Manhaj Fi Fikr Carabi Mucasir
المنهج في الفكر العربي المعاصر: من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي
Nau'ikan
إهداء
تقديم
1 - المدرسة القومية في الفكر العربي المعاصر: الأسس المرجعية والمحددات المنهجية
2 - المدرسة العلمانية في الفكر العربي المعاصر: الأصول المرجعية والمنهجية
3 - المدرسة البنائية التأصيلية في الفكر العربي المعاصر: الرؤية والمنهج
خاتمة
لائحة المصادر والمراجع
إهداء
تقديم
1 - المدرسة القومية في الفكر العربي المعاصر: الأسس المرجعية والمحددات المنهجية
Shafi da ba'a sani ba
2 - المدرسة العلمانية في الفكر العربي المعاصر: الأصول المرجعية والمنهجية
3 - المدرسة البنائية التأصيلية في الفكر العربي المعاصر: الرؤية والمنهج
خاتمة
لائحة المصادر والمراجع
المنهج في الفكر العربي المعاصر
المنهج في الفكر العربي المعاصر
من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي
تأليف
عبد الله أخواض
إهداء
Shafi da ba'a sani ba
إلى أمي وأبي
اعترافا بفضلهما وجميل صنيعهما.
تقديم
ثمة إحساس واتفاق بين المشتغلين بالفكر العربي المعاصر، والمهتمين بهموم النهضة والتقدم في الأمة، أن ما خطط له منذ أربعة عقود - على الأقل - لم يحقق ما كان يرجى ويتوخى، وأن الجهود التي بذلت مسها قصور كبير في جوانب مهمة من هذا المسار الفكري رغم الإمكانات التي توفرت لتيارات هذا الفكر، ورغم محاولات الترميم بين لحظة وأخرى، لكنها بقيت دون المبتغى، ولم ترق إلى مستوى التحول العميق في الأطر المرجعية ومنطلقات التأسيس والبناء.
وقد قدمت هذه الاتجاهات مشاريعها الفكرية، وتبنت مقولات ومفاهيم تتقدم برامجها للإجابة عن الأسئلة المقلقة والحرجة التي تواجه الأمة، فدارت المعارك بين هذه المقولات ومنهجياتها تحت شعار «البقاء للأقوى» و«نفي النفي» ومنطق التجاوز والإلغاء، فأدخلت الأمة في معركة وهمية؛ معركة المقولات الإمبريالية بتعبير المسيري. فجر الفكر العربي المعاصر الأمة إلى معارك فكرية ومنهجية لم تكن لتختارها بإرادتها، ولا عن طواعية، لكن سيقت إليها سوقا، ودعت إليها دعا، فتوزعت إلى أحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون: معركة المناهج، ومحددات الرؤى، والاختيارات الفكرية، فنشأت فيها مقاربات وأطروحات مضادة، فاحتدم الصراع بين تيارات الوعي العربي حول أمضى الأسلحة وأقواها في مواجهة مركبات التخلف والتأخر التاريخي، فاختلفت هذه المحددات المنهجية من مدرسة إلى أخرى، وقدمت وصفات منهجية جاهزة.
المقاربة الأولى:
المقاربة التاريخية الجدلية التي تبناها اليسار الماركسي العربي، الذي يرى في التحليل المادي التاريخي المخلص الحقيقي للأمة من سكونها، وركودها التاريخي، وتجاوز المنهجيات التي ظلت رهن النظرات، والمواقف المثالية «الميتافيزيقا» التي يحكمها خط عام مشترك، ورؤية أحادية الجانب، ومستقلة عن التاريخ وقاصرة عن كشف العلاقة الواقعية الموضوعية غير المباشرة بين القوانين الداخلية لعملية الإنجاز الفكري، وبين القوانين العامة لحركة الواقع الاجتماعي،
1
باعتبار هذه الرؤية تمثل طريق الوضوح المنهجي،
2
Shafi da ba'a sani ba
وتملك عناصر قادرة على تقويم التاريخ وتجاوزه، فنظرت إلى تاريخ الأمة وفق تراتبية منهجية أملتها عناصر المقاربة المعتمدة في أفق الانتقال من مجتمع إقطاعي رأسمالي متخلف إلى مجتمع اشتراكي.
فقام التحليل عندها على قاعدتين أساسيتين: قاعدة المادية الدياليكتيكية والمادية التاريخية، واعتبرت هذه الأخيرة هي القاعدة في تحديد المنهج لإنتاج المعرفة. وتمثل هذه المدرسة أحسن مدخل للعرب في الفكر التاريخي، وإن التجاوز الأفضل لمشكلات التأخر يتحقق داخل الأطر المنهجية والمرجعية لهذه المدرسة، لكنها ظلت على هامش قضايا الأمة، فتحولت من البحث عن الوضوح المنهجي إلى الغموض المنهجي وضبابية الرؤية ومصادرة حق الاختلاف فيه. وتكاد تكون هذه المصادرة علامة فارقة عند هذا التيار، فلا هو أنتج فكرا وأسس رؤية ولا استطاع تجاوز مشكلات التخلف.
المقاربة الثانية:
هي المقاربة الإبستيمولوجية التي مثلها ثلة من المفكرين العرب، على اختلاف مداخل التبني، الجابري، ووقيدي، وأركون ... إلخ، التي انتهجت هي الأخرى منطق الاستبعاد والاستبقاء على مستوى الاختيارات المنهجية، أو على مستوى قضايا ونماذج التطبيق لهذه المقاربة، إلا أنها هي الأخرى مسها مس الاختزال والفشل في تحقيق الحلم، إذ مارست التفكيك لآليات العقل العربي الإسلامي، لكنها لم تقو على البناء والتركيب والتوليد.
هكذا اتخذت الإجابة عن مشكلات الأمة طرقا ملتوية غير مستوية، ومنهجية معكوسة من خلال الاشتغال على آليات وأدوات، وجدت خارج مشكلاتها الحقيقية، وسياقها التاريخي الحضاري؛ قاصرة عن تقديم الحلول المناسبة، مما يطرح مشكلة الاستعانة بالمساقط الفكرية والمنهجية - بتعبير منى أبو الفضل رحمة الله عليها - المغايرة لهوية الأمة الحضارية، ويفسر ضعف الإبداع في الفكر العربي المعاصر، فافتقد هذا الفكر لإطار مرجعي جامع في تنظيراته وممارساته، وقد كان هذا مسوغا كافيا لإرباك حسابات وتوقعات هذه التيارات المتأرجحة، ومن شأن كل فكر ينطلق من مسلمات النموذج المتأرجح ومقولاته أن يفقد مقومات النهوض الراشد.
يقتضي المنهج العلمي الإمساك بالمنطق الداخلي لكل مجتمع، ومراعاة خصوصياته في إطار المشترك الإنساني العام ما لم ينقض أصلا من أصوله، أما التعميم المنهجي والمعرفي والواحدية في المقولة الإنسانية فمنطق متجاوز، وإن العقائد مسلمات أساسية في البناء المعرفي والحضاري للأمم، خصوصا إذا تعلق الأمر بأمة الإسلام صاحبة الوحي الخالد - الإطار المرجعي الأساس في بناء الرؤى وتوليد النماذج الفكرية والمعرفية.
