أطلقوا القيود عن غرائزكم المستقرة في فطرتكم، فهي أفضل من هذه الفضائل التي لا ترجع من طبائع النفوس، عاليها وسافلها، إلى أساس مكين.
إنكم تذمون الحسد وهو الحافز للكمال والمرغب في المزيد، وهل كان امتعاض الحي من أن يسبقه سابق إلا صورة أخرى لبغض النقص وحب الكمال؟ ولعمري كيف كان الخلق يتزاحمون على التقدم، إن كان أحدهم لا يسوءه أن يتقدم عليه سواه، ولا يشعر من نفسه بالكراهة له والنقمة عليه؟ ولا أكثر يا قوم مما قيل في ذم الحسد، فلو كانت خلة من الخلال يستدل على شيوعها أو ندرتها بما يقال فيها مدحا أو ذما، لكان حريا بالحسد أن لا يوجد في صدر مخلوق، لكني أراه عميق المنبت في الطباع. وما كان إجماعنا على مقته وإخفائه لأنه خلة ذميمة في ذاتها، بل لأن إظهار الحسد فيه غض من قدر الحاسد وإقرار بتفوق المحسود عليه، والخالق القدير أحكم من أن يودع هذه الصفة في النفوس عبثا، فلا بد لها من منافع ترجح بما فيها من المضار، وأقل ما يقال فيها أنها تستفز الحاسد وتغري المحسود بالحرص على ما في يده، والازدياد منه خوف الشماتة.
وأنتم تنكرون البغض وهو مسبار المقاومة، وعنوان مناعة الحوزة، وسياج النفس من أعدائها، فمن لم يبغض عدوه لم يحبب نفسه ولم يحم حوزته، ومن لم يحبب نفسه ويحم حوزته فهو جدير بالفناء.
وأنتم تعافون النفاق والنفاق ديدن الطبيعة، والتلون قانونها الذي لا تستحي منه، ولو لم يكن النفاق أصلا من أصول الطبيعة لما كانت جلود الحيوان تتلون بألوان الأشياء التي تكتنفها لتخدع فريستها أو مفترسها، بل لما زينت الطبيعة صغار الذكور والإناث لينخدع بعضهم بجمال بعض، فيندفعوا جميعا في قضاء غرضها ولا غرض لهم منه؛ ولما حببت الآباء في الأبناء ليدوم النوع ولا أرب لأنفسهم في دوامه، بل لما كان لكل مخلوق سر يضمره ويظهر للعالم خلافه، ولما كان لكل أمة سياسة مجهولة وسياسة معلومة، وأعظم من هذا أن الوجود نفسه له وجهان: وجه واضح ينكشف لأول وهلة، ووجه غامض لا تراه الأنظار مهما نقبت عنه وحدقت فيه. ولست أنظر في هذا القول إلى نتائج النفاق القريبة، ولكني ناظر إلى النتائج البعيدة التي نجهلها نحن وتعلمها القدرة التي تسخرنا فيما تريد، فنحن نحب أحيانا أن نخدع غيرنا بلا سبب نعرفه، وأن نستر الحقيقة بلا موجب لكتمانها، ولو كان مدار الأمر على فائدتنا القريبة التي نعرفها ونسعى إليها، لما خفي عنا كنهها، والحقيقة أننا نفعل ذلك مسوقين مرغمين، وليس من شأننا معرفة أسباب ذلك النفاق، وإنما هو شأن تلك القدرة العالية وحدها.
وأنتم تستنكفون من الملق والدهان، فهلا ذكرتم أن من لم يعرف قدرته فهو الغبي الجاهل، وأن من عرف قدرته فصادم بها من هم أعلى منه يدا فهو الطائش المغرور المستحق لجزاء الطائشين المغرورين، وأن من يتملق اليوم عدوه قد يتحكم به غدا، ولكن من يعاند القادرين يموت، فلا هو قضى أربه ولا هو أبقى على نفسه.
وأنتم تمقتون الكبرياء ومن لم يمقتها منكم مقتموه، وهذا وايم الله من ظلم الضعفاء! لأن الكبرياء حق الكبير، والإدلال بالمقدرة مزية القادر على العاجز، والقوي على الضعيف، لو حرمناه إياها لظلمناه وجعلناه كالضعيف، فلحقت القدرة بالعجز، والقوة بالضعف، ورغبت النفوس عن موضع الفاضل إلى موضع المفضول، وجنحت عن البطش والجبروت إلى الضئولة والاستكانة. ولعمري إن زهو العظيم بعظمته لأمر طبيعي معقول، ولكن الأمر المستهجن المقبوح هو أنفة الصغير من الإقرار بتفوق الكبير عليه، كأنه يريد أن لا يحس الكبير بكبره، لا لشيء إلا أنه يحس بصغره إزاءه، وهذا عين الظلم والافتئات. (تصفيق من جانب الأسد.)
