالية؟
فرفع صبري منكبيه وأجاب: لا تهمنا الأسماء! - الأسماء؟! - أجل، مللنا ذلك ... يهمنا أن تتحقق لكل فرد حريته ونجاحه وسعادته.
فقلت متدخلا في الحديث مرة أخرى: هذا يعني أنك تفضل الاشتراكية! - لا أدري! - أتفضل النظام الرأسمالي؟ - لا أعتقد. - ألديك نظام جديد؟ - كلا .. ولكننا مللنا ذلك.
ورجع الأستاذ عباس فوزي يسأل: وما موقفكم من الحب؟ .. ألا زال للحب عندكم قيمة أم أصبح الجنس كل شيء؟ - الجنس مسيطر، وقليلون يحبون، بل ويرغبون أن يمتد بهم الحب حتى الزواج! - وماذا عن الأكثرية؟ - يمارسون المغامرات الجنسية. - مع من؟ - التلميذات .. الطالبات .. الفتيات! - هل يقبلون الزواج من المغامرات؟ - كثيرون يقبلون ... والبعض يتبع تقاليد الجيل الماضي. - أعتقد أن الفتيات لا يتخلين عن حلم الزواج. - هذا هو عيبهن الأول. - وغير مستحيل أن تتزوج أنت نفسك يوما ما. - غير مستحيل وإن يكن مرتبي مضحكا ومستقبلي عدما. - ولكن ثمة ما يشدك إلى الحياة ولا شك؟ - غريزة حب البقاء. - ربما لم تخل حياتك من سرور؟ - لقمة سائغة، فيلم جيد، علاقة جنسية بريئة. - بريئة؟! - أي ليست استدراجا لزواج. - أتعتقد أنك خير من أبيك؟ - كان أبي وفديا يقدس سعد زغلول ومصطفى النحاس، وأنا أعتبر ذلك مضحكا. - لم؟ - ثبت أنهم أصنام لا أكثر ولا أقل. - لا أجد عندك عقيدة بديلة؟ - كان عندي، وتزلزل كل شيء عقب 5 يونيو. - ماذا تقترح لتحسين الأحوال؟ - العالم كله عدم وهباء. - ماذا تقترح لتحسين أحواله؟ - القضاء على جميع المسئولين فيه! - وماذا يحدث بعد ذلك؟ - لا يهم، ستتحسن الأحوال وحدها. - لقد جئتني يا عزيزي لإجراء حديث عن التراث على حين أنك لا تؤمن به؟ - إني صحفي تحت التمرين! - ولكن سلوكه لا يخلو من انتهازية؟ - وما العيب؟ أي وسيلة تنفع للوصول في هذا العالم المكتظ فهي مشروعة! - أشكرك جدا. - العفو.
وغادرنا عمارة الأستاذ وصدري يجيش بانفعال عاصف.
صفاء الكاتب
كان بيت الكاتب من أعرق البيوت في العباسية القديمة. وكان يقع في الحي الشرقي بمبناه الشامخ وحديقته المترامية ما بين محطتي ترام. وكثيرا ما سرنا بحذاء سوره، ونحن في طريقنا إلى الصحراء للعب الكرة فلم أر منه إلا رءوس الأشجار وخمائل الياسمين والستائر المسدلة. وذات يوم وكنت ماضيا نحو الصحراء رأيت حنطورا ينحدر من الطريق الشرقي نحو الشارع العمومي، في صدره جلست عجوز تلوح من وجهها عينان ناعستان فوق حافة اليشمك، وإلى جانبها فتاة تتألق بنور الشباب. وبمجرد أن وقعت عيناي على وجه الفتاة عانقت سرا من أسرار الحياة المتفجرة، تفتحت بها أبواب السماء فأغدقت علي فيضا من بركات الحب، وقال شعراوي الفحام، وكان أكثرنا خبرة بالحي الشرقي: هي صفاء ابنة صاحب القصر.
وقال خليل زكي وكان يسطو على حدائق الحي الشرقي كلما وجد غفلة ليخطف عنقود عنب أو ثمرة من المانجو: وهي في العشرين من عمرها.
وعند ذلك همس جعفر خليل في أذني وقد لحظ تغيري: أما أنت ففي الخامسة عشرة!
ومن عجب أن صورتها - رغم العاطفة التي ابتعثتها - اختفت تماما وراء سحب الماضي ، بل تعذرت على الوضوح حتى وأنا فريسة لسحرها. لا أعرف لون شعرها ولا تسريحته ولا لون عينيها أو رسمهما ولا طول قامتها أو درجة امتلائها، ذاب ذلك في سائل سحري، وكنت إذا تذكرته - أو خيل إلي ذلك - فعن طريق غير مباشر وبإيحاء عفوي كشذا الورد الذي يباغتك من وراء سور وأنت ماض غارقا في أفكارك. وكأن قلبي لم يكن يحركه شيء إلا إذا انتهى إليها بسبب خفي، ولذلك همت في أزمنة متأخرة نسبيا بقسمات وملامح وسمات ولفتات لنجوم توهمت أنها تذكرني بما غاب عني منها، بل ما أحببت صفة في وجه إنساني إلا وكانت هي وراءه حقيقة أم وهما. وبسبب ذلك الحب الخاطف عانت حياتي العاطفية من أزمات متواصلة معقدة كأنها السحر الأسود. والعجيب أنه كان حبا بلا مواقع، ولا مواقف، ولا تاريخ يذكر. رأيتها في الحنطور ثواني ليس إلا، ففقدت إرادتي، وألقي بي في طور جديد من أطوار الخلق. وكنت قريب عهد بحب حنان مصطفى؛ فأدركت خطئي وآمنت بأنني أحب لأول مرة، وعرفت كيف يغيب الإنسان وهو حاضر، ويصحو وهو نائم، كيف يفنى في الوحدة وسط الزحام ويصادق الألم، وينفذ إلى جذور النباتات وموجات الضوء. وجعلت أحوم حول سراي الكاتب، وهو قصر مغلق النوافذ مسدل الستائر لا يرى به إنسي سوى البواب والبستاني وبعض الخدم، وسمعت مرة صوتا ناعما ينادي البواب، فاهتز قلبي وافترضت في الحال أنه صوتها ثم آمنت بذلك. ورأيتها للمرة الثانية في مناسبة حزينة جدا، في نافذة بيت أثري بشارع محمد علي احتشد فيه نفر من النساء لمشاهدة جنازة سعد زغلول، ولم أنتبه إليها عقب مرور النعش، فرأيت من خلال دموعي وجهها المشرق، وهي تجفف عينيها مادة عنقها وراء النعش المبارك. خفق قلبي خفقة مباغتة، ولكنني لم أنعم بالرؤية، وفقدت النشوة في قلب كسير محزون، واجتاحتني عواطف متناقضة كما اجتاحني تيار الخلق المتلاطم الباكي. لم أرها بعد ذلك إلا ساعة هبطت أدراج السلاملك في ثوب العرس لتستقل سيارة إلى بيت العريس، وكنت ضمن حشد وقف على الطوار المواجه للقصر للفرجة، وكانت مدة ذلك التاريخ الذي مر بلا أحداث عاما إلا قليلا، ولكنه كان أعجب عام في حياتي.
وانكشف أمري لأصدقائي جميعا، أما المهرجون فسخروا مني وأطلقوا علي «مجنون صفاء»، وأما الآخرون فحذروني من التمادي في عاطفة لا جدوى منها البتة، وكنا صغارا وكانت أفكارنا ساذجة مستعارة من الروايات، وما عرفناه من تاريخ الأدب العربي، فقال لي سرور عبد الباقي: لا تستسلم وإلا جننت كمجنون ليلى.
وقال لي رضا حمادة: إن حبك هذا يقطع بأنك أحببتها في تاريخ سحيق مضى، ربما في عصر الفراعنة كما يقول ريدرهجارد.
وتمثل ذلك الحب في صورة قوة طاغية متسلطة لا تقنع بأقل من التهام الروح والجسد. قذف بي في جحيم الألم، وصهرني، وخلق مني معدنا جديدا تواقا إلى الوجود، ينجذب إلى كل شيء جميل وحقيقي فيه. وبقي الحب - بعد اختفاء خالقه - ما لا يقل عن عشرة أعوام مشتعلا كجنون لا علاج له، ثم استكن على مدى العمر في أعماقي كقوة خامدة، ربما حركتها نغمة أو منظر أو ذكرى فتدب فيها حياة هادئة مؤقتة تقطع بأنه لم يدركه الفناء بعد. وكلما تذكرت تلك الأيام أذهلني العجب، وتساءلت بدهشة عن سر الحياة التي عشتها، وهل كان أصابني مس من الجنون، وأسفت غاية الأسف أنه لم يقدر حبي أن يخوض تجربته الواقعية، وأن تتلاقى في دوامته العنيفة السماء والأرض، وأن أمتحن قدراتي الحقيقية في معاناته ومواجهة أسراره على ضوء الواقع بكل خشونته وقسوته، وما أحكم رضا حمادة حين قال لي يوما وقد بلغنا درجة من النضج والتجربة: صفاء ألقيت في حياتك كمثير ... لم تكن إلا «شفرة» تشير إلى شيء، تعين عليك أن تحل رموزها للوصول إليه.
فقلت له: لقد تحللت حياتنا إلى سخريات، ولكني أكره أن أذكر تلك الأيام باستخفاف. - استخفاف؟! كيف يستخف إنسان بأروع سني العمر؟!
ومررت بقصر آل الكاتب في الستينيات فوجدته قد هدم ورفعت أنقاضه، مخلفا أرضا فضاء تحفر تمهيدا لإقامة أربع عمارات سكنية. ابتسمت وأنا أنظر إلى الأرض الفضاء، وعبرني إحساس بالأسى، فتذكرت صفاء التي لم أرها منذ هبوطها في ثوب العرس، التي لم أدر عنها شيئا، حية كانت أم ميتة، سعيدة أم شقية، وكيف غيرها الكبر بعد بلوغ الستين؟ وأيا كان خبرها، ورأي الآخرين فيها، ألم يكن من حقها أن تعرف أنها عبدت في محراب كإله، وأنها فجرت في قلب حياة ما زالت تنبض بين الحين والحين بذكراها؟
صقر المنوفي
كان طبيعيا أن يوصف عم صقر المنوفي بأنه الساعي بإدارة السكرتارية، ولكن جاء وقت كاد يطلق على إدارتنا العتيدة بأنها إدارة عم صقر، وكان أقرب إلى القصر والبدانة، ولكنه كان جم النشاط، بل فاق نشاطه عادة المهام المطلوبة منه، وكان جاسوسا بالسليقة، ولحساب نفسه، وفي أوقات تقديم قهوة الصباح كان يتطوع بالهمس مفشيا الأسرار، أسرار الوزارة والموظفين، ولعله كان أول من بصرني بالأسباب الحقيقية لترقية شرارة النحال من عامل تليفون إلى سكرتير لسعادة وكيل الوزارة، ثم انهمرت أنباؤه تباعا عن عباس فوزي، وعدلي المؤذن، وعبد الرحمن شعبان، والآنسة عبدة سليمان، والرجل الطيب التعيس طنطاوي إسماعيل وغيرهم. قال لي يوما الأستاذ عباس فوزي ونحن بصدد الحديث عن ارتفاع الأسعار وبؤس الموظفين ذوي المرتبات الثابتة في أيام الحرب: لا أحد يأكل ما يشتهي إلا عم صقر!
فأبديت الدهشة فقال: إنه مغرم بالطعام الجيد.
فقلت له: الغرام شيء والقدرة شيء آخر.
فقال بسخريته المعهودة: كأنه فلم مباحث، فما من فرح يقام أو مأتم إلا وعنده علم به، وسرعان ما تجده بين العاملين في الفرح أو المأتم. يتطوع للخدمة ليشهد في النهاية وليمة العشاء، كذلك تجده في ليالي الموالد بالجوامع الكبرى، فما من ليلة تمر إلا وهو في وليمة، فأي باشا يدانيه في هذا الحظ الغذائي منعدم النظير؟!
من ذلك جاء تألقه الدائم بالصحة والعافية، وغزله الرقيق باللحوم والفطائر والحلوى، أما بقية مظاهر حياته فجرت في مستواها الطبيعي البائس كساع مسكين، يقيم في حجرة أرضية بعطفه دعبس بالحسينية هو وزوجته وأبناؤه، ولكن متى رسم خطة للإثراء؟ إذ من المحقق أنه رسم تلك الخطة وعمل على تنفيذها بصبر ودأب، ربما منذ عهد التحاقي بالخدمة في أواخر عام 1924.
انطلق في ذلك السبيل بادئا من بيع قطع الحلي والنحاس ورثها عن أمه فتجمع لديه مبلغ من المال راح يستثمره في إقراض الموظفين بربح فاحش. وهو نشاط غريب بالنسبة لرجل مسلم من أهل البلد الفقراء، ولكنه أقدم عليه وتمادى فيه حتى النهاية، وعرف بذلك في أوساط الموظفين الفقراء وما أكثرهم فأقبلوا عليه بنهم، وأصبح بذلك مركزا لحركة مصرفية سرية، ونمت نقوده وتراكمت، وفي بحر ربع قرن من الزمان استطاع أن يشتري البيت الذي يسكن حجرته الأرضية بألف جنيه، ثم هدمه فأقام موضعه عمارة صغيرة مكونة من دورين ودكانين. وكان له ابنان وبنت، أهملهم إهمال الفقراء فعمل البكري فراشا في وحدة صحية بالريف، وانقطع كلية عن أسرته، واشتغل الأوسط صبي قصاب، أما البنت فقد اختفت وهي في سن المراهقة، قيل إنها خطفت أو تاهت أو هربت، وما لبث ابنه الأوسط أن قتل في مشاجرة بالمذبح، وحزن عم صقر حزنا عميقا، واعتقد أن ما أصابه في بنته وابنه إنما هو عقاب من الله على إثرائه بالربا فكف عن الإقراض، وأدى فريضة الحج تائبا. والعجيب أن تحسن حاله المالية لم يغير مظهره ولا سلوكه العام في الحياة، بقي في وظيفته الحقيرة يقوم على خدمة الموظفين يعتبر سيدا لهم من الناحية الاقتصادية، ولبث يسعى إلى الأفراح والمآتم للاستمتاع بالولائم المجانية، وظل يتشمم الأخبار ليفشي الأسرار عند تقديم القهوة، فإذا خلا إلى نفسه غلبه الحزن على ابنته المفقودة وابنه القتيل. وأذكر أنني كنت في مأتم جعفر خليل عندما جاء عدلي المؤذن للتعزية، وجالسته بعض الوقت فقال لي: صقر المنوفي قبض عليه!
فدهشت وسألت عن السبب فقال: الرجل جن ولا شك.
ثم قال: كان في مسكنه وحده فجاءت بنت الكواء ببدلته، فاعتدى عليها وهي قاصر!
وغاب عن ذاكرتي زمنا طويلا حتى رأيته مقبلا على مجلسي بمقهى الفيشاوي حوالي عام 1960 بعد خروجه من السجن بأشهر. وكلما سألته عن حاله أجاب باقتضاب: الحمد لله.
وعلمت أن زوجته توفيت وهو في السجن وأنه يعيش وحيدا. - سافرت لزيارة ابني ولكني لم أرتح، فرجعت بعد أسبوع واحد!
وجعلت أواسيه وأشجعه حتى قال: إني راض بما حدث فهو جزاء حق ولكن لم لا يعامل الله سبحانه بالمثل أشخاصا مثل شرارة النحال أو عدلي المؤذن؟!
صبرية الحشمة
كانت تدير بدرب طياب - حوالي 1930 - بيتا وأربع فتيات حسان. وتأصلت بينها وبين سيد شعير صداقة متينة منذ ذلك العهد البعيد، قدمنا إليها فصرنا من المقربين إلى المعلمة، وتمتعنا بامتيازات غالية، وكنا نشهد السهرات الخاصة - التي تبدأ بعد وقت التشطيب في الدرب - داخل البيت فنسمع الغناء ونشاهد الرقص، ونتمادى في السهر حتى مطلع الفجر، وكانت في الأربعين: لحيمة مهيبة، جذابة الملامح، ذات شخصية مسيطرة تليق بالمعلمات. وكان مجرد حضورها كأنه قانون طبيعي، يخضع له كل في دائرته الخاصة، لا تجرؤ على الاستهانة به جارية أو قواد أو زبون أو خادم. وأعجب بها جعفر خليل، وعشقها شعراوي الفحام حتى اضطر سيد شعير إلى أن يقول له: المعلمة تدير ولا تعمل.
فسأله: أتعني أن حياتها خالية من الرجال؟ - كلا، المعلمة تعشق ولكنها لا تعمل بالأجرة، ولها رفيق رومي بياع نبيذ!
ولما قامت الحرب العظمى الثانية كانت بين أوائل المعلمات اللاتي استجبن للتطورات الطارئة، فاستأجرت شقة كبيرة في شارع شامبليون وخصصتها للدعارة السرية، ووسعت دائرة نشاطها ففتحت مشربا للخمور بشارع الملكة نازلي، واستفادت أكبر استفادة من الترفيه عن جنود الإمبراطورية البريطانية. وكشفت تلك الفترة المتوترة عن مواهبها في الإدارة حتى قال لي سيد شعير: خفت عليها من التوسع أن يفلت الزمام من يدها، ولكنها أمهر من الجن الأحمر!
وكان يواظب على زيارتها ويحكي لنا عن مغامراتها أول فأول، فعرفنا كيف تاجرت في السوق السوداء فربحت أموالا طائلة من الخمور والخردة. قال سيد شعير: إنها أقدر من وزير بالرغم من أنها أمية، لا يفوتها مليم من حسابات البيت والمشرب والتجارة، وتعرف العملاء بالاسم، ويا ويل من يحاول خداعها، وهي كريمة تجود بسخاء على العاملين معها من الموزعين والقوادين والفتيات، وكل شخص يحبها ويحترمها ويعمل لها ألف حساب.
فقلت لرضا حمادة: ليت حكومتنا تتبع مثالها في معاملة موظفيها!
فضحك رضا حمادة وقال: هي عندي خير من صاحبنا المتدين زهران حسونة!
فقلت: بل هي عندي خير من كثيرين من الوزراء والزعماء الذين يقومون بنفس الدور مع الإنجليز، ولكن على حساب الوطن!
فقال جعفر خليل بأسى: رحم الله صديقنا خليل شعراوي الفحام فلعلها المرأة الوحيدة التي عشقها في حياته القصيرة.
وعند نهاية الحرب كانت قد جمعت ثروة طائلة، وأثبتت أنها أعقل من كثيرين، وكانت قد بلغت الخامسة والخمسين من عمرها، فصفت أعمالها، وأودعت في البنك ألوفها المؤلفة، وشيدت لنفسها فيلا في المعادي، ولكن صاحبها الرومي قد توفي ولم يكن لها وريث ولا أهل، فعاشت عيشة هنية هادئة، ثم قررت تغيير حياتها جذريا، فأدت فريضة الحج، وأغدقت الخير على أصدقائها القدامى، وتبرعت كثيرا للجمعيات الخيرية. وسمعت - عام 1950 وهي في الستين - أنها تزوجت من شاب في الثلاثين، موظف بمصلحة المساحة فأدركت أن فترة الهدوء قد انطوت وأن فترة من القلاقل قد بدأت، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم لم يبلغني عنها جديد؛ إذ إن زواجها أغلق بابها في وجه سيد شعير، وبالتالي انقطعت أخبارها عني.
طنطاوي إسماعيل
لعله الموظف الوحيد الذي لم أجد فيه شيئا من «مضمون» الموظف المتعارف عليه. كان وقت دخولي الخدمة رئيسا للسكرتارية العامة، درجة خامسة، في الخمسين من عمره، وظل يشغلها حتى أحيل إلى المعاش عام 1944، ولما اطلع على ملف خدمتي الجديد سألني: أكنت في تلاميذ الدكتور إبراهيم عقل؟
فأجبت باعتزاز: نعم ومن تلاميذ الدكتور ماهر عبد الكريم أيضا.
فقال بصوت ذي رنة نحاسية: ماهر عبد الكريم رجل عظيم أما إبراهيم عقل فوغد كافر من ذيول المبشرين!
فقلت وأنا لا أجد حافزا للدفاع عن الرجل: يخيل إلي أنه اعتزل الفكر ولم يبق من أستاذيته إلا شبح.
فقال بحدة: لم يبق منه إلا مرتزق من المرتزقة!
وحضرته - طنطاوي إسماعيل - مرات في مكتب المدير العام فراعني منه أنه لا يحني ظهرا، ولا يردد ملقا، وأنه يحافظ على كرامته تماما، ثم يغادر المكان مخلفا وراءه أسوأ الأثر! ولفت نظري أنه كان يصحح الخطابات التي تعرض عليه للتوقيع من أخطائها اللغوية والنحوية لا المصلحية فقط. وكان يفتش على حجرات الإدارة متفقدا النظام والعمل، فلا يتسامح مع متلكئ، أو مهمل، أو متهم بسوء معاملة الجمهور. وبالرغم من ذلك كله لم أعثر على موظف واحد يعترف له بفضائله، كانت تصرفاته توصف عادة بالحماقة أو بجنون العظمة، وأذكر أنه قال لي قبيل حلول عيد الهجرة: أنا أول من طالب باعتبار يوم الهجرة عطلة رسمية!
ووعدني بالاطلاع على المقالة التي دعا بها إلى ذلك وقد فعل. وأذكر أيضا أنه رقي ترقية جديدة بعد أعوام، تنفيذا لقرار مجلس الوزراء الخاص بالمنسيين فهنأته بذلك، ولكنه قال بصوته الجهوري: لو أنصفوا لولوا المنسيين مقاليد الحكم فهم في الواقع أشرف الموظفين!
وكان عم صقر الساعي موجودا، وكان موضع عطف الرجل فقال له: لعل ذلك يدعو سعادتك إلى تغيير رأيك في الوفد؟
فقال بصراحته: ليس هذا بالإنصاف المنشود، ولكنه مداراة قلقه لشر مستحكم، نوع من أنصاف الحلول، وذلكم هو شعار الوفد الحقيقي الخفي، الحق حق والباطل باطل، والخير الحقيقي أن تولي من يصلح وأن تطرح في السجون الفاسدين، رحم الله زعماء الحزب الوطني، عرفوا الحياة تضحية وجهادا لا سياسة ومهادنة!
واطلع يوما على أسماء كبار الموظفين الذين نالوا رتبا وأوسمة لمناسبة من المناسبات فقال: لولا إيماني بالله، لولا إيماني بأن حكمته فوق العقول، لجننت!
وهمس عبد الرحمن شعبان مترجم الوزارة في أذني: ما زال يتصور أنه عاقل!
أجل، بالجنون كان يرمى دائما، ولذلك غض عن الكثير من تصرفاته. وقد عرفت ماضيه من عباس فوزي وعم صقر وغيرهما، عين في الوزارة بدبلوم التجارة العليا، وهو في العشرين من عمره. وفي ظرف خمس سنوات عمل مفتشا بالحسابات، وكان ذا خلق نقي طاهر، يحمل الأمانة بإخلاص، ولا يحيد عن الحق، فأثار موجة من الرعب في قلوب الكتبة والمراجعين. كانوا يعملون من خلال نظام محكم تعاوني يقوم أساسه على الرشوة والهدية، فانفجر الرجل في أوساطهم كالقنبلة، فاتكا بمصادر رزقهم الحقيقية، ولو كانوا يملكون الشجاعة الكافية لاغتالوه، ولكنهم فكروا في وسيلة تخلصهم منه، ولعبوا بإمضائه لعبة ماكرة فوجد نفسه وهو لا يدري موضع اتهام وتعذر عليه تبرئة نفسه منه، وقدم إلى مجلس تأديب فقضى بفصله من عمله. - تصور شخصا أمينا لدرجة الجنون يجد نفسه مفصولا بتهمة خيانة الأمانة!
غادر الوزارة وهو يصرخ بأعلى صوته: «أنا أمين ... أنا شريف ... أنا مظلوم ... حسبي الله ونعم الوكيل.» وعانى الألم والجوع والجنون خمس سنوات كاملة حتى انهارت أعصابه تماما، وحتى اضطر عمه إلى نقله إلى مستشفى أمراض عصبية بحلوان، فقضى فيه عاما ثم غادره بعد أن تماثل للشفاء، ولكنه كان خسر شيئا صميميا لا يعوض. ومرض وكيل الحسابات فشعر بدنو الأجل، فاستدعى مدير إدارة التحقيقات واعترف له بحقيقة المؤامرة التي حيكت للإيقاع بطنطاوي إسماعيل. وأعيد التحقيق بصفة سرية ثم تقرر إعادة الرجل إلى الخدمة، مع إلحاقه بإدارة «غير مالية» تجنبا لأي أذى قد يلحق به أو بالآخرين! وقد عملت معه عشر سنوات فعرفته عن كثب، عرفت إيمانه بالله الذي لا حد له، عرفت نقاء خلقه الناصع، كما لمست فيه وطنية تبلغ درجة التعصب الأعمى. وكان كثير الاطلاع على المراجع الدينية، ميالا للمحافظة لدرجة أن يعاف أي حديث من فكر أو سلوك فيعده انحرافا وسقوطا. جمعني وإياه ركن بجامع الحسين في الليلة السنوية التي كان يحييها الشيخ علي محمود، وكان يسأل من حوله: ترى أما زالت الفضائل فضائل أم أصبحت موضة قديمة؟
وراح يحمل على الجبن، والتملق، وفساد الذمم، والانحلال فيقول: نحن في حاجة إلى طوفان جديد لتمضي السفينة بقلة الفضلاء؛ ليعيدوا خلق العالم من جديد!
طالما تشوقت إلى معرفة المزيد عنه، حياته الخاصة، نشأته الأولى، علاقاته بزوجه وأبنائه، تصرفه حيال سائر مغريات الحياة، ثم قنعت بما تيسر لي معرفته، فهو إنسان يتحلى بالنقاء لكنه يعيش في مستنقع مكتظ بالجراثيم، غير أن عنفه في الحق يدفعه أحيانا إلى حافة اللاإنسانية وهو لا يدري ، فصراحته كثيرا ما تتسم بالإيذاء في غير ما ضرورة، مما جر عليه شعورا عاما بالنفور بل والكراهية، وكان عبد الرحمن شعبان مترجم الوزارة يشير إليه بقوله «ابن المجنونة»، كما كان الأستاذ عباس فوزي يقول عنه متهكما: سيدنا طنطاوي بن الخطاب رضي الله عنه!
ورغم ذلك كله فلم يستطع أن يصد موجة «العصر» عن أن تغزو عرينه، فذات يوم - وأنا موظف جديد - رأيت فتاة مليحة جذابة تجلس إلى جانب مكتبه قدمني إليها ثم قدمها إلي قائلا: ثريا رأفت كريمة شقيقي.
ثم قال باحتجاج باسم: طالبة بالمعهد العالي للتربية!
ثم وهو يهز رأسه: العلم نور، ولكني لا أوافق على المرأة العاملة، ومن ذلك فلا سلطان لي على بنت أخي الأكبر إلا النصيحة.
ولعل آخر موقف انطبع في نفسي من طنطاوي إسماعيل كان غداة يوم 4 فبراير 1942، قال لي قبل أن يجلس إلى مكتبه: ما رأيك؟ .. ها هو زعيمك يرجع إلى الوزارة فوق الدبابات البريطانية.
وكنت أتجنب مناقشته، وبخاصة وهو ثائر، وجعل يتساءل وعيناه تبرقان: أسمعتم عن زعامة من هذا النوع من قبل؟!
ثم اجتاحته موجة من الغضب فجعل يصيح كالممسوس: الطوفان .. الطوفان .. الطوفان.
طه عنان
ظهر في حياتنا ونحن في السنة الرابعة الثانوية، كان أبوه مأمور قسم شرطة بأسيوط، ثم نقل إلى القاهرة مأمورا لقسم الوايلي، متخذا من العباسية مقاما لأسرته، وتعرف طه عنان بأصدقائي جعفر خليل ورضا حمادة وسرور عبد الباقي من زملاء المدرسة الثانوية، ولكن علاقته توثقت بي وبرضا حمادة فقط لاشتراك ثلاثتنا في العقيدة الوفدية والميول الثقافية. وقد اشترك في الإضراب الذي استشهد فيه زميلنا بدر الزيادي، ومما يذكر أن أباه كان ضمن القوة التي حاصرت المدرسة ثم اقتحمتها بعد ذلك بالقوة والعنف. وناقشنا موقف والده، وكان خجلا منه ومتألما وجعل يدافع عنه فيقول: أبي وطني، مثلنا تماما، ويؤمن بمصطفى النحاس كما آمن بسعد زغلول، ولكنه يؤدي واجبه!
فقال رضا حمادة: سمعنا عن ضباط مثله انضموا إلى الثوار في سنة 1919.
فقال طه عنان مدافعا عن أبيه ما وسعه الدفاع: كانت أيام ثورة ولا ثورة الآن.
وكان يغلب على طبعه الجد فنفر من مزاح جعفر خليل. وكنا نقرأ معا بعض كتب التراث، وكثيرا من مؤلفات كتاب العصر من قادة الفكر الجديد، كما كنا نناقش كل شيء بحرية وحماس. ونتطلع إلى مستقبل فكري واحد، وكان يؤمن بالكتب ويرجع إليها في كل ما يهمه من شئون الحياة، ولما اطلع على قصة حبي لصفاء الكاتب دهش وقال: ولكن حالك غير طبيعية!
فقلت باستياء: ولكنها واقع! - أنا أحب أيضا ابنة عمي، ونفكر في إعلان خطوبتنا!
واتباعا لأسلوبه في الرجوع إلى الكتب مضى بي إلى دار الكتب ورحنا نقرأ معا عن كلمة «حب» في دائرة المعارف البريطانية، ثم قال: هذا هو الحب من جميع نواحيه الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية، ومنه ترى أن ما بك ليس حبا ولكنه جنون.
فتمتمت بحنق: جنون!
فابتسم قائلا: لا تغضب، ربما احتجنا لقراءات أخرى!
ولكنا لم نواصل القراءة عن الحب، وقرأنا كثيرا - وخاصة في العطلة الصيفية - عن حقائق جديدة ومتنوعة، وكل شيء كان جديدا، وتعرضنا لأزمات نفسية وعقلية وحشية، وزلزل قلبانا زلزالا.
واقترح علي اقتراحا عجيبا، ونحن جالسان في مقهى الفيشاوي قال: علينا أن نبدأ من العدم! - من العدم؟
فقال بثقة لا تتفق مع انهيارنا: لا سبيل إلى ما مواجهة هذا العذاب إلا بأن نبدأ من الصفر.
ورمقته بنظرة متسائلة بالرغم من أنني أدركت ما يعنيه فقال: من الصفر، ثم نستعيد قصة الحضارة من جديد معتمدين على نور العقل وحده.
فسألته: وإن صادفتنا أشياء لا يفصل فيها العقل بحكم؟
فقال بحماس: لنبدأ بالعقل باعتباره الإنسان ولننظر أين يذهب بنا.
وواصلنا رحلتنا طوال العامين الأولين من حياتنا الجامعية. واعترضتنا أحداث لم تخطر لنا على بال، فقد ألغى إسماعيل صدقي دستور 1923 وهب الوفد لمحاربته بكل قواه الشعبية.
وكان ثمة يوم رهيب بلغ التوتر فيه مداه، احتلت مفارق الطرق بقوات الشرطة والجيش. ولم يتمكن الشعب من التجمع الذي يصلح أساسا لمظاهرة ضخمة، فعمد الناس من جميع الطبقات إلى التجمد في الحواري والأزقة والشوارع الجانبية، ومنها يندفعون بقوة هاتفين ملقين بالطوب في جميع الجهات، ثم يتفرقون بسرعة ليعيدوا الكرة والرصاص يطاردهم، اشتركنا في مظاهرات ذلك اليوم أنا وطه عنان ورضا حمادة، اشتركنا من أول اليوم في التجمعات المتفرقة والانقضاضات المباغتة والتفرقات السريعة على أنغام الرصاص المتطاير. وشاهدنا المئات وهم يسقطون، كما شاهدنا الجنود وهم ينقضون عليهم كالنسور فيحملونهم بعنف غير إنساني، ويلقون بهم في اللوريات، ويطمسون آثار دمائهم فوق أديم الأرض بالرمل والأتربة، وقبيل المغرب خفت حدة القتال، وندر ظهور التجمعات، ولكن لم يخل الجو من هتافات متقطعة متباعدة ومن طلقات نارية قليلة ولكن مستمرة. وقررنا العودة إلى بيوتنا فسرنا معا مخترقين شارع حسن الأكبر، سرنا متشابكي الأذرع من شدة الإعياء، ونحن نتصبب عرقا، وقال طه عنان وهو يتوسطنا: منذ أشهر والشعب يقاوم، والضحايا يسقطون بلا حساب ولا مبالاة.
فقال رضا حمادة: إنه سفاح متعطش للدماء!
فقال طه: على أي حال فإيجابية الشعب خير من المناقشات الباردة التي نسمعها في صالون أستاذنا الدكتور ماهر عبد الكريم.
