Tabarmar Aflatun
مائدة أفلاطون: كلام في الحب
Nau'ikan
أريكسماكوس:
إن ديباجة حديثي تشبه أسلوب مناليب ليوريبيد؛ لأن الحديث الذي سأرويه ليس صادرا عني؛ لأنني وسيط بينكم وبين صاحب الرأي وهو فيدروس؛ فأنا أنقل لكم ما يريد إبلاغكم إياه؛ ذلك أنه شكا لي مرة بعد أخرى قائلا: أليس من العجيب يا أريكسماكوس ألا يكون بين الأناشيد والأغاني التي يترنم بها الناس أغنية واحدة أو نشيد مفرد ينظمه شاعر من الشعراء لتمجيد الحب وهو من أعظم الأرباب؟! وكيف أن كبار المغالطين أمثال بروديكوس يسبحون في شعرهم باسم هرقل، وليس فيهم من أعطى الحب حقه من التسبيح والثناء! وأغرب من ذلك أنني عثرت بالأمس بكتاب أحد الفلاسفة، وقد ذكر فيه محاسن الملح ومنافعه وغير ذلك من السفاسف، فغضبت لضياع أمثال تلك الدرر الغوالي في تمجيدها، ودهشت لإحجام الشعراء والكتاب عن امتداح إله الحب وهو من أعظم الأرباب!
فوجدت قول فيدروس على جانب من العدل؛ فلذا أقترح الليلة عليكم اقتراحا يجدر بكم تنفيذه، ولا ريب أن فيدروس يغتبط به اغتباطا عظيما، وهو أن تطرحوا الحب على بساط البحث والمناقشة شريطة أن يمدحه كل منكم بأبلغ ما يستطيع، وليبدأ فيدروس؛ لأنه أول درة في عقدنا بحسب ترتيب الجلوس؛ ولأنه صاحب الاقتراح.
سقراط:
ليس هنا من يعترضك أو يخالف رأيك؛ أما أنا فلا أكترث لشيء سوى الحب، وكذلك أجاثون وبوسانياس وأريسطوفانيس؛ فقد قضوا حياتهم في تمجيد الزهرة إلهة الحب وباكوس إله الخمر، بل كل الجالسين هنا حالهم واحدة، ثم إن أماكن أصحابي في الجلوس تأذنهم بالبداية في الحديث، فلا تبلغني النوبة حتى يكونوا قد وفوا البحث حقه، واستقصوا محسنات البلاغة في ترصيعه وتجميله، فيكون قولنا بعدهم فضولا وتطفلا، فباسم السعد أدعو فيدروس إلى الكلام!
قال أبولودورس لرفيقه: «ولا يذكر أريسطوديمس سائر ما قاله كل بمفرده، إنما علق بذهنه أهم ما قيل، وهاك بعض ما أذكر مما رواه لي أريسطوديمس» شرع فيدروس في الكلام على الحب فقال:
فيدروس:
إن الحب رب عظيم قادر، وهو موضع إعجاب الأرباب والناس لدواع كثيرة، أهمها: منشئوه وأصله؛ فهو من أقدم الآلهة، وليس له والدان، ولم يذكر شاعر من الشعراء أن غيره من الأرباب يماثله في ذلك. وقال هصيود: «إن الفوضى سادت الكون، ثم خلقت الأرض، فكانت أساسا ثابتا لكل شيء، وتلاها الحب في الخليقة.» وقال بارمنيد عن أصل الخلق: «إن الحب كان قبل غيره من الآلهة.» وقد اتفق أكيوسيليس وهصيود في هذا الرأي؛ فالحب باتفاق جميع الحكماء من أقدم الأشياء ، دع عنك أنه منبع أعظم المنافع لبنى الإنسان، فليس في العالم سعادة ولا نفع أعظم مما يعود على إنسان في مقتبل العمر من محبه أو محبوبه؛ فلا شرف المولد، ولا عز الغنى، ولا علو الجاه توقظ في نفوس عشاق المجد من العواطف التي تضيء نفوسهم، وتنير بصائرهم ما يوقظه الحب منها؛ فمن تلك العواطف عاطفة الخجل من السقوط في هوة العار، وعاطفة التفاني في حب العلا التي تؤدي إلى القيام بكبار الأعمال وعظائم الأمور، وليست هذه القاعدة مقصورة على الأفراد، بل تتعداهم إلى الجماعات والشعوب؛ فإنه بدون هاتين العاطفتين لا يتهيأ لأحد إتيان الأعمال الجليلة الجميلة، ومما يثبت قولي أن العاشق إذا اقترف إثما أو استغضب ولم يغضب جبنا لا حلما، وكان ذلك في حضرة من يحب فإن ألمه من الخجل من محبوبه يكون أشد وأقسى مما لو كان سائر أهله وأقاربه وصحبه أو سواهم يشهدون مذلته، ويحدث مثل ذلك بين الأصدقاء فيصعب على الصديق أن يلقاه صديق في حال شائنة أو في فعل مهين.