إن أي تخطيط لمشكلات الأمة خارج هذا الإطار سيئول لا محالة إلى الفشل؛ ولهذا لم يكن الاشتغال في الفكر العربي المعاصر على مناهج واضحة المعالم، وذات علاقة براهنية قضايا الأمة ومشكلاتها، وتؤسس لتحيزاتها وخصوصياتها، والانتقال من المطابقة والمماثلة - بتعبير عبد الله إبراهيم - مع آليات ورؤى الفكر الغربي إلى الاختلاف معها.
لأن الاختلاف رهان الاستقلال الحضاري، وإعادة قراءة الأحداث برؤية مستقلة وواعية ومتبصرة، زد على ذلك أن هذه المناهج مناهج تفكيكية غير قادرة على التركيب وتفتقد إلى القصدية، والغاية التكوينية للخلق، في دراسة الظواهر وغير مستوعبة للشروط التاريخية والنفسية والاجتماعية للإنسان العربي.
وتكاد تكون هذه القضية عامة في واقع الفكر العربي المعاصر. وما ذلك التأخر في السعي والإثمار الذي عاشته تجارب الأمة الإصلاحية إلى اليوم، إلا بسبب افتقادها للمنهج والتي هي أقوم في مشاريعها النهضوية.
استشعارات داخلية:
Shafi da ba'a sani ba
ثمة إحساس ووعي واستشعارات داخلية قوية لم تعد تراهن على تقليد الغرب في تحقيق الإنجاز الحضاري، أو على منهجية تلفيقية تجمع بين الحداثة وبعض إنجازاتها، والتراث ومفاهيمه؛ بعد أن ضاع من الأمة زمن غير يسير من السير خلف هذا الذي يأتي أو لا يأتي، بقدر ما تراهن على مقومات الهوية العربية الإسلامية في النهوض، والبحث عن مسافة حقيقية في علاقتها مع الغرب تحددها هذه الهوية، وأن الرهان على النماذج المعرفية والمنهجية الإدراكية المتلقية مستحيل، خصوصا في جو من الأزمات التي تعيشها هذه النماذج، والانتقادات الصارمة التي تتلقاها في الداخل.
إن النهضة الحقيقية تنطلق من النسق الفكري للأمة ومن أصالتها المنهجية وصدق وفعالية أفكارها وقدرة جهازها المفاهيمي على التوليد والإبداع، وإن حركة التاريخ لا تؤتي ثمارها إلا في إطار نسقها العقدي والفكري، أما الاعتماد على مجموعة من المرتكزات والمفاهيم المنبثقة من أنماط حضارية أخرى فيحدث الخلل والتناقض، ويعطل المسير حيث ينبغي له السير، ويسير حيث لا ينبغي أن يسير.
هذه قضايا حاولنا قدر الوسع والطاقة أن نعالج بعضا منها من خلال نماذج اخترنا الاشتغال عليها، وحد بينها هم التاريخ والتقدم والنهضة والخروج من التخلف، وفرق بينها المنهج والرؤية والتصور.
وقد كان هاجسنا في هذا العمل البحث عما يجمع هذه التيارات لا ما يفرقها، لهذا تجنبنا السقوط في التحليل الاختزالي الذي يرى المخالف شرا مستطيرا، ومن يشترك معه في تحيزاته الصواب والحق، وإنما تحيزنا في هذا العمل كان إلى جانب الإطار المرجعي العام للأمة للمنهج والرؤية التي ينبغي أن تنطلق منها في نهضتها.
فنحن لا نؤسس لرؤانا وتصوراتنا على انتظار فشل الآخرين أو لعيوب في فلسفاتهم، بقدر ما نؤسس على تراكم خبرات وتجارب الأمة على اختلافها وتنوعها.
يأتي الاهتمام بهذا الموضوع في سياقات متعددة، لعل أبرزها: ما ارتبط بالدعوة إلى ضرورة تحرير مناهج التفكير في الوطن العربي، وتجاوز حالة الاغتراب واللاوعي التي يعانيها، ثم سياق بناء المعرفة؛ إذ لا معرفة بدون منهج، إذ المنهج حالة وعي دائمة في الأمة لإعادة التركيب الطبيعي فيها، وإحداث التوازن والانسجام بين الفكرة والواقع الاجتماعي والوعي التاريخي الذي شكل هذه الذات، وإعادة الثقة بالمنظومة الفكرية والثقافية لها، وامتلاك القدرة على تشغيل آلياتها في النهوض والتقدم، وتجاوز ثغرات الفكر العربي المعاصر ومشروعه النهضوي وآليات اشتغاله، وتناقضاته وثنائياته المفاهيمية.
إن قضية المنهج والمنهجية يتوجب أن تأخذ مكانة متقدمة في سلم الأولويات، فالمعركة اليوم في كثير من المجالات والمشاريع تكاد تنحصر في نظرنا حول قضية المنهج؛ لأنه هو التصور والفلسفة والرؤية (للماضي والحاضر والمستقبل). والوعي بهذه القضية يجعل الأمة قادرة على الدخول في تنافسية حقيقية مع المركزية الغربية، وإن حركة التاريخ «لا تؤتي ثمارها وفاعليتها إلا في إطار نسقها العقدي والفكري الخاص بحضارتها ومسارها في خضم الكيانات الحضارية، أما اعتماد مجموعة من المرتكزات والمفاهيم المنبثقة عن أنماط حضارية مغايرة فيحدث الخلل والتناقض (...)»
3
بين الأنساق الحضارية وعالم أفكارها الذي يفصل بينها، فإذا كان التقدم الحضاري يبدأ من خلال الأفكار فإن التحليل يبدأ أيضا من خلالها.
تحليل الآثار المدمرة للأفكار الوافدة وخيانة لأصالة الفكرة الإسلامية التي غيبت عن ساحة الفعل الحضاري المعاصر. كما تسعى الدراسة إلى تعرية الأسس والمنطلقات المرجعية، والمنهجية التي ظل ينطلق منها الفكر العربي المعاصر على اختلاف توجهاته، وكشف تهافت أطروحاته، والتأكيد على خصوصيات المجتمعات العربية، وحقها في تحقيق الاستقلال المنهجي في دراسة قضاياها وتجاوز الأدوات المنقولة إلى أدوات مأصولة وموصولة بالذات الأصيلة تاريخيا وحاضرا ومستقبلا. (1) موضوعات البحث
Shafi da ba'a sani ba
قسمت هذا البحث إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.
الفصل الأول:
خصصناه للمدرسة القومية العربية، ومحدداتها المنهجية التي أسست عليها مشروعها النهضوي، من خلال الاشتغال على نموذج متميز داخل هذه المدرسة، الأمر يتعلق بالمفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، وعلى الموجهات المنهجية التي اختار الاشتغال عليها وتجاوز ما عبرنا عنه بفوضى المنهج إلى الانتظام المنهجي داخل هذه المدرسة، وفي الفكر العربي المعاصر بشكل عام، والمرجعيات التي أسس عليها هذه الاختيارات، مع ملاحظات نقدية على أساس الالتزام بما ألزمنا به أنفسنا وهو تجنب التحليل الاختزالي، والسعي إلى تحصيل التراكم البنائي لا التراكم التبديدي الإبطالي.