وثقل بين أيدينا حتى سألته: هل غلبك التعب؟
ولكنه ثقل أكثر دون أن يجيب فالتفتنا نحوه فرأينا فاه ينفث دما غزيرا، صاح حمادة: أصيب برصاصة.
لم تكن الطلقات قد سكتت، ورأينا لافتة طبيب أسنان فحملناه إليها، ونحن نرتعش من الاضطراب، وكانت العيادة خالية ولكن التمرجي أنامه على كنبه وهرع إلى التليفون لطلب الإسعاف.
ولفظ طه أنفاسه الأخيرة بين أيدينا قبل أن يصل رجال الإسعاف.
عباس فوزي
جمعت بيننا مودة صميمة منذ أول يوم دخلت فيه الخدمة. وكان يجمع مكاتبنا ركن واحد بإدارة السكرتارية العامة، أنا وعباس فوزي وكيل السكرتارية، وعبد الرحمن شعبان مترجم الوزارة، ولما قدمه رئيسنا طنطاوي إسماعيل قائلا: الأستاذ عباس فوزي وكيل السكرتارية.
نظرت إليه باهتمام وسألته: حضرتك الكاتب المعروف؟
فأجاب بالإيجاب فشددت على يده بحماس، والموظفون يرمقوننا بفتور وقرف. وقلت له: طالما انتفعنا بكتبك عن التراث.
فقال: ولكن الجامعة لا تعترف إلا بالشهادات. - ولكن ثمة درجة من العلم تتخطى أي شهادة!
فقال بحنق: أستاذك إبراهيم عقل لا يؤمن بذلك.
على أي حال اعتبرته جوهرة في عالمي الجديد، زاملته في العمل، والتقيت به في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم وسالم جبر، ثم في صالون جاد أبو العلا في زمان متأخر. وعجبت كيف أنه في الدرجة السادسة فقط بالرغم من شهرته وبلوغه الخامسة والثلاثين من العمر، ثم تبين لي أن زملاءه يعتبرونه مغتصبا للدرجة باسم الخزعبلات التي يؤلفها. والموظف القح لا يحترم عادة إلا الموظف «الحقيقي» الخبير بالإدارة واللوائح، أما تأليف الكتب فيعد عندهم نوعا من العربدة التي لا تليق بالمحترمين من الرجال، ويحكون حكاية وثبته إلى الدرجة السادسة فيقولون إنه كان كاتبا بالأرشيف كما ينبغي له، فحتى الابتدائية لم يحصل عليها، ولكنه دأب - كلما تولى الوزارة وزير جديد - أن يحمل إليه مجموعة من مؤلفاته مصحوبة بإهداء شعري، وكان الوزراء يتقبلون الهدية شاكرين، ومن ثم يرجع إلى الأرشيف ويسدل الستار على الدراما المتكررة، حتى تولى الوزارة رجل يحب الأدب فأعجب به ورقاه إلى الدرجة السابعة، ثم - بعد عامين - إلى السادسة مع نقله وكيلا للسكرتارية، هكذا فرض الرجل عليهم. وكان الأستاذ عباس فوزي على علم بما يقال، وكان يبادلهم احتقارا باحتقار، وكثيرا ما قامت بينه وبينهم معارك كلامية حتى يفصل بينهم أهل الخير.
وكان يعتبر الموظف حشرة من الحشرات السامة، وكان يعرف الإنسان فيقول: «الإنسان موظف ناطق!»
غير أن رجلا فاضلا مثل طنطاوي إسماعيل قال لي مرة: احذر ذلك الرجل، إنه ذو علم ولكنه بلا خلق.
المسألة أنه كان مثقلا بالعيال والفقر، وكان يكافح بكل سبيل لإسعاد نفسه وأسرته، ولم أعرف رجلا مثله ينضح بالمرارة، وكان يترجم مرارته إلى سخريات لاذعة لا ترحم كبيرا ولا صغيرا، موظفا أو مفكرا أو أديبا، سخر من أخلاق الموظفين رغم تشبعه بها حتى قمة رأسه، ويهون من شأن الناجحين والمفكرين رغم قصوره عن بلوغ ما حققوه حتى في ميدانه، ويحتفظ دائما بمدخر لا ينفد من المعلومات التي تشكك في مواهبهم أو تزري بسلوكهم الشخصي، أما قيمته الحقيقية فكانت مركزة في تراث اللغة، ولا أغالي إذا قلت إنه كان يحفظه كله شعرا ونثرا عن ظهر قلب، قال لي يوما: شد ما يبهركم الأدب الغربي حتى تظنونه كل شيء، أما أدبكم العربي فلا تعرفون منه شيئا، إني أتحداك، اذكر لي ما شئت من مختار أشعارك الغربية وسأعطيك ما يقابلها من تراثنا.
وجعلت أردد له ما حضرني من معاني الشعر والنثر؛ فكان يعطيني المقابل العربي بما يقارب الإعجاز، وكان يلاحقنا - إذا تكلمنا - بتصحيح نطق الكلمات، وكان يقول: لا يجوز أن تطبع كلماتنا بدون تشكيل.
وأذكر أنه مرض يوما بالكلى فذهبت مصطحبا الأستاذ عبد الرحمن شعبان المترجم لنعوده، فوجدناه راقدا ملفوفا ببطانية لا يبدو منها إلا رأسه، فجلسنا قرب فراشه وسألته: كيف حال «الكلى» يا أستاذ.
ونطقتها مكسورة الكاف كالمألوف فما كان منه إلا أن صحح النطق قائلا بصوت لا يكاد يسمع من الضعف: الكلى.
رافعا الكاف، وعدنا والمترجم يقول لي: إذا مات هذا الرجل فسوف يصحح النطق للملاك الذي سيحاسبه!
وتركز اهتمامه في تراث العربية فلم نعرف له هواية أخرى، فهو لا يتذوق أي فن آخر حتى الغناء، ولا يكاد يعرف شيئا ذا بال من الثقافة الحديثة بوجه عام، ولا يهتم بالسياسة، ولا يفرق بين حزب وآخر، ولا يحترم إلا الوزير القائم بالوزارة، ولا يؤمن بقيمة من القيم ولا دين من الأديان، ولم يحب بإخلاص إلا نفسه وأسرته واللغة العربية. وكان مكتبه بالوزارة ملتقى لكثيرين من الشعراء والكتاب والصحفيين والزجالين من مختلف الأجيال، ولعل كثيرين منهم كانوا يستعينون به في مراجعة نصوصهم من الناحية اللغوية والنحوية نظير مبالغ بسيطة. وكان دائما يحسن الترحيب بهم فيغدق عليهم أعذب ألحان المديح حتى إذا ذهبوا انهال عليهم بالحجارة! - أرأيتم ذلك الرجل؟ .. إنه لا يتملق وهو في المدينة! - مسكين ذلك الزجال، طلق زوجته لوقوعه في غرام ابن لها من زوج آخر! - أما هذا فلعله الشاعر المعاصر الوحيد الذي فاق في لواطه الشاعر الراحل الكبير فلان! - هذا الكاتب ذو قلب كبير حقا .. لقد أحب جميع الأحزاب، ولا يحلو له حب حزب إلا وهو في الحكم!
وزاره مرة إنجليزي عجوز، لبث في مصر بعد إحالته على المعاش، وكان يتقن العربية إتقانه للإنجليزية، ولما ذهب الرجل قال: إني معجب بالأخلاق الإنجليزية، فثمة فرق هائل بين لوطي إنجليزي ولوطي مصري؛ اللوطي الإنجليزي يحمل لواطه معه إلى أقصى الأرض، فلا يمنعه ذلك من خدمة الإمبراطورية حتى الموت، أما اللوطي المصري فلا يعرف لنفسه مبدأ أو عقيدة!
وكما لم يرحم أحدا فلم يرحمه أحد، كان يزعم أن والده كان مهندسا، فقالوا إنه كان ترابيا، وإن أمه كانت غسالة، ورموه كذلك بالشذوذ الجنسي.
لم يرحم أحدا إلا الوزير الذي عطف عليه أو الذي - على حد تعبيره - اكتشفه، فكان يقول عنه: كان رجلا أديبا وشهما ومنصفا رغم أنه كان وزيرا!
ولكنه كان يكبح جماح عدوانه إزاء أصحاب النفوذ، من هم في الوزارة ومن هم خارجها، فلا يتدخل في مناقشة حزبية، أو يتعرض بكلمة لرجل من رجال السراي ولو كان طاهيا، وفي أثناء الحرب تظاهر بأنه من أنصار الحلفاء، فلما كانت موقعة دنكرك وظن كثيرون أن الحرب موشكة على النهاية بانتصار الألمان سمعته يترنم بقول بشار:
بعثنا لهم موت الفجاءة إننا
بنو الموت خفاق علينا سبائبه
فراحوا فريق في الإسار ومثله
قتيل ومثل لاذ بالبحر هاربه
ولما دارت الدائرة على الألمان في موقعة العلمين استشهدت بدوري بشعر بشار فأدرك مكري ومن فوره قال: لا رحم الله بشارا، كان نازيا لوطيا!
وغداة 4 فبراير 1942 ثار أذيال الأحزاب من الموظفين فاتهموا الوفد بالخيانة، أما الوفديون فقد فرحوا وطربوا وراح عم صقر الساعي يرقص في الإدارة، فخاف عباس فوزي أن يفسر صمته بأنه موقف غير ودي من الوفد، فانتهز فرصة غضب طنطاوي إسماعيل وهتافه «الطوفان ... الطوفان ... الطوفان ...» وقال برزانة: قولوا فيما حدث ليلة أمس ما شئتم، ولكن من الإنصاف أن نعترف لمصطفى النحاس بأنه أنقذ الوطن في هذه المرحلة الحرجة من حياة الوطن!
ومن حسن حظه أن كان الوزير الوفدي مغرما بالأدب فرقاه إلى الدرجة الخامسة، وعينه رئيسا للسكرتارية عقب إحالة طنطاوي إسماعيل إلى المعاش، على أن كتبه لم تلق من الرواج ما كان يطمح إليه لمنافسة الأساتذة الجامعيين له في ميدانه وتفوقهم عليه بمنهجهم العلمي الحديث. وزاد من شجاه أن أحد تلاميذه استغل معرفته بالتراث في تأليف كتب دينية عن النبي والقرآن؛ فربح من ذلك أموالا خيالية فكاد الرجل أن يجن، وراح يقول: على أيامنا كان الإلحاد هو الموضة فولينا وجهة أخرى!
ثم هز رأسه في أسى وتساءل: كيف فاتني ذلك الباب الذهبي؟!
ثم سألني حانقا: أتعلم ما هي الثروة الحقيقية في بلاد العرب؟
ثم أجاب: ليست البترول ولكنها السيرة النبوية والقرآن.
فقال له الأستاذ عبد الرحمن شعبان المترجم: ما رأيك في أن نترجم معا بعض الكتب الغربية التي أنصفت الرسول؟
فرحب بالفكرة، ونفذاها، بالرغم من إلحادهما الكامل، فدرت عليهما ربحا يعتبر أول ربح ذي وزن ربحه في حياته. وانطلق بعد ذلك يكتب سير الأنبياء، فتحسنت أحواله وواجه بثقة ارتفاع الأسعار الذي أعقب الحرب، حتى قال لي يوما: ليت الله أرسل أضعاف أضعاف من أرسل من الأنبياء والرسل.
ومضى أبناؤه يتخرجون في الجامعة ويتوظفون، فقرر في عام 1950 القيام بأول إجازة صيفية في حياته. أجل، لم يكن يطلب إجازة أبدا، ولبث يعمل عاما بعد عام بصفة متواصلة حتى سألته: لم لا تقوم في إجازة لتنعم بقدر من الراحة؟
فضحك وقال: يا لك من طيب القلب، أنت لا تدري شيئا عمن يطمعون في وظيفتي، إنهم يلقونني بالأحضان على حين يوارون خناجرهم وراء ظهورهم، فإذا غبت شهرا سعوا سعيهم ودسوا دسائسهم ليستولوا على الوظيفة، إننا نعيش في غابة من الوحوش ولكنهم أحط من الوحوش وأقذر.
ولم أفهم منطقه وعجبت له. على أي حال وثق عام 1950 بنفسه واطمأن إلى دخله من كتبه، فقرر أن يبر نفسه بإجازة، بل سافر بحرمه وكريمته إلى الإسكندرية. كان يرى الإسكندرية لأول مرة في حياته، ولكنه وجد نفسه كالتائه الشريد إذ لم يتعود أبدا معاملة الفراغ. كان يومه مستغرقا دائما بالعمل في الوزارة، في البيت، في صالونات الأدب، ولكنه لم يعرف مقهى أو سينما أو مسرحا فضلا عن الإسكندرية، لذلك ضاق بالمصيف، وفزعت حرمه من الزحام، فقررا العودة بعد أسبوع واحد، وبالرغم من توسلات ابنتهما الحارة، ولما قامت ثورة يوليو لم تكد تؤثر فيه شيئا، فلا حزن على العالم المولي ولا سر للعالم الصاعد، وضاعف نشاطه في التأليف الديني حتى حاز ثروة كبيرة بكل معنى الكلمة، وأحيل إلى المعاش عام 1959 فتفرغ لعمله أكثر، وشيد عمارة في عابدين أقام لنفسه فوق سطحها فيلا، ولكنه ما زال حتى اليوم متمردا ساخرا، وكلما زرته أتحفني بالجديد من سخرياته وشكاياته. قال: تصور أنني لم أنتخب حتى الآن في المجمع اللغوي! .. كأن أعضاءه الخواجات أفقه في اللغة مني! والمجلس الأعلى للآداب لا يوجد عباس فوزي ضمن أعضائه! .. هل حتم ألا يدخله على العوام؟!
ولما لاحظ همي وغمي في الأيام التي أعقبت هزيمة يونيو قال باسما: شاب شعرك ولم تتعلم الحكمة بعد!
ثم تساءل بسخرية: هل ثمة فارق حقا بين أن يحكمك الإنجليز أو اليهود أو المصريون؟!
عدلي المؤذن
عندما التحقت بالجامعة كان موظفا بها، وكنت ألتقي به كثيرا في مكتبة الجامعة، كما كان يحضر معنا محاضرات مسيو كوريه في الفلسفة تحصيلا لبعض فوائد رآها ضرورية في تحضير رسالة الماجستير. وكنا ندعوه «الكاتب المصري» للشبه العجيب الذي بينه وبين وجه التمثال المعروف بالكاتب، غير أنه كان طويلا عريض الكتفين ذا وجه أسمر غامق تتحرك فيه حركة متحدية براقة عينا صقر يشعان ذكاء ودهاء، التقينا مرة في حديقة الأورمان ونحن سائران إلى الكلية فتصافحنا، وأخذنا في الحديث، قال: سأقدم رسالة الماجستير في أكتوبر القادم، ولكني أفكر منذ الآن في الخطوة التالية.
فسألته: الدكتوراه؟ - كلا، هل لك فكرة عما يمكن أن يروج من الكتب الفلسفية؟ - لا أعتقد أن الكتب الفلسفية توضع للرواج. - ولكن إذا أصدرنا سلسلة من الكتب عن ضحايا الفكر الحر في الفلسفة والتصوف ألا نسهم بذلك في الدفاع عن الحرية المغتالة في هذا العهد؟
فقلت بحماس: فكرة بديعة. - وناجحة، أليس كذلك؟ - بكل توكيد.
ولكنه حصل على الماجستير، ولم ينفذ فكرته، ولم ينشر من الكتب إلا تحقيقا لتهافت الفلاسفة وتحقيقا آخر لتهافت التهافت، وكان زميلي في الكلية عجلان ثابت، هو الذي أطلعني على جانب من ماضيه المجهول، قال: إنه يسكن معنا في حي السيدة، وكان أبوه سائق ترام، وهو يعيش اليوم مع أمه وشقيقته.
فقلت: إن مظهره المهيب الرزين يقطع بأنه من سلالة حكام!
فضحك عجلان ثابت وقال: توظف بالابتدائية ثم درس وهو موظف حتى بلغ ما بلغه من العلم.
ثم همس: ويبدو أن شقيقته بنت لعوب عفريتة، ولذلك فاتها سن الزواج ولم تتزوج!
ولم يكن يخلو من جانب مزاح، ففي أحد احتفالات آخر السنة بالكلية تطوع لتقليد بعض الأساتذة، ونجح في تقليد الدكتور إبراهيم عقل نجاحا مثيرا، فما كاد يتكلم عن المثل العليا حتى دوت القاعة بالتصفيق الشديد، ومع ذلك كانت علاقته بالدكتور إبراهيم عقل وثيقة، ولما ولي الدكتور منصبه الخطير نتيجة لتقربه من السراي اعتمد في إدارته على عدلي المؤذن، وهو الذي قدمه إلى أحد الوزراء قبيل الحرب العظمى الثانية، فنقله الوزير إلى وزارته مفسحا لطموحه مجالا جديدا، أحفل بالفرص من إدارة الجامعة، هكذا وفد إلى وزارتنا كرجل خطير من رجال الوزير، وزرته مهنئا ومستبشرا بقدومه خيرا، ولكني وجدت فيه شخصا جديدا، شخصا إداريا خطيرا مقطوع الصلة تقريبا بالرجل الذي كان يتلمس طريقه بمشقة بين مسالك الفلسفة .. وتجلت مواهبه الكامنة في خدمة الوزير والوزارة، وكان - والحق يقال - حاد الذكاء ذا مقدرة إدارية فذة، وكان بارد الأعصاب لدرجة لا تصدق، ولم تعهد عادة بين المصريين، ومنذ أول يوم شعر شرارة النحال بخطورته، وعمل له ألف حساب وحساب. وخيل إلى الأستاذ عباس فوزي أنه طرأ على الوزارة موظف خطير مثقف لأول مرة، وأنه يحسن به أن يهدي إليه مؤلفاته، وفعل، وقال له وهو يهديها إليه وبحضوري إذ كنت أنا الذي قمت بالتعارف بينهما: ليس من عادتي أن أهدي كتبي إلى أحد، ولكن الكتب لا تؤلف إلا لتهدى إلى أمثالك!
فقال عدلي المؤذن ببروده النادر: أعترف لك بأني اطلعت عليها .
فشاع الفرح في وجه عباس فواصل الآخر قائلا: وأعترف لك بأني وجدتها سطحية لم تكد تضيف إلى الأصل إلا قليلا.
فاصفر وجه عباس فوزي غير أنه قال متظاهرا بالمرح: لا تحكم بعقلك يا أستاذ، نحن نكتب للبسطاء لنعلمهم، أما الفلاسفة فلا سبيل لنا إليهم.
وعدنا إلى الإدارة والرجل يقول لي في الممشى: لا تخبر بما سمعت أحدا من الرعاع.
فقلت له برثاء خفي: طبعا.
فقال مستردا طبعه الساخر: بدأت الفلسفة بابن رشد وانتهت بابن كلب!
وفي مدة وجيزة أحاط عدلي المؤذن بشئون الوزارة والموظفين، وكان يشغل وظيفة رئيس المكتب الاستشاري، فاتصل بحكم عمله بجميع فروع الوزارة، وأثبت في العمل طاقة خارقة، واستحق بعمله الثقة كل الثقة دون انزلاق إلى سراديب الحزبية، مع الاحتفاظ لشخصيته بالاحترام، ومع عدم الحيد إلى ما يمس الكرامة إلا عند الضرورة القصوى، فرفع الوصولية إلى أرفع مراتبها، وكان في أعماقه ميالا للوفد وقيمه الشعبية والديمقراطية والاستقلالية، ولكنه كتبها في الأعماق، وتغلب عليها بقوة أعصابه الباردة. ولم يعرف عنه أنه صنع خيرا في حياته، ولم يتورع عن إيذاء شخص طالما وسعه ذلك، وكان بلا شك يجد سعادة خاصة في الشر والتحدي والإيقاع بالخصوم، بل وبالأصدقاء، ولم يكن يهمه أن يكون محبوبا، وخيل إلي كثيرا أنه يعمل بشغف على أن يكون موضع النقمة والبغض والحسد، وهو يختلف في ذلك عن شرارة النحال الذي آثر بعض الأذناب بالعطف، والذي حرص دائما على معسول الكلام حتى وإن دس فيه السم، والذي سعى إلى نيل الثقة ولو بالكذب والنفاق؛ لذلك كره الموظفون عدلي كإبليس، وتهامسوا بنقاط ضعفه كأصله وسيرة أخته، ومنهم من فسر عزوبيته بشذوذ جنسي يخفيه بصرامته وعنجهيته، ولذلك فإن الموظف الوحيد الذي ساعده كان شابا جميلا منحلا، وطالما ساءلت نفسي حائرا كيف أمكنه المحافظة على كرامته ووظيفته بالرغم من تتابع الوزراء والأحزاب عليه؟ وبالبحث والتحري، ولمعرفتي الوثيقة به، علمت أنه كان يبسط حمايته - وقت إقبال الدنيا عليه - على عدد محدود من موظفي الأحزاب المختلفة، حتى إذا أقبلت دنيا الأحزاب على أحدهم رد الجميل إليه فزكاه عند وزيره، بذلك احتفظ بمكانته في جميع العهود معللا فوزه بكفاءته الشخصية وحدها، وظل يترقى من درجة إلى درجة حتى عين مديرا عاما قبل ثورة يوليو. ورغم صلتنا القديمة وزمالتنا العلمية لم يتورع عن التضحية بي في أول فرصة سنحت، كان ذلك عندما رشحتني لجنة شئون الموظفين لدرجة خالية بعد مقارنات طويلة بيني وبين منافسي الذي كان كاتبا بالسجلات، ورفعت اللجنة قرارها فوقعه الوزير وغادرت الوزارة مترقبا متلقيا التهاني، ولما رجعت إلى الوزارة صباحا فوجئت بإلغاء القرار وترقية المنافس بدلا مني، كدت أفقد عقلي، وبالبحث علمت أن موظفا كبيرا بديوان جلالة الملك اتصل مساء أمس بالأستاذ عدلي المؤذن موصيا بمنافسي، فما كان منه إلا أن سارع إلى مقابلة الوزير - والعهد كان ملكيا - وأخبره بالتوصية، وفي الحال تمزق قرار ترقيتي وتحرر قرار جديد بالترقية الجديدة، وذهبت إلى عدلي المؤذن منفعلا وناقشته فيما سمعت من أنباء ولكنه ظل طيلة الوقت صامتا باردا حتى تعبت وبخت، ثم قال لي بهدوء: أعدوا بيان الميزانية الجديدة للنشر في الصحف!
وعرفت أمورا أكثر من وكيل المستخدمين الذي كان له صديقا كما كان لي عدوا، قال لي: ما حصل يعتبر مخالفة صريحة للقانون، فالقرار الوزاري لا يجوز تغييره إلا بقرار وزاري مثله، وقد اطلعت بنفسي على قرار ترقيتك، فمتى صدر قرار آخر بإلغاء الترقية؟
فسألته: ألا تستطيع أن تثير المسألة رسميا؟
فقال ضاحكا: هيهات أن يستطيع ذلك إلا السفير البريطاني نفسه!
فسألته بدهشة: ولكن ما علاقة الموظف الآخر، وهو على قد حاله مثلي تماما برجل السراي الخطير؟
فقال ضاحكا: صل وسلم على سيدنا لوط!
ومنذ ذلك الموقف فترت علاقتي به حتى كادت تقتصر على العمل الرسمي، قبل ذلك كنا نلتقي صباحا في ميدان سليمان باشا، نسير كزملاء رغم فارق الدرجة، فنتناول فطورنا في الأميركين، ثم نمضي في طريق الوزارة معلقين على الأحداث والمارة والأشياء، ويبدو في تلك الفترة لطيفا ودودا ضاحكا محبا للمزاح حتى ليقص علي آخر ما سمع من النكات السياسية عن الملك وحاشيته وأسرته، أو يدعوني إلى زيارته في مسكنه الجديد بالمعادي الذي انتقل إليه بعد صعوده السريع، ثم قد يستدعيني إلى مكتبه بعد ذلك بربع ساعة؛ فيطالعني بوجه جديد، وجه صارم بارد مجرد، يأمر ويكلف وينذر بلا رحمة ولا ذوق! وأغادره وأنا أضرب كفا على كف، ومرة فضفضت نفسي فبحت بما يكربني للأستاذ عباس فوزي فقال لي: عنده انقسام شخصية ابن القديمة، نحن موعودون في هذه الوزارة بكافة أنواع الشذوذ.
ولما قامت ثورة يوليو 1952 تهيأت له فرصة للتخلص من شرارة النحال أكبر منافس له على وكالة الوزارة. وأشهد أنه كان وراء بعض العرائض التي قدم بها شرارة إلى لجنة التطهير، ولكن الرجل نجا بأعجوبة ورقي وكيلا للوزارة، فتلقى عدلي المؤذن أكبر ضربة وجهت إليه في حياته، وسرعان ما وجد نفسه غريبا بين موظفين جدد لم يعرف لهم أصلا ولا فصلا، اختفى أغلب معاونيه في التطهير، واستقبل حياة جديدة بكل معنى الكلمة، ورجع يخطب ودي كما كان يفعل في حديقة الأورمان، ورجعنا نتلاقى في ميدان سليمان باشا وراح يقول ساخرا: لقد سقطت الوزارة في أيدي جماعة من الغلمان!
أو يقول: ما قيمة أن تعرف القوانين والأصول الإدارية؟
ممكن أن تفعل الآن أي شيء كما تشاء، وكيفما تشاء باسم الثورة!
وشعرت لأول مرة في حياتي بأن موجة من العدالة تجتاح العفونة المتصلة بلا هوادة، فتمنيت أن تواصل سيرها بلا تردد ولا اعوجاج، وفي نقاء وطهر إلى الأبد، وحاول الرجل التسلل إلى القيادات الجديدة، ولكنه لم يفلح. وما لبث أن أصيب بسرطان الدم فاعتكف في بيته فترة ثم وافاه الأجل حوالي عام 1955. ولا أنسى ساعة انتشار خبر وفاته في الوزارة، فقد خرج الموظفون على تقاليدنا المرعية، وسمعت العشرات وهم يقولون بأصوات مرتفعة شامتة: الله يجحمه! - في ألف داهية!
وكانت جنازته أفقر جنازة شهدتها، شيعها عشرة أنفار، قريب واحد وتسعة من زملائه القدامى بالجامعة، وحضرها رجل ذو شأن هو الدكتور إبراهيم عقل في عهد دروشته التي أدركته بعد وفاة ابنيه وقبيل وفاته ، وعقب وفاة عدلي المؤذن بيوم واحد انتحرت شقيقته العانس.
عبد الرحمن شعبان
شخصية لا تنسى، عندما جلست إلى مكتبي لأول مرة في إدارة السكرتارية لفت نظري بشدة كهربية، عملاق في طول العقاد وضخامة زيور باشا، أنيق الملبس فخم المنظر، تخاله وزيرا رجعيا أو مدير بنك. - حضرته أستاذنا الكبير عبد الرحمن شعبان مترجم الوزارة.
ليس هذا فحسب، ولكني عرفت أيضا مع الأيام أن مرتبه عشرون جنيها لا غير! بدا لي أول يوم منطويا متجهما كحصن فقدرت المتاعب في زمالته التي فرضتها الأقدار علي، ولكنه كان يفتح قلبه بيسر وبسرعة، وسرعان ما تنفجر قهقهاته كالقنابل ويحتقن وجهه المستدير الريان بالدم، ويتجلى في براءة الأطفال. وعند الحديث تنهمر منه المعلومات كالمطر الغزير، فهو يحب الموضوعات التي تطرق مدخراته من المعارف بقدر ما يضيق بالموضوعات التي يجهلها فتضطره إلى التزام السمع، وهو أبغض الأشياء إلى نفسه. يحب الكلام لحد العبادة، ولديه معلومات لا حصر لها عن أشياء لا حصر لها؛ السيارات والأثاث والزيوت والأمراض والساسة والأفلام والبلاد والنكت والتاريخ والجغرافيا والفلك والقانون والمصارف والدعارة. طفل كبير في الخامسة والثلاثين، خفيف الروح، دعاباته أزهار منورة، ونوادره وشي منمنم، أما غضبه فآه لو انفجر غضبه، وما أسهل أن يثور غضبه! لشيء ولغير ما شيء ينفجر غضبه، وعند ذلك تزلزل الزلازل وتنفجر البراكين، وتنطلق الأعاصير، فإذا لم يقابل بتحد هدأ وسكن وتراخى وتراجع فاعتذر وقدم السيجارة أو أمر بالقهوة. تناقش مرة مع أحد الموظفين فعانده الرجل حتى أثاره، وأراد أن يفحمه فاستشهد بنادرة من التاريخ الإسلامي - وعبد الرحمن يجهل التراث جهلا تاما - فقال: دخل بدوي على عبد الملك بن مروان فقال ...
ولكن عبد الرحمن شعبان انتتر قائما كعمود السواري، وصاح وهو ينتفض غضبا: عبد الملك بن مروان! من هو عبد الملك بن مروان؟! تستشهد لي بحيوان يا حيوان، ملعون أبوك أنت وعبد الملك بن مروان.
وهجم عليه كالوحش ففر الرجل من الإدارة كالنحلة، ولكنه لم يقدم فيه شكوى، حتى طنطاوي إسماعيل رئيس السكرتارية كان يتجاهل ذلك التمرد الصارخ على أصول الوظيفة، وكان يقول: إنه أحمق، ولكنه أنظف معدن في هذه الوزارة.
وأدركت أن معاندته غير مأمونة، وأن الخوض معه في موضوع تعرفه ويجهله مغامرة جنونية. ولعل عباس فوزي كان أول من عرف كيف يداريه بمكره ولباقته، ومع أن عبد الرحمن كان يحتقره في باطنه إلا أنه عامله باحترام ومودة، وكان أبوه وزيرا للحربية، أرسله إلى فرنسا - بالبكالوريا - ليدرس الطب فمضى يتنقل ما بين فرنسا وإنجلترا عشرة أعوام دون جدوى، مكث عاما أو عامين في كلية الطب، وعامين آخرين في كلية العلوم، كذلك الحقوق والآداب. ولكنه لم يثابر ولم يحصل على شهادة. ولما توفي والده رجع إلى مصر في الثلاثين، يحمل في رأسه دائرة معارف مضطربة غير متكاملة، وخبرة عميقة بالإنجليزية والفرنسية والنساء والقمار والحانات والمسارح والسينما وبيوت الدعارة، كما رجع بزوجة لبنانية تقاربه في العمر أو تماثله، ولم يترك أبوه له مالا، وكانت أخته الكبرى متزوجة من سفير خارج القطر، فعمل مترجما في السفارة الفرنسية. - لم أعمر في الوظيفة أكثر من عام ثم اضطررت إلى تركها بسبب لكمة وجهتها إلى الملحق الصحفي!
واشتغل بالإذاعة - قبل تمصيرها - ثم اضطر إلى الاستقالة بعد مشاجرة عنيفة، وعمل في جريدة المقطم حتى وجه إلى صاحبها كلمة نابية كاد يقدم من أجلها للمحاكمة فتركها، وأخيرا التحق بخدمة الوزارة بعد نجاحه في امتحان أعلن عنه في الصحف. وكان اعتاد الحياة الدسمة المضيئة على الطريقة الأوروبية فلم يف مرتبه بتحقيق مأربه، فاستغل قدراته في اللغتين في الترجمة للصحف ودور النشر وروايات الجيب، مكرسا جهده الضخم لرفاهية الحياة ولابنة وحيدة كان يعبدها عبادة. وأقام في شقة في شارع فؤاد الأول، وأحاط جوه العائلي بصداقات أوروبية لأسر فرنسية وإيطالية وأحيانا إنجليزية، ليكفل لنفسه البيئة التي يعشقها بكل مشتهياتها من أثاث جميل ومأكل طيب وشراب ممتع وصحبة راقية وأحاديث طلية رفيعة، وكان يقول بوجد: أوروبا روح الدنيا وأهلها ملائكة الخلق أما من عداهم فهم حيوانات أو حشرات.
ومرة قال لي: أصاب أحيانا بذهول مرضي عندما أنظر حولي ، فأجد نفسي غريبا وسط نفر من الموظفين التعساء الجهلاء الخانعين المطيعين المتملقين المنافقين، الله يرحمك يا أبي، لم بددت مالك في القمار؟!