وأنتم تحنقون على الأنانية، ولولا الأنانية لكنتم الآن في خبر كان، ولانقرض الأحياء وفاز الموت على الحياة في هذه الأرض. إن الخالق لم يودع الحياة في نفوسنا لنبغضها، ونخجل من حبها ، وننضوها عنا لأول من يطلبها منا، كلا بل أودعت فينا الحياة لنفتتن بها، ونتفانى في حفظها ونحتجن إليها كل ما حولها، ونطبع صورتها على البعيد والقريب منا، والظافر الظافر من غلبت أنانيته على كل أنانية، وانطبع أثره على كل موجود، فإن الوجود لا يقوم بقولي إن غيري أحق بالخير مني، بل هو قائم باعتقاد كل أنه أحق بالخير من الخلق قاطبة. ومتى أصبح كل حي ينبذ عنه الحياة ليأخذها غيره، فمن هو إذن الذي يعيش ويحيا؟ وعلى أننا لو فرضنا على الخلوقات أن تتخلى عن الخير لغيرها، فما هي في الواقع إلا أنانية مقلوبة تمشي على رأسها، وكأننا جعلنا كل مخلوق ينتظر الخير من غيره لنفسه، فأي شيء صنعنا؟ وماذا غيرنا من طبيعة الأنانية؟
وأنتم تتذمرون من القسوة والاعتداء لأنكم متشبثون بحياتكم، ولو أنصفتم القاسي المعتدي لعرفتم عذره، فإنه هو أيضا يحب أن يحيا كما ينبغي لمثله، وإذا كان خوف القسوة والاعتداء من لوازم الحياة عند الضعفاء، فلا حياة بغيرهما عند الفاتك الصئول، وإن جعله قادرا على الفتك بغيره هو الذي أمره بالفتك به وخلوه ذلك حقا لا منازع فيه، وما قتل المرهق المغلوب إلا الذي منحه الحياة وأعجزه عن رد عادية المعتدين.
وأنتم تشمئزون من السرقة ولكنكم تعظمون الاغتيال. إذا تسور لص في ظلام الليل بيتا فأمسكتموه على هذه الحالة فضحتموه وشهرتم به، فكأنكم تحقرونه لاعتقاده أنه يأتي عملا حقيرا يجب إخفاؤه. فإذا سرق فرد أمة أكبرتم دهاءه وأجللتم حيلته وذكاءه، وإذا سطا رجل على شعب سجدتم لهيبته وتمسحتم بأذياله ... فكأنكم لا تستطيعون أن تحتقروا إلا من يبالي باحتقاركم واحترامكم، وأما من يحتقركم ويستعبدكم فأنتم وأموالكم طوع يديه ورهن أمره، ولست ألومكم على ذلك فهذا هو الحق عندي؛ إذ من شأن الحقير أن يشعر بحقارة كل عمل يأتيه، لأنه لا يحق له إحراز ما عنده بله السلب من غيره، وأما العاتي المتجبر فليس يصدر منه عمل حقير؛ لأن من شأنه أن يأمر ويتغلب على من لا يستطيع رد أمره والتغلب عليه، فهو لا يشعر بخجل من انتهاب غيره، بل يدع المنهوب يخجل من نفسه، ويتوارى عن الأنظار، أما هو فيرفع رأسه ويشمخ بأنفه على الراضين والمنكرين، بلا حياء ولا مبالاة. وإنكم ما اتفقتم على أن يكون لكل منكم ملكه، لا يعدو عليه أحد، ولا يشاركه فيه غاصب، إلا لأنكم وجدتم في ذلك مصلحتكم، فما هي حجتكم على من لا يجد مصلحته في قبول هذه الشريعة؟ أو على الذين يرون أنكم ظلمتموهم بسماحكم لمن هم أقل منهم استحقاقا وأحط فكرا بأن يكونوا أوفر حظا وأجل قدرا؟ أما والله إن العدل ليقضي بأن لا تلزموهم شريعتكم، وتتركوهم يدينون بما يرون فيه مصلحتهم ... بيد أنكم لا تقضون بالعدل بل تقضون بالغلبة، وأنتم تجبرونهم على الإذعان لشريعتكم لأنكم أكثر منهم عددا، وليس لأنهم يتمسكون بمبدأ في التماس الرزق والقوة يخالف مبدأكم؛ فما من حجة لكم أو لهم إلا المصلحة دون سواها.
وأنتم تستقبحون الغدر، فهل قام أمر خطير قط بغير غدر؟ ومن كان يطمح إلى المراتب التي يكثر حولها الطلاب، وتتقطع دونها الرقاب، ويقف الخلق للطامح إليها بين منافس وحاسد ومتزلف وكاره، فكيف يجرؤ على إظهار ما يضمر والوفاء بجميع ما يعد؟ ومن كان يرغب في التسلط على الخلق بما فيهم من المحاسن والخبائث، فكيف يلتفت إلى محاسنهم وحدها، ويغفل عن خبائثهم فلا يعبأ بها؟ أليس هذا من الحمق والغفلة؟ سلوا الشيوخ وذوي التجارب الذين طال تمرسهم بالأهوال والمصائب، وحفيت أقدامهم سعيا وراء الآمال والرغائب: كم غدروا ونكثوا وظلموا وكذبوا، مكرهين أو طائعين، لأجل أمل صغير أو خوفا من ضرر يسير، فما بالكم بمن يتصدى لأعظم الأوطار ويتعرض لأهول الأخطار؟ ولا أقصر القول على الشيوخ لأن الشبان لا يغدرون ولا ينكثون ولا يظلمون ولا يكذبون، بل لأن هؤلاء يأثمون وهم جاهلون ما يفعلون، وهم يسمون الأشياء بغير أسمائها، ويأتون الأمور من غير أبوابها، فإن كان فيهم من هم أطهر من الشيوخ قلبا، وأصدق لسانا، فذلك لأنهم لم يخوضوا غمرات الدنيا، ولم يتجرعوا مرارتها ، ولم يطأطئوا رءوسهم لضروراتها التي لا تقبل عذرا، ولا تسمع للضمائر والأخلاق صوتا، ولو علموا كما يعلم الشيوخ أنهم قلما يقدمون على عمل، إلا وهم بين ضرورتين أو أكثر، لكان الشبان كالشيوخ والشيوخ كالشبان.
Shafi da ba'a sani ba