الفصل الثاني:
اعتمدنا فيه على تحليل الخطاب العلماني في الفكر العربي المعاصر، أسسه ومنطلقاته المنهجية التي اشتغل عليها في التنظير لقضايا الأمة ومقاربة إشكالاتها وشروط الدخول في عصر الحداثة الفكرية والمعرفية، من خلال نموذجه محمد أركون نظرا لما يميز كتاباته على مستوى التنظير المنهجي، وأكثرها افتتانا بفتنة الحداثة في نسختها الغربية، فقومنا ما ينبغي تقويمه في هذا الخطاب.
الفصل الثالث:
عرضنا فيه لنموذج بدأ يطرح نفسه على الساحة الفكرية العربية المعاصرة؛ نموذج المدرسة الحداثية البنائية في الفكر العربي المعاصر، عززناها بنموذجين من النماذج الفكرية اشتغلت بعمق على المستوى المنهجي، وتأسيس آليات البحث المعرفي، والارتقاء بالأمة إلى رتبة الاستقلال في الإجابة عن إشكالاتها بدل التقليد.
النموذج الأول:
ارتبط بالجهود الفكرية والفلسفية التي ما فتئ يبذلها المفكر المغربي طه عبد الرحمن من خلال دعوته إلى تأصيل المفاهيم، ووجوب الاستقلال عن المرجعيات الخارجية، في تدبير إشكالاتنا المعاصرة، وتجديد آليات الاشتغال المنهجي من خلال مقومات الأمة (الإسلام، واللغة، والتراث) مع الانفتاح الراشد على إبداعات الآخر، وفق منظوره القائم على الاختلاف، والتقريب التداولي الذي يسعى إلى جعل المعرفة المنقولة موصولة بباقي المعارف الأصلية، أي جعل المنقول موصولا ومأصولا.
النموذج الثاني:
Shafi da ba'a sani ba
ارتبط بالعمق الفلسفي والمنهجي الذي بذله المفكر المصري «عبد الوهاب المسيري» من خلال رؤية نقدية عميقة للحضارة الغربية التي ظلت وسيطا مرجعا لدعاة التقليد في الفكر العربي المعاصر، وإعلان فساد كثير من المعتقدات المنهجية لهذه الحضارة ومنظوراتها في التحليل، والتفسير؛ لأنها منظورات كمية تراكمية اختزالية، أحدث تبنيها القسري في فكرنا المعاصر تحيزا للمرجعية ذاتها، ومن خلال الدعوة إلى بديل معرفي منهجي اجتهادي توليدي، تركيبي تراحمي يستجيب للبعد الفطري في الإنسان.
الفصل الأول
المدرسة القومية في الفكر العربي المعاصر: الأسس المرجعية
والمحددات المنهجية
«محمد عابد الجابري أنموذجا» (1) المبحث الأول: المدرسة القومية: مرجعيات التأسيس والمحددات المنهجية
شكلت القومية العربية حلقة من حلقات الفكر العربي المعاصر، إن لم نقل إحدى حلقاته الكبرى في زمن كان يبحث فيه الإنسان العربي عن مخرج لأزماته وحلول لانتكاساته المتتالية، وبدأت هذه المدرسة تطرح نفسها بقوة كبديل للاتجاهات السائدة في الفكر العربي، فهزيمة 67-73 كانت المحطة التي زودت الآليات الفكرانية لهذا التيار، وإن الآليات المعرفية والمنهجية التي تم اعتمادها في تحليل قضايا الأمة بعيدة عن واقعها.
وقد ظهرت الدعوة قوية إلى المراجعة في مجال البحث الاجتماعي والدراسات الاجتماعية التي اعتبرت مفاتيح لحل المشكلات تحت مسميات متعددة «نحو علم اجتماع عربي وقومي»، فعقدت لهذا الغرض عدة مؤتمرات وندوات ولقاءات تناقش سبل وإمكانيات التأسيس لمنهج جديد في حياة الأمة يربطها بجذورها التاريخية واستقلال شخصيتها والعودة إلى الذات. ونذكر في هذا الإطار: «ندوة النهوض بعلم الاجتماع في الوطن العربي، الجزائر 1974م»، «ندوة أوضاع العلوم الاجتماعية في الشرق الأوسط، الإسكندرية 1974م» و«مشكلة المنهج في بحوث العلوم الاجتماعية، القاهرة 1983م»، ثم «علم الاجتماع وقضايا الإنسان العربي، الكويت 1984م»، ثم «نحو علم اجتماع عربي، تونس 1985م».
1
والغرض - كما تدل عناوين هذه الندوات - هو وضع لبنة لأسس علم اجتماع عربي يكون فيه للعقل العربي دون غيره حضور متميز؛ لأنه الأقدر في نظر هذا الاتجاه على ملامسة مشاكله، فالعودة إلى الذات شكلت محور هذا التوجه الجديد في الفكر العربي المعاصر والاستقلال عن القوالب الفكرية الغربية التي وظفت في تحليل أزمة المجتمع، ولأن الباحث العربي يكاد يكون تابعا تبعية كاملة للباحثين والمفكرين الأجانب، وكما يذكر الباحث الاجتماعي العربي عبد الباسط عبد المعطي، يقول: «إن هناك خريجين من عدد من الجامعات الغربية توقفت معارضهم مثلا في الستينيات عند المدرسة الدركايمية أو المدرسة الأمريكية الإمبريقية
2
Shafi da ba'a sani ba
التي عنيت بدراسة المشكلات الاجتماعية التقليدية (...) [ولهذا] فإن المدقق في التأليف، وفي الأطر النظرية للبحوث، وفي الرسائل الجامعية خاصة؛ يلاحظ انصياعا للمعايير الغربية شكلا ومضمونا ولغة وطريقة في التفكير.»
3
إذن يرى الأستاذ أن البحوث الاجتماعية والدراسات المنهجية في الوطن العربي أكثر البحوث تعبيرا عن تبعيتنا الثقافية للمكتبة الغربية بجناحيها الأوروبي والأمريكي، وأنه آن الأوان لطرح صيغ بديلة وجديدة للخروج من هذه التبعية ومن عنق الأزمة، وتأسيس علم اجتماع عربي نابع من رحم المجتمع، يعالج قضايا مرتبطة باستراتيجيات التنمية والتقدم والوحدة وتحرير فلسطين وتوزيع الثروة وعلاقات الإنتاج، ومرتبط بمصير الطبقات الاجتماعية.
وقد نشطت مجموعة من دور النشر لترسيخ البعد القومي في الثقافة والفكر والأجناس الأدبية بكل أنواعها، نذكر منها على سبيل المثال: «المجلس القومي للثقافة العربية» الذي أسس مباشرة بعد اتفاقية كامب ديفيد لمقاومة الغزو الثقافي والتطبيع مع الكيان الصهيوني وتحصين الذات العربية من الاختراق.
ارتكز هذا الخطاب في انتمائه للأمة والجماعة العربية على مجموعة من المقولات والمفاهيم يراها الأساس في البناء والنهوض العربي: «اللغة والتاريخ». لهذا شدد الاتجاه القومي على «مرجعية اللغة والتاريخ الواحد ودوافع المصالح المشتركة، ووحدة آمال وأهداف المستقبل والتطلع لتحويل الأمة «كمعطى تاريخي» إلى واقع سياسي يتجلى في كيان دولة واحدة ومتحدة.»