ولم يكن يوجد ما يدل على إسلامه إلا شهادة الميلاد، ولا يعرف من دينه إلا اسم «محمد»، ولم ألمس فيه اهتماما بقيمة من القيم وإن كان شجاعا كريما محافظا على كرامته، وكان مدخنا مجنونا وسكيرا عربيدا ومقامرا متهورا وأكولا متوحشا، وكنا نسير معا عادة عقب انصرافنا من الوزارة حتى محطة الترام الواقعة تحت مسكنه، فلا يكف عن الكلام دقيقة واحدة، وأتابعه أنا بالسمع والبصر، وكان ينتقد كل ما تقع عليه عيناه ويقارنه بنظيره في فرنسا أو إنجلترا: أتعجبك هذه المحال والدكاكين؟ إنها زنزانات سوقية. - انظر إلى قذارة الشوارع في قلب المدينة! سيأتي يوم يطالب فيه الذباب بحقوق المواطن! - ما رأيك في هؤلاء الغلمان الحفاة في شارع سليمان باشا؟! - انظر إلى هذا المنظر الفريد، الكارو والجمل والسيارة في قافلة واحدة، وتقولون الاستقلال التام أو الموت الزؤام؟! - أيعجبك حقا ذلك المقرئ المدعو علي محمود؟ رجل ضرير منفر المنظر يزعق كالأبله، قارن ذلك بقداس كاثوليكي تسبح في جوه الموسيقى الخالدة! - صدقني إن رجال السياسة الذين تعجب بهم لا يصلحون موظفين مبتدئين في سفارة أجنبية. - وملايين الفلاحين القذرين بأي منطق يستحقون الحياة؟ .. لماذا لا تستغنون عنهم بالآلات الزراعية الحديثة؟! - إن خير ما تمخضت عنه الحضارة المصرية هو الحشيش، ومع ذلك فما أقبحه بالمقارنة بالويسكي! - هل حقا تعجب بهؤلاء الكتاب والأدباء؟ .. صدقني إنهم أميون على المستوى العالمي. - اسمح لي أبول على جميع من تحبهم من زعماء وأدباء ومطربين. - أتعرف ما هي أكبر نعمة أغدقت علينا؟ .. هي الاستعمار الأوروبي، وسوف تحتفل الأجيال القادمة بذكراه كما تحتفلون بمولد النبي. - لا يغيظني شيء كما يغيظني ضربكم الأمثال بعدالة عمر ودهاء معاوية وعسكرية خالد، عمر شحاذ، ومعاوية دجال، وخالد فتوة درجة ثالثة لم يجد من يؤدبه. - المرأة المصرية هي المخلوق الوحيد الذي يستحق التقدير، فهي لبؤة، ويمكنها إذا منحت مزيدا من الحرية إسعاد هذا الشعب الذي يستحق الإبادة. - أليس الأفضل للإنسانية أن ينتشر الأوروبيون في الأرض وأن يبيدوا من عداهم من بني آدم؟!
لم يكن يقرر ذلك عن حقد، ولا عن رأي بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، ولكن عن انفعال، ووسط ضحكات بريئة، ولو صادف بعد ذلك شخصا يتعصب لأوروبا لانقلب بنفس الحماس مدافعا عن الشرق، فهو معارض بطبعه، إن قلت حلوا قال مرا، وإن قلت مرا قال حلوا، مغتنما الفرص على الحالين للكلام. ولم أجد عنده أصالة في عواطفه إلا ما تعلق بكريمته، فهو يعبدها عبادة، يروي أحداثها التافهة كأنها ملاحم، ويستشهد بكلامها الفارغ كأنه جوامع الحكم، وينقل إلينا آراءها - التي ينسبها إليها كذبا وادعاء - فيما مر بالوطن من أحداث وحروب، منوها بذكائها المبكر الذي يكبر سنها بعشرات السنين. وكنت دائما أخاف أن يصطدم يوما بشخص قوي ومؤذ مثل عدلي المؤذن أو شرارة النحال، ولكن ضخامته أسبغت عليه مهابة فرضت على كبار الموظفين احترامه، وهو من ناحية أخرى - بعد تجاربه المؤسفة في السفارة الفرنسية والإذاعة والمقطم - تجنب أصحاب النفوذ ما وسعه ذلك. وكان يقول لي: لعن الله الأيام التي علمتنا احترام الأوغاد، الله يسامحك يا بنتي!
وقد دعوته إلى الفيشاوي وعرفته ببعض الأصدقاء مثل جعفر خليل ورضا حمادة وشعراوي الفحام، فأعجبه المكان وأحب الأشخاص، وفي جنازتي شعراوي وجعفر بكى كطفل، وبالرغم من مودتنا الحميمة فإنني لم أسلم من غضبه، فيوما كنت أقرأ الجريدة فاطلعت على صفحة مخصصة لذكرى سلامة حجازي، ونقلا عن كاتبها قلت للأستاذ عباس فوزي بسرور: هل تصدق أن فردي قال عن سلامة حجازي إنه لو كان ولد في إيطاليا لما كان له - فردي - شأن؟!
وإذا بالأستاذ عبد الرحمن يرمي بكتاب كان يقرؤه وصاح بي كبركان: ما هذا الكلام الفارغ! أتصدق أي كلام يتقوله هؤلاء الأوباش في الصحف؟ .. من هو سلامة حجازي؟ .. إن أي منادي سيارات فرنسي أعذب منه صوتا، ولكن هكذا أنتم أيها المصريون، لن تزالوا غارقين في أوهام الكلمات حتى تموتوا، كوكب الشرق ... مطرب الملوك والأمراء ... سلطانة الطرب ... عاهل التمثيل في الشرق ... لو لم أكن مصريا لتمنيت أن أكون مصريا، ولم لا تتمنى أن تكون حمارا، فيكون لك نفع على الأقل، نيلة تاخدكم أنتم وبلدكم!
وفي عام 1950 زوج معبودته «كريمته» من موظف في البنك الأهلي، واحتفل بزواجها في الأوبرج، وسعد كما لم يسعد من قبل فسعدنا به، وبعد ذلك بعامين، وعلى التحديد في صباح يوم 27 يناير 1952 دخل علينا معاون الوزارة وقال: البقية في حياتكم في الأستاذ عبد الرحمن شعبان!
وفزعنا كأنما نسمع عن الموت لأول مرة. كان حتى أمس يتخذ مجلسه بيننا في الإدارة، وسرت معه حتى مسكنه في شوارع مكتظة بالمتظاهرين والمخربين، وألسنة النيران تشتعل هنا وهناك في المحال العمومية والملاهي والسينمات، وعلمنا في أثناء النهار ونحن نشيع جنازته أنه كان ساهرا في الترف كلوب مع بعض أصدقائه من الإنجليز حين هاجم المتظاهرون النادي فقتلوا من فيه، وقتل الرجل فيمن قتل، وانتهت حياته العجيبة.
عبد الوهاب إسماعيل
إنه اليوم أسطورة، وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير، وبالرغم من أنني لم ألق منه إلا معاملة كريمة أخوية إلا أنني لم أرتح أبدا لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين، وقد عرفته في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم في أثناء الحرب العظمى الثانية، كان في الثلاثين من عمره، يعمل مدرسا للغة العربية في إحدى المدارس الثانوية، وينشر أحيانا فصولا في النقد في المجلات الأدبية أو قصائد من الشعر التقليدي. كان أزهريا، لا علم له بلغة أجنبية، ومع ذلك أثار اهتمامي واحترامي بقوة منطقه، وهو يناقش أشخاصا من المعروفين بثقافتهم الواسعة واطلاعهم العميق على اللغات الأجنبية مثل الدكتور إبراهيم عقل وسالم جبر وزهير كامل، وامتاز بهدوء الأعصاب وأدب الحديث فما احتد مرة أو انفعل ولا حاد عن الموضوعية، ولا بدا في مستوى دون مستوياتهم الرفيعة، فكأنه ند لهم بكل معنى الكلمة، فاقتنعت بحدة ذكائه ومقدرته الجدلية، واطلاعه الواسع رغم اعتماده الكلي على التراث والكتب المترجمة، ولم يداخلني شك في أنه أذكى من إبراهيم عقل وسالم جبر وزهير كامل جميعا، وحتى نقده للكتب العصرية لم يتسم بالهزال أو السطحية بالقياس إلى نقد المتخصصين من حملة المؤهلات الباريسية واللندنية، وإن كان ثمة فارق دقيق فلم يكن لينكشف إلا لعين العارف المدقق.
قال لي عنه يوما الدكتور ماهر عبد الكريم: إنه شاب موهوب ومن المؤسف أنه لم يرسل في بعثة.
وكان الدكتور ماهر عبد الكريم ممن يزنون أقوالهم بميزان دقيق. وبالرغم من أن عبد الوهاب إسماعيل لم يكن يتكلم في الدين، وبالرغم من تظاهره بالعصرية في أفكاره وملبسه وأخذه بالأساليب الإفرنجية في الطعام وارتياد دور السينما، إلا أن تأثره بالدين وإيمانه بل وتعصبه لم تخف علي، أذكر أن كاتبا قبطيا شابا أهداه كتابا له يحوي مقالات في النقد والاجتماع فحدثني عنه ذات يوم في مقهى الفيشاوي فقال: إنه ذكي مطلع حساس وذو أصالة في الأسلوب والتفكير.
فسألته ببراءة وكنت مغرما بالكاتب: متى تكتب عنه؟
فابتسم ابتسامة غامضة وقال: انتظر وليطولن انتظارك! - ماذا تعني؟
فقال بحزم: لن أشترك في بناء قلم سيعمل غدا على تجريح تراثنا الإسلامي بكافة السبل الملتوية.
فتساءلت بامتعاض: أأفهم من ذلك أنك متعصب؟
فقال باستهانة: لا تهددني بالأكليشهات فإنها لا تهزني. - يؤسفني موقفك. - لا فائدة من مناقشة وفدي في هذا الموضوع، وقد كنت وفديا ذات يوم، ولكني أصارحك بأنه لا ثقة لي في أتباع الأديان الأخرى!
وقد كان حقا وفديا، ثم انشق على الوفد وراء الدكتور أحمد ماهر، وكان عظيم الإعجاب به، ورقي في عهد السعديين إلى وظيفة مفتش. وكم تخلى عنه حلمه بسبب مصرع الدكتور أحمد ماهر، كأنما أصيب بنفس الرصاصة التي أودت بحياة الرجل، وقال لي بحزن بالغ: ضاع أعظم رجل في الوطن.
وكان يشكو صحته كلما سنحت مناسبة، وبها يتعلل في إفطار رمضان، ولكنه لم يصرح بحقيقة مرضه لأحد، كما أنه لم يهتم في حياته بالنساء ولم يتزوج، وعرف في تلك الناحية بالاستقامة الكاملة. وعلى جدية أخلاقه، وحملاته الصادقة على المنحرفين، تكشف لي جانب منه لم أكن لأصدقه لو لم أخبره بنفسي، ذلك أنه كان يوجد كاتب صاحب مجلة ومطبعة تصدر سلسلة شهرية من الكتب ، وكان عبد الوهاب يحتقره ويقول عنه: لولا مجلته لما وجد مجلة تقبل أن تنشر له كلمة.
وكم أدهشني أن أطالع له مقالة في الرسالة عن صاحب المجلة رفعه فيها إلى السماء! حرت في تفسير ذلك، حتى علمت بأنه اتفق معه على نشر كتاب له في سلسلته الشهرية نظير أجر ممتاز لم يظفر بمثله كاتب آخر! وتذكرت في الحال موقفه الأعمى من الكاتب القبطي، فأزعجني جدا اكتشاف ذلك الجانب الانتهازي في شخصيته، وساورني شك من ناحية صدقه وأمانته، واستقر في نفسي - رغم صداقتنا - نفور دائم منه. وظل يعمل مفتشا وكاتبا، حتى ولي الوفد الحكم عام 1950، فلم يرتح إلى معاملة الوزير الوفدي له، فقدم استقالته وتفرغ للعمل في الصحافة، وعرف في تلك الفترة بهجومه المتواصل على حكومة الوفد، وفي نفس الوقت شرع يكتب كتبا عصرية عن الدين الإسلامي، لاقت نجاحا منعدم النظير، وقامت ثورة يوليو 1952 وهو منغمس في محاربة الوفد والدفاع عن الدين الإسلامي، وكان مر عامان على الأقل لم نلتق فيهما أبدا وانقطعت عني أخباره الخاصة. ويوما كنت في زيارة للأستاذ سالم جبر فقال لي: الظاهر أن نجم عبد الوهاب إسماعيل سيلمع قريبا.
فسألته باهتمام: ماذا تعني؟ - أصبح من المقربين. - ككاتب سياسي أم ككاتب ديني؟ - باعتباره من الإخوان المسلمين.
فهتفت بدهشة: الإخوان؟ .. لكنني عرفته سعديا متطرفا.
فقال متهكما: سبحان الذي يغير ولا يتغير!
وقابلته بعد ذلك بعام أو نحوه، أمام بار الأنجلو؛ فتصافحنا بحرارة، وسرنا معا نتحادث حتى جاء ذكر الثورة فقال بتحفظ: ثورة مباركة، ولكن من العسير أن تعرف ماذا يريدون.
ولمست في حديثه مرارة لم أقف على سرها ولم يبح به. كانت له قدرة على الاحتفاظ بأسراره ليست إلا لقلة نادرة من المصريين، وقلت له: بلغني أنك انضممت إلى الإخوان المسلمين؟
فابتسم ابتسامة غامضة وقال: أي مسلم عرضة لذلك! - من المؤسف حقا أنك نبذت النقد الأدبي.
فضحك قائلا: يا لها من تمنيات جاهلية!
وافترقنا وأنا أشعر بأننا لن نلتقي مستقبلا إلا مصادفة في الشوارع. وعند أول صدام بين الثورة والإخوان قبض عليه فيمن قبض عليهم من أعضاء الجماعة، وقدم للمحاكمة فحكم عليه بعشرة أعوام سجن. وغادر السجن عام 1956 فرأيت أن أزوره مهنئا، فذهبت إلى مسكنه بشارع خيرت، والحق أنه لم يتغير كثيرا، شاب شعر رأسه، كما يتوقع لرجل في السابع أو الثامن والخمسين من عمره، وزاد وزنه حتى خيل إلي أن صحته تحسنت عما كانت عليه. وتبادلنا الأسئلة عن الظروف والأحوال، وكان يحافظ على رزانته المعهودة وبرودة أعصابه الفذة، وخاض دون مقدمات في المسائل العامة فأدلى بآرائه بكل ثقة. - يجب أن يحل القرآن مكان كافة القوانين المستوردة.
وقال عن المرأة: على المرأة أن تعود إلى البيت، لا بأس من أن تتعلم، ولكن لحساب البيت لا الوظيفة، ولا بأس من أن تضمن لها الدولة معاشا في حال الطلاق أو فقد العائل.
وقال بقوة: الاشتراكية والوطنية والحضارة الأوروبية خبائث علينا أن نجتثها من نفوسنا.
وحمل على العلم حملة شعواء حتى ذهلت فسألته: حتى العلم؟! - نعم، لن نتميز به، نحن مسبوقون فيه، وسنظل مسبوقين مهما بذلنا، لا رسالة علمية لنا نقدمها للعالم، ولكن لدينا رسالة الإسلام وعبادة الله وحده لا رأس المال ولا المادية الجدلية.
استمعت إليه طويلا ضاغطا على انفعالاتي حتى لا أخل بواجب المجاملة ثم قمت للانصراف وأنا أسأله: ماذا عن المستقبل؟ - هل لديك اقتراح؟ - لدي اقتراح ولكني أخشى أن يكون جاهليا، هو أن تعود إلى النقد الأدبي!
فقال بهدوء: تلقيت دعوة للعمل في الخارج. - وعلام عولت؟ - إني أفكر.
وودعته وانصرفت، وبعد انقضاء عام على المقابلة طلعت علينا الصحف بأنباء مؤامرة جديدة للإخوان، ولم أعرف وقتها شيئا عن مصير عبد الوهاب إسماعيل الذي رجحت أنه غادر الوطن للعمل في الخارج، غير أن الصديق قدري رزق أكد لي أنه كان ضمن المؤامرة، وأنه قاوم القوة التي ذهبت للقبض عليه حتى أصيب بطلقة قاتلة فسقط جثة هامدة.
عبدة سليمان
لعلها كانت أول فتاة تعين بوزارتنا، ولكن مؤكد أنها كانت أول موظفة بإدارة السكرتارية. عينت في أيام الحرب العظمى الثانية، في نفس الشهر الذي تولى فيه عباس فوزي رياسة السكرتارية، كانت في الخامس والعشرين من عمرها، بضة ممتلئة، سمراء، متوسطة الجمال، خفيفة الروح، وكانت تحمل شهادة البكالوريا، ولم ترغب في الوظيفة حتى توفي والدها، وقال عباس فوزي محذرا: كونوا جديرين بالزمالة من فضلكم!
وهمس لي عم صقر وهو يقدم لي القهوة: صاحبتك من السيدة زينب!
فسألته: وما له؟ - السيدة مأهولة بالطلبة ولذلك فكثيرات من بناتها ...
ورسم بيده حركة مثيرة للشك، وعموما اشتدت العناية بالمظهر في السكرتارية، واسترقت الأعين النظر إلى ركن الحجرة حيث جلست عبدة إلى يمين الأستاذ عبد الرحمن شعبان. كان علينا أن ننتظر طويلا حتى تصير عبدة «عادة» يومية لا تثير الأهواء ولا تلفت النظر. وتواترت أخبار تصور سلوكها الخاص في حي السيدة بالاستهتار. وقال لي عم صقر: لا تصدق أن فتاة «شريفة» تقبل أن تعمل وسط الرجال.
فقلت له: ولكنها مؤدبة حقا وتصد عنها جميع الطامعين دون استغلال للدعابة.
فقال بإصرار: سياسة حلوة .. حفظا على كرامتها كموظفة، ولتوقع بالمغفل ابن الحلال!
ولاحظنا أن زميلا من الأرشيف أصبح يتردد على صديق له في السكرتارية على غير عادة، وكان زميلا مشهورا، رغم حقارة وظيفته وبدائية تعليمه الذي لم يجاوز الابتدائية، ولكنه كان جميلا، له مظهر الذوات واعتدادهم بأنفسهم، وكان من أسرة العادل - يدعى محمد العادل - في الثلاثين من عمره، وكان ابن شقيق الباشا عميد الأسرة، وزوج كريمته الغنية، ورغم فقره وضآلة مرتبه كان يرتدي أفخر البدل، وينفق عن سعة من مال زوجته، وعرف أنه يطارد عبدة، وأنه يزور السكرتارية جريا وراء هدفه. ولم يتعرض له عباس فوزي بأية ملاحظة لعلمه بصداقة عمه الباشا لوكيل الوزارة، فتجاهله على مضض، ولكن الأستاذ عبد الرحمن شعبان المترجم لم يبال بذلك فمضى نحوه يوما ثم قبض على أعلى جاكتته ودفعه أمامه حتى باب الإدارة، وهو يقول له: إذا رجعت مرة أخرى فسأكسر رأسك.
ولكن عم صقر أخبرني أنه يطارد عبدة حتى مشارف السيدة، وأنه يلح بجنون في التعرف بها. ووضح أن الفتاة رفضت تلبية النداء وأصرت على ذلك. رفضت بكل قوة أن تكون عشيقة وعاملته بخشونة، وأخذنا نناقش الموضوع همسا، فقال عباس فوزي: الولد فحل جميل ولا يقاوم.
فقال عبد الرحمن شعبان: ولكنه حقير جاهل.
فقال له عباس فوزي: المرأة هي المرأة والرجل هو الرجل.
فقلت: من الطبيعي أن تبحث عن زوج، فما معنى أن ترضى بدور العشيقة. - هذا هو المعقول ولكن الحب لا معقول.
ولكن مضت الأيام وعبدة سليمان ترفض أن تستسلم. ذات يوم طلبت إجازة أسبوعا، ولم يهتم أحد بالطلب حتى جاءنا عم صقر، وهو يقول: محمد العادل أخذ إجازة أسبوعا أيضا!
وتضاربت التخمينات، ولكنها كانت مجرد تخمينات، ومضى الأسبوع ورجعت عبدة، ولكنا رأينا فيها فتاة جديدة، كأنما فقدت في صميم روحها شيئا ثمينا لا يعوض. انتظرنا أن تقول شيئا، ولكنها عكفت على عملها في صمت تكتنفها هالة حزن كأنما هي راجعة من قرافة، ومال عبد الرحمن شعبان نحوها وسألها برقة: ما لك يا مدموازيل؟
وبمجرد استشعارها العطف انهمرت دموعها! واتجهت إليها الأبصار، ومضى عباس فوزي فوقف أمام مكتبها، وهو يسأل: ما لك؟ نحن زملاء، والإنسان للإنسان! - لا شيء! - لا نريد إكراهك على الكلام إذا كرهت ذلك.
فقالت بيأس: لن يخفى شيء! - حسن فماذا يحزنك؟
ترددت قليلا ثم قالت: أخذت الإجازة لأتزوج. - لا عيب في ذلك ولا حزن. - تزوجنا أنا ومحمد العادل. - محمد العادل! - نعم. - سرا! - قال لي إنه يقامر بمستقبله، وإنه إذا عرفت زوجته أو عمه الباشا فسيقضى عليه إلى الأبد.
فسألها عباس فوزي بنبرة لم تخل من عتاب: وكيف رضيت أن تتزوجيه وأنت على علم بحاله؟
فقال عبد الرحمن شعبان بغضب: تذكر أقوالك عن الحب.
فتراجع الرجل قائلا: حسن، وماذا حدث بعد ذلك؟ - سافرنا إلى الإسكندرية فمكثنا أسبوعا! - ثم ماذا؟
وهي تحاول تمالك أعصابها الباكية: طلقني أمس! - طلقك؟! - نعم. - لم؟ - قال إنه إذا استمرت العلاقة فستعرف، وإذا عرفت خسر كل شيء!
وهمس عم صقر في أذني: طريقة جديدة للعشق!
ونالت عبدة من العطف بقدر ما نالت من اللوم. وتطوع كثيرون لمساعدتها في إجراءات القضية الشرعية. ونما الخبر إلى الزوجة والباشا، واستدعى وكيل الوزراء - بإيعاز من الباشا - عبدة فوبخها واتهمها بإغواء الولد الأرعن وطالبها بالتنازل عن القضية في نظير أن يحفظ لها حقها، ولكنها صارحته بأنها حبلى، وبذلك تعقدت الأمور أكثر، ووضعت طفلة وكانت النفقة تقتطع لها من مرتب الشاب الصغير، والحق أن محمد العادل لم يكن شبع تماما من عبدة، وكانت هي من ناحيتها تحبه، وهي حقيقة لم تخف عن المجربين مثل عباس فوزي وعبد الرحمن شعبان، وعادت العلاقة بينهما، غير شرعية هذه المرة، وفي تكتم لم يدر به أحد منا، حتى فوجئنا ذات يوم بالوكيل يستدعي عبدة ومحمد، ويهددهما بالنقل إلى الأقاليم إذا لم يقطعا علاقتهما «الآثمة» في الحال. وحدث ذلك بحضور الباشا نفسه، وترامت الأصوات إلى السعاة فالتقط عم صقر الخبر وأذاعه بطريقته السادية، حتى اضطر الأستاذ عبد الرحمن شعبان إلى تذكيره بابنته الضائعة، فغادر الرجل الحجرة متقلص الوجه، ونقل محمد العادل بعد ذلك إلى وزارة الزراعة. وتزوجت عبدة من مقاول قبل أن تتربى ابنتها في بيته تحت شرط أن تقدم عبدة استقالتها، وقد فعلت. كان ذلك على عهد حرب فلسطين الأولى عام 1948، ومر على ذلك عشرون عاما حتى لقيت عبدة مصادفة في ميدان التحرير.
تصافحنا بحرارة، وكانت في الخمسين وبدينة جدا، وسرنا معا وهي تسأل عن الزملاء القدامى فحكيت لها ما كان من أمر عباس فوزي، ونهاية عبد الرحمن شعبان وقد تأسفت عليه بصدق، وحتى عم صقر أخبرتها بسوء مآله، أما هي فأخبرتني بأن زوجها توفي من عامين، وأنها أنجبت منه ثلاثة ذكور في كليات الطب والزراعة والاقتصاد، وأن ابنتها تزوجت من ضابط، ثم تساءلت: أتدري ما حصل لأبيها؟
ولكني كنت نسيته تماما فقالت: بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي بعام واحد مات الباشا، ولم يبق لابنته إلا ما تستطيع أن تربي به أولادها، فامتنعت عن إعطاء زوجها أي نقود، فلم يستطيع ممارسة الحياة على المستوى الذي اعتاده، فاختلس وفصل من عمله، وهو يعيش الآن كالمتشردين، واضطر إلى العمل في الإسكندرية منادي سيارات!
ثم سألتني ونحن نتوادع: خبرني ماذا عن الموقف، حرب أم صلح؟
فبسطت راحتي في عجز عن الجواب وافترقنا.
عجلان ثابت
زاملنا في الجامعة عاما ونصف عام، واتهم بسرقة طربوش فافتضح أمره واضطر إلى قطع دراسته. حدثني عنه في ذلك الوقت الأستاذ عدلي المؤذن فقال: إنه يعيش مع أم عجوز على معاش بسيط.
فقلت بأسف: لا أحد منا يستطيع معاونته، وكان النجاح والتفوق في ميسوره. - ولكنه كان قليل الأدب، ألا تذكر مناقشاته الحادة مع الدكتور إبراهيم عقل؟
فقلت بامتعاض: إنه أفضل في نظري من الدكتور إبراهيم عقل.
وفي أثناء تزاملنا اقتنعت بذكائه واجتهاده ووعيه، وكان ذا استعداد طيب لتعلم اللغات الأجنبية، كما كان قارئا ممتازا، وأذكر أنه ترجم - في تلك الفترة المبكرة في حياته - بعض قصائد شيللي ونشرها في مجلة المعرفة، وكان يقول لي: لا تحترم طالبا غير مهتم بالسياسة، ولا تحترم مهتما بالسياسة إن لم يكن وفديا، ولا تحترم وفديا إن لم يكن فقيرا.
فقلت له: ولكن سعد زغلول لم يكن فقيرا. - أما مصطفى النحاس فزعيم فقير! - هل تعني أن مصطفى النحاس خير من سعد زغلول؟ - كان سعد زغلول عبقريا أما مصطفى النحاس فإرادة نقية.
ولم يستطع - بعد انفصاله عن الجامعة - أن يجد وظيفة، فالوظيفة كانت مطلبا عسيرا لمن لا وساطة له، ولكن أحد أعضاء الوفد استطاع أن يلحقه بدار صحفية محايدة مترجما بأجر زهيد. وافترقنا نحوا من عشرة أعوام، وتقابلنا بعد ذلك مصادفة في مقهى الفيشاوي، ورحبنا بالمصادفة واعتبرناها سعيدة وسألته عن حاله فقال: ما زلت مترجما صحفيا وما زال الأجر زهيدا!
وضحك وكانت روحه المعنوية مرتفعة وقال: ولكني متزوج. - أنت مغامر! - إنه الحب، عليه اللعنة.
ودعاني إلى مسكنه بخان الخليلي فتعرفت بزوجته، وكانت فتاة حسناء، على قدر متوسط من التعليم، ولاحظت أنها متفانية في الحب وذات إرادة صلبة في مواجهة حياتها المتقشفة. ودار الحديث عن الحرب والسياسة، فقال: لم أعد وفديا كما كنت.
فدهشت، ولكنه صارحني بأنه «شيوعي»، وراح يؤكد لي أن الشيوعية حل لمشكلات العالم، ثم وهو يضحك: وحل لمشكلتي أيضا.
فضحكت زوجته وقالت: وهذا هو الأهم!
ومضى يشرح الشيوعية باعتبارها نظرية علمية، ولكنني شعرت بأنها حلت في نفسه محل العقيدة الدينية. وفي أعقاب الحرب فصل من الدار الصحفية بإيعاز من الداخلية في ظل الحكم الرجعي الذي سيطر على البلاد بعد إقالة الحكومة الوفدية. وتحرج مركزه، حتى سكنه المتواضع أصبح مهددا بالطرد منه لعجزه عن دفع الإيجار. وكنت أزوره، وأقدم له أحيانا مساعدات لا تغني، ثم تبين لي أن مسكنه يتحول إلى شيء جديد غريب، إلى ملتقى لبعض أهل البلد من أغنياء الحرب، حيث تدور الجوزة. وتجلس زوجته بينهم كربة الاستقبال والبيت! وآثرت - تفاديا للإحراج - أن تقتصر مقابلاتنا على المقهى، وأخذ يبدو لي مكشوف الوجه مستهترا، وماجنا عابثا، ورغم ذلك كله فإن عقيدته لم تتخلخل، ولم يتسلل إليها الفساد، وبقيت جوهرة مدفونة في العفن ولكن محتفظة بقيمتها. وفي عام 1950 رجع إلى عمله بالدار الصحفية، ولكنه لم يغير أسلوبه في الحياة، لزهادة المرتب من جهة ولفقدان الثقة من ناحية أخرى. ولقيت زوجته بعد انقطاع طويل فهالني أن أرى غانية متبرجة ذكرتني بالمحترفات فتقطع قلبي وحزنت حزنا لا حد له، ولعله لاحظ انقباضي إذ قال: مهما يكن من أمرنا فثمة جانب فينا يستطيع أن يصنع المعجزات، وهو الذي خلق الله!
وبعد قيام ثورة يوليو 1952 أمكن بعض زملائه أن يهيئوا له عملا أرقى، فتحسنت أحواله، بل وغير مسكنه، فانتقل إلى شقة في عمارة بميدان الجيزة، رمزا لعزمه على تغيير أسلوبه في الحياة، وممارسة حياة محترمة، وبسبب نشاطه العقائدي اعتقل أعواما حتى اضطرت زوجته إلى اللجوء إلى حماية أحد زبائن بيتها القديم. ولما خرج من المعتقل خرج متعبا متقززا، استعاد عمله ودخله ولكنه لم يستطع استنقاذ زوجته. قال: أدمنت الأفيون.
وهز رأسه في رثاء وقال: إني أحبها، وسأحبها إلى الأبد، ولكنها لم تعد قادرة على إعطاء الحب!
ثم بغضب: إني أحمل على الفساد بصدق أيان أجده، ولا يخيفني أن يشهر بي أحد.
وقدس علاقته بها، متفانيا في الإخلاص لها والتسامح معها، فهيأ لها الحياة الطيبة، ولم يسمح لنفسه بمحاسبتها على تصرف، تواجدت أم غابت، استقامت أم استهترت. وزحف عليه العجز قبل الأوان فلم يبق له من مسرات الدنيا إلا العمل والحديث والتسامح اللانهائي مع زوجته. وبالرغم من آلامه وحرمانه وتدهور زوجته المحبوبة فقد بلغ في تلك الفترة غاية نضجه وأعطى أطيب ثماره فتتابعت مقالاته السياسية والاجتماعية متسمة بالطلاوة والعمق، وإني لأعد كتابه عن الفكر العربي التقدمي من أمتع الكتب المعاصرة وأقواها إيحاء وتفاؤلا، كما أعد وجهه الشعبي، وتناقضات حياته الشخصية، ومتاعبه الجسمانية، ووحدة ذهنه وصفائه، مثالا لعصر مضطرب جياش بعوامل هدم وبناء، وتفكك وتجمع، ويأس وأمل. ولشد ما تألمت عندما لم أجد من أستاذي الدكتور ماهر عبد الكريم استعدادا للترحيب به في صالونه، فقال بهدوئه المعروف: يقال إنه شخص ...
وابتسم ابتسامة استغنى بها عند تسجيل وصف لا يرتاح إليه ذوقه الرفيع! وعلمت أن الذي وشى به عنده هو جاد أبو العلا، ذلك الشخص الذي لا وجود له في الواقع!
عدلي بركات
له في الذهن صورة قديمة، كالعباسية القديمة بحقولها وسكونها الأبدي، عندما كان يتهادى به الحنطور من العباسية الشرقية إلى المدرسة، فيغادره وهو يسير - رغم حداثة سنه - في عظمة خيالية تناسب ولاة العرش، ويمر بنا دون أن يلقي نظرة على أحد، وحيدا بلا صاحب إلا فيما ندر، ونتابعه بسخرية تخفي تحتها إعجابا وحسدا. وكان آل بركات - كآل الكاتب - من أرستقراطية العباسية الشرقية المقيمين في القلاع. وكانت أم عدلي تركية، وكان الأب فلاحا مصريا غنيا، فأنجبا غلامين عدلي وأخا أكبر، وماتت الأم وعدلي في الثانية عشرة، فتزوج الأب بعد عام من وفاتها بسيدة مصرية، وقيل لي إن وفاة أمه رسبت الحزن في أعماق روحه، كما إن حلول أخرى محلها قضى على توازنه مدى العمر. تلك أحزان يمكن تخيلها فحسب أما تحليلها فلا سبيل إليه، وبخاصة وأن عدلي لم يكن يذكر سيرة أمه أمام أحد، ولا يسمح لأحد بالتسلل إلى ذلك التاريخ القديم، وبالرغم من أنني عرفته في تدهوره، وهو لا يعترف لشيء باحترام أو يعفيه من سخريته، فإنه كان من المسلم به بيننا أن أمه سر مغلق مقدس لا يجوز مسه أو الحومان حوله أو مجرد التفكير في الاقتراب منه. وكنا في صبانا نراه كثيرا، في المدرسة، وفي حديقة القصر، ولكن لم تنشأ بيننا وبينه أي معرفة أو حتى ميل إلى ذلك. ومرة وكنا عائدين من ملعب الكرة في الصحراء وجدناه واقفا أمام قصره فقرر خليل زكي أن يتحرش به فوقف أمامه وسأله بوقاحة: هل تعرف أين تقع دكان عم فلقوس بياع المدمس؟
فتراجع إلى داخل القصر دون أن ينبس، ومضينا ونحن نكتم الضحك، ونلعن خليل، ولكن اجتاحنا سرور لا شك فيه. وطالما كان خليل يقول: يا ما نفسي أطبق في زمارة رقبته!