وكذلك إذا ارتبطت قلوب فئة قليلة أو كثيرة برباط المودة وكونت حكومة أو جيشا محاربا، فلا ريب في أن ما بينهم من روابط الصداقة والود يدعوهم إلى أداء ما يجب عليهم حق أداء؛ فلا يسود بينهم شقاق، ولا تقوم للخلاف فيهم قائمة، كذلك لا يكون للحسد والأحقاد عليهم سلطان فيتنافسون في حب الشهرة، ويتسابقون في ميدان المطامع الشريفة، ويبتعدون عن الشهوات المؤدية إلى فساد أمورهم، وانحلال رابطتهم، وانفصام عروتهم، وكذلك إذا كانوا جيشا فهيهات أن يملكهم العدو أو ينال منهم إربا؛ لما بينهم من التضامن القوي؛ فلا يستطيع واحد أن يفر من الردى أو يستسلم للعدو؛ لأن خجله من صحبه أشد عليه وأقسى من ضرب السيوف، ورشق السهام، ولا يعذب الموت إلا في الحب، فيود أحدهم لو يموت ألف مرة، وذلك أفضل لديه من الفرار تاركا وراءه أحبابه يجرعون كئوس الموت الزؤام. وليس في الورى شخص مهما كان وضيعا لا يوحي إليه الحب أسرار الفضيلة ، وقد يسمو بهذا الوحي لدرجة من ركزت الفضيلة في طبيعته، وقد قال هوميروس إن الإله ينفخ في أرواح بعض الأبطال، ويهبهم من لدنه قوة، كذلك الحب ينفخ في قلوب المحبين من روحه، وليست تلك النعمة قاصرة على الرجال، بل تتعداهم إلى النساء اللائي يحببن؛ فقد تفدي المرأة المحبة محبوبها بنفسها، وخير مثال لتفاني المرأة التي نفخ الحب في قلبها من روحه السستيس بنت بلياس؛ فقد بذلت نفسها فداء زوجها، وقد بلغ حبها إياه مبلغا لم يبلغه حب الوالدين والأهل والأقارب، فكانوا حياله كالأجانب الغرباء، وكأن لا رابطة بينهم وبينه إلا الاسم والكنية، فأعجب الناس بذلك الحب العظيم، وأعجب به كذلك الآلهة أنفسهم فأنقذوا نفس السستيس من العذاب الأليم، فدل ذلك على تقدير الأرباب عواطف الحب والإخلاص قدرها.
أما أرفيوس بن إياجرس فقد عاد من الجحيم بصفقة المغبون؛ لأن الآلهة لم يظهروا له سوى شبح التي جاء من أجلها؛ لأنهم اعتبروه أقل إخلاصا من السستيس التي لم تحجم عن الموت، واستهانت بعذاب الجحيم في جنب اتصال نفسها بنفس زوجها؛ أما أرفيوس فقد جبن، وأحجم عن الموت، وطلب إلى الأرباب أن ينزلوه إلى الجحيم حيا، فكان عقابه على جبنه وضعف إخلاصه أن الآلهة قضوا عليه بأن يموت قتلا بأيدي النساء.
Shafi da ba'a sani ba