وكان الدكتور ماهر عبد الكريم ممن يزنون أقوالهم بميزان دقيق. وبالرغم من أن عبد الوهاب إسماعيل لم يكن يتكلم في الدين، وبالرغم من تظاهره بالعصرية في أفكاره وملبسه وأخذه بالأساليب الإفرنجية في الطعام وارتياد دور السينما، إلا أن تأثره بالدين وإيمانه بل وتعصبه لم تخف علي، أذكر أن كاتبا قبطيا شابا أهداه كتابا له يحوي مقالات في النقد والاجتماع فحدثني عنه ذات يوم في مقهى الفيشاوي فقال: إنه ذكي مطلع حساس وذو أصالة في الأسلوب والتفكير.
فسألته ببراءة وكنت مغرما بالكاتب: متى تكتب عنه؟
فابتسم ابتسامة غامضة وقال: انتظر وليطولن انتظارك! - ماذا تعني؟
فقال بحزم: لن أشترك في بناء قلم سيعمل غدا على تجريح تراثنا الإسلامي بكافة السبل الملتوية.
فتساءلت بامتعاض: أأفهم من ذلك أنك متعصب؟
فقال باستهانة: لا تهددني بالأكليشهات فإنها لا تهزني. - يؤسفني موقفك. - لا فائدة من مناقشة وفدي في هذا الموضوع، وقد كنت وفديا ذات يوم، ولكني أصارحك بأنه لا ثقة لي في أتباع الأديان الأخرى!
وقد كان حقا وفديا، ثم انشق على الوفد وراء الدكتور أحمد ماهر، وكان عظيم الإعجاب به، ورقي في عهد السعديين إلى وظيفة مفتش. وكم تخلى عنه حلمه بسبب مصرع الدكتور أحمد ماهر، كأنما أصيب بنفس الرصاصة التي أودت بحياة الرجل، وقال لي بحزن بالغ: ضاع أعظم رجل في الوطن.
وكان يشكو صحته كلما سنحت مناسبة، وبها يتعلل في إفطار رمضان، ولكنه لم يصرح بحقيقة مرضه لأحد، كما أنه لم يهتم في حياته بالنساء ولم يتزوج، وعرف في تلك الناحية بالاستقامة الكاملة. وعلى جدية أخلاقه، وحملاته الصادقة على المنحرفين، تكشف لي جانب منه لم أكن لأصدقه لو لم أخبره بنفسي، ذلك أنه كان يوجد كاتب صاحب مجلة ومطبعة تصدر سلسلة شهرية من الكتب ، وكان عبد الوهاب يحتقره ويقول عنه: لولا مجلته لما وجد مجلة تقبل أن تنشر له كلمة.
وكم أدهشني أن أطالع له مقالة في الرسالة عن صاحب المجلة رفعه فيها إلى السماء! حرت في تفسير ذلك، حتى علمت بأنه اتفق معه على نشر كتاب له في سلسلته الشهرية نظير أجر ممتاز لم يظفر بمثله كاتب آخر! وتذكرت في الحال موقفه الأعمى من الكاتب القبطي، فأزعجني جدا اكتشاف ذلك الجانب الانتهازي في شخصيته، وساورني شك من ناحية صدقه وأمانته، واستقر في نفسي - رغم صداقتنا - نفور دائم منه. وظل يعمل مفتشا وكاتبا، حتى ولي الوفد الحكم عام 1950، فلم يرتح إلى معاملة الوزير الوفدي له، فقدم استقالته وتفرغ للعمل في الصحافة، وعرف في تلك الفترة بهجومه المتواصل على حكومة الوفد، وفي نفس الوقت شرع يكتب كتبا عصرية عن الدين الإسلامي، لاقت نجاحا منعدم النظير، وقامت ثورة يوليو 1952 وهو منغمس في محاربة الوفد والدفاع عن الدين الإسلامي، وكان مر عامان على الأقل لم نلتق فيهما أبدا وانقطعت عني أخباره الخاصة. ويوما كنت في زيارة للأستاذ سالم جبر فقال لي: الظاهر أن نجم عبد الوهاب إسماعيل سيلمع قريبا.
فسألته باهتمام: ماذا تعني؟ - أصبح من المقربين. - ككاتب سياسي أم ككاتب ديني؟ - باعتباره من الإخوان المسلمين.
Shafi da ba'a sani ba