ودخلنا الجامعة في عام واحد فزامل رضا حمادة في كلية الحقوق، وعارف رضا بيني وبينه، ونحن نشاهد مباراة كرة حامية بين النادي الأهلي والمختلط. قلت له: نحن أبناء حي واحد منذ قديم، ومع ذلك لم نتعارف إلا اليوم.
فابتسم قائلا في اقتضاب: نعم.
وتمعنته عن قرب فإذا به رغم الأناقة والعظمة المطبوعة يشبه أباه الفلاح لحد التماثل، ولم يرث عن الأم التركية شيئا ظاهرا ينتفع به! وأدركت من أول وهلة أنه متعب، وأنه يحتاج إلى سياسة خاصة في معاملته كي يمنح ثقته وصداقته، وأنه يحتقر كل شيء في الوجود، وأن كلمة «مضحك» إكليشيه لاصق بلسانه يصف به أي شخص أو أي فعل مهما يكن رأي المتحدث فيه، فأستاذ المدني «دكتور مضحك»، ومصطفى النحاس «زعيم مضحك»، وقرار الوفد بإعلان المقاطعة «إعلان مضحك»، وقواعد الإسلام «قواعد مضحكة» حتى سألته مرة: من يستحق احترامك من الناس؟
فأجاب وهو يضحك: الجميل الشرير!
ثم وهو يواصل الضحك: يقال إن إسماعيل صدقي كان كذلك في شبابه.
فقلت: ولكنك تحترم والدك بلا شك؟
فبصق على الأرض بتلقائية ووحشية وقال: اللعنة عليه وعلى جميع الحشرات!
وعرفت ما لم أكن أعرف من مقته لأبيه. وحدثني موسيقار من جيرانه عن تلك العلاقة الغريبة، فقال إنه - عدلي - لم يعد يخفي كراهيته لأبيه منذ زمن بعيد، وإن الباشا يداريه مسلما أمره لله. وسألت عن السبب فقال: لا يدري أحد شيئا على سبيل اليقين، وعدلي نفسه لا يحب أن يفشي ذلك الجانب من أسراره، ولكن المظنون أن مرجع هذه الكراهية إلى زواج أبيه من امرأة أخرى بعد وفاة أمه.
ولما توثقت العلاقة بيننا سألته عما يدعوه إلى مقت أبيه واحتقاره فحدجني بنظرة قاسية وقال: ألا يكفي لذلك أن يورثني سحنته؟!
فقلت: أنت فلاح جميل!
فعبس قائلا: لو نافقتني مرة ثانية فسأمقتك أكثر منه.
ولكي يبتعد عن مجال أبيه ويتجنب رؤيته ما أمكن أقام في مبنى مستقل بحديقة القصر كان يستعمل كمضيفة، وربما مر الشهر والشهران فلا تقع عينا أحدهما على الآخر. وفي آخر عهده بكلية الحقوق انتقى من الزملاء صحبة قليلة عرفت باستهتارها الأخلاقي، وجعل منها خاصة أصدقائه، وبهم خرج من عزلته فعرف مواطن اللهو ومقهى الفيشاوي، وانقلب مقامه المستقل في الحديقة إلى حانة وغرزة! ولا شك أن الباشا فطن إلى دبيب الحركة الجديدة المريبة، ولكنه لم يستطع أن يتعرض لها إيثارا للسلامة، وقال لي يوما: عليك بصحبة الأشرار فبفضلهم تعرف نفسك.
ولم أعرف ما يعنيه تماما إلا فيما بعد نسبيا، عندما تبين لي أنه بقدر ما يحب مصاحبة الحسان فإنه لا يستجيب لهن، وأنه لا يستجيب إلا للمومسات ذوات السحن الوحشية، وأتم دراسته عام 1938 بعد سقوط أربع مرات، وسعى الباشا إلى تعيينه في النيابة العمومية بنفوذه، ولكن لم يكن يقبل أحد في وظائف النيابة إلا بعد تحريات، وقد كشفت التحريات عن الغرزة المستقرة في مسكنه المستقل فرفض الطلب وأبلغ والده بالحقيقة! وفاتحه أبوه بالأمر فقال باستهانة: النيابة العمومية وظيفة مضحكة!
فغضب الرجل وغضب الابن وسعى الابن الآخر بينهما حتى هدأت النفوس، واتفق على أن يفتح الباشا له مكتب محاماة في مقامه المستقل على أن يجعل سهراته الخاصة في الخارج. وأعد في إحدى الحجرتين اللتين يتكون منهما المبنى مكتب، ومكتبة قانونية، وألصقت على مدخل السراي لافتة باسم المحامي الجديد . ولم ينفذ الاتفاق إلا أياما معدودات ثم رجعت ريمة لعادتها القديمة، فعاد الأصدقاء ودارت الجوزة، وكان الحشيش قد أسره تماما. ولم يقنع الأصدقاء بذلك فكانوا يجيئون ببعض المومسات باعتبارهن عميلات للمحامي الجديد، فتطورت الغرزة إلى ماخور، وسكرت إحداهن ذات ليلة حتى فقدت وعيها فتجردت من ثيابها وراحت ترقص في الحديقة تحت ضوء القمر.
ولأول مرة يسمح الباشا لغضبه بالانفجار، انهال على الابن سبا ولعنا، فرد له الابن السبة سبتين واللعنة لعنتين، وصفعه الأب فهدده الابن بالصفع والركل، وعند ذلك طرده من قصره وحذره من أن يريه وجهه مرة أخرى. وغادر عدلي القصر مطرودا في أوائل أيام الحرب العظمى الثانية، وليس معه إلا ملابسه. وراح يبيت بالتناوب في بيوت أصدقائه ويفكرون في المستقبل. اقترح عليه بعضهم أن يبحث عن أي وظيفة كتابية حتى يجيء الفرج، ولكنه قال بكبرياء: إني أفضل الصعلكة.
وعرض عليه رضا حمادة أن يبدأ من جديد في مكتبه، ولكنه قال له: نسيت القانون ولا همة لي الآن على استرجاعه.
فقال الرجل ببراءة: قم بأي عمل في المكتب!
فأدرك أنه يعرض عليه أن يعمل كاتبا بمكتبه فصاح غاضبا: إني أحتقرك وأحتقر من خلقك!
واختار الصعلكة فكان يقترض مبالغ متفاوتة بضمان موت أبيه الذي جاوز السبعين من عمره، وكان يتبلغ بالسندوتش ويسكت صراخ بطنه بالفول السوداني، وينتقل في الليل من غرزة إلى غرزة فيدخن بالمجان، ثم يقضي الليل في بيت صديق أو في مقصورة من مقاصير مقهى الفيشاوي. وساء مظهره، ووهنت صحته، ورثت ثيابه، وصار أشبه بالمتشردين، ولكن كبرياءه كان يتعقد ويتضخم، حتى انقلب وقاحة وسفاهة. وكنا مجتمعين مرة بالفيشاوي؛ فإذا به يضحك عاليا ويستغرق في الضحك، فسألته عما يضحكه، فقال: تصور أن أموت أنا قبل «الكلب»؟
فقلت باسما: هذا محتمل ومتوقع أيضا!
فلعنني، وقال: إني على استعداد لأن أعبد الله إذا أخذ روحه.
ثم مستدركا: على أي حال ليس لدي ما أشكوه ما دمت أجد الجوزة في آخر النهار!
وكان أيضا قابعا في الفيشاوي - 1947 أو 1948 - عندما جاءه رسول من شقيقه ينعي إليه والده ويدعوه إلى القصر. كان مسطولا فلم يفهم من المرة الأولى، ولما أخذت الحقيقة تلاطمه وتوقظه وقف مترنحا، فحملق في الجدار المطعم بالأرابيسك، وسرح في غيابات لا يدريها أحد، ثم غادر المكان دون أن يلقي تحية وراءه. واستقبله أخوه - رئيس محكمة كان - وقال له: البقية في حياتك.
ومضى به إلى الداخل وهو يقول: ما كان كان، وهذه ساعة مقدسة تنسى فيها الأحقاد.
حتى أوصله إلى مخدع الباشا فأوسع له وهو يقول: ادخل فودع أباك ليغفر الله له ولك ولنا جميعا.
وتسلل عدلي إلى الحجرة - كما حكى لنا فيما بعد - ووقف وحده عند رأس الجثمان المسجى، ثم أزاح الغطاء عنه قليلا حتى انكشف وجهه المطوق، ونظر إليه مليا، ثم غمغم: إلى الجحيم يا قذر!
وأكثر من صوت قال: مستحيل ... مستحيل.
فنظر إليهم باحتقار لضعفهم وتمتم: كم وددت أن أمثل بجثته!
بعضنا لم يصدق كلمة مما حكى، والبعض آمن بكل حرف وخمن أنه ربما فعل أكثر مما قال، على أي حال ابتسمت له الدنيا بعد عبوس، وقد ترك الباشا أملاكا منها أرض وعقار وأموال سائلة، وكان نصيب عدلي عمارتين يدران دخلا صافيا قدره ألف جنيه في الشهر، بالإضافة إلى أربعين ألفا من الجنيهات، وقال كثيرون من أصدقائه: لقد كانت أعوام التشرد درسا أريد به أن يعرف قيمة القرش فيحسن معاملته!
والتف حوله أصدقاؤه عقب انفضاض المأتم واستبقوا إلى تخطيط صورة للمستقبل السعيد: من حسن الحظ أن مطالبك في الحياة معقولة وأنه بوسعك أن تعيش ملكا حتى آخر يوم في حياتك. - وفر لنفسك مسكنا جميلا، واعرض نفسك على طبيب كبير، واحمد ربك أنك لم تغو القمار، الطعام أمره هين، ومزاجك في النسوان متواضع، ولم نسمع عن أن الحشيش خرب بيت أحد، فمبارك عليك رزقك الحلال!
وصاح بهم: كفوا عن النصائح عليكم اللعنة!
كان يمقت النصح ويعده تعاليا مرذولا، ولكنه بدا ثملا بالفرح والسعادة، وبات ليلتها في فندق سميراميس، وأقام به حتى يدبر أموره، ونشط نشاطا غير معهود فاستأجر شقة على النيل بخمسين جنيها شهريا. ومضى يؤثثها بأفخر الأثاث، وقد ذهلنا - نحن البسطاء - عندما علمنا بأن تأثيثها تكلف عشرين ألفا من الجنيهات، وأعجب ما أذهلنا فيها كان حجرة شرقية، أقام بها بارا أمريكيا وغرزة موهت أدواتها بالذهب والفضة، كما ابتاع سيارة كاديلاك، وكان مجموع ما أنفقه على ذلك - بالإضافة إلى الملابس - ثلاثين ألفا. كان مبلغا خياليا، ولكن اعتذر عن ضخامته أصدقاؤه بما عاناه من حرمان طويل، وقالوا أيضا إن التأسيس عادة يتكلف أضعاف أضعاف ما تتكلفه الحياة اليومية، ولكن الحجرة الشرقية شهدت سهرات ليلية جمعت الأصدقاء والطفيليين، وغانيات الملاهي الليلية، وبعض الفنانين والفنانات، وجرت الخمر وانتشر الدخان الأزرق، وجيء بموائد الطعام من نادي السيارات، وراح يخطر بين الضيوف رافلا في الحرير محاطا بالإجلال والإكبار. وما لبث أن تطايرت العشر الآلاف جنيه فلم يبق إلا دخل العمارتين، وقال المتفائلون أن آن أوان الانضباط وستسير الحياة سيرتها المتزنة المعقولة، ولكنه كان اعتاد عادة الإسراف وتقمص روح ليالي ألف ليلة وليلة، وعلى حين كان ينفق بسخاء على غانيات الملاهي، كان يمارس العشق الحقيقي مع بنات الهوى المتواضعات، ومع بياعة فول سوداني فلاحة من المترددات على مقهى الفيشاوي، ولذلك لم يوفق إلى التوازن أبدا، واضطر إلى بيع إحدى العمارتين رغم توسلات الأصدقاء، ثم ألحق بها الأخرى، وتجلى في أثناء ذلك سعيدا مجنونا فوق الحذر والماضي والمستقبل، وما جاء عام 1950 حتى كان قد باع شقته ورجع للإقامة في فندق سميراميس، ثم باع السيارة، وبدا المستقبل واضح المعالم. وأذكر أنني تدارست حاله مع الصديق رضا حمادة فقلت له: أهو مجنون؟
فأجاب: لا يخلو من جنون. - إنه لا يشعر بالغد. - أو إنه مستغرق في لحظته الراهنة. - أكاد - وسط همومنا التي تثقلنا - أحسده!
فضحك عاليا، وقال: على الحياة أن تكون جدا أو فلتذهب إلى الشيطان!
وعندما نفد حسابه غادر سميراميس، واجه الحياة مرة أخرى، وهو لا يملك مليما، ولا أمل له من وراء وفاة أحد. ولم يكن بلا خطة، شرب زجاجتي ويسكي وبلع ربع أوقية حشيش، وهام على وجهه ، وعثر عليه صباح اليوم التالي جثة هامدة على شاطئ النيل.
عزمي شاكر
تعرفت به في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم عام 1960، وقد قلت له من فوري: أذكر أني رأيتك في زيارة للأستاذ عباس فوزي في أثناء الحرب العظمى الثانية.
فقال: لم أقابله من مدة طويلة، وبالمناسبة كيف تفسر تحوله إلى تأليف الكتب الدينية، أكان عن عقيدة حقا؟
فأجبت بحذر: أنت تعلم أنه كان دائما من المهتمين بالتراث!
وكان عزمي شاكر يوم تعرفت به في الأربعين، وقد جذبني بذكائه وثقافته وصراحته، وأشعرني تماما بأنه من الناس الذين يأخذون الأمور مأخذ الجد، ويلتمسون السبل إلى الأمل، وكان دكتور في التاريخ من فرنسا، ومتزوجا من مدرسة دكتورة في العلوم. وكان الأستاذ سالم جبر يعرفه، وقال لي عنه: إنه كان تلميذا وفديا ولكنه اهتم من بادئ الأمر بالمشكلات الاجتماعية، ويعترف بأن قلمي كان له الأثر الأول في توجيهه.
ولما حادثت عزمي شاكر في ذلك قال لي: لم تكن وفديتي قوية كالحال في جيلكم، وتخلصت منها تماما قبيل الثورة، ولكني بقيت على صلة حميمة بالجناح الوفدي اليساري، وعددت منذ ذلك الوقت من الشيوعيين، وعرفت بذلك في أوساطهم.
وقال لي أيضا: ولما قامت ثورة يوليو استقبلتها بترحاب وحذر معا، أعجبت بإلغائها للنظام الملكي، وبتحقيقها للجلاء، ولم أعجب كثيرا بإصلاحها الزراعي، وسرعان ما اعتبرتها انقلابا قصد به الإصلاح وتفادي الثورة الحقيقية.
وبسبب موقفه فصل من هيئة التدريس الجامعية، ثم اعتقل أعواما، ثم أفرج عنه فعمل في الصحافة، وعكف على الكتابة في الموضوعات التي تتيح له التعبير بإخلاص عن آرائه؛ فآثر الكتابة في الشئون الخارجية أو التاريخية أحيانا، وعقب صدور قوانين يوليو 1961 الاشتراكية تغير موقفه تغيرا ذاتيا وجذريا، وعن إخلاص حقيقي، كان قد انضم إلى أصدقائنا، وكان يجتمع بنا في مكتب سالم جبر وصالون ماهر عبد الكريم، وذات يوم قال لي: الثورة هي أنسب حركة تاريخية لوطننا في ظرفه الراهن.
فقلت له: إذن غيرت رأيك؟ - أجل، علينا أن نضع عقائدنا بين قوسين، وأن نؤيدها بكل قوانا!
وآمنت بصدقه ، ولم أجد ما يدعو إلى التشكيك فيه، ثم إنني من المؤمنين بإخلاصه. ومن يومها وهو دائب على تأييد الثورة بقلبه وقلمه، في سره وعلانيته، ولم يفهم موقفه على حقيقته في أوساط زملائه.
وأذكر أن عجلان ثابت قال لي عنه: إنه وغد لا أكثر ولا أقل، ومهما خطر في لباس قديس!
فقلت له: إني أعتقد بإخلاصه، لا يداخلني شك في ذلك.
فقال ساخرا: إن أقواله تبرر ترددك، هذا كل ما هنالك!
وسنحت فرصة لرجوعه إلى الجامعة، ولكنه آثر الجهاد في ميدان الصحافة. ومن المهم أن أسجل أنه لم يكن مؤيدا أعمى أو متعاميا، فلم تكن تخفى عنه الأخطاء التي ترتكب، وكثيرا ما كان يردد: مما يؤسف له أن الثورة لم تعتمد على الثوريين الحقيقيين، فخلقت منهم أعداء حينا، أو وضعتهم تحت المراقبة حينا آخر.
وقال مرة بحزن شديد: إن الفساد ينتشر كالوباء، لا نملك إلا التحذير، وحتى ذلك لا يتيسر لنا إلا فيما ندر.
وثبت لي أنه من الشيوعيين المتجددين، الذين يتطلعون دائما إلى الحرية، الذين يعتقدون أن الحرية تعاني مأساة مريرة، ولكنه لم يهون أبدا من شأن النقلة التاريخية التي وثبها الوطن، وكان يتعلق بالمستقبل المضيء كلما ألحت عليه عثرات الحاضر، ولما عرفته بالدكتور صادق عبد الحميد لمس سريعا ما يقرب بينهما من وجهات النظر فتوثقت العلاقة بينهما، ولما قبض على الشيوعيين حزن حزنا عميقا، وساوره قلق أشبه بتأنيب الضمير، ولكنه قال: إنه التعصب، والإيمان بالكتب أكثر من الواقع!
وكم اغتبط لدى الإفراج عنهم، واغتبط أكثر عندما علم بأنهم تبرأوا من الحزب الشيوعي، وعقدوا العزم على التعاون مع الثورة، وقال: ها هم يرجعون إلى موقفي الذي اتهمت به عندهم!
فقال الدكتور صادق عبد الحميد: وفي ظروف مختلفة تماما!
وتولوا مناصب رئيسية في الدولة والصحافة تاركين إياه - نسبيا - في القاع، فلم تخل نفسه من امتعاض، وأفلت منه ذلك القول مرة: أخشى أن يكتشف الكتاب يوما أن اللامعقول أسلوب مناسب لمعالجة العقائد أيضا!
ولم يعد يجد في الصحافة الراحة النفسية التي نعم بها طويلا، فطلب العودة إلى التدريس بالجامعة، وسرعان ما حققت له رغبته، ولما وقعت الواقعة - هزيمة يونيو 1967 - تزلزل كيانه كالجميع، وشدته إليها موجة النقد العاتية فغطس فيها وقب، ولكنه لم يكتب كلمة في الموضوع بالرغم من أنه كان يكتب نظرات أسبوعية في مجلة سياسية. وأشهد بأنه كان من أوائل من ثابوا إلى التوازن بل لعله كان أولهم، ففي أكتوبر من السنة نفسها نشر مقاله المشهور الذي حلل به الهزيمة، فاعتبرها درسا، وحذر من الاستسلام لطغيان النقد واحتقار الذات وتعذيبها وفقدان الثقة بالنفس، وأكد في النهاية حقيقة ما زال يؤمن بها وهي أن الثورة هي الأرض الحقيقية المتنازع عليها، لا سيناء ولا القدس، وأنها هي التي يجب أن تبقى وأن تستمر. وفي الأعوام التي تلت ذلك عكف على تأليف كتابه الرائع «من الهزيمة نبدأ»، وهو دستور لحياة جديدة تشق طريقها نافضة عن نفسها ركام الأتربة، وقد شهدته وهو يعمل في وحدته بالاتحاد الاشتراكي بهمة مذهلة، كما استمعت إليه في التلفزيون مرارا، وهو من القلة التي لم تصب بانقسام الشخصية، فهو هو سواء تكلم على الملأ أم في مجالسه الشخصية. وإشادتي به كانت بلا شك من أسباب إغضاب كثيرين ممن هزمتهم الأحداث مثل عجلان ثابت وسالم جبر. ولا أنسى كيف غضب الأستاذ سالم وأنا أنوه مرة بكتاب «من الهزيمة نبدأ» فقال ببرود: طالما احترمته، ولكنه لم يعد إلا المعادل الموضوعي المدني!
أما ثابت عجلان فسمى الكتاب «من الانتهازية نبدأ»، وجعل يضحك ويقول: حسبنا أن يكون لنا من الكتاب جاد أبو العلا وعزمي شاكر، يا بلد الاحتفال بالإسراء والمعراج في عصر الهبوط على سطح القمر!
ولكن الدكتور عزمي ما زال ثابتا في إيمانه وصدقه ونشاطه.
عزيزة عبده
عندما قدمني لها الدكتور زهير كامل في صالونه لم أكن أسمع باسمها لأول مرة، لعلي اطلعت عليه في مجلة أو جريدة. كانت بصحبة زوجها، سمراء أنيقة القسمات خفيفة الروح، قدرت عمرها بالثلاثين، وقال جاد أبو العلا إنها في الأربعين، وكان ذلك في عام 1960، وهي وزوجها - في الخمسين - فنانان تشكيليان، وقد دعياني إلى مسكنهما في مدينة الأوقاف فاطلعت على معرضهما الدائم، ودهشت وأنا أتنقل بين لوحات واقعية في زمن ندرت فيه الواقعية وطغى التجريد، بل كانت واقعية ذات أهداف واضحة، وقلت مداعبا: أخيرا أظفر بفن رجعي!
ولكنها قالت باحتجاج عذب: أمامك فن تقدمي، بل الفن التقدمي الوحيد!
ونشأت بيني وبينها مودة عميقة، وكما أقنعتني بفنها، أقنعتني بأمومتها الصادقة لابنين، ولكنها بدت أقدر على الصداقة من زوجها الذي لا يحب الارتباط، والذي يحضرنا بجسمه على حين يغيب بروحه عن الزمان والمكان. وكانت مثقفة جدا، وتعتبر هي وزوجها من ذوي الميول اليسارية، ولكنها كانت تشعرني دائما بقوتها بخلاف زوجها الرقيق، القشة التي تتلاعب بها أخف الرياح. واصطحبت معي الأستاذ يوسف بدران محرر إحدى الصحف الفنية إلى بيتهما بناء على اقتراح منها، فلاحظت أنهما تفاهما تفاهما روحيا عجيبا وسريعا، وأنهما تبادلا احتراما ومودة.
وذهبت يوما لزيارة يوسف بدران في شقته بشارع قصر العيني، وجلسنا نتحادث وأنفاسه تتردد على وجهي معبقة برائحة الخمر، وما لبث أن فتح باب حجرة النوم فخرجت منه عزيزة عبده مرتدية إحدى بيجاماته! دهشت وارتبكت ولكني واجهت الموقف باللغة المناسبة فتظاهرت بعدم المبالاة، وشجعتني على موقفي بضحكاتها العذبة، وحديثها الطبيعي، وكانت أنفاسها تنفث أيضا شذا الخمر.
وتكلمنا في شئون كثيرة أما وجودها في الشقة بالحال التي وجدت عليها فمضى دون ضوء أو تفسير كأنه حقيقة مسلم بها، وقال لي يوسف بدران فيما بعد: هكذا وقع الحب علينا من السماء!
فقلت له: أنت تحب الغزل! - ولكنها كانت البادئة.
فرميته بنظرة شك فقال: صدقني، وسيطرتها أقوى من جمالها. - تحبها؟ - هي تحبني وفي ذلك ما يكفي. - وأنت؟ - هي كنز لا يستهان به ولكنها لا تعكس الأسلوب الذي أعشقه! - وزوجها؟ - ولا أهمية له في الموضوع!
والتقيت بها بعد ذلك في صالون جاد أبو العلا، وكانت وحدها إذ كان زوجها في الإسكندرية، فطلبت مني أن أوصلها إلى بيتها، وسرنا معا في الطريق فإذا بها تقول: أنا حريصة على صداقتك.
فقلت بصدق: وأنا حريص على صداقتك. - ولا صداقة بلا احترام. - وإني أحترمك. - أكاد أقرأ في نفسك تساؤلات محيرة. - لست قليل الخبرة كما قد تظنين. - ولكن قد يبدو لك زوجان شاذين لنظرتهما المغايرة للدنيا والحرية؟ - لا أظن. - أنا لم ولن أمارس الخيانة! - لا تسيئي الظن بفهمي يا عزيزتي.
وحدثتني عن ماضيها فقالت إنها التحقت بالمدرسة الثانوية، وهي مزودة بإرشادات أمها الطيبة المرددة لصوت الجيل السابق، ولكنها سلمت نفسها لأول شاب بادلها الحب، وهي تظنه سيفي بوعوده، ثم كررت ذلك مرارا، بدافع الثورة حينا، وبدافع اللهو حينا آخر، وبدافع الحب في بعض الأحوال. - وكنت أشعر بالخوف أحيانا، ولكني لم أشعر بالندم قط.
وتوقفت عن السير متأثرة ثم قالت: أصبحت سيدة نفسي، وتحديت العالم كله، بكل قيمه التي لم أعد أومن بها.
وواصلنا السير وهي تقول: وآمنت دائما بأنني نقية مثل الأوكسيجين.
ولما حم الافتراق شدت على يدي وهي تقول: نحن أمل المستقبل الحقيقي!
وبعد سنوات من تعارفنا اعتقل زوجها فيمن اعتقل من الشيوعيين، فحزنت حزنا عميقا شاملا، ونهضت بعبء الأسرة والابنين رغم اضطراب بطنها بجنين جديد. وتوارت عن الصالونات والمعارض، ولم نجد وسيلة للاطمئنان عليها إلا التليفون. وسألت يوسف بدران عنها فقال لي: علمي علمك.
فسألته بدهشة: ألا تتقابلان كالعادة؟ - قطعت العلاقة مذ اعتقل الرجل. - حقا؟ - إنها غريبة الأطوار، ولكني غير آسف.
انقطعت عنها فلم أعد أتذكرها إلا لمناسبة. وزرتها بعد ذلك بسنوات - بعد الإفراج عن زوجها - للتهنئة. كان ابناها طالبين في الجامعة، وكانت ابنتها في السادسة. ودب النشاط في حياتها مرة أخرى، ولكنها لم تصل ما انقطع من أسبابها بيوسف بدران الذي تزوج في تلك الفترة من مهاجرة فلسطينية مثقفة. ويوما كنت ويوسف في زيارة للجبهة الشرقية ضمن مجموعة من المواطنين، وجاء ذكر عزيزة فسألني: أرأيت ابنتها الصغيرة؟
فقلت: نعم، وهي جميلة جدا!
فهمس في أذني بهدوء: إنها ابنتي!
فقلت بذهول: كلا! - هي الحقيقة!
ثم قال: حاولت إقناع عزيزة بإجهاض نفسها ولكنها رفضت. - متى كان ذلك؟ - في الأيام السابقة مباشرة لاعتقال الرجل. - ولم رفضت ؟
فصمت قليلا ثم قال: قالت لي لقد أحببتك حبا لم أحبه أحدا من قبل وسأحتفظ بثمرته! - رغم أنها قاطعت الدنيا عقب اعتقاله! - وزوجها هل يعلم؟ - لا أدري.
وتفكرت قليلا ثم قلت: الحق أن البنت تشبهك! - أجل، ولذلك أحرص على تجنب رؤيتها!
وبحلول عام 1970 أحرزت عزيزة عبده أول نجاح حقيقي في حياتها الفنية بنجاح معرضها، واعترف بها كفنانة مصرية أصيلة.
عشماوي جلال
يقع بيته في شارعنا عند طرفه الشرقي المتصل بشارع العباسية، وهو بيت رمادي اللون، مكون من طابقين، وحديقة شبه مهملة لم يبق من زرعها إلا ياسمينة، ونخلتان، وشجرة مانجو شامخة، وكلما مررت به ألقيت عليه نظرة مشحونة بحب الاستطلاع والنفور كحال سكان شارعنا جميعا. وأنا جديد طارئ على الحي، وفي فترة التعارف والاستكشاف، أشار صديق - لعله رضا حمادة - إلى البيت وسأل: أتعرف بيت من هذا؟
فأجبت بالنفي طبعا فقال: بيت عشماوي بك جلال!
وسرحت لحظة كالمذهول ثم هتفت: عشماوي بك جلال؟! - بنفسه ودون غيره! - قاتل الطلبة؟ - قاتل الطلبة! - وهل ترونه؟ - لا يعلم أحد بمكانه، لا هو ولا أهله، يخافون جمعية الكف السوداء، ولكن هذا هو بيته. - أكانوا يقيمون هنا؟ - نعم. - ومتى هجروا البيت؟ - مذ اشتهر الشيطان بقتل المتظاهرين.
اقترن اسم عشماوي جلال بالرعب في وجداني منذ طفولتي، كان ضابطا كبيرا بلواء الفرسان بالجيش المصري، واستحق بجدارة أن يوصف بأنه العدو الأول لثورة 1919 في الجيش المصري، وجرت أخباره كحكايات الرعب بأنه يقتل بلا رحمة، ويعذب ضحاياه فيربط الطلبة بجواده وينطلق به، وضحيته يسحل خلفه مرتطما بالحصى والأسفلت حتى تفيض روحه، ولما تولى سعد زغلول الوزارة عام 1924 أحاله إلى المعاش، فتسلل عائدا إلى بيته المهجور بشارعنا، وقبع فيه لا يبرحه كأنه سجن. وددت كثيرا أن أراه ولو مرة، أجلت البصر في النوافذ والشرفات والحديقة، لمحت زوجته وابنتيه ولكني لم أره أبدا، وكان اختفاؤه مثار الأحاديث، فهو لا يغادر البيت ولا يظهر في نافذة ولا يتمشى في الحديقة، وتعرض المناسبات في الشارع فلا يزور ولا يجامل، فكيف يمضي وقته، وكيف يطيق سجنه ، قال جعفر خليل: إنه ينفرد بنفسه لأنه لا صديق له.
وقال رضا حمادة: إنه يخاف انتقام الشعب.
وقال سرور عبد الباقي: يقال إنه فقد البصر وعجز عن الحركة وإنه يتكتم ذلك حتى لا يشمت الناس به.
وكان له ابن وابنتان، فأرسل ابنه إلى إنجلترا ليباشر دراسته الثانوية خوفا عليه من انتقام الطلبة في القاهرة، وسمعنا فيما بعد أنه التحق بكلية الطب في لندن، ثم عمل هناك طبيبا وتزوج، وتجنس بالجنسية الإنجليزية. وأما البنتان فكانتا تلعبان في حديقة البيت، وكانتا وسيمتين جذابتين فعجبت كيف ينجب الوحش مثلهما، ولما حجبتا - عن الشباب - كان عزفهما على البيان يترامى إلينا في الشارع، فعجبت مرة أخرى كيف يعاشر الوحش الموسيقى والألحان، وحوالي عام 1935 تزوجتا من عريسين مجهولين، ولم يعد في البيت إلا الرجل وزوجته، ثم شاع في الحي أنه هجر بيته تاركا زوجته وحدها، وقيل - وأكدت زوجته ذلك - إنه أقام في الأسرة في الحجرة المعدة لاستقبال زوار المقبرة في المواسم، وإنه أوصى بأن يدفن بعد موته دون جنازة أو احتفال، وكانت زوجته جميلة وطيبة، وقد خرجت من عزلتها عقب هجرته إلى المدفن، فزارت الجيران، واكتسبت ودهن بيسر، وأصبح لها مكانة مرموقة في الحي، وكل ما عرف عن الرجل الوحش عدا ذلك فمرجعه إلى رجال الجيل السابق من قدامى سكان الحي، قالوا عنه إنه كان غلاما منطويا على نفسه، ولكنه كان مهذبا، ورغم اجتهاده فشل في دراسته حتى اضطر أبوه - وكان ناظر وقف صغير - إلى إلحاقه بالمدرسة الحربية وهو ساقط ابتدائية، متشفعا بصداقته لهربرت باشا ناظر المدرسة في ذلك الوقت، ولدى تخرجه عمل في السودان، فأثبت في الخدمة كفاءة حازت تقدير الإنجليز، وخدمت سياستهم الموضوعة بحذق في جباية الضرائب بقسوة لتنفير المواطن السوداني من الضابط المصري، ومن ثم نشأت بينه وبين الضباط الإنجليز صداقة حميمة. وكان عشماوي جلال يعجب بالإنجليز إعجابا فاق الحدود، ويحبهم حبا عظيما، ويتيه بصداقتهم ويعتدها عزته الأولى في الحياة، وكان يمضي إجازته السنوية في إنجلترا سائحا ومستطلعا حتى آمن بأن الإنجليز هم سادة البشر، وأنهم المبعوثون من العناية الإلهية لتمدين البشر وخاصة المتأخرين منهم كالمصريين. وأخبرني رضا حمادة أنه بسبب آرائه تلك احتدمت المناقشة بينه وبين والده الدكتور يوما حتى تبادلا كلمات قاسية قطعت ما كان بينهما من علائق المودة والجيرة.