4
هذه المرجعية التي تحولت عند كثير من الأقلام القومية إلى «جوهر ثابت» - بتعبير وجيه كوثراني - وهو ما نجده عند عميد القومية العربية أبو خلدون ساطع الحصري الذي يقول: «إن العاملين الأساسيين في تكوين القومية هما اللغة والتاريخ، ولا يتغلب عامل من العوامل الاجتماعية على تأثير اللغة والتاريخ في هذا المضمار سوى عامل الاتصال الجغرافي؛ لأن فقدان الاتصال الجغرافي قد يؤدي إلى بقاء أجزاء الأمة الواحدة منفصلة بعضها عن بعض رغم اتحادها في اللغة والتاريخ.»
5
باعتبار اللغة وسيلة للتخاطب والتفاهم، ونقل الأفكار والمكتسبات، أما التاريخ فهو بمثابة شعور الأمة وذاكرتها، فإن كل أمة من الأمم إنما تشعر بذاتها وتكون شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص.
6
Shafi da ba'a sani ba
ولا يرى هذا التيار للرابطة الدينية أو لعامل العقيدة أثرا في تكوين الجماعات. يقول: «مهما كان الأمر فإن الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية، كما أن تأثيرها في تسيير السياسة لا يبقى متغلبا على تأثير اللغة والتاريخ. إن هذا التأثير يشتد أو يتراخى، يتقوى أو يتلاشى، حسب تطور علاقة الدين باللغة، ويبقى أمرا ثانويا في تكوين القوميات بالنسبة لتأثير اللغة والتاريخ.»
7
بالإضافة إلى مكون اللغة والتاريخ، استند الاتجاه القومي إلى مبدأ العلمنة لأن اللغة والتاريخ غير كافيين في البناء والوحدة؛ ولهذا فإن «استكمال بنيان القومية العربية يحتاج في الواقع إلى عناصر أخرى لم يلتفت إلى أهميتها في السابق، وعلى رأسها النزعة الإنسانية التي تتضمن احترام وصيانة حقوق الإنسان وتبث فيه روح المواطنة؛ بحيث يجعل ولاءه لوطن وحده. (...) وتحقيق هذه المهمة الصعبة لن يكون ممكنا إلا على قاعدة إشاعة الديمقراطية من جهة وإنجاز العلمنة من جهة ثانية»،
8
حيث ظل مكون الدين ثانويا لا يقوى على صناعة المستقبل، ولعل كاتبا في مستوى برهان غليون - والجابري كما سنرى - يكشف بعض أسباب انحصار القومية العربية وفشل أطروحاتها ومشاريعها، حين ركز على ضعف استيعابها للتطور التاريخي وتحولات المجتمع العربي، وأن ظروف الطرح قد تغيرت، ولم يعد ينفع فيها النفخ في وحدة اللغة والثقافة والأصول، ولا تقبل فيها المجتمعات بعمليات الضم والإلحاق عن طريق القوة العسكرية،
9
خصوصا عندما تمكنت القومية من السلطة واستفردت بالحكم، وتسلطت على رقاب الناس.
لهذا انهارت واندثرت القومية العربية التقليدية تماما، ولم يعد لها موقع في الخريطة الفكرية؛ أي الشكل الذي كانت الفكرة تتخذه سابقا، فلم يعد الحديث عنها كوحدة ثقافية ولغوية وتاريخية، فكان الرهان على هذه المحددات سببا من أسباب الفشل والتراجع بدل التأكيد على الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة أو على الهوية الموحدة، في مقابل هذا التوجه، نجد القوميين الجدد يؤكدون على التعددية الثقافية وأهمية الاعتراف بالأقليات ورفض الفكر الواحد، بل رفض الفكر العقائدي ذاته باعتباره فكرا مشوها بالضرورة.
10
وظلت الفكرة القومية تعاني فراغات بسبب إهمال الإسلام كمكون أساسي في بناء الذات وهو الأمر الذي انتبه إليه برهان غليون، من خلال الانخراط في أيديولوجيات مستعارة وغريبة عن واقع الأمة؛ اشتراكية، ليبرالية، علمانية،
Shafi da ba'a sani ba
11
مما ضيق أفق التحرك لدى هذا التيار، وقدرته على استثمار الطاقات الفاعلة في الأمة.
ومما زاد من أزمته وعمقها عجزه عن «صياغة وعي الأمة في قالب نظري مطابق لتاريخها، فاضطرت إلى إيجاد عوامل موضوعية تكون أساسا للوحدة»،
12
من الوحدة الجغرافية، والتكامل الاقتصادي، بالإضافة إلى اللغة والتاريخ والجنس. فبعد إلغاء الأمة، وفصل التراث عن الحداثة، والإسلام عن العروبة، والأمة عن تاريخها، ولم «يعد التراث طريقهم إلى الحداثة، كما لم يعد المجتمع [الأمة] قاعدة للشعور القومي وانتهوا إلى فصل القومية العربية عن الأمة ومجتمعها فصار الفكر القومي دون مرجعية ينطلق منها، وينتظم على أساسها ويتخبط عشوائيا ويتأرجح بين مواقف متناقضة.»
13
فعندما تغيب الرؤية تسيطر الأيديولوجية وتتلاشى الأهداف السياسية والقضايا الكبرى، وهكذا رأينا «النخبة السياسية العربية تجر الأمة مرة بعد أخرى إلى حروب ومعارك لا تأخذ بعين الاعتبار الطاقات الحقيقة للأمة وظروفها الموضوعية، فتنتهي إلى هزائم أخرى.»
14
وقد كان «الفشل الذي مني به الاتجاه القومي العربي إزاء تحقيق أهدافه في توحيد الأمة وتحرير فلسطين، وتنمية الطاقات الاقتصادية، وإفساح المجال لحرية للمواطن؛ لا يعود إلى نوايا سيئة، كما أنه لا يقتصر على مسائل تتعلق بالممارسة؛ بل هو يعود بالدرجة الأولى إلى الفقر النظري. فشل هذا في بلورة شمولية تستند إلى تاريخ الأمة وسيرورتها وحاضرها، فجاءت ممارستها دون توقعاتها، وأحيانا متناقضة مع شعاراتها. فشل هذا التيار في قيادة الأمة؛ لأنه لم يعرف الأمة معرفة حقة. إن أحد معالم هذا الفشل هو الانفصال في الوعي بين القومية والأمة فلم تعد القومية تعبيرا عن الأمة، بل صارت تعبيرا عن نزوات أصحاب الشعارات الذين لم يكن لديهم إطار نظري ينظم أفكارهم وأفعالهم، فجاءت عشوائية دون مرجعية تضبطها وتضع لها الإطار لحركتها.»
