24
الذي فسر نشأة العمود الفقري عن طريق رواسب معدنية تنفذ إلى أنسجة العضلات، ثم تشكلها حركات الحيوان، مثلما تتخذ أكمام الثوب شكلها من حركات الذراع. (10) مذهب دارون
بلغ دارون
25
مرحلة النضج بعد لامارك بحوالي نصف قرن، وفي ظروف مغايرة تماما؛ فقد كان لامارك أستاذا في المتحف، أما دارون فكان عالما طبيعيا رحالة، ولقد لاحظ دارون في «شيلي» أنواعا حيوانية واضحة التقارب، ولكنها تختلف من حيث مواطنها، أي الأرض التي تعيش فيها، فربط بينها وبين أنواع الحفريات التي اهتدى إليها في باطن الأرض. فأقنعته هذه الملاحظات، التي أجراها بوصفه عالما للأحياء ورحالة، بصحة فكرة التطور. ومما ساعد أيضا على قبوله هذه الفكرة، وجود نوع من التقاليد العائلية كان يوحى إليه بها؛ فقد كان جده «إرازموس دارون» من علماء الأجنة ، وهذا النوع من العلماء المشرحين يعد تغير النوع حقيقة مجربة، إذ إن الجنين ينتقل خلال نموه انتقالا ملحوظا من نمط إلى نمط آخر مختلف عنه كل الاختلاف، ولكن دارون كان أكثر حذرا من أن يطبق أفكار جده بحذافيرها على تكون الأنماط الحية بوجه عام، وإنما أراد أن يعرف أولا «كيف» تتطور الأنواع.
الانتقاء الطبيعي: وعندما عاد إلى إنجلترا، قرر أن يلاحظ التحولات التجريبية التي يمكن الوصول إليها بأساليب التربية البشرية، وبدا له أنها ناتجة عن «انتقاء»، والانتقاء طريقة تعزل بها التغيرات العرضية التي نهتم بها، مع استبعاد بقية التغيرات. ومثال ذلك ما يفعله مربي القطط حين لا يستبقي لديه من السلالة إلا القطط السوداء، ويقضي على الأخرى فهل يعني ذلك أن الطبيعة تسلك هذا النحو ذاته؟ لقد ظل دارون يفكر في إجابة عن هذا السؤال مدة طويلة، إلى أن كان يوم قرأ فيه كتاب المفكر الاقتصادي الإنجليزي مالتوس (
Malthus ) ووجد فيه أنه بينما تزداد موارد العيش تبعا لمتوالية حسابية، فإن الناس يتزايدون بمتوالية هندسية، أي أنهم يتزايدون بسرعة أكبر بكثير. لكن إذا كان قانون مالتوس ينطبق على الكائنات البشرية بطريقة غير مؤكدة، فإنه ينطبق بطريقة مؤكدة تماما على ما يعمر الأقاليم الجغرافية من الحيوانات والنباتات، وقام دارون بعملية حسابية، أساسها متوسط قدرة الأنواع على التكاثر، فأدرك أننا، حتى لو نظرنا إلى الأنواع القليلة النسل (كالفيلة مثلا) لوصلنا سريعا إلى زيادة مريعة، على أن الطبيعة عاجزة ؛ بل هي عاجزة تماما، عن تقديم الغذاء لكل ما يولد، وإذن فهناك انتقاء آلي، هو «الانتقاء الطبيعي» وهو قانون للطبيعة، وليس إجراء صناعيا مقصودا.
وعند دارون أن سبب التحول هو الآتي: فكلما ولد كائن حي، حدث «فارق عرضي» وفي «التنافس الحيوي» الذي تدخل فيه بالطبع الكائنات التي تنتمي إلى نوع واحد تعيش أفراده معا، فيضطرون إلى التغذي من نفس الإقليم، ومن نفس الأغذية، وبمقادير غير كافية؛ في هذا التنافس قد يكون ذلك الفارق العرضي أمرا ضارا أو نافعا. فإذا كان ضارا، أدى ذلك إلى القضاء على الكائن الذي يحل فيه، وإن كان نافعا، استمر الكائن في البقاء، وتكاثر، ونقل الاستعداد للتنوع على هذا النحو، وهو الاستعداد الذي كان فطريا لديه. فالفارق العرضي الموروث، والانتقاء الطبيعي (بقاء الأصلح، والقضاء على الآخرين بتأثير التنافس الحيوي). هذه هي الأفكار الرئيسية في مذهب دارون.
مثال الزرافة: من حسن الحظ أن لدينا تفسيرا طبقه دارون على نفس المثال الذي تحدث عنه لامارك، وإذن فمن الطبيعي جدا أن يكون التفسيران تضادا ثنائيا. وفي هذا يقول دارون: (إن ارتفاع قامة الزرافة، وطول رقبتها، ورجليها الأماميتين، ورأسها ولسانها، يجعل منها حيوانا يتكيف على أفضل نحو مع البيئة لقضم أعلى أغصان الأشجار، وبهذا يمكنها الوصول إلى أنواع من الغذاء بعيدة عن متناول غيرها من الحيوانات ذات الحوافر التي تسكن نفس الإقليم، ولا شك في أن هذا يحقق لها مزايا كبرى في أوقات القحط ... ولو تأملنا الزرافة المولودة، في حالة التوحش الأولى، لوجدنا أن أعلى الأفراد قامة وأقدرهم على القضم من ارتفاع يعلو على ارتفاع الآخرين شبرا أو شبرين، هم الذين أمكنهم الاستمرار في البقاء في وقت المجاعة، إذ كانوا يجوبون الإقليم كله من أقصاه إلى أقصاه بحثا عن الغذاء، وأدى امتزاجهم إلى إنتاج ذرية ورث أفرادها الخصائص الجسمية، أو الميل إلى السير في نفس اتجاه التغير، بينما تعرض الأفراد الذين لم يصلوا إلى نفس درجة التكيف في نفس هذه الظروف للفناء.
26 (أ) الصعوبات التي تواجهها نظرية التطور عند لامارك وعند دارون
Shafi da ba'a sani ba