ولما قامت ثورة 1919 دعي الجيش المصري لمساعدة جيش الاحتلال في قمع الثورة والقضاء على الثوار، ولكنه لم يحز الثقة أبدا، وافتضح تعاطفه مع الثورة، وولاؤه لزعيمها، بل وتصديه جهارا للدفاع عنه عندما تآمر أعداؤه على الغدر به، ولكن شذ عن ذلك عشماوي جلال باندفاعه الجنوني في الهجوم على الثوار والغدر بهم وتعذيب زعمائهم من الطلبة، حتى فاق الإنجليز أنفسهم في عنفهم وقسوتهم، وحتى احتل في قلوبهم منزلة لم يحتلها مصري من قبل، وأبغضه مواطنوه حتى الموت، ولم يعطف عليه السلطان لعلمه بأن إخلاصه كان وقفا على سادته الإنجليز لا عليه، وبذلت محاولات لقتله لم تكلل بالنجاح، وإن إصابته شظية قنبلة وطنية إصابة سطحية في ساقه. ولم يكترث الرجل لموقف الشعب منه، وتمادى في ضلاله كأنما كان يؤدي فريضة دينية، وقالت زوجته ضمن أحاديثها عنه مع جاراتها إن والدها طالبه يوما بالاعتدال وإنه قال له: قم بواجبك بلا تورط في الأعمال المتطرفة.
فقال له: إني لا أقوم بواجبي كضابط فحسب، ولكني أدافع عن مبدأ، فإني أعتقد أن استقلال مصر عن إنجلترا سيؤدي بها إلى الانحلال والفساد، وأننا إذا خرجنا من الإمبراطورية خرجنا من الحضارة!
وتوفيت زوجته بالسكتة قبيل الحرب العظمى الثانية فدفنت على بعد أذرع من مقام الرجل الوحيد في حجرة استقبال المدفن. ولحق بها في العام الأول من الحرب بعد أن تمكن منه تليف الكبد، ومن العجيب أن اسمه لم يمح من ذاكرة جيلنا حتى اليوم، وأن الكثيرين ما زالوا يحفظون الأغنية الشعبية التي وضعت بقصد التشهير به.
عصام الحملاوي
كان بيت آل الحملاوي يطل على شارعنا بضلع كما يطل على بين الجناين بضلع آخر، وهو أكبر بيوت الشارع، وذو حديقة واسعة تحيط به من جميع الجهات، ويتراءى من فوق أسواره العالية رءوس النخيل والمانجو بكثرة مذهلة، وكان ربه عصام بك من الأعيان والمضاربين في البورصة، وكانت أسرته تتكون من زوجة وثلاث بنات، وكان الحنطور يحمله في الذهاب والإياب، معلنا برنين جرسه عن تحركاته. ولم تكن الأسرة تنتسب إلى زماننا، ولا ألوانها البراقة تنتمي إلى جنسنا، وهي وحدة كانت مستقلة بذاتها، لا سبب يربطها بمن حولها من الجيران، فلا تزور ولا تزار، ولا تتبع تقليدا، ولا تحترم موسما، وإذا خرجت الأم وبناتها - راكبات أو راجلات - خرجن سافرات فبهرن الأعين ببشراتهن العاجية، وشعورهن الذهبية، وعيونهن الملونة. وخرق عصام بك المألوف والمعقول عندما دعا إلى بيته ممثلة مشهورة، وعندما مضت تتردد عليه في أيام محددة. وسرعان ما عرف أنه اتخذها عشيقة. بل نشرت مجلة الفن أنه أهدى إليها عقدا ثمنه عشرة آلاف جنيه. وكنا نتجمع في الشارع لنشهد مقدمها واستقبالها ونسعد بذلك حتى قال جعفر خليل: نحن نشاهدها بالمجان أما بقية المسرحية فلا يمكن تخيلها!
وتساءل خليل زكي: كيف يتصرف البك القواد أمام زوجته وبناته؟
فقال سيد شعير: يتصرف أمامهن كما يتصرفن أمامه!
وكان بيت سيد شعير أقرب بيوتنا إلى بيت آل الحملاوي، وكان آل الحملاوي يثيرون اهتمامه للدرجة القصوى، فجاءنا يوما وهو يقول: انكشف الغطاء!
والتففنا حوله متلهفين فقال: الهانم تعشق محمد الكواء! - محمد الكواء!
كنا نعرفه تماما فهو كواء الشارع، وإلى ذلك كان فتوة كما كان أعور، ولم نتصور أن الهانم الجميلة التي كنا نشبهها بماي موراي يمكن أن تعشق ذلك الأعور ذا الكرش المترامية والرقبة الغليظة، والوجه المفلطح. وقال سيد شعير: وهي تذهب إلى بيته متخفية في الملاءة اللف، رأيتها بعيني!
واستغنت المرأة عن الاستخفاء فكان الكواء يحمل الملابس بنفسه، ويذهب بها إلى البيت فلا يغادره إلا بعد ساعة أو ساعتين. وحدث أن اصطحب عصام بك الممثلة إلى رحلة خارج القطر، فكان الكواء يتردد على البيت لمناسبة ولغير ما مناسبة، ومضى يبيت فيه جهارا وبلا حذر. وفي أثناء ذلك كان البنات الثلاث يخرجن معا إلى أطراف العباسية الشرقية فيقابلن المعجبين ، أو يستقبلنهم مساء في حديقة البيت، ورأيت بين أولئك عيد منصور وشعراوي الفحام وقريبي أحمد قدري وضابط قسم الوايلي وطبيب أسنان الحي ومدرس فرنسي! وتوهمنا أن واجب الرجولة يطالبنا بالتحرش بالبيت وبالمترددين عليه، ولو بالقذف بالطوب من بعيد لصغر سننا ولضعفنا، ولكن شرطيا انبرى لحماية البيت، ربما بإيعاز من ضابط القسم العاشق. وكنت إذ ذاك غارقا في حب صفاء فغضبت أضعافا على سلوك بنات عصام، واعتبرته زراية وتلويثا لأسمى عاطفة في الوجود، ولكن بدءا من عام 1930 حدث ما خيب تقديرات أهل الحي جميعا، فقد تزوجت البنات الثلاث تباعا، وفزن بزيجات ممتازة! تزوجت الكبرى من مهندس، والوسطى من سكرتير وزير، والصغرى من محام ناجح، والأعجب من ذلك أنهن قاطعن حياة بيتهن مقاطعة شاملة فكون أسرا كانت مثالا في التوفيق والاستقامة! وفي الخمسينيات وما بعدها صادفت بعضا من أبنائهن من الشباب الموفق الناجح، ومنهم من عرف بالوعي السياسي التقدمي، وقد توفي عصام بك في أيام الحرب العظمى الثانية، في نفس الأسبوع الذي قتل فيه شعراوي الفحام. ووزعت التركة فورثت الهانم دخلا كبيرا، وكانت في الخمسين من عمرها، ولكن حيويتها فاقت سنها، كما احتفظت من جمالها بقدر موفور، ومكثت في البيت وحدها، وأصبح من النادر أن تزورها إحدى بناتها، وذهبنا في تفسير ذلك مذاهب لا تخلو من سوء، والواقع أن علاقتها بالكواء كانت وما تزال مستمرة، ولكن بدا أن الرجل أراد التخلص منها، حتى إنه صفعها مرة أمام دكانه وعلى مرأى من بعض الخدم، وهي تحاوره بما لم يسمعه أحد، ولم تمض أسابيع حتى نشأت علاقة جديدة بينها وبين القصاب، حتى قال جعفر خليل ضاحكا: الولية أرستقراطية ولكنها ذات ميول شعبية!
وفي أواخر أيام الحرب باعت البيت وغادرت الحي. ولكنها لم تغب عن ناظري طويلا؛ إذ كانت ترى جالسة في مقهى اللواء أو جروبي أو الأرجنتين، تشرب كأسا، ثم تمضي، وقد اصطادت شابا، حتى اشتهرت بذلك في وسط المدينة، ورأيتها في أثنيوس بالإسكندرية تلعب نفس اللعبة، وتغيب فترة - طويلة أو قصيرة - ثم تظهر مرة أخرى في نفس الأمكنة لتلعب نفس الدور، هذا والكبر يزحف والذبول يستفحل والفخامة تقل مما قطع بأن نقودها تنفد مثل أيامها. وكلما رأيتها من جديد أدركت أنها تتدهور وتقترب من النهاية المحتومة. لم تعد إلا عجوزا معدمة أو شبه ذلك، وسارع إليها الانحلال والتفسخ، وامتنعت عن الذهاب إلى تلك الأماكن الفاخرة أو اضطرت إلى ذلك، فقنعت بالتجوال في الشوارع في ملابس رثة ممزقة، ثم لم تعد تظهر إلا في جلباب وشبشب، وانتهى بها الأمر إلى التسول أو ما هو قريب من ذلك. لم أرها تمد يدا، ولكن بعض أصحاب المطاعم الصغيرة ممن وقفوا على سيرتها المشهورة، كانوا يتصدقون عليها بالسندوتش أو ببعض النقود، وما زلت كلما لمحتها أستشعر رجعا من الأسى وأستقبل فيضا من ذكريات الشارع القديم بالصورة التي كان عليها على عهد الفوانيس المدلاة من أعالي الأبواب والحقول المترامية والهدوء الشامل، تلك المرأة التي راحت ضحية لنهم جنوني بالحياة، والتي يسعى من حولها أحفادها الناجحون وهم على جهل تام بأشجانها ووحدتها.
عيد منصور
من مجموعتنا العتيدة، صادقها وصادقته، واتصلت بيننا الأسباب على مدى العمر، ولكنه كان وما زال الصديق بلا صداقة، وكان وما زال بلا قلب، حتى خليل زكي له قلب، وحتى سيد شعير له قلب، أما عيد منصور فلا قلب له. وكان يعيش مع أبيه وخادم عجوز ولا رابع لهم، أما أمه فماتت عقب إنجابه مباشرة، وكان أبوه تاجر عمارات، عمل مع اليهود طويلا، واكتسب الكثير من أساليبهم ومهاراتهم، وكان عجوزا فقد أنجبه وهو في الخمسين ولم يتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجته فكان عيد وحيده، وكان بخيلا، دقيقا، فظا، جامد المشاعر فربى ابنه تربية شديدة لا رحمة فيها ولا مهادنة، مصمما على إخراجه على نمطه، فلم يعرف صديقنا المعاملة العاطفية، ولا جرب الحنان أو الرحمة، كأنما كان يتكون في معسكر لإعداد الإرهابيين، لذلك تجلت مواهبه منذ سن مبكرة، فنشأ عمليا، صارما، ذا عقل نفعي، وبلا قلب، وما زال كذلك حتى اليوم والغد، ومنذ الصغر اتخذ من القرش معبودا ومقياسا للرجولة والتفوق، ولم يتسع قلبه إلا لذلك المعبود الأوحد، وكما قلت فهو الصديق بلا صداقة، صديق بحكم الجوار والزمالة واللعب وعشرة العمر، ولكن بلا عاطفة ولا مودة ولا حب حقيقي، يضحك للكارثة كما تضحك للنكتة، فلم يعان أي تأثر لموت شعراوي الفحام ولا لموت جعفر خليل، ويوم قتل زميلنا بدر الزيادي في الإضراب لم يكن يخفي ارتياحه لخلو الميدان من منافسه في رئاسة فريق الكرة، ولما شعر يومها بعيني تحرقانه عض على أسنانه ليمنع ضحكة من ضحكاته القاسية فقلت له: أنت شيطان!
فهمس في أذني: ربنا يسمع منك!
ثم بمزيد من السخرية: لا فرق بيني وبينكم إلا أنني صادق غير منافق!
واعتاد أن يعيش بحكم تربيته ومزاجه خارج دائرة تقاليدنا وديننا وأشواقنا، بحكم تربيته ومزاجه، وبلا دخل من تفكير أو فلسفة، وبلا دافع من الفساد والشقاوة، كما كان الحال مع خليل زكي وسيد شعير، فلم تحتشد قواه إلا للعمل والربح وحدهما، حتى الجنس - وهو الترفيه الوحيد الذي مارسه - لم يشغل إلا هامش وقت فراغه. وما إن حصل على البكالوريا عام 1930 حتى أشركه أبوه في العمل، وظل يدربه حتى مات عام 1935 مخلفا عليه ثروة طائلة. ورغم مغامراته في حديقة بيت آل الحملاوي فلا أعتقد أنه تعلق بامرأة مثلما تعلق بثريا رأفت، رآها وهو يعمل مع والده فاندفع في إغرائها، وقد قال لي: مر بي وقت وقعت فيه تماما تحت سيطرتها، ولو تمنعت علي تماما حتى النهاية لربما ...
وسكت فسألته: لربما تزوجتها؟ - على الأقل كنت فكرت في ذلك ...
فسألته: ألم تحزن أو تخجل من الغدر بها؟
فقال وهو يضحك: لا أظن ...
لم يعرف الحب، ولا رغب في الزواج، ولا حن إلى الأبوة، وحتى اليوم وهو في الستين أو جاوزها بقليل ما زال يعمل بنفس الهمة، ويجمع المال بنفس النهم، ولم يعرف للحياة غاية أخرى. وكنت أضيق به إذا سخر من عواطفنا الوطنية كما ضقت به يوم سخر من بكائي لوفاة سعد زغلول، ولكنه كان يستهين بكل ذلك ويقول: لولا الإنجليز، لولا اليهود، ما كان لهذا البلد حياة!
وظل يردد ذلك حتى آخر يوم للإنجليز في مصر. ومع أنه كان بخيلا كأبيه إلا أنه استن لنفسه سنة جديدة في البخل، فقرر ألا ينفق مليما لغير ما ضرورة بشرط أن يهيئ لنفسه حياة رغدة. - أنا أعزب وسأظل أعزب، وبلا وريث فيجب أن أتمتع بحياتي.
طالما احتقر الزواج واعتبره عجزا وغباء، ويبدو أنه لا يندم على قرار اتخذه أبدا، وكلما تقدم به العمر نعم برضاه عن نفسه وعن قراراته، ومنذ عام 1936 غادر حينا بعد أن باع البيت، وأقام في فندق مينا هاوس إقامة دائمة مفضلا الفندق لما يوفره له من خدمة شاملة، وليعفيه من هموم المسكن المستقل المتنوعة، وفي الوقت نفسه استأجر بيتا ريفيا في الهرم لمغامراته النسائية المتقطعة، إذ لم يكن يحب العلاقات الطويلة، ويفضل غواني الملاهي الليلية من الأجانب، ولم يضن على نفسه بفاخر الطعام والشراب مع اعتدال تام في الخمور، ونفور طبيعي من المخدرات. وكان يقضي لياليه في سمر تجاري مع العاملين معه في حقل تجارة العمارات، ولكنه لم ينقطع عنا في ليالي سهراتنا الأسبوعية. وكان يهمه أن يقارن بين نجاحه وبين نجاح أصدقائنا أمثال الدكتور سرور عبد الباقي والأستاذ رضا حمادة، ولم يخف إدلاله بالتفوق عليهما في الثروة التي يعتبرها القيمة الأولى والأخيرة في الحياة .. وقد داعبته يوما قائلا: ها هو خليل زكي يناقشك في النجاح والثروة!
فقال باحتجاج: إنه قذر حقير.
فسألته: أتعتبر نشاطك المالي نشاطا شريفا؟
فقال بصراحة معهودة فيه: الشرف تتغير معانيه من بيئة لأخرى، قد أقوم بصفقة تعتبر في نظرك نهبا، ولكنا نعتبرها خبرة وذكاء، ولكني أحتقر أساليب خليل زكي التي تعد من خبرة الفقراء!
وأحبته غانية إفرنجية، ومضت تراسله، فكان يقرأ علينا رسائلها ساخرا ويقول: هكذا تتوهم المرأة أنها تحب إذا رغبت في الاستحواذ على رجل وامتلاكه!
وتجلت عواطفه العامة في أبشع صورة يوم نشبت الحرب بيننا وبين اليهود عام 1948، حتى خيل إلي أنه يكره وطنه لأسباب لا أدريها، أو أن مصالحه التجارية أفسدت عليه الميول التي نعتبرها فطرية، وتكرر ذلك الموقف منه عام 1951 لدى إلغاء المعاهدة وكفاح القنال، ولذلك كان يكره الوفد بالرغم من لامبالاته السياسية بصفة عامة، على أن حياته واصلت مسيرها في استقرار حتى قامت ثورة يوليو 1952. ومع أن الثورة لم تقتحمه بصفة عامة إلا أنها زعزعت طمأنينته وأقلقت ثقته. توالت عليه الهموم بإلغاء النظام الملكي وإعلان الإصلاح الزراعي والجلاء. توثبت في أعماقه غريزة الدفاع عن النفس، وأدرك - وإن لم يكن هدفا مباشرا - أنه ضمن الجبهة التي تهب عليها العواصف، وأنها قد تقتلعه عاجلا أو آجلا، وهيأ له الاعتداء الثلاثي عملية نقل دم، ولكن سرعان ما انطفأت شعلة الأمل، واختفى من الميدان كثيرون من أصدقائه اليهود حتى قال لي يوما: كم أتمنى أن أهرب أموالي وأهاجر!
ولما قرأ الوجوم في وجهي قال: لم تعد مصر بالمقام الصالح للأذكياء!
ثم ضحك ضحكته القاسية وقال: لو لم أكن مصريا لتمنيت أن أكون مصريا.
وتابع نشاطه بنفس القوة بالرغم من مخاوفه، واسترد أنفاسه في يونيو 1967، ومع أنه راقب الأحداث التالية للهزيمة بدهشة وذهول إلا أنه لم يفقد الأمل هذه المرة، وقال لي بشماتة: لا مفر!
وقال أيضا: طبعا سمعت عن صحوة الموت!
ومرت أشهر، وعام وعامان وثلاثة أعوام، وتحسنت الأحوال، وصلبت الإرادة، وتجددت آمال النضال، ولكن ذلك لم يهزمه وإن أقلقه أحيانا، واعتصم بفكرته الثابتة، وغذاها بمتابعة الإذاعات المعادية والإشاعات المغرضة، ولما وجد مني ومن رضا حمادة اتهاما لوطنيته قال: لا وطن بعد اليوم إلا وطن المصالح، فإما أن تكون أمريكيا وإما أن تكون سوفييتيا، إما أن تقبل الحرية والإرادة الخلاقة والإنسانية، وإما أن تقبل النظام والعدالة العمياء والإرادة الميكانيكية!
فقد الأمل في الإنجليز، وأصبح حلمه الذهبي أن تسيطر أمريكا على الشرق الأوسط، وأن تحدد له مدارا حضاريا في مجالها الحيوي، يلعب فيه العرب واليهود دورا متكاملا.
هكذا علمته المصلحة أن يتكلم في السياسة، وما زال يعمل، يشيد العمارات ويبيعها، يقيم في مينا هاوس، يستمتع بحياته كأعزب مقطوع من شجرة، ويمارس الجنس كل شهر مرة، ويزورنا في أوقات محددة تحية لعشرة نصف قرن، صداقة بلا حب حقيقي ولا احترام، نراه مخلوقا شاذا قد من حجر، ويرانا مجموعة من الحمقى العابثين بلا قيمة حقيقية.
غانم حافظ
كان مدرس الرياضيات في المدرسة الثانوية، وكان وقتها شابا، عرف بالأدب والوقار وحسن المعاملة، فلم يخرج تلميذ في معاملته عن حدود الأدب، حتى الذين عرفوا بالشقاوة مثل جعفر خليل وبدر الزيادي وعيد منصور. طلبه عيد منصور مرة لدرس خصوصي بعد أن أقنع أباه بأن أجرة الدرس الخصوصي أرحم من مصروفات سنة إعادة. وقابل غانم أفندي حافظ والد عيد فسأله الرجل عما يطلب؛ فطلب ريالا في الساعة، ولكن الرجل فزع، وقال: إنه لا يدفع أكثر من شلن، فابتسم غانم أفندي حياء، واقترح أن يعطيه الدرس مجانا بشرط أن يحضره مع تلميذ آخر في نفس الحي، وقد كان. وتلقى عيد منصور درسا خصوصيا في الحساب مجانا طيلة شهرين! وقد رأيته وهو يبكي يوم مصرع بدر الزيادي، وكان جزاؤه منا حبا واحتراما. وبعد التحاقي بالجامعة عرفته عن كثب في مقهى الحي، فتحولت التلمذة إلى صداقة. وكان أهم ما يميزه دماثة الأخلاق وهدوء الطبع وأناقة الملبس، كان يجالسنا في يوم واحد في الأسبوع - وخاصة في العطلة الصيفية - يدخن النارجيلة، يصغي في أدب ومجاملة، وقليلا ما يتكلم. وكان يعالج شتى الموضوعات في إطار طبعه الهادئ، ومهما يكن من عنف الموضوع وشدة حرارته فإنه يتحول على لسانه همسا عذبا تحيطه هالة باسمة. لم ير غاضبا أو محتدا أو صارخا، حتى السياسة كان يترجمها حديثا جذابا لطيفا غاية في الوداعة، ولو هوجم حزبه المحبوب الوفد، وإذا تصدى للدفاع قال: إنهم ناس طيبون!
أو يقول: مصطفى النحاس؟ .. إنه رجل طيب مبارك!
وأقسى ما يذهب إليه في الدفاع أن يقول: سامحك الله!
واقتصر نشاطه السياسي على ذلك، وعلى التوجه يوم الانتخاب - إذا تقرر إجراء انتخابات حرة - إلى اللجنة لإعطاء صوته لمرشح الوفد. ولذلك لم يشترك في ثورة 1919 إلا بقلبه وحده. وكان جم التواضع، لا يخجل من أصله بخلاف الكثيرين من أهل طبقته، فحدثني مرة عن أصله قائلا: كان أبي شرطيا.
ثم قال: وكان همه أن يجعل مني شرطيا غير أن جارا لنا - تاجرا - نصحه بإدخالي المدرسة الابتدائية، ففعل، ونجحت نجاحا استحققت عليه المجانية حتى نلت البكالوريا، ولم أجد مدرسة ميسرة أمامي إلا المعلمين فدخلتها!
وتزوج من كريمة مدرس اللغة العربية، وكانت حاصلة على الشهادة الابتدائية. - وكانت أسرة زوجتي على تواضعها أرقى من أسرتي؛ فصادفتني متاعب مؤسفة.
ثم قال بشيء من الحزن وفي صراحة مؤثرة: كان الموقف يتطلب شخصا أصلب مني! ولكن زوجتي أنجبت لي ثلاثة ذكور!
كان له يوم ترفيه واحد يمضيه في المقهى، ولا يغادر أهله بعد ذلك إلا لعمل، ومرت أعوام حافلة بالتاريخ وهو قابع في عشه يراقب الأحداث من بعيد، يناقشها بهدوء، ويعلق عليها برقة، مركزا على تربية أولاده الثلاثة حتى تخرج بكريه ضابطا في سلاح الفرسان، والأوسط مهندسا ثم التحق بالجيش، والثالث بيطارا. وقد نجا ابناه من حرب 1956 بأعجوبة فحمد الله وشكره، وواصل عمله حتى أحيل على المعاش عام 1960، وهو يتمتع بصحة جيدة وحياة زوجية سعيدة، ولما احتشدت قواتنا في سينا في أواسط عام 1967 خفق قلبه بعنف بعد طول هدوء، وراح يسأل كل من هب ودب: حرب أو لا؟
ووقعت الواقعة، وانحسر الظلام عن شيء من النور، فرجع الابن الأوسط مصابا إصابة غير قاتلة، أما بكريه فاعتبر من المفقودين، وهزته الصدمة من الأعماق، وتبدد هدوءه التقليدي فانهار انهيارا يدعو للرثاء، وكان يحب أبناءه كأم، ورفض أن يصدق أن ابنه قتل، وظل يحلم دائما بمعجزة تعيده إليه سالما. وما لبث ابنه الأوسط أن تماثل للشفاء فعاد إلى الجبهة، وبقي الرجل ممزقا بين أحلامه عن المفقود وخوفه على المقاتل، وهو يتابع أنباء الجبهة ساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم، ترجفه أخبار الغارات في الأرض والسماء، ويخذله إيمانه رغم رسوخه، ويزلزله حبه العميق لأولاده، وأراه أحيانا شيخا عجوزا محني الظهر قليلا، أبيض الشعر، يجلس شارد النظرة، يفكر في المجهول، لا يبشر منظره بقدرة على مواجهة الحياة بمطالبها الجامحة، فأحتار طويلا بين العتب عليه والرثاء له، ثم أنضم إليه مواسيا، ثم نتبادل التخمينات عن الغيب.
فايزة نصار
تعرفت بها في بيت عجلان ثابت بالجيزة حوالي عام 1960 كما تعرفت بزوجها في نفس الزيارة. كانت في الثلاثين، لوجهها طابع ريفي رائق بالرغم من أناقتها العصرية، وهي وإن تكن متوسطة الجمال إلا أنها ذات جاذبية جنسية قوية، أما زوجها - عبده إبراهيم - فصاحب جراج في الخمسين، بدين مترهل خامل المظهر، يشترك في الحديث بالنظرة أو الابتسامة البلهاء، ولا يكاد يتكلم.
قال لي عجلان: إنها جارتنا في نفس العمارة وصديقة زوجتي.
فقلت: زوجها غير مقنع! - ولكنه ذو دخل محترم، أنجب منها طفلين، وهي أم لا بأس بها وإن تكن أمية! - تبدو ذكية. - في الأصل كانت ابنة بياعة جبن وزبدة، ولكن استعدادها للتأقلم قوي، وهي تتقدم بفضل الإذاعة والتلفزيون والصديقات.
وفي زيارة تالية لبيت عجلان ثابت قابلت فايزة نصار، وكانت بصحبة رجل أربعيني حاد البصر قوي الجسم، علمت أنه يدعى جلال مرسي وأنه صاحب كازينو الهرم، وقال لي عجلان ثابت باستهتاره المعروف: في المرة السابقة عرفت زوج فايزة، وها أنت تعرف في هذه المرة عشيقها!
وضجت الحجرة بالضحك، زوجة عجلان وفايزة وجلال صاحب الكازينو، وقال جلال: لا تصدق!
فسألته فايزة بنبرة وعيد: هل تنكرني؟
فأحنى رأسه بخشوع وقال لي: صدق يا سيدي.
قال عجلان ثابت: وهو صديق الزوج!
ودعتني فايزة لزيارة بيتها فتوطدت العلاقة بيني من ناحية وبينها وبين زوجها من ناحية أخرى. وذهبت في صحبتهما مرات إلى كازينو الوادي، فكان ينضم إلى مائدتنا جلال مرسي، ولمست مدى عمق العلاقة بينه وبين الزوجين. ولم أقطع برأي في مدى معرفة الزوج بالعلاقة بين زوجته وعشيقها، وحتى عجلان ثابت لم يعلم أكثر مما أعلم، ولكنه قال لي: تعود على هذه العلاقات حتى تبرأ من عبوديتك البرجوازية.
ومرة وكنا مجتمعين في بيت عجلان أنا وعجلان وزوجته وفايزة. فأشار إلي دون تمهيد، وبلا مناسبة وقال لفايزة: إنه يعاني من عشقه لك!
وانتقلت إلى جانبي بخفة وطوقت عنقي بذراعها السمراء البضة وقالت: أرني!
فقال عجلان ضاحكا: بهوادة حتى لا يفزع.
فقالت: ولكن تحت شرط.
وسألها عن الشرط فقالت: ليلة واحدة.
ثم وهي تنظر في عيني: المرأة الفاضلة يكفيها زوج وعشيق واحد!
هكذا كانت في مزاحها، ولكنها - فيما علمت - كانت تحب جلال حبا حقيقيا، وكانت في الوقت نفسه تحرص على نقاء بيتها، وتربية طفليها تربية حقيقية، وقال لي عجلان: إن ما يتعبها حقيقة هو طموحها، فبالرغم من أميتها تحلم بأن تكون شيئا عظيما!
فتساءلت: لعله المال! - حياتها رغدة، ولكنها تحب المال، وشيئا أكثر من المال. - أي شيء؟ - الفن إن صدق تخميني!
ثم قال لي: كلفت أن أدعوك لزيارتهم معي.
فقلت وأنا أتساءل عن السبب، فقال: يبدو أنه أمر هام، وسنعرفه في الحال.
وجدنا فايزة وزوجها وعشيقها فسلمنا وجلسنا ونحن نشعر بأن توترا ما يكهرب الجو والوجوه، وسرعان ما قالت فايزة: المسألة وما فيها أن أحد المخرجين عرض علي دورا هاما في فيلمه القادم!
ونظرت في وجوهنا وقالت: ما رأيكم؟
ولما رأيت عينيها تطاردانني قلت: المسألة تتعلق بك وبالسيد عبده أولا وأخيرا.
فقال عبده إبراهيم وهو يرفع وجهه ليجد الكلام ممرا خلال لغده: سيدات العائلات يمثلن في هذه الأيام.
ولكن جلال مرسي تساءل: أود أن أعرف كيف ومتى رآك، ذلك المخرج؟
فأجاب الزوج: رآنا ونحن عندك ليلة في الكازينو. - وهل تجلت له موهبتها من النظرة الأولى؟ - هذا شأنه لا شأننا.
فقال جلال: كصديق مخلص لكما لا أوافق على دخولها ذلك الميدان.
فسألته فايزة وهي تبدو سعيدة رغم التوتر العام: لم؟ - لم تظهري فيما سبق أي اهتمام بالفن. - لم توجد مناسبة. - إنه لا يولد فجأة ولا لمجرد أن مخرجا اقترحه. - بل هكذا يولد.
فقال الزوج: أظن ذلك.
فقال جلال بحدة: إنهم لا يعرضون الأدوار لوجه الله.
فقال عجلان ثابت: لوجه الفن.
فقال جلال: ولا لوجه الفن!
فقالت فايزة: لست قاصرا!
وقال الزوج: إنها أهل للثقة.
فقال جلال بإصرار: كصديق مخلص لكما لا أوافق.
فقال الزوج: هذه فرصة لا يجوز إهمالها.
ووافق عجلان على رأيه كما وافقت أنا، وكأنما كانت مؤامرة بلا تدبير سابق، وقام جلال مرسي فحيانا ومضى وهو يقول: قلت رأيي وأنا مصر عليه.
وقال عجلان بخبث: عليك أن تقابل المخرج في أسرع وقت.
وعندما غادرنا البيت أنا وعجلان قلت له: عبده إبراهيم بكل شيء يعلم!
فضحك عاليا وقال: وانتهز الفرصة فوجه إلى غريمه ضربة موفقة. - ولكنها ماذا ستفعل فيما ترى؟
فتفكر قليلا ثم قال: إن صح ظني فطموحها أقوى من عشقها!
وصدق ظنه، قامت بتمثيل الدور، وكانت مفاجأة فنية لا يستهان بها، ودعيت إلى تمثيل دورين جديدين.
وهجرها جلال فلم تسع لاسترداده، وما لبث زوجها أن طلقها بحجة حماية بيته وطفليه من الجو الفني الذي أخذ يغزو بيته، ودل بقراره ذلك على أن خموله لم يكن إلا قشرة تخفي وراءها حقدا طويلا. وانتقلت فايزة إلى شقة صغيرة وأنيقة بالزمالك، وقد زرتها يوما بصحبة عجلان فالتقيت عندها بالدكتور صادق عبد الحميد، وعشيقته الصحفية نعمات عارف زوجة الدكتور زهير كامل التي تخصصت أخيرا في النقد الفني، ووجدت فايزة مرحة كعادتها، وسعيدة بالنجاح، حتى قال لي عجلان ونحن راجعان معا: محتمل أن تحن أحيانا إلى طفليها ولكنها ليست بالتي تنهار بسبب ذلك، أعترف لك بأنني أسعد بنجاح أي فلاح أو فلاحة، مهما يكن ثمن ذلك النجاح!
فتحي أنيس
لفت نظري مذ رأيته في أول يوم التحقت فيه بالوظيفة. حسبته موظفا كبيرا أو سليل أسرة عتيقة، وكم دهشت عندما تبين لي أنه كاتب القيد بالسكرتارية. كان في الثلاثين من عمره، شهادة ابتدائية، مرتب ثمانية جنيهات، متزوجا وأبا لخمسة أبناء، ولكنه كان طويلا رشيقا عظيم القسمات، حتى قال لي الأستاذ عباس فوزي: انظر إلى عبث الطبيعة، جادت عليه بمنظر يليق بموظف استقبال بالخارجية، ولكنها ضنت عليه بما ينفعه أو ينفع الناس.
وكان يقول عنه أيضا: إنه حي لا يرزق!