15
Shafi da ba'a sani ba
وبرز صوت آخر، ولكن هذه المرة من المغرب (الأستاذ محمد عابد الجابري)، وذلك في إطار المراجعات النقدية للمشروع النهضوي العربي، الذي جعل الفكر القومي محور هذه المراجعات ومحدداته المنهجية والمرجعية، يفتح له آفاقا جديدة من خلال رؤية تتجاوز التصورات والمكونات السابقة [اللغة والتاريخ] والمفهوم الضيق للفكرة؛ لأن «حصر مقومات «الأمة العربية» في اللغة والتاريخ بوصفهما قالبين صوريين مجردين إفقار لمفهوم الأمة»،
16
محاولة لإعادة التركيب، ووصل ما انفصل، وسد الخلل الذي تركته التوجهات السالفة، هكذا يستطيع «الباحث [القول للجابري] أن يلاحظ بسهولة فقر خطاب الحصري وغيره من القوميين العرب فقرا «تراثيا»، فالتراث العربي والإسلامي - وهل يمكن الفصل بينهما - غائب تماما في خطابهم، ليس فقط كمرجعية بل أيضا كاستلهام وتوظيف براغماتي. إن الباحث لا يكاد يعثر على آية أو حديث أو قول مأثور أو بيت من الشعر أو حدث تاريخي من التراث العربي الإسلامي في خطاب القوميين الرواد (...) لقد كان الحصري يفكر في القومية العربية خارج أية مرجعية عربية. فقد كانت مرجعيته الوحيدة هي المرجعية الأوروبية.»
17
مما استدعى عند الجابري إعادة تأسيس الموقف من خلال كسر الثنائيات التقابلية بين الإسلام والعروبة، إذ «ليس هناك أي مفهوم ل «الإسلام» يمكن وضعه في علاقة ثنائية تعارضية أو تكاملية مع مفهوم «العروبة»، وليس هناك مفهوم ل «العروبة» يمكن وضعه في نفس العلاقة مع «الإسلام». وإنما هناك وراء هذه الثنائية قضية سياسية كان لها معنى في وقت من الأوقات (...) والمتعلقة برد فعل العرب على سياسية التتريك العثمانية.»
18
لينتفض ضد هذه الثنائيات المرتبطة ببعض الأقطار العربية، ذات الخصوصية التاريخية كلبنان وسوريا بصورة خاصة، وإنه آن الأوان لكي «نتخلص من هذا التعميم للمشاكل؛ لأنه تعميم لا يخدم الفكر القومي ولا القضية القومية، بل على العكس يضع هذه القضية في أزمة دائمة مزمنة.»
19
وللتخفيف من النزعة العلمانية التي روج لها دعاة القومية التقليدية، يقول الجابري: «فأنا لا أستسيغ طرح المسألة بهذا الاسم وتحت هذا العنوان، فليس هناك في أي قطر عربي ما يبرر طرح مسألة العلمانية فيه بالمعنى الذي تفهم به هذه المسألة في أوروبا.»
20
Shafi da ba'a sani ba
فاتجه إلى إعادة تأسيس الموقف وتصحيح الوعي ونقد المفاهيم والتصورات، وبناء محددات للرؤية أكثر جرأة في النظر إلى المستقبل، من خلال الدعوة إلى الانخراط في التراث؛ لانتزاع ما يسمى بأسلحة الخصوم.
فكان التراث أحد هذه الأسلحة التي ارتكز عليها الجابري عكس دعاة القومية الأوائل - في التأسيس للموقف الجديد - الذين كان خطابهم خطاب نقائض أيديولوجية (ليبرالية - اشتراكية - ماركسية)، ويدعو إلى مراجعة مفاهيم النهضة ونقدها نقدا عقلانيا مستندا إلى الواقع كمعطى، وهو السبيل الذي يقودنا إلى تشييد حلم أيديولوجي مطابق، وتلك مهمة المثقف العربي في الظروف الراهنة: مهمة إعادة التفكير في مشروعنا النهضوي انطلاقا من مراجعة المفاهيم والتصورات في ضوء الواقع وتحت ضوء سلاح النقد.
21
وإنجاز هذه المهمة «يلزم فيها شرطان اثنان؛ الأول: هو أن يكون التجديد من الداخل؛ من داخل الثقافة العربية بالحفر في معطياتها، ولكن أدوات الحفر وطريقته - وهذا هو الشرط الثاني - لا بد أن تكون جديدة حديثة، وبالتالي لا بد من اقتباسها من أرقى مراحل التقدم التي يصل إليها الفكر الإنساني.»
22
وهو الشرط الذي سيرفع عملية التجديد إلى مستوى العصر، أما الإبقاء على أدوات الحفر القديمة - المفاهيم والمناهج - لا يمكن أن ينتج غير القديم في نظره، وهكذا شرع الجابري في وضع التصاميم المفاهيمية، والأدوات المنهجية متجاوزا المنظورات التحليلية التي أثثت الفكر القومي العربي المعاصر، ونقدها نقدا عقلانيا؛ نقد المجتمع ونقد العقل العربي.
فكان النقد عنده السلاح الأقوى في الكشف عن ثوابت هذا العقل والقدرة على خلخلتها وكسرها، وما لم نقم بهذا النقد - يقول - فإن التطور إلى الأمام لن يشق طريقه الصحيحة عندنا، وهذه مهمة الفكر الفلسفي والتحليل الأيديولوجي، ولأن التغيير عندنا «يبدأ ويجب أن يبدأ من تغيير طريقة النظر إلى الأمور، من تحليل الواقع تحليلا يجمع بين النظرة الموضوعية والهدف الاستراتيجي؛ هدف التغيير وإعادة البناء.»
23
فما هي المحددات والموجهات المنهجية لرؤية الجابري النقدية وإعادة التأسيس والبناء داخل هذه المدرسة وتحقيق النهضة واستشراف المستقبل؟
إن اختيار الاشتغال على فكر الجابري، ومشروعه النقدي للعقل العربي؛ أملته عدة اعتبارات:
Shafi da ba'a sani ba
أولها ما أثاره، وما يزال من ردود اختلفت، حسب توجهات أصحابها تحولت بدورها إلى مشاريع فكرية ومدارس نقدية، أخذت على عاتقها مهمة التجديد المنهجي في قراءتها للتراث ولمقدمات المشروع النهضوي العربي المعاصر، وما أحدثه من جدل واسع في الساحة العربية المعاصرة على مستوى الأدوات والمسلكيات المنهجية، ونتيجة دعوته إلى إنجاز نوع من القطيعة الإبستيمولوجية مع تراث الأمة.
