وظل يردد ذلك حتى آخر يوم للإنجليز في مصر. ومع أنه كان بخيلا كأبيه إلا أنه استن لنفسه سنة جديدة في البخل، فقرر ألا ينفق مليما لغير ما ضرورة بشرط أن يهيئ لنفسه حياة رغدة. - أنا أعزب وسأظل أعزب، وبلا وريث فيجب أن أتمتع بحياتي.
طالما احتقر الزواج واعتبره عجزا وغباء، ويبدو أنه لا يندم على قرار اتخذه أبدا، وكلما تقدم به العمر نعم برضاه عن نفسه وعن قراراته، ومنذ عام 1936 غادر حينا بعد أن باع البيت، وأقام في فندق مينا هاوس إقامة دائمة مفضلا الفندق لما يوفره له من خدمة شاملة، وليعفيه من هموم المسكن المستقل المتنوعة، وفي الوقت نفسه استأجر بيتا ريفيا في الهرم لمغامراته النسائية المتقطعة، إذ لم يكن يحب العلاقات الطويلة، ويفضل غواني الملاهي الليلية من الأجانب، ولم يضن على نفسه بفاخر الطعام والشراب مع اعتدال تام في الخمور، ونفور طبيعي من المخدرات. وكان يقضي لياليه في سمر تجاري مع العاملين معه في حقل تجارة العمارات، ولكنه لم ينقطع عنا في ليالي سهراتنا الأسبوعية. وكان يهمه أن يقارن بين نجاحه وبين نجاح أصدقائنا أمثال الدكتور سرور عبد الباقي والأستاذ رضا حمادة، ولم يخف إدلاله بالتفوق عليهما في الثروة التي يعتبرها القيمة الأولى والأخيرة في الحياة .. وقد داعبته يوما قائلا: ها هو خليل زكي يناقشك في النجاح والثروة!
فقال باحتجاج: إنه قذر حقير.
فسألته: أتعتبر نشاطك المالي نشاطا شريفا؟
فقال بصراحة معهودة فيه: الشرف تتغير معانيه من بيئة لأخرى، قد أقوم بصفقة تعتبر في نظرك نهبا، ولكنا نعتبرها خبرة وذكاء، ولكني أحتقر أساليب خليل زكي التي تعد من خبرة الفقراء!
وأحبته غانية إفرنجية، ومضت تراسله، فكان يقرأ علينا رسائلها ساخرا ويقول: هكذا تتوهم المرأة أنها تحب إذا رغبت في الاستحواذ على رجل وامتلاكه!
وتجلت عواطفه العامة في أبشع صورة يوم نشبت الحرب بيننا وبين اليهود عام 1948، حتى خيل إلي أنه يكره وطنه لأسباب لا أدريها، أو أن مصالحه التجارية أفسدت عليه الميول التي نعتبرها فطرية، وتكرر ذلك الموقف منه عام 1951 لدى إلغاء المعاهدة وكفاح القنال، ولذلك كان يكره الوفد بالرغم من لامبالاته السياسية بصفة عامة، على أن حياته واصلت مسيرها في استقرار حتى قامت ثورة يوليو 1952. ومع أن الثورة لم تقتحمه بصفة عامة إلا أنها زعزعت طمأنينته وأقلقت ثقته. توالت عليه الهموم بإلغاء النظام الملكي وإعلان الإصلاح الزراعي والجلاء. توثبت في أعماقه غريزة الدفاع عن النفس، وأدرك - وإن لم يكن هدفا مباشرا - أنه ضمن الجبهة التي تهب عليها العواصف، وأنها قد تقتلعه عاجلا أو آجلا، وهيأ له الاعتداء الثلاثي عملية نقل دم، ولكن سرعان ما انطفأت شعلة الأمل، واختفى من الميدان كثيرون من أصدقائه اليهود حتى قال لي يوما: كم أتمنى أن أهرب أموالي وأهاجر!
ولما قرأ الوجوم في وجهي قال: لم تعد مصر بالمقام الصالح للأذكياء!
ثم ضحك ضحكته القاسية وقال: لو لم أكن مصريا لتمنيت أن أكون مصريا.
وتابع نشاطه بنفس القوة بالرغم من مخاوفه، واسترد أنفاسه في يونيو 1967، ومع أنه راقب الأحداث التالية للهزيمة بدهشة وذهول إلا أنه لم يفقد الأمل هذه المرة، وقال لي بشماتة: لا مفر!
Shafi da ba'a sani ba