Manhaj Fi Fikr Carabi Mucasir
المنهج في الفكر العربي المعاصر: من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي
Nau'ikan
وانتقلت هذه البنية الفكرية والشاكلة الثقافية من عصر الانحطاط إلى عصرنا الحاضر، فاستخدمها بعض المنادين بالإصلاح، فدعوا إلى «قياس الغائب على الشاهد»؛ الغائب هنا هو المستقبل، والشاهد هو الماضي المجيد؛ ليبرهنوا على أن «ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل»، وهذا - في نظر الجابري - غير ممكن، بل مستحيل اعتماده في تأسيس العرب مشروعهم النهضوي عليه، وإنما السبيل في استخدام وابتكار طرائق علمية موضوعية حديثة لتحقيق النهضة، من خلال تكسير هذه البنية الثابتة للعقل العربي وآليته المنهجية «القياس» في شكله الميكانيكي اللامتغير الذي يجمد الزمان ويلغي التطور.
103
ولهذا انصب عمله في اتجاه تكسير هذه الثوابت من خلال أدوات ومفاهيم هذه المرحلة العقلية بأدوات ذهنية قادرة على حل المشكلات التي طرحتها هذه المرحلة - وما تزال - على العقل العربي. وقد اتجه الجابري منذ بداية مشروعه إلى البحث - من خلال القطيعة المعرفية - عن «الفرقة الناجية»، ومن خلال توصيفات هذه القطيعة ولائحتها المفاهيمية في المخزون الفكري العربي، وكشف عورات «الفرق الضالة» - غير العقلانية - فيه التي لوثت فكرها بفكر خارجي غنوصي، ولم تستجب للمعايير الإبستيمولوجية والعقلانية الباشلارية.
فحازت الفرقة المغربية الأندلسية الرشدية عنده شرف التمثيل، وإنها الوحيدة المؤهلة لقيادة العقلانية العربية، وإنجاز القطيعة المعرفية، بل أكثر من هذا يتأسف الجابري على ضياع دولة ابن رشد التي شيدها على طريقة أفلاطون وزاد فيها من طموحاته، وأن الانتقال الديمقراطي في العالم العربي لا يتيسر إلا من خلال المشروع الرشدي العقلاني لمواجهة الحتمية الخلدونية التي تقول بالهرم وحتميته.
104
فالتقطيع الذي مارسه الجابري أفسد منهجه التحليلي الإبستيمولوجي في بعده الإجرائي على الأقل، كما حدده في خطواته المنهجية وبنائه الفكري، وصبغه بصبغة التحليل الأيديولوجي الانتقائي البراغماتي لخريطة معرفية دون أخرى أشبه - في نظري - بالتقطيع الجغرافي للخريطة العربية، فالتركيز على الفلسفة المغربية الأندلسية واستبعاد نظيرتها المشرقية فيه كثير من التجني.
ويعزز الجابري هذه القطيعة المعرفية وإعلان تحيزاته للفلسفة المغربية الأندلسية بنص، بعد أن انتقد الفلسفة المشرقية وخروجها أو إخراجها من دائرة الفلسفة العربية الإسلامية، لتدخل دائرة الفلسفة الإشراقية الفارسية، يقول: «لنول وجهنا شطر المغرب العربي إذن حيث سنجد الفلسفة العربية الإسلامية قد «قطعت» مع إشكالية المشارقة لتتبنى إشكالية المغاربة (في المغرب الأقصى والأندلس خاصة). هنا أيضا ستواصل الفلسفة نضالها من أجل نفس القضية؛ قضية العقل والعقلانية، لكن بعد أن طرحها من جديد بمنهج جديد وفي آفاق جديدة (...) كل ذلك كان بمثابة إعادة تأسيس للفلسفة في الفكر العربي والثقافة العربية، لقد فشلت الفلسفة في تحقيق حلمها في المشرق، وعليها الآن أن تبدأ من «الصفر» في المغرب.»
105
والبداية من الصفر حكم بالإعدام على ما سبق في التاريخ، وقطع لصلات الأجيال بعضها ببعض، حتى في علم الوراثة لا يجوز الفصل والقطع، فإذا كان يجوز في التراثات الأخرى - وهذا غير حاصل البتة، وإنما هناك استمرار - فإنه بالنسبة للتراث العربي مستحيل؛ لأن المفاهيم والمقولات تورث بين الأمة وأبنائها، على فرض الاختلاف والتباين في كثير من الأحيان، وهذا يتنافى مع ما أعلنه من الانخراط في التراث، فالثورة الحقيقية هي في التواصل والتلاقح بين المشرق والمغرب.
صحيح أن المغاربة أبدعوا ، لكن أيضا استفادوا من تجربة المشرق، وأسسوا عليها حسب خصوصياتهم، وتجربة ابن تومرت التي تحدث عنها كانت واحدة من التجارب التي انطلقت ثورتها من الفكر العقلاني العربي المشرقي في علم الكلام والخلافيات والمناظرات.
Shafi da ba'a sani ba