أما ثاني الاعتبارات فهو ما صرح به من القدرة على تجاوز القراءات التي تعاملت مع التراث وطرح بدائل منهجية قادرة في رأيه على التفاعل وإنجاز النهضة، والقطيعة مع الفهم التراثي للتراث إلى الفهم الحداثي له بقدر يعيننا على تجاوز المحن والإشكالات المعاصرة، معتمدا في ذلك على مدخلين أساسيين:
المدخل الأول: فهم هذا التراث وأدوات اشتغاله. المدخل الثاني: الاستعانة بمفاهيم الفكر الغربي المعاصر على تعدد مدارسه وتنوعها، ومحاولة تبيئتها وفق معطيات هذا التراث، ووفق شواغل معرفية كما صرح، وأخرى أيديولوجية كما استبطن حينا وصرح في كثير من الأحيان؛ لهذا فإن البحث في منهج الجابري يتطلب قراءة دقيقة لمساره الفكري، والنتائج التي توصل إليها أولا بأول، ولكل ما كتب عنه نقدا أو نقضا، وهذا ما لا يتسع له الوقت. وحسبنا أن نركز في هذا الفصل على أهم ما كتب عنه وأنجز من دراسات نعتبرها استوفت بعضا من الشروط العلمية في الحركة النقدية متجاوزين بعضا من الدراسات التي سلكت مسلك التحامل والتجريح، وبالدرجة الأولى على أهم كتبه التي شكلت مشروعه الفكري انطلاقا من باكورة أعماله: «نحن والتراث» سنة 1980م، «الخطاب العربي المعاصر» 1981م، «نقد العقل العربي» الذي أصدر أولى حلقاته سنة 1984م من خلال كتابه «تكوين العقل العربي»، ثم الجزء الثاني «بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية» سنة 1985م، «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» 1989م، «العقل السياسي العربي: المحددات والتجليات»1990م، «التراث والحداثة: دراسات ومناقشات» 1991م، ثم «المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية» 1996م. هذه هي الخريطة الفكرية التي سنعتمد عليها في بحث إشكالية المنهج في المشروع الفكري للجابري. (2) المبحث الثاني: المحددات المنهجية والمرجعية لمشروع الجابري
يعالج هذا المبحث قضايا منهجية دقيقة وقوية على مستوى الرؤية والمنهج التي تبناها الجابري في فحص آليات قراءة التراث، والإشكالات التي أفرزتها في الواقع العربي المعاصر، حين اعتبرها مسئولة إلى حد كبير عن الوعي المزيف اتجاه مرجعية المتن التراثي، في مقابل ذلك سعيه الدءوب إلى تحرير العقل العربي من تلك القراءات السلفية، والدعوة إلى الانتظام المنهجي في تاريخ التراث، من خلال إنجاز قراءة معاصرة، وبأدوات منهجية تتيح فرص التوظيف العلمي، والعقلاني للتراث، والقدرة على التشابك مع منجزات الحداثة ومفاهيمها. (2-1) من فوضى المنهج إلى الانتظام المنهجي
أحدث مشروع الجابري نقلة نوعية في الفكر العربي المعاصر، ليس على مستوى المتن، وإنما على مستوى الثورة المنهجية؛ حيث انتقل هذا الفكر من لحظة تاريخية غلب عليها التكرار إلى لحظة التفاعل الإيجابي والانخراط في عملية نقدية استفزت كثيرا من الاتجاهات الفكرية في العالم العربي، نظرا للطرح الجدي الذي اتسم به المشروع، فالقضاء على هذه الفوضى المنهجية طريق التحديث والانخراط في الحداثة عبر جهاز مفاهيمي جديد قادر على تقريب الوضع الإشكالي القائم داخل قطاعات واسعة من الفكر العربي المعاصر، وبين ثنائياته القديمة-الجديدة، الأصالة والمعاصرة، القديم والحديث، بين صورة الأنا والآخر، «القديم» ينتمي إلى الأنا، و«الجديد» ينتمي إلى الآخر.
24
فكان طموحه هو إزالة الغموض والتوتر الذي ظل يطبع مسيرة هذا الفكر، «ونزع الطابع الإشكالي عنه أو التخفيف منه على الأقل إلى أقصى درجة ممكنة.»
25
ومن هنا سارع الجابري إلى بلورة رؤية معاصرة في القراءة والتنوير؛ تعيد ترتيب العلاقات وتساهم في قراءة التراث العربي؛ قراءة تستجيب لطموحات الحاضر، والدخول في الحداثة والاستفادة من منجزاتها. يقول: «فالحداثة في نظرنا لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه «المعاصرة»؛ أعني: مواكبة التقدم الحاصل على المستوى العالمي.»
26
Shafi da ba'a sani ba
كما تعني عنده نوعا من «الانتظام النقدي في الثقافة العربية؛ بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل (...) إنها بهذا الاعتبار تعني أولا وقبل كل شيء حداثة في المنهج وحداثة في الرؤية».
27
ولعل من أهم منجزات الحداثة أو الفكر الحداثي، المكون النقدي الذي تبلور مع مدرسة فرانكفورت الألمانية، ومع جيل من المفكرين أمثال: أدرنو وهابرماز وماركوز، ولهذا «فالممارسة النقدية في فكر الجابري لا تنفصل عن هذا الطموح المعرفي النقدي»،
28
مع اختلاف في متن الاشتغال وأرضية الانطلاق؛ فعلى هذا الأساس شرع في وضع المعالم الكبرى لمنهجه، والمبادئ الأولية للقراءة المعاصرة للتراث وتحقيق الوعي المطلوب. (أ) القراءة المعاصرة للتراث ونقد القراءات السابقة
ينطلق الجابري في مشروعه من تحديد نوع القراءة التي يتوخاها في التعامل مع التراث من خلال منظومة من العلاقات القائمة على عناصر ثلاثة: قراءة، عصرية، تراث، ومن خلال صيغ تركيبية، الصيغة الأصل: «قراءة عصرية للتراث» وهي تنفي صيغة أخرى هي: «قراءة تراثية للتراث»، وهذه بدورها تنفي صيغة أخرى هي: «قراءة تراثية للعصر» لينتهي إلى أن الصيغة الأولى هي الأجدر في إنجاز هذه المهمة، يقول: «نريد قراءة عصرية للتراث تجنبنا السقوط في قراءة تراثية للعصر (...) والوقوع تحت سلطته التي تجرنا ليس فقط إلى قراءة تراثية للتراث، بل - وهذا أخطر - تجرنا إلى «قراءة تراثية للعصر»، أي إلى تمديد الماضي لجعله ينوب عن الحاضر والمستقبل ...»
29
ولعل هذا التوجه وهذا الاختيار هو الذي يحقق - في نظره - الانتظام المنهجي في قراءة تاريخ الفكر العربي وبنياته وأصوله، ويتجاوز الفوضى المنهجية التي ظلت مهيمنة على قطاع واسع من المثقفين العرب في مقاربة قضايا الفكر العربي المعاصر وإشكالاته.
قراءة تختلف عن القراءات التي تناولت موضوع اشتغاله «التراث» على مستوى المنهج والرؤية، وهي تحاول تسطير معالم ذلك المنهج ورسم أفق تلك الرؤية.
30
Shafi da ba'a sani ba
والذي يجعلها معاصرة كونها تسعى إلى جعل النص التراثي المقروء على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي معاصرا لنفسه، في أفق تجاوز القراءات التي ظلت تحتكر الخريطة الفكرية للتراث لافتقادها للموضوعية على مستوى المنهج والنظرة التاريخية على مستوى الرؤية.
القراءة السلفية الدينية للتراث
انشغلت هذه القراءة في الفكر العربي المعاصر أكثر من غيرها بالتراث وإحيائه واستثماره في إطار قراءة أيديولوجية سافرة، أساسها إسقاط صورة «المستقبل المنشود» المستقبل الأيديولوجي على الماضي، ثم «البرهنة» - انطلاقا من عملية الإسقاط هذه - على أن «ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل»،
31
ولبس هذا التيار في بداية الأمر لباس حركة دينية سياسية تنادي بالتجديد وترك التقليد بما يعنيه هذا الترك من إلغاء كل التراث المعرفي والمنهجي والمفهومي المنحدر إلينا من عصر «الانحطاط» وما يرمز إليه التجديد على مستوى الفهم والقدرة على الاستمداد من المصادر مباشرة.