وكان مسئولا عن أم وأختين مطلقتين، فاستقبل أيام الحرب وارتفاع مستوى المعيشة وهو على تلك الحال. ولم يكن نادرا أن يقترب من عباس فوزي أو عبد الرحمن شعبان، ويقول ببساطة: من يعطيني قرشا أشتري به سندوتش فول وله الجزاء الأوفى في يوم القيامة؟
وكان إذا لمح أحدا من الأهالي في الممشى الخارجي بادر إليه فيسأله إن كان في حاجة إلى خدمة يؤديها له عن طيب خاطر. وفي الختام يسأله بلا حياء: هل أجد عندك سيجارة؟
وعطف الأستاذ عبد الرحمن شعبان عليه يوما، فقال للأستاذ عباس فوزي: حال فتحي تستحق النظر.
فصدق الرجل على قوله وقال: العين بصيرة واليد قصيرة!
فقال عبد الرحمن: أسعفوه بوظيفة يمكن أن تدر عليه رشوة!
فقال عباس فوزي باسما: يوجد فرص في المستخدمين والحسابات والمخازن والمشتريات ولكنه بدون مؤهلات.
فقال عبد الرحمن في شبه غضب: يوجد مديرون بالابتدائية. - أعني بالمؤهل الوساطة ويبدو أن أعظم من يعرف في الحياة هو عم صقر الساعي!
واهتدى إلى وسيلة يستغل بها منظره في مقاومة الجوع، فكان يتقدم إلى أسرة ما كخاطب، فيقابل بالترحيب من ناحية المبدأ حتى تتم الاستعلامات عنه، وفي الفترة الموضوع فيها تحت الاختبار يزور الأسرة فيستقبله رب البيت، ويتعمد البقاء حتى وقت الغداء أو العشاء، ولما يدعى للمائدة يلبي وهو يقول: لا يأبى الكرامة إلا لئيم.
ثم يأكل بوحشية وكأنما يخزن الطعام ليجتره بقية الأيام، وتجيء نتيجة الاستعلامات في غير صالحه طبعا، فيعتذرون من عدم قبوله، فيذهب وقد فاز ببضع أكلات خيالية، ويواصل غزواته في أحياء المدينة حتى تسربت أنباؤها إلى الموظفين فجعلوا منه نادرة تروى. وما ندري يوما إلا وهو يدخل علينا مرتديا جلبابا! وكان الأستاذ طنطاوي إسماعيل ما زال رئيسا للسكرتارية فاستدعاه وسأله: ما معنى ذلك يا فتحي أفندي؟
فقال ببساطة: البدلة استهلكت تماما، قلبتها منذ ثلاثة أعوام فلم يعد بها رمق، ولا أستطيع أن أشتري زرارا!
فقال الرجل في حيرة: ولكن ذلك يخالف التعليمات!
فقال بثقة: لا نص في التعليمات على ذلك!
وتداولنا إن كان ذلك يجوز أو لا يجوز دون أن نهتدي إلى علاج. وزاد الحرج عندما فاجأنا الوزير الوفدي الجديد بزيارة تفتيشية، ولما رآه الوزير ظنه ساعيا فقال له: ألم يصرفوا لك بدلة السعاة؟
فأجاب بإيمان: أنا موظف يا معالي الباشا، ولكني لا أملك ثمن بدلة جديدة!
فدهش الوزير وسأله عن وظيفته وشهادته ومرتبه وعدد أولاده الذين بلغوا التسعة عدا في ذلك التاريخ، ثم سأله ضاحكا: أليس لك هواية إلا الإنجاب؟
فقال فتحي بجرأته المعهودة: أنا من شعب الوفد ولن أضام في عهدكم!
وقد منحه الوزير علاوتين استثنائيتين، ثم أدركته علاوة الغلاء التي تقررت لأول مرة، فاشترى بدلة ولكن حاله لم تتحسن إلا قليلا. وذات صباح همس لي عم صقر وهو يقدم لي القهوة: أخيرا وفق ابن الشحاذة!
فسألته: فتحي أنيس؟ - نعم. - كيف؟ - سيتزوج من أرملة غنية جدا. - حقا؟ .. وجميلة؟
فضحك قائلا: عمرها ستون عاما، وهي في الجملة كالمومياء!
وصح الخبر كجميع أخبار عم صقر، وتزوج فتحي من أرملة عجوز تركية مستحقة في وقف كبير، وقيل إنه تزوج بموافقة زوجته الأولى إيثارا لسعادة الأولاد على نفسها. وتغير حاله بصورة ملموسة، وظهرت عليه النعمة في ملبسه وصحته ورونقه، ورغم كل شيء أثار حسد الكثيرين، وكان عباس فوزي يتهكم به فيسأله: كيف طاوعتك نفسك على معاشرة مومياء؟
فيجيبه بصراحته وبساطته: عندما يملأ الإنسان بطنه بثلاثة أو أربعة أصناف من اللحوم وخمس كئوس من الويسكي؛ فإنه يستطيع أن يعاشر عزرائيل نفسه!
وعقب حرب فلسطين الأولى 1948 توفيت زوجته الجديدة مخلفة عليه ثروة طائلة، ولم يفلح في إخفاء أفراحه حتى في الأيام الأولى للحدث، واستقال من وظيفته، وفكر في إنشاء عمل حر، حتى هداه تفكيره إلى فتح مقهى كبير في التوفيقية، وتحمل خسائر عام أو عامين حتى يتقن مهنته الجدية، ثم نجح المشروع نجاحا منعدم النظير، وانقطعت أخباره عني بطبيعة الحال حتى بعثها من الظلمات عم صقر عقب خروجه من السجن، فحدثني عن ثرائه الفاحش وما ملك من عمارات، وعن معيشته الحالية في قصره بالهرم، وعن نجاح أبنائه في المدارس والكليات، وقد بلغ عددهم اثني عشر ولدا. أخبرني كذلك بأنه أبقى على زوجه الأولى ولكنه اتخذ من راقصة إيطالية عشيقة له. قال عم صقر: إنه اليوم في السادسة والستين من عمره، ولكنه قوي مهيب كرجل في عز شبابه، ويرافق راقصة إيطالية، فهل سمعت عن عاشق في مثل هذه السن؟ ولكنه الحظ، ألف ليلة وليلة، وكل ما عداه باطل.
قدري رزق
كان يتردد على شقة عدلي بركات الفاخرة في أوائل عام 1948، وكان في الثلاثين من عمره أو دون ذلك بقليل، وطالما جالسنا ببدلته الرسمية كضابط في سلاح الفرسان، فيضفي على المجلس من روحه مرحا وصفاء، وبدا قليل الاهتمام بالسياسة والشئون العامة، ولولا محاولة بذلت لاغتيال مصطفى النحاس ما فطنت إلى أنه ينطوي على ميول وفدية ورثها غالبا عن أبيه الذي كان عضوا بالهيئة الوفدية.
وكان ممشوق القوام أسمر واضح الملامح جذابها ذا شارب غليظ لا يني يغازله في إعجاب وارتياح، وفي جلسات الأنس التي اشتهر بها مسكن عدلي بركات شهدت له غزوات موفقة مع فنانات كثيرات. وفي أعقاب حرب 1948 اجتمع بنا في شقة عدلي بركات، وقد زايله المرح ووشت حاله عموما بامتعاض وقرف. وكنا - أنا ورضا حمادة - في غاية من الحزن، فطرحنا عليه العديد من الأسئلة لعله يروي غلتنا أو يبدد من أفكارنا بعض الظلمات، ولكنه لم يمس التفاصيل وقال بإيجاز: لقد ضحى بالجيش بطريقة دنيئة قصد بها القضاء على كرامته وأرواح رجاله.
وهز رأسه بضيق وقال: لا يمكن أن يمر ذلك بلا ثمن!
فقلت ببراءة: لكننا لم نهزم، الفالوجة نصر مبين.
فقال بحدة: بل هزمنا، وحوصرنا بين عدوين، عدو في الخارج وعدو في الداخل.
واستجابت نفسي لغضبه بقدر ما وجدته متجاوبا معها، وقال رضا حمادة: كل ذلك نتيجة لحكم أحزاب الأقلية الذي مكن لطغيان الملك.
فقال قدري رزق: ونتيجة أيضا لضعف الوفد الذي عجز عن تحقيق الإرادة الشعبية.
فاستاء رضا حمادة وقال: الوفد اعتمد دائما على ثورية الشعب، ولكن الشعب تخلى عن ثوريته!
فقال قدري رزق الذي لم أره من قبل على تلك الدرجة من السخط: الوفد هو المسئول عن تخلي الشعب عن ثوريته!
وتوثقت علاقته بنا في تلك الأيام، وتعددت لقاءاتنا بشقة عدلي بركات، وشهدنا معا تدهوره حتى انتحاره، ولكنه لم ينقطع عنا فكان يجتمع بنا في بيت رضا حمادة أو في مقهى الفيشاوي، ورجع إلى طبيعته الأصلية، فقل اهتمامه بالسياسة والشئون العامة، وعاوده المرح والمجون والتفرغ لغزو الحسان. ولما قامت ثورة يوليو 1952 اكتشفنا أنه كان ضمن مجموعة الضباط الأحرار؛ فعجبنا لقدرته الخارقة على الكتمان، وقد سهر معنا عشية الثورة في مقهى الفيشاوي، وجلس كعادته يضاحكنا ويسامرنا، وعدت معه قبيل منتصف الليل إلى العباسية مشيا على الأقدام من طريق الجبل، ثم ملت أنا إلى العباسية الغربية، وواصل هو سيره شمالا إلى مسكنه بشارع أحمد ماهر كما ظننت، أما الحقيقة فإنه لم يذهب ليلتها إلى بيته، ولكنه مضى صوب منشية البكري ليقود قوة صغيرة إلى احتلال مفترق طرق! وغيبته الأحداث عنا فترة غير قصيرة طرد في أثنائها الملك، ثم رجع إلينا وقد رقي إلى رتبة جديدة. وتتابعت التطورات الهامة مثل الإصلاح الزراعي والجلاء وغيرها، ونحن نتلاقى بانتظام أسبوعي في بيت رضا حمادة قبل اعتقاله، واستمر التلاقي بعد ذلك في بيتي أو بيته أو في مقهى الفيشاوي، وطيلة تلك المدة لم يخرج حديثنا عن السياسة التي لم يعد له من حديث غيرها، ولم يكن بيننا خلاف جدي، استطاعت الثورة أن تستأثر بقلوبنا وآمالنا في لحظة تاريخية أسطورية باهرة. وقال قدري رزق: اندثرت القوى الجهنمية التي كانت تعوق تقدم الشعب مثل الملك والإنجليز والحكام الفاسدون، ورجع الأمر إلى أبناء الشعب الحقيقيين، فهو حكم الشعب للشعب لخير الشعب، انتهى الفساد والانحلال، وسينطلق تيار الإصلاح والتقدم إلى الأبد.
وقلنا إنه آن للحلم أن يتحقق، وأن ينعم بالحرية والرقي والعدل ذلك الشعب الذي عانى الظلم والاستعباد والفقر والغربة آلاف السنين. أجل ساءنا بعض الشيء التوثب للقضاء على الوفد، وسأله رضا حمادة - قبل اعتقاله - أكثر من مرة: أليس الأفضل أن تتخذوا من الوفد قاعدة شعبية لكم؟
كما ساورتنا مخاوف من ناحية أمريكا، وخشينا أن تحل محل إنجلترا بطريقة أو بأخرى، بعد ما شعرنا بمدى تأييدها للنظام الجديد، ولكن قدري رزق قال: الأمريكان ذوو نفع كبير ولا خوف علينا منهم بفضل وطنية زعمائنا الجدد.
وحلت الأحزاب وضرب على أيدي الإخوان والشيوعيين، وكان قدري يتحمس لكل إجراء بلا قيد ولا شرط، حتى سألته مرة: ولكن من أنتم؟
فضحك، وتفكر مليا، ثم قال: نحن أصدقاء الوطنية والعروبة والثورة، وأعداء الفساد والتعصب والإلحاد!
وقال أيضا بحماسه الطيب: هدفنا تحرير الشعب مما يستعبده سواء أكان شخصا أم طبقة، فقرا أم مرضا، ثم دفعه إلى المكان اللائق به تحت الشمس.
ونغص صفونا ما أصاب صديقنا رضا حمادة في شخصه وابنه وزوجته، وشد ما تأثر لذلك قدري رزق وحزن، ولكن هون من وقع المأساة القوة التي لاقاها بها صديقنا الجلد الصبور القوي، وكان قدري يعجب به، ويقول عنه إنه رجل ولا كل الرجال، ويتعجب كيف أن رجلا مثله ورجلا مثل الدكتور زهير كامل ينبتان من أرض واحدة. وتتابعت أحداث مجيدة مثل الاتجاه نحو الكتلة الشرقية للتسليح، ومثل تأميم قنال السويس الذي بلغ بحماسنا درجة لم نعرفها من قبل، فثمل بذلك قدري رزق وثملنا. وقال لنا: أرأيتم؟ نحن مصريون أولا وأخيرا، لا أمريكيون ولا روسيون!
وتزوج قدري في تلك الفترة من كريمة أسرة كبيرة إقطاعية ممن طبق عليهم قانون الإصلاح الزراعي، وكانت مفارقة تستدعي الملاحظة وتحتاج إلى تفسير، غير أنه يمكن اعتبارها ظاهرة عادية إذا نظر إليها من الناحية العاطفية البريئة، ولم يغب عني أن صديقي كان فخورا بمصاهرة تلك الأسرة رغم ثوريته وإخلاصه وطيبته، وأما رضا حمادة فقال لي: إنها طبقة تتطلع إلى أن تحل مكان طبقة!
ثم كان الاعتداء الثلاثي وانقلابه على المعتدين، ولكن صديقنا قدري رزق أصيب في ساقه، وفقد عينه اليسرى فاضطر إلى ترك الجيش، وعين في وظيفة ثقافية كبيرة بوزارة الإرشاد. وبتوليته للوظيفة الجديدة بدأ اهتمامه بالثقافة لأول مرة في حياته، فكان يعمل نهارا ويدرس ليلا، وأثبت أنه عالي الهمة في التحصيل والإدارة. وكان في إجازة شهر العسل حينما نشبت الحرب فاستدعي من بين أحضان عروسه للقيام بواجبه العسكري فأصابه ما أصابه. ولما أعلنت القوانين الاشتراكية بعد ذلك بأعوام بدأ يدرس الاشتراكية بنفس الهمة التي درس بها الثقافة، وكان على استعداد دائما للإيمان بما تدعو الثورة للإيمان به؛ إذ إن إيمانه الحقيقي كان بالثورة، بالثورة وحدها. والحق أنه كان وما زال برجوازيا في أخلاقه وآماله وأحلامه وتقاليده، ولكنه كان وما زال برجوازيا ذا لسان اشتراكي، ولم يجئ ذلك عن نفاق أو خوف، ولكن بدافع إخلاص حقيقي للثورة وما تنادي به، وإني لأعده من أخلص الرجال وأنقاهم وأنزههم، كما كان من أشدهم سخطا على المستغلين والمفسدين ممن خانوا أمانة الثورة، ولما حاقت بنا هزيمة 5 يونيو 1967 زلزل لها كيانه حتى خيل إلي أنه يموت وهو حي، وتساءل فيما يشبه الهذيان: أيذهب ذلك التاريخ كله هباء؟!
ونظر في وجوهنا بوجه شاحب وتساءل مرة أخرى: أنركع مرة أخرى تحت أقدام الرجعيين والاستعماريين؟!
وكان يجاهد بعنف ليسترد أنفاسه اللاهثة، وليخلق في الضياع أملا جديدا، وليحول الهزيمة إلى درس وعبرة، وكلما مر يوم دون استسلام استرد بعضا من عافيته، وعكف على أرض الواقع الصلبة يحفرها بأظافره لعله يستخرج منها بعض قطرات من ندى الأمل. وما أشبهه في ذلك بالدكتور عزمي شاكر أو الدكتور صادق عبد الحميد، وكان يقول: ما تاريخ العرب الحديث إلا سلسلة من الهزائم أمام الرجعية والاستعمار، ولكن ما يكاد اليأس يخيم حتى ينبثق من ظلماته نور جديد، وهكذا ذهب التتار والصليبيون والإنجليز وبقي العرب!
وهو يريد للثورة أن تبقى، وأن تنتصر، مهما كان الثمن، كيلا تتعثر النهضة في زمن لم يعد يسمح بالتخلف يوما واحدا، ويتابع أنباء القتال وهو آسف على أنه لم يعد في إمكانه الاشتراك فيه، ويحزنه أن نتلقى ضربة دون أن نردها بالمثل، ولذلك فهو ينتظر على جمر اليوم الذي نستكمل فيه استعدادنا للقتال، إنه يعيش يوما فيوما بل ساعة فساعة في متابعة وقلق وترقب وأمل ومحاسبة للنفس لا هوادة فيها. وبصرف النظر عن آراء الأستاذ سالم جبر المتناقضة، وسخريات عجلان الحادة، وانتقادات رضا حمادة المرة؛ فإن قدري رزق يعتبر رجلا محترما ومخلصا من رجال ثورة يوليو، وقد يتعذر تعريفه على ضوء المبادئ العالمية، ولكن يمكن تعريفه بدقة على ضوء الميثاق، فهو يؤمن بالعدالة الاجتماعية إيمانه بالملكية الخاصة والحوافز، ويؤمن بالاشتراكية العلمية إيمانه بالدين، ويؤمن بالوطن إيمانه بالوحدة العربية، ويؤمن بالتراث إيمانه بالعلم، ويؤمن بالقاعدة الشعبية إيمانه بالحكم المطلق، وعندما يقبل علي وهو يعرج ويطالعني بعينه الباقية ينبض قلبي بالمودة والإكبار.
كامل رمزي
تعارفنا عام 1965 في بيت الدكتور عزمي شاكر، كان حديث عهد بالحرية بعد أن قضى في الاعتقال خمسة أعوام. وهو أسمر نحيل طويل أصلع كبير الرأس صغير العينين براقهما في الخمسين من عمره، دكتور في الاقتصاد، وكان أستاذا بكلية التجارة حتى تاريخ القبض عليه. قلت له: قرأت كتابك عن المذاهب الاقتصادية وأشهد بأنه أمتعني بقدر ما أفادني.
فشكرني وقال: كانت الحياة الجامعية تناسبني جدا!
وقال الدكتور عزمي شاكر: اتهم خطأ بالنشاط العملي أما الحقيقة فهي أنه أستاذ مفكر، لا يجاوز نشاطه مجال التفكير والتأليف.
وفي نفس الأسبوع الذي تعارفنا فيه ولي منصبا كبيرا، وقال لي عزمي شاكر للمناسبة: إنه مثال في العلم والحزم والنزاهة.
وكان صديقا لسالم جبر وزهير كامل، وعرفته بدوري لرضا حمادة وقدري رزق والدكتور صادق عبد الحميد، فنال احترامهم جميعا، ولكن لم يغال أحد في حبه! وقد أشعرني حديثه بالصدق والصراحة والعلم، وهو ممن أتموا تعليمهم بإنجلترا، وذو اطلاع شامل في الاجتماع والسياسة، وله قدرة فائقة في المناقشة والجدل، ويتكلم إذا تكلم بثقة وصراحة وقوة، ولا يؤمن في شيء بالحلول الوسطى، ولا بالمجاملة، ولا بالتسامح، بل يؤمن برأيه لحد التعصب، ولا يطيق المعارضة فهي تثير أعصابه وتخرجه عن الاتزان اللائق بمركزه، فسرعان ما يهدر غاضبا بالحجج والأدلة وكأنه يخوض معركة حامية. وهو يشبه عبد الوهاب إسماعيل في تعصبه على تناقضهما في الأسلوب، حتى قلت مرة للدكتور عزمي شاكر: إنه عالم ولكنه ذو عقلية دينية.
فقال: إنه متعصب بلا شك، ومشتعل في مناقشته، ولكن أعصابه لم تفسد بهذه الصورة إلا بعد تجربة الاعتقال.
وبمزيد من الاختلاط به عرفت زوجته وهي دكتورة في الاقتصاد أيضا، ومدرسة بكلية التجارة ومثال مشرف للمرأة المصرية. وعرفت له أسلوبا في الحياة يعتبر غريبا في عصرنا، فهو يميل إلى التقشف في ملبسه وطعامه الذي يشبه الرجيم، وإلى ذلك فهو لا يدخن ولا يذوق الخمر، وقد قال لي مرة: لم أعرف المرأة قبل الزواج، وقاومت جميع المغريات وأنا طالب في البعثة!
وأدهشني أن يصوم في رمضان رغم إيمانه الكامل بالمادية الجدلية وسألته: ما معنى ذلك؟
فضحك قائلا: كان أبي عاملا بسيطا، وكان متدينا، فربانا تربية دينية شاملة فنشأت في أحضان الأخلاق الإسلامية، ولم أستطع بعد ذلك التخلي عنها إلا فيما يناقض عقيدتي الجديدة، وكان الصيام فيما استبقيت من العادات القديمة، فهو رياضة تناسب سلوكي تماما.
وتفكر قليلا ثم قال: العظمة الحقيقية للدين لا تتجلى إلا عندما تعتبره لا دينا!
وذكرني في الحال بالحاج زهران حسونة، فذهلت للفارق الهائل بينهما مثل الفارق بين ملاك وشيطان، وقلت له: لا يمكن أن تخلو حياتنا من تناقضات كثيرة. - المهم أن نعمل للمستقبل. - وطبعا أنت تؤمن بالشيوعية؟ - ذلك حق.
فسألته باسما: أتعتبر نفسك مخلصا للثورة التي تعمل في جهازها؟
فقال بوضوح وقوة: خلقت لأعبد العمل وأخلص له. - إني أسأل عن إخلاصك للثورة؟
فأخذ شهيقا عميقا كأنه الترجمة الجسمانية لتفكيره وقال: لم أكن في يوم من الأيام ذا وجهين، وما دمت قد قبلت العمل في جهازها فأنا مخلص لها.
فقلت باسما: هذا هو الجواب الذي أسأل عنه، ولكن ينقصه شيء ما! - عظيم، أنا مخلص لها ولكني غير مؤمن بها، أو غير مؤمن بها إيمانا كاملا، حسبي في الوقت الراهن أنها تمهد السبيل إلى الثورة الحقيقية!
فأشرت إلى صديقنا الدكتور عزمي شاكر وقلت: ما أشبه موقفك بالموقف الذي اتخذه هذا الرجل من بادئ الأمر.
فضحك، ورغم ضحكه قال بحدة: لقد سلم قبل المعركة أما نحن فسلمنا بالأمر الواقع بعد أن أثبتت المعركة عقمها. - لعله كان أبعد نظرا! - اسمح لي في هذه الحال أن ألعن بعد النظر!
وكان عزمي شاكر كبير الإعجاب به، وكذلك رضا حمادة على تناقضهما في المبدأ، وكانت شخصية كامل رمزي تغرينا بتحليلها وتقييمها، ويوما قال رضا حمادة: لقد تشفعت به في نقل موظف فأعطاني درسا قاسيا في فساد الوساطة، ومع أنني استأت في نفسي إلا أنني ازددت إعجابا به.
فقال عزمي شاكر: بل أوصاه وزيره بموظف فاعتذر من عدم التنفيذ حرصا على مبادئ العدالة!
فقلت بدهشة: وزيره نفسه؟ - أجل، إنه خلق صلب غير قابل للثني، ولذلك أشك كثيرا في إمكانية بقائه في منصبه!
فسأله رضا حمادة: هل يستغنون عن موظف لاستقامته؟ - إن الأسباب التي تدعو للاستغناء عن موظف لاستقامته أكثر من الأسباب التي تدعو للاستغناء عنه لانحرافه!
واعترف لي كامل رمزي نفسه بأن أحدا في إدارته لا يحبه بدءا من الفراش حتى الوزير، قال: لا أستطيع أن أهتم بعواطف الناس والمصلحة العامة معا، إن منصبي يحتاج لألعبان لا لموظف أمين!
ثم قال بازدراء: نحن شعب المصاطب والمجاملات والمساومات.
وضحك عاليا وقال: لقد عبدنا مصطفى النحاس يوما لا لشيء إلا لنزاهته وصلابته في الحق، وهما صفتان جديرتان بكل مواطن عادي، ولكن لندرتهما جعلنا منهما دعامتين أساسيتين لزعامة شعبية!
فسألته: هل عبدت مصطفى النحاس يوما؟
فقال بصراحته المعهودة: كنت وفديا، وعطفي على الوفد عاش طويلا في نفسي حتى بعد نضوب إيماني به.
وحملق في وجهي بعينيه البراقتين وقال: قل في الوفد ما شئت، ولكن لا تنس أنه كان حزبا شعبيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وأنه كان يغير سياسته أحيانا إذعانا لمشيئة التلاميذ بالمدارس الثانوية!
ثم حدثني عن أحداث عام 1935، وكيف ناقش مصطفى النحاس ضمن وفد من الطلبة، وكيف احتدت المناقشة بين الطرفين، وكيف عدل الوفد عن تأييد وزارة توفيق نسيم، فأعلن الثورة على لسان مكرم عبيد، وكيف سالت الدماء عقب ذلك بأقل من ساعة!
ولم يعمر كامل رمزي - كما تنبأ عزمي شاكر - في وظيفته طويلا، باشرها عاما واحدا حتى ضج جميع أهل الأرض من صلابته ونزاهته، وإذا بجرائد الصباح تنشر خبر نقله إلى مؤسسة صحفية.
ومن عجب أن عمت الشماتة به أكثرية الناس، ولم أدهش لذلك كثيرا، وذكرت في الحال مأساة الأستاذ طنطاوي إسماعيل رئيس السكرتارية القديم، كما ذكرت الدكتور سرور عبد الباقي، وقلت لنفسي إن أمثال أولئك الرجال يغلقون الأبواب في وجوه الوصوليين والانتهازيين وما أكثرهم، كما إنهم بقوة أخلاقهم يفضحون الضعفاء أمام أنفسهم فيمتلئون حقدا عليهم، لذلك لم أسمع رثاء له إلا بين خاصة أصدقائه، وأما هو فقد غضب وفاضت نفسه مرارة وخيل إليه أن نواميس الطبيعة تقلقلت وشذت عن مداراتها، ولكن ذلك لم يمنعه من مزاولة عمله الجديد بنفس الهمة والنزاهة والقوة السابقة، بل إنه وجد فراغا لم يكن يجده فاستأنف نشاطه العلمي، وشرع في وضع قاموسه السياسي، وكان وما زال شعلة من النشاط المتواصل، ونورا يطارد ظلمات اليأس.
كاميليا زهران
يوم أقبلت علينا في السكرتارية بفستانها الأنيق، وشعرها الأسود المقصوص المطوق لرأسها تذكرت عبدة سليمان، ولكن ما أبعد المسافة بين عام 1944 وعام 1965! اختفت الوجوه القديمة مثل طنطاوي إسماعيل، وعباس فوزي، وعدلي المؤذن، وعبد الرحمن شعبان، وعم صقر. اجتاحت السكرتارية موجة من الشباب نصفها من الجنس اللطيف، وها هي كاميليا زهران تنضم إلينا كأحدث قطفة من تلك الأزهار، وكنا ألفنا وجودهن بيننا، كما ألفنا الشائعات التي تلاحقهن في الفترة الحرجة التي تسبق الزواج، وأكثرهن تزوجن من شبان خارج وزارتنا عدا واحدة تزوجت من زميل في الإدارة القانونية، ولم تهجر واحدة منهن العمل بسبب الزواج.
وكاميليا زهران حقوقية في الثالثة والعشرين، وقد استقبلت عملها بامتعاض لإلحاقها بعمل كتابي بعد دراسة قانونية توشك أن تذهب هباء، وسرني أن أطالع في عينيها نظرة مستقيمة وجريئة جاوزت بشكل ملموس نظرة الحريم المستكينة الخاملة، ومع ذلك شعرت بطريقة ما بعمق تجربتها في الحياة، وأنها لا تكاد تختلف في أمر جوهري من هذه الناحية عن زميلها الجالس إلى جانبها. وسرعان ما رفع الحجاب الكلفة بينها وبين الزملاء، ولكنه لم يجاوز حدود الأدب التقليدية، شأن من تنظر إلى المستقبل بحكمة وتعمل حسابا للعقد الشرقية التي يحملها الزملاء من أسلافهم في البيوت.
وعقب الإجازات الصيفية حدثني زميل قديم نسبيا في الإدارة فقال: لعلك لا تدري أن كاميليا زهران راقصة بارعة؟
فسألته بدهشة: راقصة؟! - رأيتها في هانوفيل تراقص شابا وكانت مندمجة في الرقص بنشوة كأنها نغمة.
فقلت متوثبا للدفاع: لم يعد عيبا ما كان يعد عيبا على أيامنا.
فهرش رأسه قليلا ثم قال: أود أن أتخيل كيف تكون الحياة مع زوجة مثلها؟
فقلت: إن نسبة الطلاق في هذه الأيام أقل من نظيرتها على أيامنا، وكذلك نسبة تعدد الزوجات!
فقال ضاحكا: الظاهر أنك رجل عصري رغم كهولتك؟ - أود لو كنت من أبناء هذا الجيل، لا استخفافا بمتاعبه ولكن لتخففه من كثير من العقد التي نغصت علينا صفو الحياة.
وقد قلت مثل ذلك لصديقي رضا حمادة، وهو أقرب أصدقائي القدامى إلى المحافظة، فسألني عما أعني فقلت: تبادل الحب في جو من الصراحة الصحية خير من الكبت والتقلب بين أذرع البغايا.
فقال بارتياب: يخيل إلي أن الحب كالديمقراطية أصبح معدودا من المهازل البائدة!
وكنت أرهف السمع كلما دار الحديث بين الشباب في إدارتنا، ومن كلمات متناثرة أدركت أشياء لا بأس بها، خاصة عن كاميليا التي استحوذت على اهتمامي أكثر من غيرها لحداثتها، فأسرتها مثلا متوسطة وهي أول من توظف من إخوة خمس، وليس من الصعب تخيل المتاعب التي تعانيها أسرة من ذلك النوع والدرجة، ولا المتاعب التي تتحدى الفتاة كإنسانة مستقلة ومسئولة عن نفسها وربما عن أسرتها جزئيا، وما تطالبها به الحياة العصرية من نفقات، وما يطالبها به المستقبل كفتاة تتطلع إلى عريس محترم، ولذلك فإن اهتمامها بالشئون العامة اهتمام سطحي، وهي تسلم بأشياء تسليما واقعيا دون تفكير ولا إيجابية مثل الدين والثورة، ولكن حياتها الخاصة هي شغلها الشاغل، وما حياتها إلا الحب والزواج وثمرات الحضارة الحديثة.
وندر أن صادفتنا أنثى تهتم اهتماما حقيقيا بالدين أو الفلسفة أو السياسة، ولعل تفسير ذلك أننا لا نزامل منهن إلا الأوساط أما النابغات فلهن طريق آخر في الجامعات أو الحياة العامة، وللدكتور زهير كامل رأي في الموضوع. قال: عدم اهتمام المرأة بالعقائد والفلسفات يقطع بأنها - العقائد والفلسفات - معطلة للنشاط الحيوي الحقيقي.
وقال أيضا: المرأة لا تعنى إلا بالخلق وما يتعلق به، هي خالق جميل، الخلق محور حياتها كلها، أما ما عدا ذلك من نشاطات فهي من صنع الرجل وهي ضرورية للسيطرة لا للخلق!
وقال أيضا: الدنيا هي هدف المرأة ومعبودتها، وبمعنى آخر هي هدف الخلق، وهذا يدل على أننا خلقنا لنهتم بالدنيا دون سواها، وأن كل ما عداها باطل، وأن الخلود يجب أن يتحقق فيها، ولو أن الأديان تصورت الله على صورة امرأة لأهدتنا حكمة جديدة هي السعادة الحقيقة!
وربما تعذر تفسير هذه الآراء على ضوء ما عرفنا من عقلية زهير كامل، ولكن لن يتعذر تفسيرها على ضوء حياته؛ إذ كان يعاني الحنين إلى زوجته وابنته اللتين هاجرتا إلى الخارج، كما كان يفتح قلبه لحب جديد، حب نعمات عارف، وكانت تظلنا سحابة من الغم والنكد في أعقاب هزيمة يونيو عندما قال لي الزميل القديم: توجد أحداث غريبة لا صلة لها بالمعركة.
فسألته عما يعني فقال: كاميليا زهران تلعب مع المدير العام تلك اللعبة القديمة.
حقا أصبح المديرون في سن الشباب لا كالعهد القديم، ومديرنا العام في الأربعين، ولكنه متزوج وأب وذو سمعة - من هذه الناحية على الأقل - طيبة. قلت: ولعلها إشاعة! - ولعلها حقيقة!
فسألته: وما تفسيرك للأمر؟ - لعله حب، وإن صح هذا الفرض فسيخرب بيت ويقام مكانه بيت جديد.
