على أن مندليف لما أراد الوصول إلى تحديد أعمدة تنتمي إلى عائلة كيميائية واحدة على هذا النحو، اضطر إلى ترك «خانات» خالية، بل اضطر مرتين أو ثلاثا، إلى قلب النظام الذي تحدده الأوزان الذرية المتزايدة بالتدريج، مما ينطوي على مخالفة لمبدأ قائمته ذاته، وهكذا كانت هذه الطريقة تعطي انطباعا بأنها عشوائية، ولكن «مندليف» أكد أن هذه «الخانات» الخالية تحدد مكان عناصر مجهولة، ولم يتردد في تقديم بعض الإيضاحات المتعلقة بخواص هذه الأجسام المجهولة، ومنذ ذلك الحين حتى أيامنا هذه، أخذت فراغات «القائمة الدورية» تملأ سنة بعد أخرى، وتحققت نبوءات «مندليف». والحق أن قائمة «مندليف» - بما أدخل عليها من تعديلات قليلة - تعد، في أيامنا هذه، حقيقة من أروع الحقائق في ميدان فلسفة المادة.
وهاك الموضع الذي يظهر فيه دور الإلكترون في تصنيف مندليف. إن حالات التكافؤ الكيميائي تتدخل في ظواهر التحليل بالكهرباء (قوانين فارادي). وما دامت حالات التكافؤ هذه على صلة بالكهرباء فلا بد أنها على صلة بالإلكترونات، وهكذا أصبحنا نشهد ظهور كيمياء إلكترونية، لا كيمياء كهربية، والحق أن كل نوع من الذرة يحتوي على عدد مميز من الإلكترونات، والترتيب الحقيقي الذي وضعه «مندليف» هو ترتيب «إلكتروني»؛ فالكيمياء الحديثة في حاجة إلى مفهوم جديد، وهو مفهوم «العدد الذري» (أي عدد الإلكترونات التي تحتوي عليها الذرة الواحدة)، والعدد الذري، لا الوزن الذري، هو الذي يصلح متغيرا أساسيا يبنى عليه ترتيب مندليف؛ فإذا كان مندليف قد استطاع تحديد قائمته بطريقة صحيحة إلى حد ما، رغم جهله بهذه الفكرة، فإنما يرجع ذلك إلى أن الأوزان الذرية والأعداد الذرية تتزايد، في وقت واحد، فيما عدا استثناءات قليلة هي بعينها الاستثناءات التي تركها مندليف «اعتباطا» مخالفا بذلك مبدأه الخاص.
وعلى ذلك فجميع العناصر الكيميائية تتميز بالعدد الذري الذي يتراوح ما بين «1» في حالة الهيدروجين و«92» في حالة الأورانيوم، (وسنرى فيما بعد كيف أمكن تصور عناصر «بعد الأورانيوم» لها أعداد ذرية أعلى منه).
ولكن، مادامت الخواص الكيميائية للعناصر المختلفة تعود إلى الظهور «بطريقة دورية» على حين أن الوزن الذري يزداد بطريقة منتظمة، فلا بد أن نتصور «تنظيما دوريا» للإلكترونات المتجمعة في الذرة الخاصة. وهكذا فرضت على الأذهان فكرة «الطبقات» المتعاقبة من الإلكترونات في تركيب الذرات. فقائمة مندليف لها ثمانية أعمدة. وطبقات الإلكترونات في الذرة لا يمكن أن تحتوي على أكبر من ثمانية إلكترونات. فعندما تحتوي طبقة على ثمانية إلكترونات تكون كاملة. أما الطبقات غير الكاملة فإليها ترجع الخواص الكيميائية. على أن التجمعات الكيميائية تتجه إلى تكوين طبقات ذات ثمانية إلكترونات، بأن تجمع في طبقة واحدة إلكترونات طبقتين سطحيتين غير كاملتين من العناصر المكونة.
وهكذا نرى كيف تتجه أشد الظواهر اختلافا في العلم الحديث نحو نقطة واحدة. وسنأتي لهذا التقارب ببرهان آخر كفيل بإيضاح القيمة التركيبية للتفكير العلمي الحديث.
فمن الخواص المميزة للأجسام الكيميائية، خاصة «الأطياف المضيئة»، أعني مجموع الألوان الضوئية التي يكشف عنها التحليل الطيفي في إشعاع مادة وصلت إلى حالة التوهج.
وهذه الألوان الضوئية ترتبط بتغيرات في تركيب طبقات الإلكترونات، وعن طريق تفسير الصيغة الرياضية التي توضح توزيع ألوان طيف الهيدروجين (صيغة بالمر
Balmer ) تمكن العالم الدنمركي «نيلز بور
Niels Bohr » (المولود في 1885م)
3
Shafi da ba'a sani ba