فنحن إذن - كما يقول الجابري - أمام «قراءة أيديولوجية جدالية (...) تستعيد الصراع الأيديولوجي الذي كان في الماضي وتنخرط فيه، لا تكتفي بخصومها في الماضي، بل تبحث عن خصوم في الحاضر والمستقبل»،
32
مما يجعل هذه القراءة، قراءة لا تاريخية، وبالتالي لا يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث هو الفهم التراثي للتراث، مما يجعل المراهنة عليها رهانا خاسرا؛ نظرا لقصور آلياتها التفسيرية ومداخلها. يقول: «السلفية الدينية تصدر في قراءتها من منظور ديني للتاريخ، يجعل التاريخ ممتدا في الحاضر منبسطا في الوجدان، يشهد على الكفاح المستمر والمعاناة المتواصلة من أجل إثبات الذات وتأكيدها، ولما كانت الذات تتحدد بالإيمان والعقيدة فلقد جعلت من العامل الروحي العامل الوحيد المحرك للتاريخ، أما العوامل الأخرى فهي ثانوية أو تابعة أو مشوهة للمسيرة.»
33
السلفية العربية الليبرالية الاستشراقية
Shafi da ba'a sani ba
إذا كانت السلفية الدينية قد اتخذت من الماضي آلياتها التحليلية ومرجعيتها للحاضر فإن السلفية العربية الليبرالية اتخذت الغرب سلفها، فتقرأ تراثها قراءة أورباوية النزعة، ولا ترى فيه إلا ما ترى هذه النزعة، وتقدم نفسها كقراءة «علمية » تتوخى «الموضوعية»، وتلتزم «الحياد»، و«تنفي» أن تكون لها أية دوافع نفعية أو أهداف أيديولوجية.
34
وإنها تأخذ من المستشرقين المنهج العلمي دون أيديولوجياتهم، لكنها تنسى أو تتناسى أنها تأخذ الرؤية مع المنهج.
وتقوم هذه الرؤية «من الناحية المنهجية على معارضة الثقافات على قراءة تراث بتراث ومن هنا المنهج الفيلولوجي الذي يجتهد في رد «كل» شيء إلى «أصله»، وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الإسلامي فإن مهمة القراءة تنحصر حينئذ في رده إلى «أصوله» اليهودية والمسيحية والفارسية، اليونانية والهندية ...»
35
وتكشف هذه الرؤية عن استلاب خطير للذات تاريخا وحضارة، حينما تحاول أن تقرأ ذاتها بذات الآخر وماضيه، وهكذا تنكشف دعوى المعاصرة في الفكر الليبرالي العربي الحديث والمعاصر.
القراءة اليسارية الماركسية العربية
الحوار داخل هذه القراءة يجري بين ثنائية المستقبل والماضي، لكن بوصفهما مجرد مشروعين: مشروع الثورة التي لم تتحقق بعد، ومشروع التراث الذي سيعاد بناؤه بالشكل الذي يجعله يقوم بدوره في همز الثورة وتأصيلها،
36
فالعلاقة هنا جدلية بين الثورة والتراث، فالثورة ينبغي لها أن تعيد ترتيب التراث وفق مطالبها وشواغلها، والتراث مطلوب منه أن يساعد الثورة ويقدم لها المبررات.
Shafi da ba'a sani ba
هكذا فكر الفكر اليساري العربي باحثا لنفسه عن مخرج من الحلقة المفرغة التي أوجد فيها نفسه؛ باحثا عن منهج، فيتبنى المنهج الجدلي، لكن مع ذلك - تأكيد من الجابري - يجد نفسه في الحلقة نفسها التي حاول الخروج منها.
ويبرر الجابري هذا الضيق المنهجي عند هذا الاتجاه بأنه يسعى - في هذا التبني - إلى المنهج الجدلي كمنهج «مطبق» لا كمنهج «للتطبيق»، فأرادت أن تحول التاريخ العربي الإسلامي إلى صراع طبقي بين المادية والمثالية، ومن «ثمة تصبح مهمة القراءة اليسارية للتراث هي تعيين الأطراف وتحديد المواقع في هذا الصراع «المضاعف».»
37
ودفع هذا الاتجاه بكل مقولاته المنهجية وآلياته التفسيرية إلى تفصيل التاريخ الفكري والمعرفي للأمة، وفق هرمية تصورية منسجمة مع ذات المقولات والآليات، وحتى إذا عجزوا عن هذا التفسير وهذا التفصيل للتاريخ، ولم تسعفهم قوالبهم الفكرية تحدثوا عن «التواطؤ التاريخي» بين قوى رجعية ظلامية أيديولوجية، فانتهت هذه القراءة إلى «سلفية ماركسية».
فهذه الآليات المنهجية والمطالعات النقدية للتراث تعاني حسب الجابري من آفات على مستوى المنهج والرؤية؛ فمن حيث المنهج فإنها تفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، أما من حيث الرؤية فتعاني كلها من غياب النظرة التاريخية، وبالتالي لا تختلف هذه القراءات عن بعضها من الناحية الإبستيمولوجية؛ لأنها مؤسسة على طريقة واحدة في التفكير، الطريقة التي سماها الباحثون العرب القدامى ب «قياس الغائب على الشاهد»، مما يجعلها عاجزة عن الإبداع والإنتاج، وتطوير لكل أنماط المعرفة.
فهذه الآليات غير ذات موضوع بالنسبة للفكر العربي المعاصر إن هو أراد أن يبدع ويخلق حالة من الوعي داخل الساحة الفكرية العربية، مما يجعله خارج الزمان، ومن هنا لا تاريخية الفكر العربي؛ لأنه «يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، ولذلك كانت قراءة التراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه «الحلول» الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل، وإذا كان هذا ينطبق بوضوح كامل على التيار الديني فهو ينطبق أيضا على التيارات الأخرى؛ باعتبار أن لكل منها سلفا يتكئ عليه ويستنجد به. هكذا يقتبس العرب جميعا مشروع نهضتهم من نوع الماضي، إما الماضي العربي الإسلامي، وإما «الماضي-الحاضر» الأوروبي.»
38
فمشكلة المنهج التي يعالجها الجابري هنا هي في نهاية التحليل تئول عنده إلى «قضية النهضة ومشكلة العقلانية»
39
في فضاء الفكر العربي المعاصر، ومن هنا لا علمية ولا تاريخية المسلكيات المنهجية التي تناولت إشكالات هذا الفكر وفقدانها الزمان بهذا الشأن.
Shafi da ba'a sani ba
فهذه المسوغات كافية في نظر الجابري لمقترحات منهجية أكثر فاعلية، وقدرة على التحليل في إطار المشروع الكبير الذي اشتغل عليه «نقد العقل العربي» وتفكيك آلياته ونظمه المعرفية. (ب) الانتظام المنهجي في فكر الجابري: الأسس والآليات
ظل إشكال المنهج في قراءة التراث العربي الإسلامي عند الجابري إحدى القضايا الكبرى التي شغلته، الأمر الذي دفعه إلى نقد الدراسات السابقة والتي وصفها بالسلفية، على اختلاف مرجعياتها؛ لأنها أخلت - في رأيه - بشروط القراءة العلمية المعاصرة التي تخلق إمكانات وكفايات في قراءة الإشكالات الواقعية المطروحة على العقل العربي المعاصر، وتعيد المتن التراثي إلى سياقات جديدة ليتفاعل معها، بدل أن يظل متنا سكونيا عاجزا عن الفعل، أي بعد الاتصال والانفصال عنه في اللحظة ذاتها.