وصمت مليا ثم عاد يقول: ولعلها اللعبة القديمة على طريقة شرارة النحال. - هل تسللت انتهازية جيلنا إلى الجيل الطازج؟ - إن المغريات اليوم أقوى وأعنف.
فقلت بامتعاض: لعل الانتهازية يعترف بها في النهاية باعتبارها أخلاقا جديدة، ومهارات جديدة مثل التكنولوجيا!
وحدثت صديقي الدكتور عزمي شاكر في الموضوع وقلت له: إنك مفكر بارع، فلم لا تدرس الأخلاق الجديدة؟ أعني الأخلاق الصالحة للعصر الحديث، التي يجب أن تستلهم من المجتمع الجديد لا من القيم القديمة.
فسألني: ما الذي دعاك إلى هذا التفكير؟
فقلت وأنا من الاستياء في غاية: انظر إلى مآل صديقنا الدكتور كامل رمزي، وعندي نظائر له عرفتهم في مجرى الحياة ممن نعدهم أمثلة طيبة للإنسان، ألا يجوز أن أخلاقهم لم تعد صالحة للعالم الحديث؟
فقال باسما: إنك تنفس عن مرارة نفسك. - الحق أني حائر وحزين.
وتفشت الشائعات عن كاميليا والمدير، وأصبح الشك يقينا عندما نقلت أخيرا إلى الإدارة القانونية، ولكن لم يخرب بيت، ولم يقم محله بيت جديد، ولما تعين عندنا صبري جاد نشأت بينه وبين الفتاة علاقة حب صادقة. ومع أنه بدا أول الأمر متمردا ومستهترا إلا أنه أحب كاميليا كما أحبته، وبالرغم من أنه كان يصغرها بعامين أو أكثر إلا أنهما أعلنا خطوبتهما رسميا، وسعدت أنا شخصيا بهذه النهاية السعيدة، التي شدت الاثنين إلى حياة أصيلة ومسئولية جادة من شأنها أن تعيد خلق الإنسان وتضمه إلى الركب الجاد في الطريق، ويوما بعد يوم فإن إيماني يرسخ بأن نقاء الإنسان يجيء من الخارج بقدر ما يجيء من الداخل، وأن علينا أن نوفر الضوء والهواء النقي إذا أردنا أزهارا يانعة.
ماهر عبد الكريم
كان أستاذا مساعدا بالكلية عندما التحقت بها عام 1930، وكان في منتصف الحلقة الرابعة، يتمتع بسمعة علمية وأخلاقية وإنسانية كأنها عبير المسك، ولم أعرف أستاذا فتن طلبته بسجاياه الروحية وسماحة وجهه مثله، وهو سليل أسرة عريقة، عرفت بثرائها كما عرفت في التاريخ الحديث بولائها للحزب الوطني، وعد هو بالتبعية من الموالين للحزب، ولكن ذلك لم ينل من حبنا له، والحق أنه لم يعلن عن ميل سياسي قط، ولم يقع في رذيلة التعصب أبدا، ولم ينطق في حديث عن هوى أو تحيز أو حقد، ووهب نفسه للعلم والخير، قال لنا مرة الدكتور إبراهيم عقل: لو كان جميع الأغنياء مثل ماهر عبد الكريم لقررت أن المثل الأعلى للإنسان أن يكون غنيا!
والحق أن كرمه كان يلتهم ثروته، فلم يصد محتاجا قط، وكان يجود بالإحسان سرا كأنما يتستر على عيب، وكان مثالا لسعة الصدر، هكذا كان في مناقشاته العلمية والعامة، بل والسياسة إذا جر إليها جرا، وكأن أسارير وجهه لم تهيأ أصلا إلا للتعبير عن التأمل أو الترحيب أو البشاشة، وغير قابلة للإفصاح عن الحدة أو الغضب. وكان قصره القديم بالمنيرة ملتقى أهل العلم والأدب والفكر، وبه متسع دائما لطلبته فيقدمهم إلى الكبار ويعاملهم معاملة الأنداد، وما أكثر الذين عرفتهم في صالونه من رجال الفكر. وكان التيار الجارف في أحاديث الصالون ثقافيا بالمعنى العام، ولم تكن السياسة لتخالطه إلا في ظروف نادرة، ومع ذلك لم يتردد الأستاذ سالم جبر عن إثارة موضع فوارق الطبقات يوما من أيام عام 1931 عقب عودته من رحلة في فرنسا، قال: إنهم في بعض الأوساط يحتقروننا لسوء حال شعبنا!
فابتسم الدكتور ماهر عبد الكريم وقال: أعتقد أنها حالة سيئة.
فقال الدكتور إبراهيم عقل مخاطبا سالم جبر: إنك تزور في فرنسا أوساطا متطرفة لعلها تضمر نفس الاحتقار لفرنسا أيضا، على أن الإنسان لا تتقرر حاله الحضارية بما يملك، ولكن بما ينبض به فكره وقلبه، وأنا شخصيا أعتبر الفقير الهندي أجل إنسانية من فورد أو روكفلر!
واحتد سالم جبر فاتهمه بالمثالية الرجعية، كما اتهمه بالصوفية التي يعدها مسئولة عن تأخر الشرق.
ولم يكن ماهر عبد الكريم يفكر كما يفكر سالم جبر، ولكنه اعتقد دائما بأن الإسلام يكفل للناس عدالة اجتماعية شاملة، كما اعتقد أن نشر التعليم يحقق الغاية نفسها بطريقة أخرى. ويوما دعاني أنا وجعفر خليل - عقب إحدى المحاضرات - لمقابلته في قصر المنيرة، ووجدناه وحده في بهو الاستقبال، فرحب بنا وقال: ستزورني آنسة أمريكية بناء على طلبها، وقد اخترتكما مترجمين بيني وبينها.
وكان يجهل الإنجليزية، ولعله فضل أن يستعين بنا على أن يستعين بأحد من زملائه الكبار، حتى تتبين له أسباب الزيارة الغريبة، وعند الغروب قدمت فتاة شقراء آية في الجمال في العشرين من عمرها، فسلمت وجلست وهي تعتذر عن تطفلها، وقدم لنا الشاي والحلوى، وراحت الفتاة تقص قصتها فقالت إنها تزور مصر ضمن مجموعة من الشباب، وإن أمها كلفتها بالبحث عن شخص في مصر يدعى ماهر عبد الكريم كان طالبا بالسوربون في أعقاب الحرب العظمى، وإن مدير الفندق دلها عليه وطلب قصره لها بالتليفون، ووضح لنا من تبادل الحديث أن أمها كانت زميلة لأستاذنا في باريس، وأنها كانت صديقته أيضا، وأنها انتهزت فرصة سفر ابنتها إلى مصر لتحملها تحياتها إليه.
وعلى طول الزيارة دار الحديث حول الذكريات القديمة الجميلة، وما آل إليه حال الصديقين القديمين في الوقت الحاضر. وعندما غادرنا القصر قلت لجعفر خليل: الظاهر أن تأثير أستاذنا فيمن حوله سجية قديمة فيه منذ عهد الشباب.
فغمز جعفر بعينه وقال ضاحكا: ولكن التأثير في النساء ذو مغزى آخر!
ثم قال بإيمان: الحق أن جمال الرجل يؤهله لدور الفتى الأول في أفلامنا!
فرددت قول الفرزدق الذي كان يذكرني دائما بوجه أستاذنا:
يغضي حياء ويغضى من مهابته
فما يكلم إلا حين يبتسم
وقلت لجعفر: ما أتصوره أبدا متخليا عن وقاره، فإذا كان الوقار لباسا لغيره فهو منه بمثابة اللحم والعظم.
والحق أنه لم يؤخذ عليه طوال حياته ما يمس السمعة أو السلوك. وعند هذه النقطة أرى لزاما علي أن أعرض لشائعة اقتحمته في فترة القلاقل التي اتسمت بالاغتيالات السياسية في أعقاب الحرب العظمى الثانية. قيل إنه رفع خطابا سريا إلى الملك فاروق يحذر من مغبة التمرد الذي يجتاح الشباب، مفصلا أسبابه وبواعثه ومقترحا العلاج له. سمعنا ذلك فيما نسمع من شائعات في المقاهي، وحتى اليوم لم أتأكد من صدق الشائعة، وكل ما قيل عنها كان ضربا من التخمين، ونتيجة للأهواء السياسية المتنازعة، فقال وفديون إنه اقترح على الملك حل الأحزاب وإقامة ديكتاتورية صالحة تعجل بالإصلاح وتربي الشباب تربية دينية علمية، وقال المتطرفون من تلاميذ سالم جبر إنها دعوة لثورة مضادة يراد بها تفادي الثورة الحقيقية، أما أنا فساءتني الرسالة - مهما كان مضمونها - باعتبارها انتهاكا لحرية الدستور واستهتارا بسلطة الشعب، ووجدتني في حرج شديد بين إجلالي لأستاذي وبين موقفي السياسي الواضح، ووجدت حرجا أكثر من مفاتحته بالموضوع، غير أن جعفر خليل وجد الجرأة لمفاتحته! حدث ذلك عندما زرنا الأستاذ معا ليودعه جعفر خليل قبل سفره إلى الولايات المتحدة، وعند ذاك أخبره صديقي المرحوم بما يشاع وبما يقال، وأنصت الدكتور في هدوء وابتسام، ثم سأله: صدقت ما يشاع وما يقال؟
فتراجع جعفر خليل قائلا: كلا.
فاكتفى الأستاذ بقوله: عظيم!
ويدعوني ذلك إلى تذكر رأي رجلين فيه، أحدهما صديق له قديم هو الأستاذ سالم جبر، والآخر مريد من مريديه هو الأستاذ عباس فوزي، أما سالم جبر فكان يحبه ويعجب به، ولكنه يرى أنه من طبقة النبلاء لم يعرف الفقر ويرى الشعب من فوق وله رؤيته الخاصة، وهي رغم جاذبيتها ونقائها غريبة عنا كأنها لغة كوكب آخر.
أما عباس فوزي - معجم السخريات اللاذعة - فكان يعرب عن رأيه فيه، ولكن في حذر وعلى مهل، ونقطة نقطة متجنبا سكب ما في نفسه دفعة واحدة، فيوما قال عنه: إنه وجيه نبيل، مملوك من نسل مماليك!
وتأملت قوله طويلا على ضوء ما أعرفه من خبثه، وساءلت نفسي عما يقصد الشيطان، ومرة استمع إلى ثناء جميل مني على الأستاذ ثم قال: هذه هي فضائل الأغنياء النبلاء وهي فضائل لم تتعرض للتجارب المريرة!
ومرة ثالثة قال لي: في مصر لا يجتمع النبل والثروة والعلم، ولكن النبيل الغني متعالم، يستغل ذكاء الفقراء، يجمعون له مواد البحث ويقترحون عليه الأفكار، أما هو فيصغي بوقار ويوقع بإمضائه!
ومرة رابعة قال لي: أستاذك ذواقة لكل طعام جيد، يلتهم في اليوم ما يكفي لغذاء لواء من الجيش، خبرني يا عزيزي متى يفرغ من الهضم ليتفرغ للتفكير والبحث؟
ولكنا كنا نتصل بعقل الأستاذ اتصالا مباشرا، وندرك مدى ما يتمتع به من دقة ووضوح وغزارة في العلم، ومرت به الأحداث وهو ثابت في وقاره، ولكني استشففت قلقا في ذاته في مواقف من حياتنا لا تنسى، مثل الاغتيالات السياسية، حريق القاهرة، ثورة يوليو، القوانين الاشتراكية، ولكنه لم يجاوز القصد أبدا، ولا أظن أن إقطاعيا تلقى الضربة التاريخية في مثل هدوئه، تلك الضربة التي نزعت من يده عشرة آلاف من الأفدنة، وقد باع قصره القديم بالمنيرة، واشترى فيلا جميلة بمصر الجديدة، ما زالت حتى اليوم تستقبل أهل الفكر والرأي، وواصل عمله الجامعي بنفس الهمة حتى أحيل إلى المعاش عام 1954 لبلوغه السن القانونية، فعمل أستاذا زائرا، وعين عضوا في المجلس الأعلى للآداب، ونال جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، كما نال وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، إذن قدرت له الثورة مكانته العلمية، وسمعته العطرة، واستقامته العامة التي أبعدته عن الشبهات، وهو وإن لم يعلن ولاءه للثورة لبعده عن مجالات الإعلام ولرغبته عن إقحام نفسه فيها بطريقة غير طبيعية أن يرمى بشيء مما يمس الكرامة، فإنه لم يتردد في إعلان ذلك الولاء في مجالسه الخاصة، فقال يوما: إني مقتنع بما يقع فهو أقل ما يمكن عمله كي يصلح الوطن للحياة وتصلح الحياة له.
ولم أستشعر في حديثه أو سلوكه أي أثر لمرارة، ولا معنى بعد ذلك للتنقيب في الأفئدة، فلا يطالب مثله بأكثر من ذلك، أكثر من أن يواجه بحكمة ثورة تاريخية منطلقة أصلا لاقتلاع طبقته، وأن يقنع نفسه بها فلسفيا كحركة تاريخية حتمية لا مفر منها طال الزمان أو قصر. وفي عام 1969 احتفل بعيد ميلاده الخامس والسبعين، فازدحم الصالون بمن بقي على قيد الحياة من أساتذة الجامعة القدامى، وبالأصدقاء سالم جبر ورضا حمادة وعزمي شاكر وكامل رمزي وقدري رزق وجاد أبو العلا وعباس فوزي وصادق عبد الحميد ونعمات عارف نيابة عن زوجها زهير كامل، وهفت علي ذكريات إبراهيم عقل وجعفر خليل، ورأيت قلة من الشباب بينهم صبري جاد وزوجته كاميليا زهران، ولكن غلب الشعر الأبيض والتجاعيد والنظرات المجردة والعصي، ولم أشعر من قبل كما شعرت ذلك اليوم بمرور الزمن وثقله وجلاله وغدره وأبديته وأثره وترفعه وتواضعه وحكمته ونزقه، كأنما غفوت في الديزل إغفاءة طويلة استيقظت بعدها في محطة سيدي جابر. ورغم كل شيء فقد بقي لماهر عبد الكريم عيناه الزرقاوان الواسعتان وابتسامته الغازية ووقاره العذب. قال أستاذنا: لا احتفال بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، فلا يجوز أن نحتفل ونحن نقاتل، ولكنها فرصة طيبة للاجتماع.
وشرق الحديث وغرب ولكنه كان يرتد إلى بؤرة واحدة وهي الصراع في الشرق الأوسط، ويعالج على مستويات سياسية واقتصادية وفلسفية ودينية ، ويتفرع إلى الموقف العالمي والكشوف العلمية والمشكلات العامة الإنسانية والاضطرابات الخطيرة في الغرب والشرق وذبول القيم والمستقبل، أجل المستقبل، وبأي وجه يطالعنا، وطغت موجة من التشاؤم، وترددت كالهنك المطرب بين الشيوخ، طوبة يرمون بها الدنيا المولية، واشترك أستاذنا في الجوقة ولكن بنغمة أخرى، وفجأة قال: رحم الله إبراهيم عقل.
ما الذي دعاه إلى تذكره؟ كان أحب الأصدقاء إلى قلبه، ولم أشهد دمعه إلا يوم جنازته عام 1957، وتذكرت بدوري كلمته لنا قبيل التخرج، وعاد يقول: سلم بالإيمان تسليمه بالموت وبالحقائق الملموسة مثل شروق الشمس.
وابتسم طويلا ثم قال: قولوا في الدنيا ما شئتم، لا جديد في التشاؤم، ولكن الحياة في صالح الإنسان وإلا ما زاد عدده باطراد، وما زادت سيطرته على دنياه.
محمود درويش
كان يستلفت الأنظار بين طلبة الكلية بطول قامته ونحول قده، وسرعان ما تميز بذكائه واجتهاده الخارق، فاكتسب مكانة محترمة بين الزملاء ولدى الأساتذة المصريين والأجانب، وكان دقيق الملامح وسيما، ولكنه كان أيضا جافا منطويا على نفسه، يزامل ويصاحب، ولكنه لا يعرف الصداقة، كان صديقه الحقيقي الكتاب، وكان أبوه إمام مسجد بالجيزة، يشكو كثرة العيال وقلة المال، فكان محمود درويش يعاني حياة متقشفة، ومن أول يوم نشأ سوء تفاهم بينه وبين عجلان محمود، وهو يقول إن أباه إمام مسجد فضحك، فسأله محمود درويش: ماذا يضحكك؟
فأجاب عجلان: ألا يضحكك أن تكون الإمامة وظيفة؟
فغضب محمود وقال له: أنت قليل الأدب.
وهتف به عجلان: اخرس!
وفصلنا بينهما، ولكنهما أصرا على الخصام إلى النهاية، وفي حادثة سرقة الطربوش التي اتهم فيها عجلان شهد محمود ضده، وكان ضمن الأسباب التي أدت إلى فصله من الكلية، وقد عاتبناه في ذلك ولكنه قال: لا خير في أن نقدم للمجتمع لصا متعلما.
وكانت آثار الكبت والحرمان تتجلى في عينيه كلما وقع بصره على طالبة من الطالبات. وأما سعاد وهبي فكادت تتسبب في جنونه، ولكنه بدلا من أن يغازلها أو يحاول ذلك على الأقل راح يحمل على «تهتكها» حملة كادت تبلغ العلانية، وكان أول من أبلغ العميد عن تبرجها، وعن الفتنة التي تثيرها في قاعة المحاضرات، والظاهر أنه تعرض لأزمات عنيفة وصراعات حادة بين حيويته وبين حرمانه الإجباري، فلم يجد أبوه حلا لذلك - بعقليته الريفية الدينية - إلا أن يزوجه من ابنة عم يتيمة يكفلها فرجع إلى الكلية في العام الدراسي التالي متزوجا من فتاة ريفية أمية، ولكنها أراحت باله، وأطلقت قواه في التحصيل دون عائق. ولم يعد له من اهتمام إلا العلم والتفوق، وكان إذا احتشد لكتابة بحث ما نكلف بكتابته في أثناء السنة الدراسية كتبه بذكاء واقتدار وأحاط به إحاطة تقطع باطلاعه الواسع وبدرايته في استخراج المراجع، ولذلك كان يتابعنا أحيانا ونحن نهدر بأحاديث السياسة، وكأنه عاقل يستمع إلى مجانين، وتساءل مرة: كيف تجدون متسعا بعد ذلك للدراسة؟
فأجابه طالب متعجبا: كأن الإنجليز يحتلون وطنا غير وطنك، وكأن الملك يستبد بشعب غير شعبك!
ولم يكن يفرق بين مصطفى النحاس وإسماعيل صدقي، وأحيانا كان ينسى اسم «الباشا» الذي يرأس الحكومة، ولما اجتاحت موجة الإضراب الجامعة وقف حيالها غاضبا وعاجزا، وكان يتسلل إلى المكتبة فيقرأ ويقرأ وحده، حتى تغلق أبوابها. ويوما وثب إلى منصة الخطابة عقب خطبة ثورية ألقاها زعيم الطلبة، وثب إلى المنصة، وبجرأة جنونية، دعا الطلبة إلى الانتظام في العمل والعكوف على الدراسة باعتبارها هدفهم الأسمى، وهاج الطلاب وماجوا، وطالبوا بإنزاله، ولولا الاحترام الذي اكتسبه بتفوقه لاعتدوا عليه اعتداء مؤكدا. وصدر أمر بإغلاق الجامعة شهرا، وفي أثناء ذلك قبض على زعماء الطلبة جميعا، ولما عدنا إلى الكلية وجدت همسا تتناقله الألسنة قال لي جعفر خليل: سمعت؟ .. يقولون إن محمود درويش متصل بإدارة الأمن العام.
فاستفظعت ذلك ولم أصدقه فقال: يقال إن الذي رشحه لذلك أبوه باعتباره من ألسنة إدارة الأمن وعيونهم! - ولكنه شاب مستقيم!
فقال بحزن: ويقال إنه هو الذي أرشد إلى زعماء الطلبة!
كانت إشاعة قوية، ولكن لم يكن من سبيل إلى التأكد منها، وقد تحرش به بعض الطلبة وعرضوا بدوره في المؤامرة، ولكن الدكتور إبراهيم عقل استدعاهم إلى مكتبه وهددهم - إذا عادوا - بإبلاغ أمرهم إلى الجهات المختصة. وعاشت الإشاعة معي زمنا طويلا، وخلقت في نفسي نفورا منه، وبخاصة وأنني استثقلت ظله من أول يوم، وكدت أومن بصدقها عقب تخرجنا عندما اختير محمود درويش عضوا في بعثة إلى فرنسا في فترة من الزمن توقفت البعثات فيها تماما. وانقطعت أخباره عني أعواما طوالا حتى صادفته في مكتب الأستاذ عدلي المؤذن بوزارتنا فتصافحنا وجلسنا نتبادل الحديث، بدا لي وقتها في صورة جديدة، مليئة بالحيوية والصحة والعافية، وطالعتني عيناه من خلال نظارة أنيقة أسبغت على وجهه هيئة العلماء. قال: أنا مدرس اليوم بالكلية.
فقال عدلي المؤذن: وهو شارع في إصدار سلسلة في فلسفة التصوف.
وقال محمود درويش: أدركتني الحرب في فرنسا قبل إتمام الرسالة فسافرت إلى سويسرا وهناك حصلت على الدكتوراه.
ولما غادرنا قال لي عدلي المؤذن ضاحكا: عاد خواجا كما ترى ليجد في انتظاره زوجة ريفية أمية.
وسألته عما قيل عنه يوما من اتصاله بإدارة الأمن العام، وخاصة وأن عدلي المؤذن كان موظفا في ذلك الوقت بإدارة الجامعة فقال عدلي باقتضاب: كلام فارغ.
ولما حكيت تلك الواقعة للأستاذ عباس فوزي ضحك طويلا وقال: يا لك من رجل طيب! ألا تعلم أن عدلي المؤذن نفسه كان متصلا وقتها بإدارة الأمن العام؟
والتقيت - بعد ذلك بأعوام - بالدكتور محمود في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم بالمنيرة، وكانت قدمه قد رسخت في عالم التأليف، وصدر له أكثر من ثلاثة كتب عدت من المراجع الهامة في دراسة التصوف في العصر الحديث، وسمعت عنها الثناء تلو الثناء من أستاذنا ماهر عبد الكريم. ويومها سألته عن أحواله فقال: لي أربعة أبناء في كليات الهندسة والتجارة والحقوق والآداب وبنت متزوجة من ضابط طيار.
فسألته باهتمام: هل تمارس التصوف؟
فأجاب ضاحكا: كلا، ولكن لا مراء في أن الإنسان لا يتخصص إلا في مادة متغلغلة في نفسه.
وفكرت في زوجته التي اختارتها الظروف ربة لبيت من المثقفين وهي بدائية بكل معنى الكلمة، فوددت لو أتسلل إلى أعماق ذلك الجانب من حياته، ولكنه كان يبدو متألقا بالسعادة والنجاح. وقال لي: طبعا علمت بمأساة الدكتور إبراهيم عقل؟ - طبعا، كارثة ولا شك، ولكني لم أرك في جنازة ابنيه؟ - كنت خارج القاهرة، هل حافظت على اتصالك به مذ تركت الكلية؟ - كلا. - إنه أستاذ بلا تلاميذ ولا مريدين.
والتقيت به مرة أخرى في صالون المنيرة، ثم دعي للتدريس في إحدى الجامعات العربية فسافر خارج القطر وانقطعت عني أخباره.
مجيدة عبد الرازق
في زيارة لسالم جبر في مكتبه بجريدة المصري عام 1950 قدم لي فتاة حسناء قائلا: مجيدة عبد الرازق محررة الصفحة النسائية.
كانت في الثلاثين من عمرها، رشيقة القوام، تطالعك من عينيها السوداوين نظرة ذكية جذابة، ولها شخصية قوية تفرض نفسها لدى أول اتصال، والتقيت بها للمرة الثانية في حفل انتخابي أقامه الدكتور زهير كامل للدعاية لنفسه فسألتها: إذن فأنت وفدية؟
فقالت باسمة: أنا تلميذة للدكتور زهير كامل. - آداب؟ - قسم الصحافة. - ووفدية؟ - أبعد من ذلك بكثير!
فتساءلت وأنا أنظر في عينيها الجميلتين: ماذا تعنين؟
فابتسمت ولم تجب. والتقيت بها للمرة الثالثة في بيت زهير كامل فشعرت بأننا ننتقل من مرحلة التعارف الودي إلى مرحلة الصداقة الحقيقية، وعقب ذهابها قال لي الدكتور زهير كامل: إنها مثقفة ثقافة تستحق التقدير وذات شخصية محترمة.
فقلت بحماس: أعتقد ذلك.
وهو يبتسم: وهي شيوعية أيضا! - شيوعية؟! - امرأة مصرية معذبة من ضحايا فترة الانتقال.
وجمعت بيننا صداقة وطيدة واحترام متبادل، وكنا نجتمع في أوقات متفرقة بجروبي مع نفر من الأصدقاء، فتجالسنا مجالسة الأنداد، وتتجاهل إيماءات الغزل التي توجه إليها أحيانا، باعتبارها عبثا صغيرا؛ إذ لم تكن تتبع الحيل النسائية البالية، ولا تحترم القيم البرجوازية، ولكنها كانت تنشد دائما العاطفة الصادقة الأصيلة. قالت لي يوما: حذار أن تظن بي البرود!
فتساءلت: ما الذي جعلك تفكرين في ذلك؟
فقالت بحرارة: إني أعبد الحب.
ثم كالمستدركة: أعبد الحب والأيديولوجية.
ولما استتب اطمئنانها إلي قصت علي قصة حياتها في مقهى الفيشاوي، قالت: نشأت في أسرة من البرجوازية الصغيرة، ربها موظف مغمور، وكنت البنت الوحيدة بين أربعة ذكور!
فقلت باسما: إذن كنت جوهرة مدللة. - بالعكس، عانيت الاضطهاد من الجميع، وكان يزداد بتقدم العمر، ولكني فرضت الاحترام عليهم بتفوقي في المدرسة.
فأعلنت إعجابي بابتسامة فقالت: وتقدم لي عريس بعد نجاحي في الثانوية العامة وبالرغم من ترحيب الجميع به إلا أنني اشترطت عليه أن يسمح لي بإتمام دراستي الجامعية، فسألني عن الحكمة وراء ذلك، فصارحته برغبتي في العمل، ولكنه لم يوافق، وانضم إليه في الرأي أهلي ولكنني صممت، فذهب. - وحققت مشروعك بالكامل! - أجل ولكني عرفت في الكلية أستاذا كان له أكبر الأثر في حياتي، طبعا سمعت عن الأستاذ محمد العارف؟ - أجل. - علمني العلم وما هو أخطر منه. - الشيوعية؟ - نعم، ثم ألف بيننا حب عميق، وسرعان ما تزوجنا بعد تخرجي مباشرة.
فقلت بدهشة: حسبتك غير متزوجة. - عشت أياما سعيدة وأنجبت توأمين ذكرا وأنثى. - جميل حقا. - وكانت أمه هي ربة بيتنا؛ فلما توفيت اعترضتنا متاعب فتمزقت بين العمل في الجريدة وبين واجبات البيت، وكان زوجي يحب النظام كما يحب أن يكون موضع الرعاية، فاقترح علي أن أتفرغ للبيت. - رأي لا يخلو من وجاهة.
فقالت بحدة: كلا، كانت لي آمالي الخاصة أيضا فرفضت، ولم أجد منه عطفا ولا تقديرا.
فلم أنبس بكلمة فقالت: وتكشفت لي أنانيته وقلة أدبه ورغبته الدفينة في السيادة، واشتعل بيتنا بالعنف والخصام، ثم انتهى الأمر بالطلاق. - متى وقع ذلك؟ - أيام الكوليرا!
فسألت بإشفاق: وكيف حالك الآن؟
فقالت بمباهاة: أتقدم في عملي كما ترى، وتعاونني في تربية الطفلين امرأة طيبة، وهو يمدني بالنفقة الشرعية.
ولما قامت ثورة يوليو بذرت في ساحة صداقتنا الهادئة بذور خلاف عنيد لأول مرة، فاتهمتها بأنها ثورة رجعية، أو لون جديد من الفاشستية، أو انقلاب برجوازي صغير يشبع تطلعات أمثالي من البرجوازيين الصغار! وأصرت على رأيها حتى اتجهت الثورة إلى الكتلة الشرقية؛ فأخذ عنادها يلين ورأيها يتغير، وساءتني وحدتها كثيرا، وشعرت بأنها تعاني منها مرارة حادة، ولكنها رفضت دائما رغبات الزملاء الجامحة العابثة انتظارا للحب الحقيقي الذي تعبده كما قالت لي من قديم، وبصراحتها العذبة قالت لي مرة: خدعت مرة واحدة! - لا أصدق. - طبيب أطفالي عليه اللعنة! - ولكن كيف .. ؟ - وكان أيضا متزوجا! - ولكن الرجل المتزوج .. ؟! - خطأ حقيقة ولكنه الحب، وأفهمني أنه غير سعيد وأنه سيطلق لأسباب لا تتعلق بي! - وصدقته؟ - ما أفظع الخداع، إنه أنكر من القتل، وسلمت بدون قيد ولا شرط. - شيء فظيع حقا. - عليه اللعنة، وكانت أيامه سوداء كخداعه فكنا نلتقي في عيادته في جو غارات الاعتداء الثلاثي.
ومنذ تلك التجربة المريرة استقر سوء الظن في أعماقها فتضاعف شعورها بوحدتها، وحنينها إلى الحب الحقيقي، ومضى يغزوها الزمن حتى بلغت اليوم الخمسين من عمرها، وقد تزوجت ابنتها، وسافر ابنها للعمل في إذاعة الكويت، فغرقت في الوحدة والكهولة حتى قمة الرأس. وما زالت حتى اليوم محافظة على رشاقة قدها، ومسحة من جمالها، وإذا دعيت إلى التلفزيون فهي تستأثر بالأنظار والأسماع بقوة شخصيتها ومرونة منطقها وغزارة معلوماتها، وإذا خلوت إليها خيل إلي أني استمع إلى وحوحة تند من أعماقها.
وما زالت مواظبة على زيارة أستاذها القديم الدكتور زهير كامل، كما نشأت صداقة حميمة بينها وبين زوجته الجديدة الصغيرة نعمات عارف، ولا شك أنها علمت بعلاقتها بالدكتور صادق عبد الحميد، ولكنها تجاهلت ذلك تماما، وتمنت ألا تنكشف الحقيقة لأستاذها أبدا. وعلمت أخيرا - وسعدت بذلك جدا - أنها ستقوم برحلة صحفية لزيارة بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط فقلت لعلها تجد فيها تسلية عن وحدتها وتجديدا لحياتها ومادة طريفة لقلمها.
ناجي مرقص
لا أنسى هذا الاسم أبدا، لم يمح من ذاكرتي كأنه اسم علم من الأعلام، رغم أنني لم أزامله إلا ثلاثة أعوام من حياتي، ما بين 1925 و1928 في المدرسة الثانوية. أمضى فترة الدراسة الابتدائية في السودان حيث كان يعمل والده، ولما عاد الرجل إلى مصر أقام في العباسية وألحق ابنه بمدرستنا، وقال ناجي لي يوما: كنا إخوة أربعة، مات ثلاثة، وبقيت أنا.
وقال لي مرة أخرى: أمي حزينة لا تضحك أبدا.
وكان رشيقا طويلا وسيم الوجه لطيفا مهذبا ورزينا لدرجة لا تناسب سنه، ولعله كان الوحيد في سنة أولى الذي يلبس بنطلونا طويلا، وربما كان أنبغ تلميذ صادفته في حياتي. كان لكل تلميذ مجال في تفوقه إن وجد، فتلميذ يتفوق في اللغات وآخر يتفوق في الرياضيات وهكذا، أما ناجي مرقص فكان متفوقا في جميع المواد، في العربية والإنجليزية والفرنسية والحساب والجبر والهندسة والطبيعة والكيمياء والتاريخ والجغرافيا، وكان الأول دون نزاع، وكان المدرسون على اختلاف جنسياتهم من مصريين وإنجليز وفرنسيين يحترمونه ويعاملونه كأنه رجل لا تلميذ، وكان بدر الزيادي يسميه عبد الحليم المصري تشبيها لتفوقه بقوة المصارع الشهير. وسألته يوما: كيف تفوقت في جميع المواد؟
فأجاب بأدبه الجم: أنتبه في الفصل وأذاكر من أول يوم في السنة الدراسية.
وسأله جعفر خليل: ألا تذهب إلى السينما كل خميس؟ - في الأعياد والمواسم فقط.
فسأله عيد منصور: ألا تلعب الكرة؟ - كلا.
فسأله رضا حمادة: أليس لك هواية؟
فأجاب: أعزف على البيانو في أوقات الفراغ.
فقال له رضا: إنك لا تشترك في الإضرابات أفلا تهتم بالوطنية؟ - أهتم بها طبعا ولكن ...
وتردد لحظات ثم قال: ولكن أخي الأكبر قتل في مظاهرة!
ونجح في امتحان الكفاءة بتفوق فجاء ترتيبه بين العشرة الأوائل في القطر كله، وعندما عدنا إلى المدرسة في بدء العام الدراسي الجديد لم نعثر لناجي مرقص على أثر لا في القسم العلمي ولا القسم الأدبي.
وتساءلنا عن سر اختفائه دون أن نظفر بجواب. وكان يسكن بعيدا عن حينا في أطراف العباسية المشرفة على منشية البكري، فذهبنا إلى مسكنه نستطلع فعلمنا هناك بأنه أصيب في صدره، وأنه أرسل إلى جدته بصعيد مصر ليعالج، وأن علاجه سيستغرق عاما كاملا في أقل تقدير. أحزننا الخبر كما أحزن جميع أقرانه ومدرسيه، وأرسلنا إليه رسالة جماعية حملناها تحياتنا وتمنياتنا له بالشفاء العاجل. وحدث في ذلك الوقت أن قدم مصطفى النحاس إلى المحاكمة في قضية سيف الدين فبرأته المحكمة العليا، وذهبت وفود من الشعب إلى بيت الأمة تهنئه، وذهب فيمن ذهب والد صديقنا وهو موظف في وزارة الحربية، وظهرت صورته لسوء الحظ ضمن صور المهنئين فقررت الوزارة فصله. وشق على الرجل الرفت، وكان فقيرا كما كان مريضا بالقلب فأصيب بالفالج وقضى نحبه. وشفي ناجي من مرضه ولكنه عجز عن مواصلة التعليم فانتهز أهل الخير فرصة عودة الوفد إلى الحكم وسعوا إلى تعيين الشاب الصغيرة في وزارة الحربية، فتعين في وظيفة صغيرة خارج الهيئة، كذلك قضت الظروف على أنبغ تلميذ في جيلنا. وكثيرا ما كنت أتذكره وأتحسر على نهايته، وكلما صادفني شيء من التوفيق في حياتي الدراسية أو العملية تذكرته فداخلني الأسى وتخيلت الأمجاد التي وئدت بضربة عمياء من ضربات العبث، ومضت أعوام فأعوام دون أن تقع عليه عيناي أو أسمع عنه ذكرا حتى التقيت به مصادفة في كازينو حديقة الأزبكية عام 1960. مررت به أول الأمر دون أن أفطن إلى هويته إذ جذبت عيني لحيته البيضاء فحسبته فنانا، ثم سمعت صوته يناديني فالتفت إلى وجهه وعرفته في الحال، وتصافحنا بحرارة ثم جلسنا حول مائدة متواجهين، لم يكد يتغير وجهه لولا لحيته وشيبة رأسه، وانبعثت من جملة منظره شفافية عذبة كالعبير الحلو أو الطمأنينة الشاملة، وتذاكرنا الماضي والزملاء، من رحلوا مثل بدر الزيادي وجعفر خليل، ومن نبغوا في الحياة مثل رضا حمادة وسرور عبد الباقي وغيرهما، ثم جاء دوره فقال: ما زلت موظفا بوزارة الدفاع، ووصلت إلى الدرجة الثالثة، متزوج وأب لفتاة في العشرين طالبة بكلية العلوم.
وسكت قليلا ثم استطرد: اتجهت من قديم إلى دراسة الروحانيات، عن طريق الكتب والمراسلة.
فقلت له: قرأت بعض الكتب عنها.
فابتسم قائلا: إني أدرسها وأمارسها! - حقا؟!
فقال بوجد وحماس: عالم الروح عالم عجيب، أعجب من عالم المادة.
فتابعته باهتمام واحترام فاستطرد: وهو أمل الإنسان في الخلاص الحقيقي.
فقلت مجاملا وصادقا في آن: الإنسان في حاجة إلى الخلاص.
فقال بحرارة متشجعا بإقبالي: حضارتنا مادية، وهي تحقق بالعلم - كل يوم - انتصارات مذهلة وتمهد لسيطرة الإنسان على دنياه، ولكن ما جدوى أن تملك الدنيا وتفقد نفسك؟
فقلت بحذر: على الإنسان أن يملك الاثنين!
فابتسم بعذوبة وقال: لعلك لا تؤمن بقولي، أو لعلك لا تؤمن به كل الإيمان، ولكن ثق من أن عالم الروح حافل بالمجاهل كعالم المادة، وأن التنقيب فيه يعد الإنسان بانتصارات مذهلة لا تقل عن انتصاراته في غزو الفضاء، وأنه لا ينقصنا إلا أن نؤمن بمنهج روحي كما نؤمن بالمنهج العلمي، وأن نؤمن أيضا بأن الحقيقة الكاملة هي ملتقى طريقين لا غاية طريق واحد. - حكمة معقولة.
فرنا إلي بنظرة حنون من عينيه السوداوين - أدركت لونهما لأول مرة - وقال برثاء وشفافية: ما أضعف صوت الحق وسط هدير الآلات، ولكن ما أحوج الإنسانية اليوم إلى منقذ.
فسألته بحب استطلاع: كيف تتصور المنقذ؟ - أتصوره رجلا أو فكرة أو درسا باهظ الثمن! - كحرب ذرية؟ - ربما، على أي حال أشعر بأن ثمة حجابا يفصل بيني وبينك، ولكنه حجاب شفاف ضعيف الجذور، وأن استعدادك لحب الحقيقة كبير؛ وإني أمارس تحضير الأرواح في بيتي فلعلك تزورني يوما.
وأعطاني بطاقته التي لم يطبع عليها إلا الاسم والوظيفة والعنوان بشارع دير الملاك. ومع أنني تلقيت كلماته بحب لا باقتناع إلا أنه خطر في جحيم حياتي كعبير زهر اللارنج. وفي مساء اليوم نفسه قابلت الأستاذ سالم جبر في مكتبه بالجريدة، وحدثته عن ناجي مرقص ودعوته، وبإغراء وتحد معا عرضت عليه أن نزوره معا، ولكنه استسخف الفكرة، وذكرني بأنه لم يعد يوجد فاصل بين عالمي المادة والروح، وأن التوغل في حقيقة المادة هو توغل في حقيقة الروح، وأن صديقك يدعوك إلى طقوس سحرية في عصر الفضاء! ولم أر ناجي مرقص بعد ذلك ولكنه يهفو على قلبي أحيانا كذكريات الصبا فأدرك أنه يعيش في ركن من نفسي.
نادر برهان
كان بطلا من الأبطال في حياتنا الصغيرة بالمدرسة الابتدائية، ما بين عامي 1921 و1925، كان يكبرنا بأعوام، وكان قويا طويل القامة، ومنذ أول يوم لنا في المدرسة قيل لنا إنه زعيم التلاميذ بالمدرسة، وكنا نلتف حوله في فناء المدرسة ونتابع كلامه باهتمام. وكان يقول: لا تستصغروا أنفسكم فأنتم جنود سعد، أي جنود الوطن.
وكان يقول أيضا: علينا أن نوطن أنفسنا على قبول الضرب أو السجن أو حتى المشنقة، فلا قيمة للحياة بلا حرية، ولا حرية بلا تضحية ، وقد أرسل الله لنا سعد زغلول زعيما، وعلينا أن نكون جديرين بزعامته.
وكنت أجله وأعجب به، وكان رضا حمادة يعبده، ولم يجرؤ سيد شعير أو خليل زكي على السخرية منه، أما إذا حدث عن زياراته لبيت الأمة ومحاوراته مع الزعيم فكان يبهرنا لحد الجنون، ونفد مني الصبر فاقتربت منه ذات يوم وقلت: أريد رؤية سعد بالعين فهلا أخذتنا إلى بيت الأمة؟
فنظر إلي بعطف وقال: ما زلت صغيرا تسير في بنطلون قصير، وزيارة بيت الأمة مغامرة خطرة لا رحلة آمنة.
وكان إذا تقرر إضراب ومظاهرة انتظر نادر برهان حتى تنتظمنا طوابير الصباح، ثم يتقدم خطوات إلى الأمام ويأخذ في التصفيق بقوة، وسرعان ما تدوي الطوابير بالتصفيق، وعند ذاك يبادر ضباط المدرسة إلى طوابير التلاميذ الصغار فيمضون بهم إلى الفصول بسماح من التلاميذ المضربين فنمضي ونحن نهتف بحياة سعد، ويذهب الباقون في مظاهرة على رأسها نادر برهان إلى الطريق فيلتقون بتلاميذ المدارس الأخرى، وفي إحدى المظاهرات أصيب برصاصة في ساقه فقضى في المستشفى شهرين ثم لازمه عرج خفيف بقية عمره، وتحت زعامته اشتركت في أول مظاهرة في حياتي عام 1924، دعانا إلى الإضراب وخطب فينا قائلا إن الملك فؤاد يريد التلاعب بالدستور، وإن سعد زغلول رئيس الوزراء - تلك المرة - يقف في صلابة للدفاع عن حقوق الشعب، وإن علينا أن نذهب إلى ميدان عابدين لتأييد الزعيم. ولما كانت الحكومة شعبية لأول مرة، ولما كان رئيسها هو وزير الداخلية، فقد سمح لنا بالاشتراك في المظاهرة باعتبارها مظاهرة سلمية، وسرنا في حشود هائلة من التلاميذ والطلاب وأهل البلد حتى اكتظ بنا ميدان عابدين، ورحنا ندق باب القصر بأيدينا ونهتف «سعد أو الثورة».
وترامى من بعيد هدير هتاف شامل إيذانا بمقدم الزعيم لمقابلة الملك، واشتد الضغط حول ممر ضيق شقه رجال الشرطة بصفين منهم لتسير فيه سيارة الزعيم، وقلت لرضا حمادة بسرور غامر: سترى أعيننا سعد زغلول.
فقال بحماس: نعم ولو لبضع ثوان.
وتسللنا بخفة وعناد حتى بلغنا حافة الممر، ورأينا السيارة قادمة ببطء شديد، والخلق يحيطون بها، ويتعلقون بأركانها، ويقفون فوق غطائها، وتطلعنا بأعين ملهوفة نهمة ولكننا لم نر إلا أجساد البشر، ولم يتجل من الزعيم ملمح واحد، وبؤنا بحسرة لازمتنا طويلا.
ولما انتقلت إلى المدرسة الثانوية انقطعت عني أخبار نادر برهان. لم أره ولم أسمع عنه، افترقت عنه عام 1925 وانقضت أربعون عاما حتى صادفته في مقهى أسترا شتاء عام 1965، كنت عائدا من لقاء نهاري مع أماني محمد فملت إلى مقهى أسترا لأشرب فنجان قهوة فرأيته جالسا وحده، بدينا عملاقا، ومعطفه مثني على ظهر كرسي إلى جانبه. عرفته من أول نظرة، وخيل إلي أنه لم يتغير كثيرا رغم أنه كان في الستين، حتى شعر رأسه ظل أسود عدا سوالفه. وأقبلت عليه باسما فنظر إلي بإنكار ولكنه صافحني، فلما ذكرته بالمدرسة الابتدائية والزعامة تهلل وجهه ودعاني للجلوس فجلست، قلت له: عيني عليك باردة، لم تتغير.
فقال ضاحكا: أنا من أسرة معمرين لا يموتون إلا في الحوادث.
وذكرته بالزملاء وأخبرته عن المصائر، فاتضح أنه لا يعرف إلا رضا حمادة معرفة غير شخصية، ولما سألته عن حاله رحب بالحديث جدا كأنما كان يبحث عن متنفس له. قال: بعد الابتدائية التحقت بالمدرسة الثانوية في أسيوط لانتقال أبي إليها، ولكني رفت في عهد محمد محمود، ورجعت في عهد النحاس، ثم رفت مرة أخرى في حكم صدقي، ثم اتهمت في قضية الشروع في اغتياله وسجنت، حكم علي بعشرة أعوام ولكني خرجت بعفو في حكومة النحاس التي عقدت المعاهدة، ووجدت أنه من العبث أن أحاول إتمام دراستي الثانوية، فعينني الوفد وكيلا لجريدة الجهاد في الإسكندرية.
وسكت قليلا متجهم الوجه للذكريات لا أدري بها ثم قال: لم أحزن في حياتي مثلما حزنت للخلاف بين مصطفى النحاس والنقراشي، كان النحاس زعيمي، وكان النقراشي أبي الروحي، ولم أتصور الدنيا صالحة للحياة مع وجود عداوة بين الرجلين، وسارت الأحداث في المجرى الذي تذكره، فبلغ بي التقزز مداه. ولما كانت المعاهدة قد ختمت ثورة 1919 وتحقق لنا الاستقلال ولو بعد حين، فقد قررت اعتزال السياسة، وصادف ذلك وفاة أبي ووراثتي لقدر لا بأس به من المال، ففتحت مطعم سمك في سيدي جابر وفتح الله علي. - إذن اعتزلت السياسة؟ - منذ عام 1937.
ثم وهو يعتدل في اهتمام: ولكني لم أنقطع عن متابعة الأحداث، لعلي السماك الوحيد الذي يفلي الجريدة قبل أن يقول يا فتاح يا عليم.
ثم وهو يهز رأسه في أسى: وكنت أتابع تدهور الأحوال بحزن، وكلما تسلل إلى الوفد ضعف أو انصرف عنه جيل من الشباب تقطع قلبي، ولكن ما باليد حيلة.
فقلت: لكل شيء شباب وشيخوخة، تلك سنة الحياة. - ولكن الوفد في حياتنا يمثل عصر الفتوة والبعث، دلني على أي فترة تاريخية منذ عهد ما قبل الأسر حتى اليوم ساد فيها الشعب وتعملق كما ساد وتعملق أيام الوفد!
ثم وهو يضحك: ولما قامت ثورة يوليو حمدت الله على القرار الذي اتخذته بملء حريتي قبل أن أرغم عليه أو على ما هو أسوأ منه. - ولكنك قدرت للثورة أعمالها المجيدة بلا شك؟ - الاعتراف بالحق فضيلة، ولكني لا أغتفر لها محاولة النيل من زعامة سعد زغلول.
فقلت: للسياسة مقتضياتها، وأظنك لا تنسى موقف مصطفى كامل من أحمد عرابي.
فسألني باهتمام: هل شاهدت جنازة مصطفى النحاس؟ كانت رد اعتبار شعبي لسعد وللوفد ولأكبر ثورة شعبية في حياتنا.
وأخبرني أنه يزور القاهرة من حين لآخر منذ عامين لانتقال كريمته إليها بحكم الزواج، ثم حدثني عن أسرته فقال: ابني الأكبر سماك مثلي، الأوسط مهندس، الأصغر ضابط طيار.
ومنذ ذلك التاريخ واظبت لدى كل تصييفة في الإسكندرية على تناول العشاء ولو مرة في مطعم زعيمي القديم. وفي صيف عام 1969 وجدته حزينا على غير عادته. وقال لي: في أواخر العام الماضي هاجر ابني المهندس إلى كندا!
ثم بنبرة متهدجة: وفي شتاء هذا العام استشهد ابني الطيار في سبيل الوطن!
هجار المنياوي
كان الشيخ هجار المنياوي مدرس اللغة العربية في مدرستنا الابتدائية، ولحق بنا في المدرسة الثانوية، وكان من أهل الصعيد، ينطق بلهجتهم، قوي البنيان طويل القامة غامق السمرة، قليل العناية بمظهره، فعمته أصغر مما ينبغي ولا ذوق له في اختيار ألوان الجبة والقفطان، ولكنه كان يفرض الاحترام بقوة شخصيته والتمكن من مادته وشجاعته الفائقة، ولم يكن متزمتا، كان يحب النكتة، ويروي لنا جميل الأشعار، ومرة تبارى في فناء المدرسة مع مدرسي الرياضة البدنية في التحطيب، فلعب بعصاه برشاقة أذهلتنا وانتصر على خصمه وسط تصفيق حاد، ومرة دخل جعفر خليل الفصل متأخرا بعد أن انتظمنا في مجالسنا، وكعادته في حب المزاح، قلد أستاذنا فقال له: عم صباحا.
وضحك الفصل وانبسط جعفر، وتركه الشيخ هجار حتى جلس، ثم ناداه: جعفر خليل.
فوقف فقال له بهدوء: أعرب «عم صباحا».
وعجز جعفر عن إعرابها ففتح الشيخ دفتر يومية التلاميذ وأعطاه صفرا، فاحتج جعفر قائلا: إنها صعبة!
فقال الشيخ بهدوء: ولم تستعمل ما لا تفهمه؟
أما جانبه الجاد فكان فذا لا يتكرر، كان في المدرسة الابتدائية - عصر الثورة - مدرسا للغة العربية والوطنية. فلدى أي مناسبة يفتح باب الحديث الوطني، يستعيد الذكريات المجيدة، ويشيد بالأبطال، ونحن نتابعه والدموع في أعيننا. وكان يحدث عن سعد زغلول وكأنه ولي من أولياء الله أو صاحب معجزات، معتبرا زعامته رسالة سماوية ومعجزة تاريخية، ومنه عرفنا ما لم نكن نعرف عن نشأة سعد، ومهارته في المحاماة، ومواقفه في نظارة المعارف ونظارة الحقانية، وزعامته، وتحديه لقوة الإنجليز، وسحره وبلاغته، وما ينتظر البلاد على يديه، وكان يقول: ببلاغته عبأ الشعور، وباسمه قامت الثورة.
وكان يعرف التلميذ الكامل فيقول: هو من يحصل العلم ويثور على الطغاة.
وكنا نحبه بقدر ما نجله، ونتلقى عنه الوطنية والأصالة، وبفضله أحببنا اللغة العربية وعشقنا أشعارها.
وفي المدرسة الثانوية تغير مذاق الجهاد، فتوارت عنا وجوه الإنجليز وبرزت في الصورة وجوه المصريين الموالين لهم واحتلت الحزبية المكان الأول في الصراع، وخاض الشيخ المعركة الجديدة بنفس القوة والصلابة، وكان يقول: المعركة هي المعركة، ولكن الأعداء ازدادوا عددا فوجب علينا مضاعفة الجهاد.
ويوم أضربنا على عهد محمد محمود، اليوم الذي استشهد فيه بدر الزيادي، أخرجه ناظر المدرسة فطالبه بأن يخطب التلاميذ حاثا إياهم على الانتظام في الدراسة ، وكان في طبعه حدة تثور على التحدي وتنفجر غضبا أعمى، فاعتلى المنصة أمام حجرة الناظر وصاح بصوت رهيب: العلم يطالبكم بالنظام والوطن يطالبكم بالجهاد وليس لكم إلا ضمائركم فارجعوا إليها.
وكتب الناظر تقريرا عنه فرفعه إلى وزير المعارف، وسرعان ما تقرر فصله، ويوم غاب عن المدرسة وانتشر الخبر هاجم الطلبة حجرة الناظر حتى اضطر إلى الفرار من المدرسة، واضطرت الوزارة إلى نقله حماية لحياته، وقد عاد الشيخ إلى المدرسة في عهد الوفد، ولكنه فصل مرة أخرى في عهد صدقي، فعمل في مدرسة بين الجناين الأهلية التي كان يملكها رجل وفدي معروف. وفي حكومة المعاهدة تعين مفتشا بالوزارة وسويت حالته تسوية عادلة، وفي انتخابات 1942 رشح نفسه على مبادئ الوفد فنجح، كما نجح مرة أخرى عام 1950، وقد التقيت به مرات في بيت رضا حمادة كما عرفت بعض أبنائه. ولما صدر قرار حل الأحزاب - بعد ثورة يوليو - رجع إلى قريته في الصعيد فلم يبرحها، ولا أدري إن كان ما زال على قيد الحياة أم انتقل إلى جوار ربه. ومما يذكر أنه في سبتمبر عام 1952 أو 1953 وكنت مارا أمام نادي الجيش القديم بالشاطبي، رأيت بعض أعضاء الوفد واقفين في فناء النادي يحيط بهم جند، وسمعت من بعض المارة بأنهم اعتقلوا وسيرحلون إلى القاهرة، ورأيت بين الضباط الذين يشرفون على الإجراءات الضابط محمد هجار ابن شيخنا القديم هجار المنياوي. تأملت الموقف، نظرت طويلا إلى الابن، تذكرت الأب، ثم خيل إلي أني أسمع هدير الزمن وهو يتدفق حاملا متناقضاته المتلاطمة.
وداد رشدي
رأيت وداد رشدي لأول مرة عندما جاءت لزيارة كاميليا زهران بإدارة السكرتارية يوما من أيام 1965، وكانت عملاقة، تمتد طولا وعرضا، ولكنها رشيقة بالنسبة لحجمها، وقسماتها كانت كبيرة في ذاتها، ولكنها مقبولة وجميلة في موضعها من الجسم المترامي، وبصفة عامة يوحي منظرها بالقوة والجمال والطلاقة كتمثال، وتؤثر نظرة عينيها العسليتين بجرأتها غير العادية، هذا إلى جاذبية جنسية نفاذة كالعطر الفواح. وكلما اختلست منها نظرة وجدتها تنظر إلي حتى ثارت تساؤلاتي. قدرت عمرها بالثلاثين ، ومن ملاحظة يسراها عرفت أنها متزوجة، وجعلت أتساءل عما يدعوها إلى ملاحقتي بنظراتها، وكانت علاقتي بأماني محمد ما زالت في عنفوانها، وخيل إلي أني عرفت السبب عندما أقبلت هي وكاميليا نحو مكتبي، جلستا على كرسيين متقابلين أمام المكتب، وقالت كاميليا: لا مؤاخذة يا أستاذ نريد استطلاع رأيك في مسألة؟
فسلمت وأنا أقول: تحت أمركما.
فقالت كاميليا: صديقتي وداد رشدي، ستحدثك بنفسها.
وقالت وداد بصوت ناعم واضح ذي درجة عالية تناسب حجمها: المسألة بكل بساطة أني حصلت على ليسانس الحقوق منذ خمسة أعوام، لكني تزوجت ولم أتوظف، وزوجي الآن معار في الكويت لمدة عام، وأفكر في التوظف، فهل يمكن إتمام ذلك عن طريق إدارة القوى العاملة؟
فقلت: كلا، ولكن جربي حظك بطلب خاص أو بالاشتراك في أي مسابقة يعلن عنها. - واضح أن الأمل في تلك الحالة ضعيف. - لا أقول إنه قوي، ولكن عليك أن تجربي.
وقالت كاميليا زهران: إنها أم لطفلتين ومع ذلك تريد أن تتوظف.
فقالت وداد: جميع زميلاتي متزوجات وموظفات!
فسألتها: وماذا عن الطفلتين؟ - لن ألقى المتاعب من هذه الناحية. - وماذا عن زوجك؟ - موافق.
وقالت كاميليا: ساعدها بما تستطيعه.
وزكت وداد نفسها قائلة: نحن جيران من الزمن القديم!
فتساءلت بدهشة: حقا؟ - لا تذكر لأني كنت صغيرة، ذلك تاريخ يرجع إلى عشرين عاما، وكنت في العاشرة، ثم غادرنا حيكم منذ خمسة عشر عاما وأنا في الخامسة عشرة. - ذلك تاريخ قديم ولكن ليس جدا فكيف لا أذكرك؟ - أما أنا فأذكرك كما أذكر رضا حمادة وسرور عبد الباقي وجعفر خليل الله يرحمه، وسرور عبد الباقي اليوم هو دكتورنا المفضل، وما زلت أذكر وفاة جعفر خليل الغريبة.
فقلت بحنان: يا لها من ذكريات!
وتساءلت كاميليا بمكر: أرأيت؟!
وبعد مرور أسبوع على المقابلة تلفنت إلي بخصوص الوظيفة أيضا، ولكني شعرت أنها لم تكن إلا مماحكة للمحاورة. وعجبت ماذا تريد العملاقة الجميلة المتزوجة؟ وجعلت أقارن بينها وبين أماني محمد، بل بينها وبين درية، واستثار الوجد فدعا من غيابات الماضي حنان مصطفى وصفاء الكاتب، وسألتها: ألن تزوري كاميليا مرة أخرى؟
فسألتني بصراحة: أتريد أن تراني؟
فلم أجد مفرا من أن أقول: يسعدني ذلك.
فسألتني بتحد: ولماذا يسعدك؟
فانزلقت إلى القول: مرآك يسعد الأنفس.
فضحكت وقالت: الإدارة عندكم مزدحمة وتفوح برائحة الأوراق.
فارتضيت الهاوية دون تقدير للعواقب وقلت: إذن ليكن في مكان هادئ. - أتحب الأماكن الهادئة؟ - جدا. - بشرط! - أفندم؟ - أن تجيء بنية طيبة. - طبعا. - تذكر ذلك. - وعد. - فما أهدأ مكان في نظرك؟ - حديقة الأسماك.
ووجدتها تنتظر بلا ارتباك ولا حياء، بلا ارتباك ولا حياء كأنما تنتظر زوجها أو أخاها، وسرنا معا في شبه خلاء، حتى اخترنا مجلسا تحت سفح الهضبة، وقالت: لعلك تسائل نفسك عن سر المرأة الجريئة التي رمت بنفسها في طريقك بلا سياسة ولا لباقة؟
فقلت بسرور والرغبات تراقصني: ما دمت سعيدا فلا معنى للتساؤل.
فقالت ضاحكة: لا تنس شرطي! - أنا متذكره.
فقالت بجدية: يجب أن تعرف أنني امرأة محترمة وزوجة مخلصة.
فقلت وأنا أستشعر شيئا من القلق: لا جدال في ذلك فعيني بصيرة، وسن الطيش ودعتها من قبل أن تفارقي حينا! - تكلم عن ذلك العهد باحترام وعاطفة من فضلك. - له الاحترام والحب إلى الأبد.
فابتسمت بجرأة لم أعرفها من قبل وقالت: لم أقابلك مصادفة. - حقا؟ - كاميليا حدثتني عن زملائها، وعندما سمعت اسمك .. ماذا أقول؟ قررت أن أقابلك. - ولكنك ترغبين في التوظف. - لا أهمية لذلك. - لا تتركيني فريسة للحيرة.
وهي تضحك في سعادة ناطقة: أنا أعرفك منذ عشرين سنة! - أجل. - كنت من سكان العمارة الخضراء، تذكرها؟ - أمام السبيل بالشارع العمومي!
فقالت بعتاب: ولكني كنت في العاشرة فلم تنتبه إلي. - كنا نمر تحت العمارة ولا موقف لنا تحتها وسن العاشرة ... - وسن العاشرة لا يستلفت النظر، ولكني بلغت الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة ولم تنتبه. - سوء الحظ إذا استحكم. - كنت وقتذاك أعتبر سوء الحظ من نصيبي أنا.
نظرت إليها في حرج فطالعتني بنظرة صريحة جريئة ضاحكة، وقالت: فعلت المستحيل لألفت نظرك ولكني لم أفلح. - يا لها من ذكريات كالأساطير! - ولكنها حقيقية، وهي تعيش في أعماقي كخيبة لا دواء لها.
فقلت بارتباك: لعلك تبالغين. - أبدا، كل كلام الدنيا لا شيء بالقياس إلى حقيقة ذلك الماضي.
وكنت أصغي بارتياح وافتتان وبلا عاطفة، وبصراحتها العملاقة سألتني: أحق ما يقال عن الحب الأول من أنه لا يفنى أبدا؟
وتذكرت في الحال حنان، وصفاء، ورجعت إلى قلبي الخامد، ثم قلت: لا يخلو قول مأثور من حقيقة خالدة!
فقالت بحرارة: إنه عاطفة ساحرة لا تتكرر ولذلك لا يمكن أن ينسى. - وما فائدة ذلك؟ - لا فائدة. - ولكنك زوجة سعيدة.
فقالت بأسى: أجل، لا أحب أن أكون جاحدة، ولكن العين تثبت على ما ينقصها. - لذلك فالسعادة حكمة عسيرة. - زوجي رجل كامل، إنه مثال تتمناه أي امرأة، ولكنه لا يشاركني ميولي الخيالية، أشعر أحيانا بالوحدة، وتعضني أحيانا خيبتي القديمة!
وضحكت ثم استدركت: عندي تخمة من السعادة، ولكن روحي ظمأى!
فسألتها: ما عمر زوجك! - أربعون عاما! - أنت في جنة ولا يجوز لك أن تحلمي!
فقطبت قليلا ثم قالت: أنت كبرت، وأراهن أنك لم تعرف الحب!
ترى أين صفاء؟ أما زالت على قيد الحياة؟ وهل يمكن - لو صادفتها - أن يجري بيننا مثل هذا الحديث؟! وتراجعت قائلة: لا مؤاخذة، صراحتي تخرجني أحيانا عن حدود اللياقة، ولكني توقعت أن تحترم عواطفي.
فقلت بحرارة: إني أحترمها من أعماق قلبي.
فقالت بتأثر وامتنان: أشكرك.
ثم واصلت: أرجو ألا ينقطع الاتصال بيننا، أيضايقك ذلك؟ - سأسعد به فوق ما تتصورين! - اتصال روحي لن يمس احترامنا لأنفسنا. - اقتراح عذب أقبله على العين والرأس. - وليكن التليفون وسيلتنا حتى لا نتعرض لظلم لا نستحقه. - كما تشائين. - إلا إذا غلبني شوق فسنتقابل خطفا. - ما أجمل أن نتقابل ولو خطفا!
ومنذ ذلك اللقاء فتحت لي حياة جديدة أبوابها فدخلتها مدفوعا بالحنان والتعلق بالذكريات وحب الاستطلاع، وعايشت روابطها العائلية ومشكلاتها اليومية، وما تزخر به من أبوة وأمومة وبنوة، وارتباطات عاطفية بل وجنسية، وخلافات ومسرات وأمراض وأحلام وأهواء من كل شكل ولون.
وداد بعد من أبعاد حياتي لا يدري به أحد، ولكنه جزء من كينونتي لا يتجزأ.
يسرية بشير
يرجعني الاسم إلى مهد الطفولة، ميدان بيت القاضي وأشجار البلح المثقلة بأعشاش العصافير، ومن نافذة جانبية كنت أطل وأنا طفل على حارة قرمز، وهي حارة مبلطة تنحدر في هبوط، وعند منعطف منها يقوم بيت آل بشير. كنت في السابعة أو الثامنة، وكان يعجبني منظر الشيخ بشير وهو يجلس أمام مدخل بيته في العصاري يسبح، يضيء المكان ببشرته البيضاء، ولحيته الشيباء، والألوان الزاهية التي تعرضها عمامته وجبته وقفطانه، وعندما يمضي إلى ميدان بيت القاضي في طريقه إلى الكلوب المصري تظهر في النافذة يسرية، لعلها كانت في السادسة عشرة أو نحو ذلك، يتجلى منها وجه كالقمر، أبيض بهيج مريح مضيء يتوجه شعر فاحم، وتناديني بصوت ناعم، وتمازحني، وأنا أتطلع إليها سعيدا راضيا وعاشقا إن جاز لابن سبع أن يعشق. والحق لا يمكن تفسير تعلقي بها إلا بالعشق، فما كانت قريبة ولا من سني، ولا أهدتني يوما لعبة أو قطعة من الحلوى، ولا تحدثت بجمال وجهها. وكانت تغريني أحيانا بالذهاب إليها فأتسلل من البيت إلى الحارة، ولكن الخادمة كانت تدركني في اللحظة المناسبة، وتحملني إلى البيت، وأنا أبكي وأرفس دون جدوى، ويوما أمطرت السماء، ووقفت في النافذة أرقب المطر وهو ينهمر فوق أديم الحارة ويجري نهرا ليصب في القبو القديم، وما لبث أن ارتفع مستوى الماء حتى غطى وجه الأرض، وانقلبت قرمز جدولا راكدا يستحيل عبوره إلا بالحمالين أو بالكارو، ومن خلال الأمطار المنهمرة رأيت يسرية واقفة أيضا في النافذة وهي تشير إلي فخطرت لي فكرة قررت في الحال تنفيذها، فصعدت سرا إلى السطح وحملت طست غسيل نحاسيا ومقشة ذات يد خشبية طويلة ومضيت بها إلى الطريق، ثم أرسيت الطست فوق سطح الماء ووثبت إليه وجعلت أدفعه بالمقشة فيسبح نحو بيت بشير، وانتبهت الخادمة ولكن بعد فوات الأوان، لم تستطع تلك المرة أن تخوض الماء إلي فوقفت عند ناصية الحارة تنادي ولا مجيب. وغادرت الطست عند باب آل بشير المثبت فوقه تمساح محنط، ومرقت إلى الداخل حافيا متشبع الجلباب بالماء، وقابلتي يسرية عند رأس السلم فقادتني إلى الحجرة، وأجلستني قبالتها على كنبة تركية، وراحت تداعب شعري برقة وأنا غارس عيني في وجهها المضيء، ولا شك أنني رغم الجهد والبلل شعرت بالظفر والسعادة بين يديها. وأرادت أن تسليني فتناولت راحتي وبسطتها وهي تقول: سأقرأ لك الطالع!
وراحت تتابع خطوط كفي وتقرأ الغيب ولكنني استغرقت بكل وعيي في وجهها الجميل.
Shafi da ba'a sani ba