ويقدم الجابري في هذه الخطوات المعالم الكبرى لمنهجياته المقترحة نستعرضها كما صاغها الرجل دون تغيير حرصا على الأمانة العلمية وإبلاغا للمادة كما هي على أساس أن نؤجل القول فيها فيما بعد.
تنتظم هذه الخطوات المنهجية عنده كلها في سؤال إشكالي وأزمة بنيوية، سؤال إشكالي مرتبط ب «قضية إعادة بناء الذات العربية بالشكل الذي يجعلها قادرة على مجابهة تحديات العصر والاستجابة لمتطلباته»،
40
وهذا لا يتم في نظره إلا من خلال عملية إعادة بناء الماضي وتفكيك عناصره، وترتيب العلاقة بين أجزائه؛ حتى يكون قادرا على أن يؤسس لنهضة تمتلك هذا التراث، وتعيد بناءه قصد تجاوزه وبقراءته قراءة تستوحي المفاهيم والمناهج الجديدة وتوظفها في خدمة الموضوع، وتعيد الاستقلال التاريخي للذات العربية.
وما لم ينتظم الفكر العربي المعاصر في هذا «التراث وتجديده من الداخل، وفي الفكر العالمي المعاصر ومواكبة أدواته المنهجية وتوظيفها ورؤاه العلمية في إعادة بناء الماضي وتغيير الحاضر وتشييد المستقبل (...) سيبقى الفكر العربي سجين المعارف القديمة يجترها، وسيظل يعاني ليس أزمة إبداع فقط، بل لربما من سكرات الموت وخطر الانقراض.»
41
أما الأزمة البنيوية التي يشكو منها الفكر العربي المعاصر - في نظره - فهي «أزمة عقل قوامه مفاهيم ومقولات وآليات ذهنية تنتمي إلى ثلاثة نظم معرفية [يقصد العرفان والبيان والبرهان] متنافرة تكلست وجمدت فيها الحياة باكتساح الطرقية الصوفية ورؤاها السحرية الخرافية للساحة الاجتماعية اكتساحا شاملا، وأزمة ثقافية ارتبطت منذ بداية تشكلها بالسياسة، فكانت السياسة فيها لا العلم»
42
Shafi da ba'a sani ba
تخضع باستمرار لتقلباتها ودورانها بين الإخفاق والنجاح؛ لهذا يرى أن أولى خطوات التجاوز المنهجي للقراءات السابقة - التي شكلت عائقا إبستيمولوجيا أمام التطور في العقل العربي، وبالتالي العجز عن تحقيق حلم النهضة - تكمن في تبني الأسس المنهجية الآتية:
ضرورة القطيعة مع الفهم التراثي للتراث
يعتبر الجابري هذه القطيعة شرطا من شروط التجديد على مستوى المنهج من خلال «كسر بنية العقل المنحدر إلينا من «عصر الانحطاط» وأول ما يجب كسره (...) ثابتها البنيوي «القياس» في شكله الميكانيكي، وامتداداته إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر.»
43
فتكون مشكلة المنهج هنا هي مشكلة الموضوعية، فمهما بلغت مناهج التفسير والتحليل من الدقة حسب الجابري، فإنها لا تصلح إلا عندما يكون الموضوع منفصلا عن الذات يتمتع بنوع من الاستقلالية عنها؛ فيؤسس لباراديغم جديد في بحث العلاقة بين الموضوع [التراث] والذات.
وقد مكنته هذه الآلية المنهجية من حسن تدبير العلاقة بين طموحات الواقع وإشكالاته، وبين الماضي وإكراهاته؛ ليرفع من جاهزية العقل العربي في مجابهة تحديات الحداثة وتدفقاته، والقدرة على إنجاز أحلامه؛ فيتحرر من تراكمات التاريخ السلبية، والمعيقة لحركته الإبداعية في واقع لا يسمح بتكرار أنظمة فكرية غير قادرة على الفعل والإنجاز.
تجديد باراديغم قراءة التراث: منهجية الفصل والوصل
يبدأ الجابري هذه المشكلة بطرح سؤال منهجي إشكالي: كيف نبني لأنفسنا فهما موضوعيا لتراثنا؟ ويرى أن هذه القضية هي جوهر المشكلة المنهجية، التي تواجه الفكر العربي المعاصر في محاولاته الرامية لإيجاد طريقة علمية ملائمة للتعامل مع التراث. وتتخذ هذه الموضوعية عنده مستويين من العلاقة»؛
44
مستوى العلاقة الذاهبة من الذات إلى الموضوع، والموضوعية في هذا المستوى تعني فصل الموضوع عن الذات، ثم مستوى العلاقة الذاهبة من الموضوع إلى الذات، وهي في هذا المستوى تعني فصل الذات عن الموضوع.
Shafi da ba'a sani ba
ويصر الجابري على أن هذه الخطوة هي الأساس في تحقيق الموضوعية والعلمية بعيدا عن المسبقات والرغبات، وأن المكتسبات المنهجية للعلوم الألسنية المعاصرة تقدم لنا طريقة في هذا التعامل الموضوعي مع النصوص التي يلخصها في القاعدة الذهبية التالية: «يجب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ، والتحرر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة.»
45
وهذه الخطوة تحتاج حسب تحليله، إلى ثلاثة أسس منهجية كبرى:
المعالجة البنيوية: التي تحرص على العلائق الداخلية للنصوص، والاقتصار في التعامل معها «كمدونة، ككل تتحكم فيها ثوابت، ويغتني بالتغييرات التي تجري عليه حول محور واحد»،
46
من خلال محورية فكر صاحب النص حول إشكالية واضحة قادرة على استيعاب جميع التحولات التي يتحرك فيها ومن خلالها فكره. مرحلة تعين على فهم العلاقات الأفقية داخل النص، دون الاستناد إلى العلاقات الخارجية.
التحليل التاريخي: من خلال الحرص على ربط فكر صاحب النص الذي أعيد ترتيبه بمجاله التاريخي، بكل أبعاده الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاجتماعية، لاختبار مدى صحة المعالجة البنيوية،
47
فهذا التحليل يساعدنا على اكتشاف الإمكان التاريخي، والتعرف على ما كان في إمكان النص أن يقوله ولكن سكت عنه.
الطرح الأيديولوجي: ينطلق الجابري من أن هذا المدخل في التحليل يشكل إضافة نوعية في عملية الفهم، والبناء التكاملي في الوظيفة التي نتوخاها من التراث. يقول: «إن التحليل التاريخي سيظل ناقصا، صوريا مجردا ما لم يسعفه الطرح الأيديولوجي؛ أي الكشف عن الوظيفة الأيديولوجية [السياسية والاجتماعية] التي أداها الفكر المعني الذي ينتمي إليه (...) والكشف عن هذا المضمون هو الوسيلة الوحيدة لجعله فعلا معاصرا لنفسه، مرتبطا بعالمه»،
Shafi da ba'a sani ba